الكتاب: الصراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري
الكاتب: المولدي قسّومي
الناشر: دار محمد علي للنشر،تونس، الطبعة الأولى 2023،(709 صفحة من القطع الكبير)


يقدم الباحث في علم الاجتماع  بجامعة تونس، المولدي قسومي، في كتابة الجديد الصادر حديثًا (2023) عن طريق دار محمد علي للنشر، والذي يحمل العنوان التالي: "الصراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري" ويتكون من المقدمة، وثلاثة أبواب، إذ يتضمن كل باب ثلاثة فصول، إضافة للخاتمة والبيبليوغرافيا، قراءة جديدة للصراع السياسي زمن سماه الانتقال الجمهوري متدرجًا في بحثه العميق من "الانقلاب الذي لا بد منه" كما يسميه إلى "الجمهورية الجديدة في إطار دولة الاستثناء".



كم من جمهورية عرفتها تونس؟

فيما يذهب الاعتقاد السائد لدى النخب والحكومات و الشعب أنَّ تونس عاشت منذ فجر الاستقلال ولغاية تفجر ثورتها في عام 2011 ولغاية الآن، في كنف جمهوريتين، فإن الباحث قسومي يخالف هذا الترتيب، الذي يعكس تلك الذهنية الدستورانية الصّرف التي تقيس عدد الجمهوريات بعدد الدساتير، وهو ما يعتقد فيه جل الذين يتبنون (الجمهورية الثانية) من كل أصناف النخبة ومن كل أطياف العامة، وحينها تكون المسألة بالنسبة إليهم واضحة وجلية وسهلة الصياغة والهضم: دستور 2014 هو ثاني دساتير البلاد التونسية بعد الاستقلال وهكذا نكون في إطارِ ثاني جمهورية في تاريخنا.

ولكن المسألة في الحقيقة ليست بتلك البساطة، لأن ترتيب الجمهوريات وتعدادها لا يرتبط بعدد الدساتير وتعدادها، والدليل أن فرنسا منذ 1789 حتى سنة 1875 عرفت ما يزيد عن عشرة دساتير، ولكنها لم تعرف سوى ثلاث جمهوريات ونظامين إمبراطوريين، والآن يعيش الفرنسيون في ظل جمهوريتهم الخامسة وفي تاريخهم ستة عشر دستوراً منذ سقوط الملكية وإعلان الجمهورية.

يقول الباحث المولدي القسومي: "يتمثّل جوهر الموضوع في كون التونسيين تواضعوا واتفقوا وأجمعوا دون أدنى شك أو ريب أو حتى تريث أو نقاش سابق أو لاحق على أننا نعايش زمن (الجمهورية الثانية) منذ أن تم إعلان دستور 27 كانون الثاني / 2014، بل لقد أجمعوا على ذلك من قبل، وبالتدقيق منذ أن تم انتخاب المجلس الوطني التأسيسي سيّد نفسه وذي الصلاحيات المطلقة الذي كان بالإمكان أن يلغي النظام الجمهوري ذاته ويعلن نظاماً بديلاً عنه، مثلما فعل شارل لويس نابليون بونابارت في 2 ديسمبر 1851 من داخل المجلس القومي التأسيسي الذي انتُخِبَ إثر ثورة (ربيع الشعوب) في فرنسا (شباط / فبراير 1848)، ومثلما فعل المجلس القومي التأسيسي في تونس يوم 25 تموز / يوليو 1957، حين ألغى الملكية وأعلن النظام الجمهوري.

المهم أننا حين نسأل أي تونسي من متابعي الشأن العام حول طبيعة النظام الساسي يجيبك بأننا نعيش في ظل النظام الجمهوري.. بل يتّفق الجميع على أننا في زمن (الجمهورية الثانية) منذ سقوط نظام بن علي، وهذا مهم للغاية، لأنه يعني أن التونسي يكاد يكون (إنساناً جمهورياً) بالولادة، وقد أصبح هذا التصنيف الدال على صيغة سياسية من التحقيب والتقويم من أكثر ما تآلفت عليه الذهنيات والقلوب بين النخبة بأصنافها وبين العامة بأطيافها.. وهذا بدوره مفخرة مهما كانت طبيعة التكتيكات التي يأتيها أولئك الذين لا يطربون للنظام الجمهوري.

ولكن لا شك أن (الجمهورية الثانية) (بالمعنى الرتبي والترتيبي) خطأ فادح وتزوير للتاريخ أو على الأقل تسطيح للوعي به سواء كنا مدركين لذلك أو غير مدركين، فإذا جاز لنا أن نعدّد الجمهوريات في تاريخ تونس السياسي المعاصر، وإلى حدود إجراءات 25 تموز / يوليو 2021، فهي ثلاثة، وليست اثنتان، بمعنى أننا كنا في زمن الجمهورية الثالثة من باب العدد والتعداد، وعلينا أولاً أن نشير إلى مكمن الخطأ، فهو بلا شك يعود إلى تلك القوننة المفرطة التي تحكمت في صياغة تلك الفترة الانتقالية وتوجيه مآلها مباشرة منذ سنة 2011، في حين أن (الثورة) التي فرضت التغيير في جوهرها كانت في قطيعة مع العقلية القانونية السائدة آنذاك، كما اتضح أن تلك الدستورانية كانت ضعيفة الدراية بفلسفة القانون وعديمة الاطلاع على التجارب التاريخية المقارنة، فتداعت وراء تكرار ما فرضته المعارف السياسية الشائعة بالقدر الذي أبدته من أدائية ميكانيكية في إطلاق المسميات وإسقاطها على السياق المتحرك آنذاك.

وهذا يعني أنه لا ينبغي علينا أن نعدد الجمهوريات على قياس عدد الدساتير بل علينا أن نعددها حسب مدى تغير الخصائص والسمات الجمهورية للنظام الجمهوري ومقوماته، وتبدّلها، وأهم دليل يؤيد فكرة الجمهورية الثالثة بالنسبة إلينا ونعتبرها أنصف للتاريخ من فكرة الجمهورية الثانية هي أننا قد عرفنا الجمهورية الثانية زمن الحبيب بورقيبة حينما تم تعديل الدستور (19 آذار / مارس 1975) وأسندت له الرئاسة مدى الحياة، ولكن دائماً في إطار نفس (النظام الجمهوري).

وهذا يعني أيضاً أنه حصل تغيير جوهري في أهم مقومات النظام الجمهوري وهو المتمثل في إلغاء مبدأ التداول على السلطة مع الإبقاء على بقية مؤسسات (النظام الجمهوري) ذاته ولو شكلياً، ولكن دائماً في إطار نفس دستور غرّة جوان 1959، فقد تغيّر جوهر النظام الجمهوري ولم يتغيّر الدستور، وحينئذ نكون قد دخلنا طوراً جديداً من أطوار الجمهورية، وهو طور الجمهورية الثانية الذي لم تكن تتناسب معه لعبة الحروف فقط (التعديل في مضمون الدستور) بل حتى لعبة الأرقام، فهي الأخرى كانت شديدة التناسب معه حيث تم استبدال رقمين (استبدال موقع الرقم 7 بالرقم 5 في التاريخين) لتحلّ جمهورية 1975 محل جمهورية 1957.

وفي سياق هذه القراءة المجازية للتواريخ (الأرقام) أيضاً يمكن التأكيد على أن جمهورية 2014 هي (الجمهورية الثالثة) وليست الجمهورية الثانية، أما دستور سنة 2014 فهو ثاني دساتير تونس المستقلة ولا ينبغي أن نربط بينهما ربطاً آلياً سطحياً، ولعل عدم التلازم وغياب المجانسة بين الزمن الدستوري والزمن الجمهوري هو سمة مميزة لتاريخ تونس السياسي، فأول دستور في تاريخ تونس الحديث (دستور 1861) كان قد وُضع في ظلّ البابوية (نظام ملكي على الصيغة الإيالية) وقبل إعلان الجمهورية بحوالي قرن من الزمن (ستة وتسعين سنة بالضبط)، كما أن إعلان أول جمهورية في تاريخ تونس (25 جويلية 1957) كان قد سبق إعلان الدستور بحوالي سنتين (غزّة جوان 1959)" (ص 20-21).

والحال هذه لم يعد هناك مبرر للربط الآلي بين خط الزمن الدستوري ـ وما يقتضيه من تعداد الدساتير وترتيبها ـ وخطّ الزمن الجمهوري وما يستوجبه من تعداد الجمهوريات وترتيبها، كما هو سائد ومسلم به بسلطة الخطأ الشائع ومقبوليته على حساب الحقيقة التاريخية ومنطقيتها، أو من باب القبول بالمعطى المتداول مهما كانت علله إلى أن يصبح معطى معافى ومتداول لا غنى ولا بديل عنه.

كيف نقرأ إجراءات 25 تموز / يوليو 2021 وإعلان حالة الاستثناء؟

الأزمة التي عاشتها تونس في ظل العقد الماضي (2011 ـ 2021)، هي أزمة بنيوية، أي أزمة نظام سياسي عاجز عن إرساء دولة الحق و القانون، وبناء الدولة الديمقراطية الوطنية التعددية القائمة على المؤسسات، في ظل هذه الديمقراطية الناشئة. فالمتابع للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح مظاهرغياب الدولة أو الدولة المتغيبة، في ظل حزمة الأزمات المستعصية التي تعيشها البلاد،فلا نجد ثقل الدولة التي من المفترض أن تكون دولة الكل الإجتماعي، دولة كل المواطنين، وهو الوحيد القادرليس بتعديل الموازين  بل بقلبها لمصلحة كل ما هو منظم بالقانون، وكلما يتماشى مع قوانين البلاد و دستورها. فقد أظهرت الأزمة الأخيرة التي تعيشها تونس أنَّ الدولة لم تقدر بعدُ على فرض هيبتها بالوجه الكافي، وعلى تحقيق الانتظارات الشعبية،فبدت ضعيفة هشة رغم تركيز سلطات منتخبة ودائمة ومسنودة سياسيًا.

الانفجار الشعبي الذي حصل في تونس في عيد الجمهورية 25 تموز / يوليو 2021، جاء كنتيجة منطقية للسياسة التي مارستها المنظومة السياسية السابقة الحاكمة في تونس منذ عشر سنوات، (2011 ـ2021)، وعجزت عن تحقيق التقدم سواءً في الاقتصاد أم في السياسة. فالشعب التونسي الذي ثار منذ 10 سنوات على النظام السابق ثار أيضًا على حركة النهضة. فالحرِّية والديمقراطية في تونس لم تَجْلِبْ الاستقرار السياسي ولا الرخاء الاقتصادي، وبدلاً من ذلك استمر الفساد والتضخم والبطالة، الأمر الذي دفع بالجماهير التونسية  خلال السنوات القليلة الماضية إلى الخروج إلى الشوارع للتعبير عن سخطها، وكان ذلك التعبير عنيفاً في بعض الأحيان.

تجربة حركة النهضة في التحالف مع قوى الدولة العميقة، أدخلها في دائرة تحمل مسؤولية إدارة البلاد التونسية، التي ترزح بالأساس تحت مشاكل مزمنة، وتعاني من أزمات متراكمة، ما جعلها عرضة للمحاسبة، ووضعها وجهًا لوجهٍ أمام أسئلة الإصلاح والتغيير،لقد اخْتَبَرَ التونسيون جَيِّدًا حُكْمَ النهضة طيلة عقدٍ كاملٍ من الزمن، وكان حكمها فاشلاً بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى دقيق، إذ عجزتْ عن تحقيق انتظارات الشعب التونسي الإيفاء بتعهداتها تجاه ناخبيها، ودليل آخر على أنَّ الإسلام السياسي لا يُعًبِّرُ عن مصالح الطبقات الشعبية بل هو إحدى التعبيرات السياسية للطبقات الكمبرادورية الحاكمة التي تتبنى الليبرالية المتوحشة في الاقتصاد، والمرتبطة بُنْيَوِيًا بالمراكز الرأسمالية العالمية، لا سيما أمريكا، والمؤئسسات الدولية المانحة.

في تونس تحالفت حركة "النهضة" مع قوى الدولة العميقة من النظام السابق، وهو ما اعتبر حينذاك تهديدًا للثورة التونسية، والتفافًا على مكتسباتها، واحتواء لمساراتها الرامية إلى تفكيك النموذج السلطوي الاستبدادي.

تجربة حركة النهضة في التحالف مع قوى الدولة العميقة، أدخلها في دائرة تحمل مسؤولية إدارة البلاد التونسية، التي ترزح بالأساس تحت مشاكل مزمنة، وتعاني من أزمات متراكمة، ما جعلها عرضة للمحاسبة، ووضعها وجهًا لوجهٍ أمام أسئلة الإصلاح والتغيير، مع أنَّها في حقيقة الأمر لا تملك أية مؤهلات وكفاءات في إدارة الحكم والسلطة، لأنَّ قوى الدولة العميقة ما زالت هي المتحكمة بمقاليد السلطة الحقيقية في تونس.

كان العنوان الأبرز للإجراءات التي أعلنها قيس سعيّد مساء 25 تموز / يوليو 2021 هو إعادة السيادة إلى الشعب، مما يقتضي أنه قرّر تصحيح الخطيئة الأصلية، ولهذه الخطيئة ثلاثة أبعاد، هي على التوالي: أولاً ـ اختيار النموذج المضلّل وترميم نتائجه بابتداع نموذج البناء القاعدي، وثانياً ـ خدعة نظام الحكم النيابي وتفكيك السيادة، والعمل على تصويب ذلك باعتماد (الديمقراطية المباشرة)، وثالثاً ـ اعتماد الديمقراطية التوافقية المغشوشة وانحرافات النظام والمنظومة، وتصحيح ذلك بإلغاء كل الأجسام الوسيطة التي اقترفت التوافقات وتسببت في الانحرافات.

قرر الرئيس التونسي قيس سعيد تجميد كل سلطات مجلس النواب ورفع الحصانة عن كل أعضاء البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه وتنصّ القرارات، على أن يتولى سعيد رئاسة النيابة العمومية للوقوف على كل الملفات والجرائم التي ترتكب في حق تونس، وتولي السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة جديد ويُعَيّنه رئيس الجمهورية.

وقد اتّخذ قيس سعيّد هذه القرارات بناء على تأويله للفصل 80 من دستور البلاد آنذاك، وينصّ هذا الفصل على أنه (لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتّخذ التدابير التي تُحَتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان الشعب)، كما يؤكد هذا الفصل أيضاً على أنه (يجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نوّاب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة).

يقول الباحث المولدي قسومي في هذا السياق: "لا يسمح التدرج في البيان بأن نتجاوز معنى الانقلاب، وهنا نستعمل عبارة المعنى لأن الانقلاب ليس مفهوماً مبنياً معرفياً، بل هو نمط من أنماط الفعل متعدد الخلفيات والأصول والأهداف، وهو حمّال معانٍ ودلالات، وتتغير معانيه بتغيّر أنماط الفعل التي تستوجب تسميات واضحة، فالتسميات تختزل الخلفيات الفكرية والسياسية والدستورية لفعل الانقلاب، كما أن تعدد كل تلك الخلفيات يسمح باستنطاق عدة معانٍ من التسمية نفسها وذلك بطبيعة الحال مرتبط بتعدد تلك الإحالات (الخلفيات).

لكي نقف على مدى واقعية هذه التسمية ينبغي أن نعود إلى الاجتماع الذي أعلن خلاله قيس سعيّد التدابير الاستثنائية بناء على الفصل 80 من دستور 2014، إذ أعلنها بحضور الكوادر القيادية العليا لمؤسستي القوة الصلبة التي تحتكرها الدولة، وهما مؤسستا القوات المسلحة الأمنية والعسكرية، كما أن إنفاذ الإجراءات المعلنة على أرض الواقع لم يكن بقوة القانون بل كان بفعل الحضور الأدائي والأدواتي في الميدان لكلا القوتين.

قرر الرئيس التونسي قيس سعيد تجميد كل سلطات مجلس النواب ورفع الحصانة عن كل أعضاء البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه وتنصّ القرارات، على أن يتولى سعيد رئاسة النيابة العمومية للوقوف على كل الملفات والجرائم التي ترتكب في حق تونس، وتولي السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة جديد ويُعَيّنه رئيس الجمهورية.وعلى هذا الأساس فإن العنصر الفاصل بين مدى انقلابية الإجراءات ومدى شرعيتها الدستورية هو فاعلية القانون على أرض الواقع ومستوى التنفيذ من عدمها، أذ إن أي إجراء سياسي يترتب عنه تغيير هيكلي في الدولة ومؤسساتها وإعادة ترتيب العلاقة بين السلط ولا يجد في القانون ما يفرضه على أرض الواقع دون اللجوء إلى القوة الصلبة يعني أنه غير شرعي، حتى وإن كان مشروعاً من حيث أنه قد فرضته ضرورة تجاوز حالة التعطل التي عرفتها مؤسسات الدولة بفعل عدم التوازن بين السلطة وانحراف المؤسسة النيابية التي تمارس السلطة التشريعية باسم الشعب، وعندما تكون آلية التنفيذ الرئيسية لهذه الإجراءات هي القوات الأمنية والعسكرية، يعني أن الإجراءات لم تجد القوة القانونية لتُنفِّذها، وبالتالي تنتفي شرعيّتها الدستورية تماماً وتضعف مشروعيتها، وهذا ما أكّدته صورة إغلاق البرلمان ـ وما جاوره من المؤسسات حتى وإن كانت ثقافية مثل المتحف الوطني بباردو ـ كما عزّزه إعلان حالة الطوارئ"(صص 87 ـ 88).

إن الاكتفاء باستنطاق المعنى من داخل منطق القواعد القانونية الشكلية قد يحيلنا إلى الانحباس في تعريف الانقلاب على أنه قلب نظام الحكم والوصول إلى السلطة من قبل جهات خارج السلطة، ولكن في واقع الحال تُعلن إجراءات التغيير وقلب المنظومة برمّتها من داخل المنظومة ذاتها ومن قبل أعلى هرم السلطة السياسية بناء على تأويل أحادي من خارج قيود النص الدستوري المرتكز عليه، لذلك وجب تفسير هذا الإجراء سياسية وعدم الاكتفاء بالتفسير القانوني، وهذا ما يحيل على ضرورة الاستدلال بوقائع من الفعل الانقلابي من النمط ذاته، فقد حدثت عدة انقلابات من هذا النمط وبناء على تأويل النص الدستوري أو التصرف في صلاحيات السلطة التأسيسية الأصلية..

يعتبر إعلان الجمهورية في تونس يوم 25 تموز / يوليو 1957 انقلاباً من داخل المجلس التأسيسي صاحب السلطة التأسيسية الأصلية، لأن الشعب التونسي انتخبه أصلاً من أجل سن دستور للمملكة التونسية ولم ينتخب من قبل الشعب التونسي لإعلان الجمهورية، ولم يكن إعلان 7 تشرين الثاني / نوفمبر 1987 أقل التزاماً بمنطوق الدستور وروحه أيضاً ومع ذلك فقد التصقت به صفة الانقلاب رغم أنه بُني على تطبيق الفصل 57 من دستور 1959 دون تأويل، بل كان تطبيقه مطابقاً تماماً لمنطوق النص الدستوري، ولذلك فقد أجرى بن علي تعديلاً على هذا الفصل لكي لا يعاد استعماله ضده، ومع ذلك فقد تمّ فعلاً تطبيقه في صيغته المعدّلة يوم 15 كانون الثاني / يناير 2011 تداركاً لاستعمال الفصل 56 الذي يقرّ مبدأ الشغور الوقتي، وبذلك تمّت عملية تسليم الرئاسة بشكل وقتي لرئيس مجلس النواب آنذاك فؤاد المبزع على معنى الفصل 57، بعد أن سلّمت لمدة يوم واحد للوزير الأول محمد الغنّوشي بمقتضى الفصل 56.

يقدم المولدي القسومي قراءة تماثلية لمثل هذا النمط من الانقلابات الدستورية، أو التأسيسية، أو الرئاسية التي تجعل من الدستور مرطماً لامتصاص الصدمات الاعتراضية وفرض معايير الالتزام بالشرعية، توجد الكثير من التشابهات ذات الصلة بفرض التغيير من الداخل تطويعاً لما يمكن أن يسمح به التأويل من الإجراء الذي يضع الشرعية في مواجهة المشروعية ويصعب ضمانهما بنفس المقدار، وذلك بالانقلاب على المبدأ الأصلي الذي انتخب لأجله المجلس التأسيسي في حالة بونابارت الثالث سنة 1851 وكذلك في حالة إعلان الجمهورية في تونس سنة 1957، وما يمكن استخلاصه من هذه القراءات التماثلية في علاقة بإجراءات يوم 25 جويلية 2021 من قبل قيس سعيّد هو تطابقها مع انقلاب بونابارت الثالث بشكل نسبي باعتبار تغاير السياقات، وعدم التطابق في تمرحل المسار المعلن، وكذلك في عملية التدرج نحو تغيير النظام، إذ إن بونابارت الثالث ألغى الجمهورية الثانية واستبدلها بالإمبراطورية الثانية، بينما لم يخرج قيس سعيّد عن نصاب الجمهورية وأعلن مسارَ إحلال جديدها محلّ قديمها، ويبقى عنصر التماثل التام إلى حد التطابق بين التجربتين في التفرّد بالحكم والتنظيم العمودي الصلب لتسيير دواليب الدولة وتنظيم السلطات، وليس هذا فصل المقال في مسألة التماثلات ، بل هناك الكثير المتصل بعناصر أخرى من مسار الإجراءات الاستثنائية ومن تجارب أخرى في العالم قديماً وحديثاً، وهو ما ينبغي إيثار النظر فيه لاحقاً.

لا يمكن أن نغفل حقيقة موضوعية مفادها أن إجراءات 25 تموز / يوليو 2021 انتظرها جمهور كبير من الشعب التونسي، بل إن طيفاً مهماً طالب بما يوصل إليها، ليس أقلها المطالبة بحلّ البرلمان الذي لم يعد يمثل الشعب أو يشرّع باسمه ولا حتى يتداول في شواغله الاجتماعية والمعيشية التي أصبحت هاجس الناس الأساسي، لذلك لا ينبغي أن نحجب الفكرة المنبثقة عن هذه الحقيقة الموضوعية، وهي الفكرة القائلة بأن إعلان التدابير الاستثنائية هي بمثابة ثورة من داخل المنظومة أو هي تصحيح للانحرافات التي عرفها مسار الثورة، وهو ما يسمح لنا بمناقشة ما إذا كانت هذه (الثورة) من داخل المنظومة أو على الأقل إجراءات تصحيح مسارها سيبقى على الوفاء للهدف الأسمى لهذه (الثورة) متمثلاً في بناء الديمقراطية وإعادة السيادة إلى الشعب كما أعلن ذلك قيس سعيّد.

يقول الباحث المولدي القسومي: "هناك مسلّمة لا فصال فيها، مفادها أنه لا يمكن أن تعلن إجراءات استثنائية سواء كانت في صيغة الانقلاب أو في صيغة تصحيح للمسار، في ظلّ ديمقراطية مستقرّة ومتينة، وهذا يعني أن مسار الانتقال الديمقراطي لم ينتهِ إلى بناء مؤسسات ديمقراطية وتنظيم ديمقراطي للحياة السياسية، لأن الأنظمة الديمقراطية التي تشتغل في إطار دولة الحق والقانون والمؤسسات لا يمكن أن تتخللها حالات الوهن التي تسمح بإعلان حالة الاستثناء، فما هو ثابت في مسار الانتقال الجمهوري الذي عاشته تونس منذ إعلان دستور 2014، هو الاكتفاء بالديمقراطية كأداة لتظلّ في حالة هشاشة متأصلة في ثلاثة عناصر ضعف بارزة منذ لحظة التأسيس لجمهورية 2014.

يتمثّل عنصر الضعف الأول في ترهل ألياف الديمقراطية ذاتها من حيث انتقاصها لعديد المقومات والمبادئ والاكتفاء باستخدامها الوظيفي كأداة يتم تفعيلها أثناء الانتخابات.

ويتمثل عنصر الضعف الثاني في اختلالات المنظومة القانونية عامة بدءاً بالدستور، أسمى القانون، وعُلوّيته الإلزامية، وليس أدلّ على ذلك من أن التدابير الاستثنائية بنيت على تأويل للفصل 80 من الدستور ذاته.

أمّا عنصر الضعف الثالث فيتمثل في عدم اكتمال المؤسسات وخصوصاً السلطات المنظمة للحياة السياسية وبشكل أدق المحكمة الدستورية التي تشكل أحد الأركان الثلاثة لتنظيم السلط، بمعية السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية"(صص 91-92).

بناءً على ذلك لم يعد ممكناً المراهنة على ما تتضمنه الثورة من حمولات دلالية حتى تنعكس على المعاني المتصلة بالإجراءات الاستثنائية، فالشروط الموضوعية توحي بكونها إجراءات لا بد منها لتجاوز حالة العطوبة المعممة والشاملة، ولا يمكن أن يشفع لثوريتها سوى قدرتها على تجاوز كل الهنات التي كانت أساساً ومرجعاً وسبباً لاتخاذها، ودون ذلك فإنها وفق منطق الدوافع لا يمكن أن تكون سوى انقلاب سياسي تعديلي لا بد منه، ووفق منطق النتائج الحاصلة لا يمكن أن تكون سوى انقلاب دستوري لا موجب له.

إن الفرق بين ما لا بد منه وما لا موجب له يحدده من ناحية أولى ما كان موجباً لذلك التدخل من أجل تعديل الواقع السياسي وتزينت محركاته التي كانت معطّلة، فيجد في تلك الموجبات أنه إجراء لا بد منه حتى ولو كان انقلاباً، لأنه لم يكن ثمة بديلاً عنه، كما يحدده من ناحية ثانية ما كان مستوجباً تحقيقه ولم يتحقق من النتائج السياسية والاقتصادية التي استدعته لأجلها تلك الموجبات، وحينها يصبح انقلاب المرطم الدستوري الذي لا موجب له، لأنه استعمل الدستور في غير وظائفه الأساسية وحوّله إلى ممتصّ للصدمات السياسية المضادة لهذا التمشي الانفرادي.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب تونس السياسة عرضة تونس كتاب سياسة عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجمهوریة الثانیة إعلان الجمهوریة النظام الجمهوری رئیس الجمهوریة الشعب التونسی د الجمهوریات من الدستور جمهوریة فی لا یمکن أن على تأویل قیس سعی د لا بد منه بناء على یولیو 2021 یعنی أن من داخل فی إطار فی تونس فی حالة ما کان على أن وهو ما التی ت من قبل

إقرأ أيضاً:

قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي في المغرب.. القصة الكاملة في كتاب

الكتاب: قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربية
الكاتب:  محمد بوبوش
الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية العدد 130، الطبعة الأولى،  2008.
عدد الصفحات: 140 صفحة

ـ 1 ـ

يعود بنا الباحث محمد بوبوش إلى بعض المعطيات التاريخية لنفهم في ضوئها أصل معضلة الصحراء الغربية. فيذكّرنا بتواطؤ الدول الاستعمارية الغربية، خلال مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي عقد عام 1906 على اقتسام الأراضي المغربية. فاستأثرت إسبانيا بالشمال المجاور لها وبالجنوب الصحراوي وبجيوب في الوسط (سيدي إيفني وطرفاية). ومُنحت فرنسا مناطق الوسط. أما مدينة طنجة التي تمثل منطقة إستراتيجية بالنظر إلى موقعها المطل على أوروبا فتم إبقاؤها تحت نظام دولي تولت الإشراف عليها كل من المملكة المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا. وتمت ترضية ألمانيا التي تم استثناؤها من الأراضي المغربية، بتعويض من مستعمرات فرنسا بأفريقيا جنوب الصحراء.

من الطبيعي إذن أن تشعر إسبانيا صاحبة النصيب الأوفر، بالخطر بعد استقلال المغرب عام 1956. فعززت وجودها العسكري ليبلغ في مجمله ضعف عدد السكان المدنيين آنذاك ووضعت مخططاً لتهجير مواطنيها إلى الصحراء لتذويب الإقليم وفرض هيمنة ثقافية إسبانية. وعينت ممثلين له في البرلمان الإسباني، وكانت حجتها أن الصحراء أرض خلاء لا مالك لها.

ـ 2 ـ

وبالفعل فقد عملت المملكة المغربية على بسط نفوذها على "كامل أراضيها"، من منظور الباحث طبعا. فاعترف الراحل الحسن الثاني بدولة موريتانيا أثناء مؤتمر القمة الإسلامية الذي انعقد بالمغرب في العام 1969، بعد أن كان يعارض استقلالها عن فرنسا، الذي تحقق في العام 1960 وأُعلن المختار ولد داده رئيسا لها، باعتبارها جزءا من التراب المغربي بدورها. وكان يستهدف من وراء ذلك استرجاع الإقليم الصحراوي واقتسامه معها. وكثّف من اتصالاته بإسبانيا وأرسل المبعوثين إلى عدد من دول العالم ثم قرر الاحتكام إلى القانون الدولي. فعرض المشكلة على محكمة العدل الدولية.

الاختصاصات التشريعية لهيئات الحكم الذاتي تظلّ محددة بحدود المصالح الإقليمية التي كلفت بتحقيقها وتنفيذها ذاتياً، وتظل الدولة ببرلمانها المركزي أصلاً في مباشرة اختصاصات الوظيفة التشريعية. ولكن مبدأ السيادة يعني عدم المساس بالمصالح العليا للمجتمع المغربي والمحددة دستورياً. لذلك تبقى مسألة الوحدة الترابية وإبرام الاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها من احتكار الدولة المركزية.وأفضت قمة ثلاثية بتلمسان في 7 ماي 1970، جمعت الجزائر والمغرب وموريتانيا، إلى اتفاق يقضي بضبط الحدود بين المغرب والجزائر، تتخلى المملكة عن الأراضي المختلف عليها لفائدة الجزائر. وتمكنها من المرور إلى المحيط الأطلسي عبر سكة حديد لشحن نصيبها من حديد غارة "جبيلات" عبر ميناء مغربي بعد أن تُستغل مناجم الحديد الواقعة داخل المناطق المتنازع عليها بواسطة شركة مختلطة. وكانت كل المؤشرات تدفع نحو الاعتقاد بوجود تفاهم مغاربي من أجل تصفية الاحتلال الإسباني من الصحراء. ولكن إسبانيا أعلنت في تموز / يوليو 1974 خطة موازية تستهدف منح الإقليم الصحراوي الاستقلال الذاتي.

ـ 3 ـ

لسحب لبساط من تحت أقدام إسبانيا الضعيفة بسبب مرض فرانكو الأخير ودفعها إلى التفاوض حول الانسحاب من الإقليم، أعلن الحسن الثاني في 16  أكتوبر 1975 عن تنظيم "مسيرة خضراء" سلمية نحو الإقليم بمشاركة 350 ألف متطوّع. وبالفعل اضطرت إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، وإلى توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بتاريخ 14 نوفمبر 1975. ولكن مقابل هذا الانتصار، اندلعت في شباط 1976 مواجهات لم تهدأ حتى اليوم، لمّا أعلنت جبهة البوليساريو إقامة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في منطقة الصحراء بدعم من الجزائر الممتعضة من استبعادها من الاتفاق. وإثر الوساطات العربية انتهت أول مواجهة عسكرية مغربية جزائرية بعد ثلاثة أيام من اندلاعها في يناير 1976. ولكن المواجهة الدبلوماسية لا تزال قائمة حتى اليوم وظلت تعطل مشروع قيام المغرب الكبير.

ـ 4 ـ

على مدار نصف قرن من بداية المشكل طُرح أكثر من حلّ لمشكلة الصحراء منها إجراء "استفتاء تأكيدي" في الصحراء بناءً على مقررات منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1981. وهذا ما قبلت به المملكة المغربية. ولكن الجزائر اشترطت أثناء ضبط الترتيبات، الاتفاق مع الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" حول التفاصيل الإجرائية. وكانت جبهة البوليساريو، الجناح العسكري للصحراويين، قد أعلنت قيامها في شباط 1976 ووفرت لها الجزائر الدعم السياسي. فضُمّت إلى منظّمة الوحدة الإفريقية.  وبديهي أن يرى المغرب في المفاوضات مع "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" اعترافا ضمنا بوجودها وخطوة حاسمة ستنتهي بالتفريط في الإقليم.

وفي أغسطس 1988 قدم خافيير بيريز دي كويلار مخططا تفصيليا لتسوية مسألة الصحراء. ولكن تعقيدات تقنية في ظاهرها سياسية في جوهرها، عصفت بهذا المخطط. فقد اشترطت الخطة خروج القوات المغربية من الإقليم، ووقف إطلاق النار، وهو ما التزم به المغرب وفق الباحث. وطُرحت قضية المؤهلين في المشاركة في الاستفتاء. فقد اشترط المغرب ضرورة تمكين جميع الأشخاص المنحدرين من أصول صحراوية من المشاركة باعتبارهم جزءا من الهوية الصحراوية ومن المجتمع الصحراوي.

أما جبهة البوليساريو التي تعد طرفاً رئيسياً في النزاع، فاقترحت أن يشكل الإحصاء الإسباني العام 1974 الأساس الحصري للناخبين، وأن يتمّ تجميع الصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف" (التي تقع جنوب غربي الجزائر، والتي توجد فيها معسكرات البوليساريو)، في "منطقة محايدة"، وهو ما رفضه المغرب وما جعل منظمة الأمم المتحدة عاجزة عن تنظيم هذا الاستفتاء بالنتيجة.

ـ 5 ـ

في مارس 1997 توصل جيمس بيكر بصفته مبعوثا شخصيا للأمين العام للأمم المتحدة مكلفا بقضية الصحراء إلى معايير تضبط هوية الناخبين الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء لتقرير مصير إقليم الصحراء لاقت قبول كل من الحكومة المغربية وجبهة البوليساريو، وعُرفت باتفاقية "هيوستن". ولكنّ مجلس الأمن الدولي أصدر في 29  تموز 2000 مبادرة فرنسية ـ أمريكية تستبعد خطة الاستفتاء وتقترح بالمقابل حكما ذاتيا واسعا في الصحراء المتنازع عليها، عن طريق هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، تدير الشؤون المحلية كافة، فيما تشرف السلطة المركزية في الرباط على الشؤون الخارجية والدفاع والنقد. وبسبب رفض الجزائر وجبهة البوليساريو لهذه الخطة طُرحت فكرة التقسيم بحيث يمارس المغرب سيادته على شمال الصحراء الذي يسمى إقليم الساقية الحمراء، فيما تبسط جبهة البوليساريو سيادتها على إقليم وادي الذهب الجنوبي. وبالمقابل رحب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بالمقترح عند حضوره احتفالات تخليد ذكرى تأسيس جبهة البوليساريو في تندوف بالجزائر شخصياً  قام العاهل المغربي بجولة ميدانية في كبريات مدن الصحراء، وألقى هناك خطاباً أكد فيه "عدم تفريط المغرب في شبر واحد من منطقة الصحراء". ثم رفض لاحقا صيغا معدّلة من هذه الخطة.

ـ 6 ـ

واليوم تصرف المملكة كل جهودها لفرض حل الحكم الذاتي لمعضلة الإقليم. فهو يمثل السبيل الأمثل الذي يحفظ كل مصالحها. فسلطة الحكم الذاتي تنبع من سلطة الدولة المركزية التي هي سلطة أصلية والنظام القانوني في الوحدة المحكومة ذاتياً هو نظام تابع لنظام الدولة المركزية القانوني.

تتضمن رؤية المملكة للحكم الذاتي لجهة الصحراء مؤسسات عديدة. منها مجلس تشريعي ومجلس تنفيذي وهيئة قضائية. فينصب المجلس التشريعي على أساس الانتخاب العام المباشر لأعضائه من الجهة وتضمن فيه النساء نسبة معينة. ووفقا لمبدأ التفويض لصالح السلطة المحلية يمارس جميع الاختصاصات غير الممنوحة للمملكة. ويتولى سن القوانين وإصدار القرارات المحلية في إطار محدد. وعليه يكون مسؤولا عن صياغة جميع القوانين المعمول بها في الصحراء الغربية. وتستثنى من ذلك القوانين المتعلقة بالسلطات المخصصة للمملكة المغربية.

تصرف المملكة كل جهودها لفرض حل الحكم الذاتي لمعضلة الإقليم. فهو يمثل السبيل الأمثل الذي يحفظ كل مصالحها. فسلطة الحكم الذاتي تنبع من سلطة الدولة المركزية التي هي سلطة أصلية والنظام القانوني في الوحدة المحكومة ذاتياً هو نظام تابع لنظام الدولة المركزية القانوني.ويشكل المجلس التشريعي الإقليمي هيئة تنفيذية  تتكون من عدد من الأعضاء، ويشرف كل عضو منهم على إدارة من الإدارات الإقليمية. أما السلطة القضائية فتتولاها المحاكم التي تقتضيها الحاجة، ويتم اختيار القضاة من المعهد الوطني للدراسات القضائية على أن يكونوا من أبناء الصحراء.

ـ 7 ـ

هكذا يمارس السكان الحكم الذاتي للصحراء، داخل الحدود الترابية للجهة، عدة اختصاصات ولاسيما عبر هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ووفقا لمبادئ الديمقراطية. فبموجب قوانين المركزية يمكن تفويض الإقليم للقيام بمهام تشريعية وتنفيذية سيادية نيابة عن الدولة. ولكنه يظلّ إدارة تكميلية في ممارسة السلطة التشريعية للدولة كتحديد الميزانية والنظام الضريبي الإقليمي أو إنفاذ القوانين والأمن الداخلي أو الإشراف على الرعاية الاجتماعية والثقافية والتعليم والتجارة والنقل والتخطيط الجهوي وتشجيع الاستثمارات، والتجارة والصناعة، والزراعة والتعدين، ومصائد الأسماك، والصناعة، والسياسات البيئية، والإسكان والتنمية الحضرية، والمياه والكهرباء والطرقات والبنية التحتية. والتنمية الثقافية بما في ذلك النهوض بالتراث الثقافي الصحراوي الحساني، والبيئة.

يضمن هذا التصور سلطة العرش على الإقليم الصحراوي. فالاختصاصات التشريعية لهيئات الحكم الذاتي تظلّ محددة بحدود المصالح الإقليمية التي كلفت بتحقيقها وتنفيذها ذاتياً، وتظل الدولة ببرلمانها المركزي أصلاً في مباشرة اختصاصات الوظيفة التشريعية. ولكن مبدأ السيادة يعني عدم المساس بالمصالح العليا للمجتمع المغربي والمحددة دستورياً. لذلك تبقى مسألة الوحدة الترابية  وإبرام الاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها من احتكار الدولة المركزية.

حقّق هذا المقترح اختراقا دبلوماسيا دوليا وفق الكاتب محمد بوبوش. فقد وصفته فرنسا بأنه خطة "بناءة، وجددت دعمها المشروع الحكم الذاتي مشيرة إلى أنه قاعدة للتفاوض". أما إسبانيا التي تربطها بالمغرب معاهدة مدريد التي وقعها البلدان عام 1975 وظلت حكوماتها تتجاهلها فقد رحّبت عبر رئيس حكومتها، حين انعقدت الدورة الثامنة للجنة العليا المشتركة بين البلدين في ربيع عام 2004، بمشروع الحكم الذاتي الذي عرضنا. واعتبر البيان المشترك الصادر عن اجتماع اللجنة المشتركة مشروع الحكم الذاتي الذي تقدمت به الرباط "نقطة انعطاف داخل المأزق الذي يوجد فيه ملف الصحراء منذ سنين عديدة." ويعتبر هذا الموقف تحولاً كبيراً في الموقف الإسباني.

ـ 8 ـ

يذكر الباحث عديد الوقائع التاريخية الثابتة. وعرضُها على النحو الذي ورد في "قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربية" يدفع إلى التسليم بمغربية الصحراء. ولكنّ الأثر لم يخل من عمل انتقائي. فهو يسكت عن وقائع أخرى قد يدفع عرضُها إلى التسليم بوجهة نظر جبهة البوليساريو أو الجزائر حول تشكيل الإقليم لهوية ثقافية واجتماعية مستقلة. من ذلك أنّ الأمم المتحدة أرسلت بعثات متعددة في أواخر عام 1975 واستندت إلى محكمة العدل الدولية.

مقالات مشابهة

  • الشعب الجمهوري يطلب تحقيقا تركيا في أحداث الساحل السوري
  • الشعب الجمهوري: ذكرى العاشر من رمضان تفرض علينا الاصطفاف الوطني
  • الشعب الجمهوري: يوم الشهيد ذكرى عطرة سجلها التاريخ بحروف من نور
  • مفتي الجمهورية يوضح حكم وهب ثواب قراءة القرآن الكريم للأحياء «فيديو»
  • هل يجوز وهب ثواب قراءة القرآن الكريم للأحياء؟.. مفتي الجمهورية يجيب
  • تحديات عاجلة تواجه سوريا الجديدة
  • تحديات عاجلة تواجه سورية الجديدة
  • سياسي منشق عن الشعب الجمهوري يؤسس حزب “المترددين”
  • بتنظيم "الشعب الجمهوري" .. افتتاح الدورة الرمضانية لكرة القدم بالبدرشين
  • قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي في المغرب.. القصة الكاملة في كتاب