القضية الفلسطينية بين مُراد الشعب ورهانات السلطة بتونس
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
منذ حملته الانتخابية لرئاسيات سنة 2019، كانت الجملة السياسية للمرشح قيس سعيد تدور حول محورين: أولا، انتهاء زمن الأحزاب والديمقراطية التمثيلية، ثانيا عدم امتلاكه لبرنامج واعتبار نفسه مجرد أداة لتنفيذ الإرادة الشعبية في تسيير الداخل وفي التعامل مع القضايا الخارجية. وبعد إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 -وبصرف النظر عن توصيفها المتنازع فيه ما بين الانقلاب وتصحيح المسار- أظهرت العودة للإرادة الشعبية في محطاتها الثلاث (الاستشارة الالكترونية، الاستفتاء على الدستور، الانتخابات البرلمانية) وجود هوّة كبيرة بين دعوى الرئيس احتكار تمثيل الإرادة الشعبية باعتبارها "السلطة الأصلية" وبين واقع التصويت الذي أظهر أن "الشعب المتخيل" في الخطاب السلطوي لا يطابق الشعب الحقيقي العازف عن صناديق الاقتراع أو الرافض صراحة لتوجهات النظام.
رغم أن مناصرة القضية الفلسطينية كانت أحد نقاط القوة في حملة المرشح قيس سعيد في مقابل منافسه نبيل القروي المتهم بالتواصل مع جهات "صهيونية"، ورغم تأكيد المرشح سعيد على أن "التطبيع خيانة عظمى"، فإن شكوكا قوية حامت حول هذا الموقف بعد وصوله إلى سدة الرئاسة. فالرئيس الذي وعد بـ"تجريم التطبيع" لم يضغط بهذا الملف على مجلس النواب -والحال أنه يمتلك الأولوية في المبادرات التشريعية حسب الدستور التونسي لسنة 2014- كما إن الرئيس لم يظهر إلى حد هذه اللحظة أي تعاطف مع ملف اغتيال الشهيد الزواري ولم يوجّه السلطات القضائية -كما فعل في ملفات أخرى- إلى الحرص على إظهار الحقيقة فيه، ولم يبادر إلى منح الجنسية التونسية لأرملته الفلسطينية رغم منح تلك الجنسية لأحد أبواق دحلان في بلادنا.
رغم أن مناصرة القضية الفلسطينية كانت أحد نقاط القوة في حملة المرشح قيس سعيد في مقابل منافسه نبيل القروي المتهم بالتواصل مع جهات "صهيونية"، ورغم تأكيد المرشح سعيد على أن "التطبيع خيانة عظمى"، فإن شكوكا قوية حامت حول هذا الموقف بعد وصوله إلى سدة الرئاسة
ولكن أقوى الشكوك جاءت من تقاربه مع محور "التطبيع العربي" أو محور الثورات المضادة بمكوّناته المعروفة (الإمارات، السعودية، مصر.. الخ). فكيف يمكن لمن يعتبر "التطبيع خيانة عظمى" أن يعتبر رمز المطبّعين في الانقلاب العسكري المصري "أخاه"، وأن يتنافس وزراؤه في الإشادة بالتجربة المصرية وضرورة الاستفادة منها؟ وكيف يمكن لمن يعتبر المقاومة حقّا يشتغل ضد تزييف التاريخ وضد النسيان أن يتماهى مع السردية الفرنسية فيرى في الاستعمار "حماية"، وأن يطلب من فرنسا عدم الاعتذار عن ماضيها الاستعماري في تونس لأن "من يعتذر يتهم نفسه"؟ بل كيف يمكن لمن يحمل مشروعا للتحرير الوطني أن يهبّ لنجدة فرنسا بتحويل تونس إلى قاعدة متقدمة للفرنكفونية بعد أن خسرت أهم قلاعها جنوب الصحراء؟
لقد كانت هذه الشكوك المشروعة والقوية تحول دون أخذ السردية الرئاسية المناصرة للحق الفلسطيني والداعية إلى التحرير الوطني على مأخذَ الجد؛ حتى جاء "طوفان الأقصى". فهذا الحدث المفصلي في تاريخ الصراع مع المشروع الصليبي- الصهيوني في المنطقة العربية، يمكن أن يتحول إلى حدث "تأسيسي" لا ينفصل فيه مشروع التحرير الوطني لتونس عن مشروع التحرر القومي من الكيان. فما يُسميه الرئيس بمشروع "التحرير الوطني" كان منذ 25 تموز/ يوليو 2021 منحصرا في مهاجمة الخصوم السياسيين وشيطنتهم، وتدجين المؤسسات وتهميش المجتمع المدني.
ورغم رفض الرئيس "خطابيا" لإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة، فإن إخراج "منظومة الاستعمار الداخلي" من معادلة التحرير -أو بالأحرى استمرار علاقة التعامد الوظيفي بينها وبين الرئيس- يجعل من مشروع التحرير مجرد مجاز لا محصول له. كما أن العلاقة القوية مع "محور التطبيع العربي" ينفي عن أي إسناد للمقاومة أو رفض للتطبيع أية جدية. فهل نستطيع أن نعتبر أن المواقف المشرفة لتونس -مقارنة بالمواقف العربية الأخرى- هو بداية للربط الجدلي بين مشروع التحرير الوطني والتحرر القومي عبر بوابة القضية الفلسطينية، وهو أيضا بداية لتحولات جذرية في علاقة تونس بمحور التطبيع، بل بكل القوى الإقليمية والدولية المنحازة للكيان الصهيوني؟
مهما كان موقفنا من الرئيس التونسي، فإن انحيازه الواضح وغير المشروط للقضية الفلسطينية قد مثّل إحراجا كبيرا لمحور التطبيع ولرعاته في الغرب. فالرئيس التونسي قد أعاد القضية إلى مدارها الصحيح، أي باعتبارها قضية احتلال لا يمكن أن تواجه إلا بالمقاومة. كما أن الرئيس -على خلاف أغلب الزعماء العرب- قد أنصت فعلا إلى نبض الشارع التونسي المنحاز إلى فلسطين التاريخية، وليس إلى فلسطين 67 أو فلسطين اتفاقيات السلام المذلّ أو فلسطين "صفقة القرن".
استمرار الأزمة السياسية في تونس وتواصل منطق "التنافي" بين الرئيس والكثير من الفاعلين الجماعيين -بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الحادة- هي كلها وقائع يجب على الرئيس وخصومه أن يفكروا فيها بعقل سياسي مختلف. فاللحظة التاريخية تستوجب طريقة مستأنفة في إدارة الشأن الداخلي بعيدا عن الإقصاء والشيطنة والاستهداف الأمني- القضائي. ذلك أن مشروع التحرير الوطني أو إسناد المقاومة هما مطلبان حقيقيان من مطالب "الإرادة الشعبية"
ولا شك في أن تونس-حكومة وشعبا- ستدفع ثمن هذا الموقف المشرّف، فلا يمكن للعلاقات مع "محور التطبيع العربي" أن تعود كما كانت، ولا يمكن أيضا للقوى الصهيو- مسيحية المسيطرة على شبكات التمويل وعلى الإعلام في العالم أن تنسى للرئيس وللتونسيين هذا الموقف الذي ساهم في رفع الغطاء العربي الرسمي عن الجرائم الصهيونية في غزة. ولكنّ الأهم من ذلك كله أنّ تونس يجب أن تعيَ جيدا أنّه لا معنى لتجذير الموقف المناهض للصهيونية ولإملاءات قوى النهب الدولي ولا مستقبل لمشروع التحرير الوطني؛ دون تقوية الجبهة الداخلية.
إن استمرار الأزمة السياسية في تونس وتواصل منطق "التنافي" بين الرئيس والكثير من الفاعلين الجماعيين -بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الحادة- هي كلها وقائع يجب على الرئيس وخصومه أن يفكروا فيها بعقل سياسي مختلف. فاللحظة التاريخية تستوجب طريقة مستأنفة في إدارة الشأن الداخلي بعيدا عن الإقصاء والشيطنة والاستهداف الأمني- القضائي. ذلك أن مشروع التحرير الوطني أو إسناد المقاومة هما مطلبان حقيقيان من مطالب "الإرادة الشعبية"، ولكنّ هذه الإرادة لا يمكن أن تُختزل في أي شخص أو كيان، كما لا يمكنها أن تتجلى تحت سقف الخطابات العربية التقليدية التي تتفصّى من مسؤوليتها الخاصة (مثل "دعوة المجتمع الدولي للتدخل" أو التوجه للإنسانية وتحميلها مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية، أو التذلل للقوى الدولية وهي كلها "أصنام" لا تسمع ولا تجيب إلا نداءات تل أبيب).
ولا معنى حاليا للمزايدات أو لسياسات النفي المتبادل، فكل التونسيين في مركب واحد ولن ينجوَ أحد إلا بنجاة البقية. فهل سيكون "طوفان الأقصى" قادرا على خلخلة الوضع التونسي من جهة الواقع والسرديات المتنازعة، أم أنه سيكون مدخلا جديدا لتكريس حرب "الهويات القاتلة" التي ما جاء "الطوفان" إلا لمقاومة سرديتها "المُعولمة" (أي السردية الصهيو- صليبية) وفضح من والاها من صهاينة العرب العاربة والمستعربة؟
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينية التطبيع التونسي المقاومة غزة فلسطين تونس غزة المقاومة التطبيع مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة هذا الموقف لا یمکن
إقرأ أيضاً:
سفير الصين بالقاهرة: الالتزام بالقرارات الأممية فيما يخص القضية الفلسطينية «ضرورة»
قال السفير لياو لي تشيانع سفير الصين لدي مصر إن العلاقات المصرية الصينية تمر بأفضل مراحلها فى التاريخ ، حيث تربط بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الصيني صداقة كبيرة تهدف لتحقيق التنمية فى البلدين.
وأشار السفير الصيني خلال منتدي التحديث الصيني النمط والعالم إلى ضرورة الالتزام بالقرارات الأممية للقضية الفلسطينية ورفض الحرب والقتال لافتا إلى أن الصين ترفع راية التنمية والسلام والعدالة لبناء مجتمع مصير مشترك.
وأوضح السفير الصيني أن بكين على استعداد للعمل مع مصر وغيرها من الدول العربية للحفاظ على المنظومة الدولية المتمحورة على الأمم المتحدة، والنظام الدولي القائم على القانون الدولي، والمبادئ الأساسية للعلاقات الدولية القائمة على ميثاق الأمم المتحدة.
ودعا السفير الصيني بالقاهرة إلى تكريس التعددية القطبية القائمة على المساواة والانتظام والعولمة الاقتصادية القائمة على الشمول والمنفعة للجميع، قائلا: "سنعمل بقصارى جهدنا على بناء مجتمع المستقبل المشترك بين الصين ومصر، وبين الصين والدول العربية، والسعي وراء التقدم المشترك للبشرية والتنمية الأكبر للعالم".
وأوضح السفير الصيني بالقاهرة أن الصين تمتلك اليوم الميزة المؤسسية المتمثلة في نظام اقتصاد السوق الاشتراكي، وميزة الطلب الناتجة عن سوقها الضخمة، وميزة العرض الناتجة عن منظومتها الصناعية المتكاملة، وميزة الكفاءات المتمثلة في العدد الكبير من الأيدي العاملة ورجال الأعمال عالية الجودة، لذلك تمتلك الصين الأساس المتين والقدرة الكافية على مواجهة جميع المخاطر والأزمات.
بالنسبة إلى التعاون الصيني المصري، قال السفير الصيني بالقاهرة أنه بفضل القيادة الاستراتيجية للرئيس شي جين بينغ والرئيس عبد الفتاح السيسي، تبقى الصين كأكبر شريك تجاري لمصر لـ13 عاما متتاليا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام الماضي 17.4 مليار دولار، بزيادة 10% على أساس سنوي، وتعد الصين من أنشط المستثمرين وأسرعهم نموا في مصر. وفقا لإحصاءات الجانب المصري، بلغت الاستثمارات الصينية التراكمية في مصر 9 مليارات دولار لغاية نهاية العام المالي 2023/2024، وتوجد أكثر من 2000 شركة ممولة جزئيا أو كليا من قبل الصين مسجلة في مصر، الأمر الذي يجسد دعم الصين الكبير للعملية الصناعية في مصر.
من جانبه قال ماو لي المدير العام للمكتب الإقليمي لوكالة شينخوا فى الشرق الأوسط إن الصين تلتمس الجهود الدؤوبة التي تبذلها الحكومة المصرية والشعب المصري لتعزيز التحديث والسعي نحو حياة أفضل، ونحن دائما مصابون ومتأثرون بالتغييرات والتقدم الملموس والمرئي.
وأوضح لي أنه في إطار التعاون، مثل البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق، من العاصمة الإدارية الجديدة لمصر إلى منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري في السويس، ومن مدينة العلمين الجديدة إلى صحراء كوم أمبو في أسوان، يشارك عشرات الآلاف من الصينيين بعمق في عملية تحديث مصر. ومن "أطول مبنى في إفريقيا" في منطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية الجديدة إلى منطقة تيدا السويس للتعاون الاقتصادي والتجاري الصيني والمصري على شاطئ البحر الأحمر؛ ومن فريق بناء آبار المياه الصيني في أعماق الصحراء إلى عمال الكهرباء الذين يضمنون إمدادات الطاقة المحلية المستقرة.
وأكد المدير العام للمكتب الإقليمي لوكالة شينخوا فى الشرق الأوسط أن الوكالة تلتزم بتعزيز العلاقات الودية والتفاهم المتبادل بين الصين ومصر ودول الشرق الأوسط الأخرى، قائلا :"نحن على استعداد لمواصلة العمل كجسر للتواصل والتعاون وكرابط للتبادلات الثقافية بين الصين ودول الشرق الأوسط في المستقبل، سنواصل تقديم تقارير متعمقة عن التقدم الجديد والإنجازات والنقاط البارزة الجديدة في التعاون العملي بين الصين ودول الشرق الأوسط، ومواصلة سرد قصة الصين ودول الشرق الأوسط في السعي نحو تحقيق حلم التحديث معًا".
فيما أوضح عصام شرف رئيس وزراء الأسبق إن مبادرة السلام العالمي الصينية تسعي إلي الالتزام بمقاصد و مبادئ ميثاق الأمم المتحدة التسوية الخلافات والنزاعات من خلال الحوار والتشاور.
وأشار شرف إلى ضرورة تعامل الدول مع تنوع الحضارات ليس باعتباره "مصدر" صراع عالمي، بل كمحرك يدفع تقدم الحضارات الإنسانية.
وأكد عصام شرف إن التغييرات الرئيسة المطلوبة في العلاقات الدولية، تتضمن تطوير نموذج جديد للمنافسة بين القوى الكبرى، وتحويل المخاوف مشتركة الأمنية إلى مواجهة للتهديدات الكونية، وتعزيز التعاون الاقتصادي المربح للجانبين بدلاً من المنافسة التجارية والتكنولوجية ذات المجموع الصفري، ودمج الممارسات والحوكمة غير الغربية مع النظام الغربي لتحقيق القيم الإنسانية العالمية، وإدارة التنمية الاقتصادية بطريقة تضمن التوازن البيئي.