أمريكا لا تتردد في الإفصاح عن رغبتها في منع الصين التي تنافسها على الهيمنة الجيوسياسية من الحصول على التقنية المتطورة، والآن من المتوقع في أي وقت أن يمدد البيت الأبيض القيود على مبيعات الرقائق الدقيقة والمتطورة التي تُستخدم في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي إلى الصين. هذه أحدث مجموعة من ضوابط «قيود» التصدير المصممة لمنع وصول أحدث التقنيات التي أسهمت أمريكا في إيجادها (يعني ذلك هذه الأيام إيجاد معظمها وليس كلها) إلى الصين الكبرى.

والمقصود من هذه الضوابط أيضا إغلاق الثغرة التي سمحت للفروع الأجنبية التابعة للشركات الصينية بشراء رقائق إلكترونية مُنعت شركاتُها الأم من شرائها. ومن المؤكد تقريبا أن هذه الثغرة لن تكون الأخيرة التي تحتاج إلى الإغلاق، ففي هذا الشهر أتاحت أمريكا نفسها المجال للمزيد من الثغرات، في العام الماضي كانت قد فرضت قيودا واسعة منعت الأشخاص والشركات في الصين من الحصول على العديد من التقنيات المتقدمة من أصل أمريكي بما في ذلك أنواع من أحدث الرقائق الأكثر تطورا وبرمجيات تصميمها وأدوات صناعتها.

في 9 أكتوبر منحت كوريا الجنوبية شركتين تصنعان الرقائق الإلكترونية هما سامسونج واس كيه هاينِكس ترخيصا مفتوحا لتركيب معدات صناعة الرقائق التي تقع ضمن هذه القيود في مصانعهما بالصين، وبعد أربعة أيام لاحقا حصلت شركة صناعة الرقائق التايوانية تي اس إم سي على إعفاء خاص أيضا، تم تأمين هذه الاستثناءات وإعلانها في سول وتايبيه بواسطة حكومتي البلدين الحريصتين على حماية المصالح التجارية الضخمة لشركاتهما المحلية في الصين، كما تسلط الإعفاءات الضوء أيضا على الطبيعة المعقدة للنظام العالمي لضوابط الصادرات الذي تقوده واشنطن.

تعتمد الطموحات العالمية للولايات المتحدة على تعاون الحلفاء، نظريا الحكومات الحليفة في آسيا وأوروبا حذرة على نحو مماثل من الصين وتصوغ قيود التصدير الخاصة بها لكن عمليا سياساتها لا تتطابق دائما مع سياسات العم سام (الولايات المتحدة). ويمكن أن تكون النتيجة شبكة من الأحكام التي عند تطبيقها ستفرض تكاليف إضافية على شركات التقنية دون أن تفعل الكثير لتعزيز الأمن الوطني على النحو الذي تصوره مهندسو أنظمة العقوبات، هذه ليست أول مرة حاولت فيها أمريكا وحلفاؤها وقف تدفق التقنيات إلى الخصوم العقائديين، فبعد الحرب العالمية شكَّل 17 بلدا بقيادة الولايات المتحدة «اللجنة التنسيقية لضوابط الصادرات متعددة الأطراف» للحدِّ من صادرات الموارد والتقنيات الإستراتيجية للكتلة الشيوعية وتم حل تلك اللجنة في عام 1994 عندما لم يعد التهديد السوفييتي قائما.

مساعي أمريكا لتنسيق بعض قيودها المعادية للصين ظلت حتى الآن مجزَّأة إلى حد بعيد وأقرب شيء إلى التنسيق من جانب إدارة الرئيس جو باين تمثَّل في اتفاقية غامضة أبرمت في يناير الماضي مع اليابان وهولندا، كانت هذه الاتفاقية مهمة لأمريكا لأن الشركات الهولندية واليابانية مثل شركتي أية إس إم إل وطوكيو إلكترون هما على التوالي الوحيدتان اللتان تصنعان أدوات صناعة الرقائق المتقدمة والتي بدونها من المستحيل تقريبا صناعة أشباه الموصِّلات الأكثر تقدما.

في يوليو استحدثت حكومة اليابان قواعد تحد من صادرات تقنية الرقائق المتقدمة، وحذا حذوها الهولنديون في سبتمبر لكن عند تدقيق النظر سنجد أن التفاصيل العملية لضوابط الصادرات لدى البلدان الثلاثة تختلف بقدر كبير، فمكتب الصناعة والأمن وهو الهيئة الأمريكية التي تتولى مراقبة الصادرات ينشر «قائمة كيانات» تشمل آلاف الشركات بما في ذلك عددا كبيرا من الشركات الصينية التي يحظر عليها شراء أنواع معينة من التقنية، لكن اليابان ليست لديها مثل هذه القائمة العامة بل بدلا عن ذلك أعلنت عن قائمة تضم 23 نوعا محددا من المنتجات التي تتطلب رخصة تصدير، حرصت الحكومة اليابانية على تجنب ذكر الصين بالتحديد خوفا من استثارة سخط شريك تجاري كبير، أيضا ضوابط التصدير الهولندية «محايدة» ولا تحدد بلدا بعينه وطُبِّقت على قلة من المنتجات فتختلف الأنظمة الوطنية لضوابط التصدير بطرائق أخرى ذات معنى، فحلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا لم يحاولوا استنساخ التأثير الواسع النطاق للعقوبات الأمريكية والذي يتعدى الحدود الوطنية ونتيجة لذلك يمكن من الناحية النظرية للشركات الآسيوية والأوروبية التي تريد الاستمرار في بيع التقنيات للزبائن الصينيين إنشاء شركات فرعية في بلدان لا توجد بها قيود تصدير صارمة (على الأقل طالما لا تعتمد هذه الشركات على مدخلات أمريكية) الوضع في أوروبا أكثر تعقيدا بسبب تقسيم المسؤوليات بين الحكومات الوطنية والاتحاد الأوروبي.

في الوقت الحاضر تحتفظ البلدان الأعضاء كل منها على حدة بحرّية التصرف في مجال ضوابط التصدير المتعلقة بأمنها الوطني. لكن بالنظر إلى سوق السلع الموحدة لبلدان الاتحاد والتي تسمح للتكنولوجيا بالانسياب عبر الحدود دون عائق يريد بيروقراطيو الاتحاد في بروكسل أن يكون لهم دور أكبر. في الثالث من أكتوبر قدمت المفوضية الأوروبية قائمة بمجالات اعتبرت بالغة الأهمية للأمن الاقتصادي لبلدان الاتحاد، وترغب المفوضية في تفويضها بفرض ضوابط تصدير في هذه المجالات التي تشمل الرقائق المتطورة وحوسبة الكوانتم والذكاء الاصطناعي. من غير الواضح كم من الوقت سيحتاج أعضاء الاتحاد الـ 27 كي يتوصلوا إلى الإجماع المطلوب لمنح المفوضية مثل هذه السلطات، هذا إذا أمكن الوصول إليه أصلا. تصبح الأشياء أكثر ضبابية عندما يتعلق الأمر بفرض القواعد في معظم البلدان قدرة الأجهزة البيروقراطية على فرض أنظمة ضوابط الصادرات محدودة، فمكتب الصناعة والأمن الأمريكي الذي يعدّ على نطاق واسع أفضل تجهيزا من الهيئات الشبيهة به في البلدان الأخرى لديه أقل من 600 موظفا وميزانية سنوية لا تزيد كثيرا عن 200 مليون دولارا فقط، هذا رقم متواضع بالنظر إلى النطاق العالمي لمسئولياته ويلزم الهيئات الأوروبية النظيرة للمكتب تدبير أمورها بمخصصات أقل كثيرا.

إلى ذلك الهيئات ذات الصلة كثيرا ما تفتقر إلى الخبرة الكافية لتقييم طلبات المصدرين للحصول على رخصة بيع المنتجات في الخارج فذلك يتطلب إدراكا للكيفية التي من الممكن أن تُستخدم بها معدات معينة ومن المستحيل تقريبا معرفة الكيفية التي ستستخدم بها مثل هذه المعدات في الواقع الفعلي عندما تصل إلى الصين، في هذا العام خصص مكتب الصناعة والأمن بالولايات المتحدة مبلغا ضئيلا لا يتعدى 6 ملايين دولار لتمويل أعمال التفتيش في الخارج، وفي الغالب سيُنفق مبلغ لا يكاد يذكر (هذا إذا أُنفِق أصلا) في الصين التي لا تستقبل المفتشين الأمريكيين بالأحضان. والعديد من الهيئات الشقيقة لهذا المكتب الأمريكي في البلدان الأخرى تعتمد تماما على الشركات المصدِّرة نفسها لتحديد الاستخدام النهائي والفعلي لمنتجاتها. هذا شيء لا يمكن أن تعرفه الشركات على نحو أكيد والنتيجة هي خليط من القواعد غير الشفافة وعدم انتظام إجراءات تطبيقها، لا تدري شركات تصنيع التقنيات الحساسة على وجه اليقين ما يمكن أن تفعله ولا تفعله مع الشركات الصينية. حققت حكومة تايوان مؤخرا مع أربع شركات تايوانية هي سيكا هَنتِك للتقنية الكيماوية وإل اند كيه للهندسة وتوبكو العلمية ويونايتد للخدمات المتكاملة بعد ورود أخبار عن مشاركتها في تشييد شبكة مصانع لإنتاج الرقائق الإلكترونية في الصين وأنكرت الشركات الأربع أنها انتهكت أية عقوبات، قد يفسر انعدام التنسيق أيضا فشل نظام العقوبات في إبعاد التقنية الرفيعة عن الصين ففي كوريا الجنوبية تبحث شركة اس كيه هاينكس في كيفية وصول بعض منتجاتها من رقائق الذاكرة الأقدم إلى شركة هواوي التي استخدمتها في أحدث هواتفها الذكية «مَيت 60 برو.» وتنفي اس كيه هانكس تعاملها مع هذه الشركة الصينية العملاقة. أيضا تستخدم هواوي في هاتفها المذكور معالجات دقيقة متطورة زودتها بها «اس أم آي سي» أكبر شركة صينية لصناعة الرقائق، كلا الشركتين «هواوي» و«اس إم آي سي» مدرجتان في قائمة الكيانات المحظورة، وكان الاعتقاد السائد عدم قدرتهما على تحقيق هذه الإنجازات اللافتة في صناعة الرقائق، ولا يزال مراقبو الصادرات في الولايات المتحدة وحلفاؤها يحاولون فهم الكيفية التي تمكنت بها الشركتان من القيام بذلك (على الرغم من وجودهما في قائمة الكيانات) ومن المستبعد أن تكون هذه آخر مفاجأة ترتبط بالصين لهؤلاء المراقبين.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صناعة الرقائق إلى الصین فی الصین

إقرأ أيضاً:

وزير الخارجية الأمريكي: ناقشنا مع الجانب المصري أيضا الخطط المتعلقة باليوم التالي لوقف إطلاق النار في غزة

وزير الخارجية الأمريكي: ناقشنا مع الجانب المصري أيضا الخطط المتعلقة باليوم التالي لوقف إطلاق النار في غزة

مقالات مشابهة

  • حماس: العدوان السيبراني الإسرائيلي على لبنان ينتهك كل المواثيق والأعراف الدولية
  • ليس الأطفال فقط.. فوائد حليب الأم تمتد للكبار أيضا
  • وزير الخارجية الأمريكي: ناقشنا مع الجانب المصري أيضا الخطط المتعلقة باليوم التالي لوقف إطلاق النار في غزة
  • دريان: إجرام موصوف ينتهك الحرمات والقيم الإنسانية والأخلاقية
  • التكنولوجيا القاتلة.. ماهي أجهزة بيجر التي أوقعت ألفي مصاب في لبنان وما علاقة اسرائيل؟ - عاجل
  • في سوريا أيضاً... إنفجار أجهزة pager بعناصر حزب الله
  • تين هاج عن لقب البريميرليج: الكؤوس مهمة أيضا
  • هل تجاوزت شركات التكنولوجيا في الصين مرحلة القمع الحكومي؟
  • اعتقال روسي في أمريكا بتهمة تصدير تقنيات إلى روسيا
  • السياسة الصناعية ورداؤها الجديد الخادع