جنيف تنسى إنسانيتها وطوكيو تتنكّر لهيروشيما وناغازاكي
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
لم يتمكن مجلس الأمن من تمرير قرار يدعو إلى وقف إطلاق نار إنساني في قطاع غزة للسماح للعمليات الإغاثية والإنسانية للسكان، وذلك بعدما عارضته عدة دول. ولن أتحدث عن أمريكا وفرنسا وبريطانيا، لأن ذلك خط سيرها منذ عقود في التعاطي مع قضايا الاحتلال والاستعمار، لكن الذي صدمني هو معارضة اليابان وامتناع سويسرا عن التصويت، لماذا ؟
يثير قرار عدم تصويت سويسرا على قرار أممي يرمي لوقف إطلاق "نار إنساني" في غزة، قشعريرة في النفس الإنسانية ويصدم وقعه الرأي العام العالمي وليس في الوطن العربي فحسب، لأن سويسرا تعدّ في الواقع مهد الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهي المدينة التي تأسست فيها المنظمة الدولية في العام 1863 على يد أحد مواطنيها هنري دونان.
هل يحق لسويسرا أن تقف على الحياد في القضايا الإنسانية، وهو العنوان الذي اختارته لنفسها طوال عقود، لكن الاعتداء الإسرائيلي على غزة لم يترك مجالا للقول إن جنيف كانت "تتاجر"، مثل الكثير من الدول، بمثل هذه الشعارات الإنسانية ولا تجد طريقها للتنفيذ في الميدان إلا وفق مكيالين.
الإمتناع عن التصويت على قرار أممي يخص قضية إنسانية، يعدّ من الصعب على سويسرا بالذات الالتزام بالحياد بشكل محض فيها، لأن سويسرا يفترض أنها "قبلة الإنسانية"، خصوصا في الأزمات والحروب، ويفترض أنها الأقرب من غيرها من الدول مثل أمريكا وفرنسا في ملامسة المعاناة الإنسانية والتعاطف مع الضحايا وما يمرّون به من محن، وبالتالي، فإن تمسكها بالحياد يعد قانونا في خانة "رفض مساعدة شعب في حالة نجدة".
لا أتحدث عن موقف سويسرا السياسي، فهي حرة في مواقفها، لكني أتحدّث عن سويسرا الإنسانية، لأن سويسرا مطالبة بالوفاء بالتفويض الرئيسي الذي منحه المجتمع الدولي للجنة الدولية التي تحتضن مقره، من خلال اتفاقيات جنيف المؤرخة في العام 1949 والبروتوكولين الإضافيين لها لعام 1977. نقول ذلك لأن القانون الدولي الإنساني يهدف إلى تنظيم استخدام القوة من جانب الأطراف المتحاربة أو الخصوم وكفالة احترام بعض المبادئ أثناء استخدام وسائل الحرب، مثل الحصانة التي يتمتّع بها الأشخاص غير المشاركين في الأعمال العدائية، أو الذين كفوا عن المشاركة فيها (مثل الجرحى والأسرى والمدنيين بشكل عام).كما يسعى القانون الدولي الإنساني للحد من الإصابات المفرطة والمعاناة التي لا داعي لها وضمان توفير الرعاية الطبية والمساعدات العاجلة لمن هم بحاجة لها، وذلك بغير تحيّز. لكن كل العالم شهد قطع إسرائيل للغذاء والدواء والماء والكهرباء عن المدنيين الفلسطينيين وقصفها بالقنابل للمساكن والمستشفيات وسيارات الإسعاف، ومع ذلك لم يحرّك ذلك سويسرا التي تسمي نفسها "أم الإنسانية" وأب القانون الدولي الإنساني !!!، وهي بموقفها هذا مشاركة في مجزرة المستشفى الذي قصفته إسرائيل.
لن نلوم اليابان في تخندقه السياسي وراء الولايات المتحدة في مجلس الأمن، من باب أن مشروع القرار تقدمت به روسيا، لأنه يرى ربما نوع من الازدواجية بالنظر إلى حربها في أوكرانيا، لكن أن ترفض طوكيو قرارا أمميا لوقف إطلاق النار إنساني في غزة ، وهي تعلم علم اليقين أن إسرائيل التي تشنّ حربا لا ضوابط أخلاقية فيها لإبادة شعب، تملك ترسانة نووية، فهي تتنكّر تماما لتاريخها القديم والحديث، وسمحت كليا في روح ضحايا هيروشيما وناغازاكي (مقتل 140,000 شخص في هيروشيما و80 ألف شخص في ناغازاكي بحلول نهاية سنة 1945 في القنابل النووية التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية. هل مرور 78 عاما عن تلك المأساة أنسى حكام طوكيو قيم التضامن والإنسانية، خصوصا في ظل تصاعد ارتفاع خطر استخدام الأسلحة النووية إلى مستويات لم نشهدها منذ نهاية الحرب الباردة بفعل ازدياد وتيرة الصدامات العسكرية التي تشارك فيها دول نووية وحلفائها، ووجّهت هذه الدول تهديدات صريحة باستخدام الأسلحة النووية. هل ما يجري لشعب فلسطين من إبادة جماعية لا ترى فيها حكومة اليابان أي استعجال لوقفها، ولذلك صوّتت ضد وقف إطلاق النار إنساني في غزة ومنحت مزيدا من الوقت لإسرائيل لإسقاط المزيد من القتلى المدنيين الفلسطينيين ؟! التاريخ يسجل.
* نائب رئيس تحرير "الخبر"
المصدر: الخبر
كلمات دلالية: فی غزة
إقرأ أيضاً:
لكل مسعف قصة.. قافلة رفح التي قتلتها إسرائيل بدم بارد
لم يكن المسعف الفلسطيني رفعت رضوان يعلم، حين ارتدى بزته الطبية وحمل حقيبته الإسعافية فجرًا، أن هذه المهمة ستكون الأخيرة في حياته، برفقة زملائه، لإنقاذ عددٍ من المواطنين الفلسطينيين الذين تعرضوا للقصف الإسرائيلي في حيّ تلّ السلطان، غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة فجر يوم 23 مارس/آذار الماضي.
فعند الساعة 05:20 صباحًا، تحرك فريقٌ مشترك من الهلال الأحمر الفلسطيني والدفاع المدني وإحدى الوكالات الأممية، استجابةً لنداءات استغاثة أطلقها جرحى فلسطينيون كانوا محاصرين.
انطلقوا بنية إنسانية خالصة، لا يحملون سوى الضمادات وقلوبٍ مخلصة، لكنهم -دون أن يعلموا- كانوا الهدفَ القادم لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن ما بدأ كمهمة إنقاذ انتهى بمجزرة دامية، فبعد وقت قصير من انطلاق الفريق انقطع الاتصال به، وبعد ساعات أعلنت قوات الاحتلال أن المنطقة أصبحت منطقة عسكرية مغلقة.
المسعف رفعت رضوان كان يوثق تفاصيل المهمة بهاتفه النقال دون أن يدرك أنه سيوثق أيضًا الجريمة النكراء التي هزت العالم، تلك كانت اللحظات الأخيرة في حياة مجموعة من المسعفين الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي بدم بارد.
الهاتف الذي كان بحوزة رفعت رضوان عُثر عليه مع جثمانه، موثقًا المشاهد الأخيرة التي تكشف أبعاد المجزرة، وكان رفعت في سيارة الإسعاف الثالثة ضمن قافلة ضمت سيارة إطفاء انطلقت للبحث عن سيارة إسعاف أخرى تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني فقدت الاتصال بقاعدتها، وضُعت علامات واضحة على جميع المركبات في القافلة، مع وميض أضواء الطوارئ.
إعلانوفي عملية البحث، رصد الطاقم السيارة المفقودة على جانب الطريق. قال أحد المسعفين في الفيديو الذي وثقه رفعت: "إنهم مبعثرون على الأرض! انظروا، انظروا!" نزل رفعت مع مسعفين آخرين من سيارتهم للاطمئنان على زملائهم الذين سقطوا، ولكن حين يتحول المنقذ إلى هدف، انطلق صوت الرصاص من رشاشات وبنادق جنود الاحتلال الذين نفذوا المجزرة بحق المسعفين.
أصيب رفعت، وفي لحظاته الأخيرة صلى ودعا الله مرارًا وتكرارًا ليغفر له وطلب المسامحة من والدته لاختياره طريق الإسعاف الذي وضعه في طريق الأذى. توقفت بعدها صلواته مع توقف نبض حياته، وبعد العثور على جثامين الضحايا، تبين أن قوات الاحتلال قتلت 8 من عمال الهلال الأحمر الفلسطيني في تلك الليلة، إضافة إلى 6 من العاملين في الدفاع المدني الفلسطيني كانوا في المهمة نفسها. وتم القبض على مسعف تاسع يُدعى أسعد النصاصرة.
هؤلاء المسعفون لم يكونوا مجرد أرقام، بل كانوا أشخاصًا لهم حياة وعائلات وأحلام، ولكل منهم صفات مميزة أحبها من حوله، وفي هذا التقرير نسلط الضوء على الجانب الإنساني لهؤلاء الشهداء من خلال شهادات معارفهم وزملائهم الذين عاشروهم وأحبوهم. المسعف إبراهيم أبو الكاس، الذي رافق الشهداء خلال سنوات خدمتهم، تحدث للجزيرة نت عن حياتهم وعملهم الإنساني ضمن طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، مشيرًا إلى 16 شهرًا من حرب الإبادة المستمرة على غزة.
رفعت رضوان: الحفيد الطيب الذي وثق الجريمة بهاتفهفرفعت، ابن الـ24، كان روحًا لطيفة. "لقد حرص على مساعدة أي امرأة مسنة يصادفها"، يقول أبو الكاس. "كان يسعى للحصول على دعواتهن الصادقة عندما يقدم لهن المساعدة، ثم يودعهن برقة تجعلك تعتقد أنها جدته".
بوجهه الجاد ونظارته، كان حضور أشرف، ذو الـ32 عامًا، مطمئنًا لزملائه، بدأ التطوع عام 2021 ومنذ ذلك الحين كان يحرص على تقديم وجبات الإفطار لزملائه في رمضان، سواء بإعدادها بمركز الهلال الأحمر أو بجلب الطعام من منزله.
عُرف عز الدين (51 عامًا) بهدوء النفس المطمئنة وروح الدعابة، وكان شعاره: "سنعود إن كُتب لنا، وإن لم نعد فهي أقدارنا".
إعلانويقول أبو كاس إن عزالدين كان أبا جميلا.. وأخا عزيزا.. هدوء النفس المطمئنة.. كان يمازح الجميع.. وكان شعاره.. سنعود إن كتب لنا.. وإن لم نعد فهي أقدارنا..
قبل أن ينتقل إلى مركز إسعاف رفح بعد أن كان يعمل في مركز إسعاف خانيونس.. يقوم خلال الليل بعمل ساعة راحة لكل طاقم.. ويطمئن أن جميعها قد تناول العشاء.. حتى كان يكتب أسماء العاملين خوفا من أن ينسى أحدهم.
كان محمد (36 عامًا) شغوفًا بمساعدة الناس، ويُعرف بقدرته على إيجاد الحلول للنازحين، رغم التحديات.
أب لطفل يبلغ 15 عامًا، مكث في المقر أيامًا متتالية، يتفانى في عمله، ابنه هو النور الذي يضيء له الطريق.
ويروي عنه أبو كاس إحدى القصص بالقول ذات يوم ماطر.. كانت هناك سيدة طاعنة في السن تريد قطع الطريق، ولا تستطيع.. حديث الشركاء قد دار بين محمد ومصطفى.. هل نحن شركاء بالطبع.. مهما كانت المهمة؟ بالتأكيد.. قم ننقذ تلك السيدة وننقلها للجانب الآخر من الطريق.. وبالفعل يضعون لها كرسيا ومن ثم يجلسونها.. ويحملونها إلى الجانب الآخر من الطريق.. وسط ابتسامات جميلة وهم يزفون العجوز وكأنها عروس.. وتقوم هي بالزغاريد والدعاء لهم..
قال أبو كاس أحب رائد الذي كان بلغ من العمر، 25 عاما ، وكان يحب التقاط الصور، سخيفة، جادة، غير رسمية، وكان رائد أعرب عن أمله في أن يرى العالم صوره يوما ما وأن يتمكن من نقل معاناة شعبه من خلال عمله.
بدأ التطوع مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عام 2018، عندما كان عمره 18 عاما، خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى.
قتلت إسرائيل 214 متظاهرا، بينهم 46 طفلا، خلال هذه المظاهرات، وأصابت 36 ألفا و100، بينهم نحو 8,800 طفل.
إعلانرائد هو الأصغر من بين 5 أشقاء، ولم يتزوج بعد، على الرغم من أن عائلته كانت تأمل في أن يتزوج بعد الحرب. لكن هذا لم يحدث، ويروي والد رائد انتظارا مروعا لمدة 9 أيام لمعرفة ما حدث لطفله الأصغر، ويكافح من أجل كبح اليقين بأنه قد أعدم مع زملائه.
رغم إصابته في مهمة سابقة، أصر صالح (42 عامًا) على العودة للعمل لإنقاذ الأرواح.
وقال شقيقه حسين للجزيرة إن صالح أحب عمله أيضا، وعاد بمجرد تعافيه من الجراحة في عام 2024.
وأوضح حسين أنه في شباط/فبراير الماضي، كان صالح في مهمة لمساعدة الجرحى عندما فتحت القوات الإسرائيلية النار على المسعفين، على الرغم من إبلاغه بأنهم سيكونون هناك.
أصيب صالح بجروح بالغة في الكتف والصدر، وانتهى به الأمر إلى قضاء بعض الوقت في المستشفى لإجراء عملية جراحية، وبعد ذلك عاد مباشرة إلى العمل.
أبو الكاس تحدث عن شجاعته: "لقد كان مكرسا للمساعدة، وكان يقول إنه أينما كان الناس يصرخون طلبا للمساعدة، فهذا هو المكان الذي يجب أن نكون فيه، للرد عليهم".
قال أبو الكاس إن أسعد البالغ من العمر 47 عاما كان أبا لـ6 أولاد كما أنه أبدى دائما صبرا لا نهاية له للتفاوض مع الأطفال. كلما رأى أطفالا يلعبون في الشارع، كان يذهب إلى القيادة والتعامل معهم، ويقدم لهم الحلوى للخروج من الطريق والذهاب للعب في مكان آمن، سرعان ما اكتشفه الأطفال، وسيلعبون في الشارع مرة أخرى في المرة القادمة، يضحكون ويقولون: "لقد خدعناك!"، لكن أسعد لم يمانع قط، واستمر ببساطة في تسليم الحلويات.
لم تكن جثته من بين أولئك الذين تم العثور عليهم عندما ذهبت بعثة دولية للبحث عن عمال الطوارئ المفقودين، تم القبض عليه وتقييده وأخذه بعيدا، وفقا للشاهد الوحيد الناجي، منذر عابد.
تحدث الأب البالغ من العمر 47 عاما إلى عائلته آخر مرة في المساء الذي اختفى فيه، وأخبرهم أنه في طريقه إلى مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لتناول الإفطار مع زملائه، وفقا لابنه محمد.
إعلانعندما حاولوا الاتصال به في وقت قريب من السحور، لم يستجب واكتشفوا من المقر الرئيسي أنه لا أحد يستطيع الوصول إليه أو إلى عمال الطوارئ الآخرين.
وقال ابنه إنه كان دائما يحذر عائلته من أنه كلما توجه في مهمة قد لا يعود، لكن مع استمرار أسعد في أعمال الإنقاذ لصالح جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حاولوا دائما تجنب التفكير في ذلك.
هذا التقرير، الذي أعده فريق الجزيرة نت، سلط الضوء على الجانب الإنساني لبعض الشهداء الأبطال من فرق الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني، الذين قدموا أرواحهم في سبيل مساعدة أهالي غزة الذين يتعرضون للقصف والقتل الممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي منذ 18 شهرًا، من خلال كلمات المسعف إبراهيم أبو الكاس، الذي عاشر هؤلاء الأبطال وعايش تفاصيل حياتهم.