الطوفان: بيان في إفلاس العقلانية
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
* هذا بيان في مهاجمة العقلانيين العرب.. هكذا، صراحةً، وبلا مواربة. لا بل أكثر من ذلك، هذا هجوم على العقلانية بذاتها، وعلى النحو الذي تبلورت فيه عربيا في العقود الأخيرة. ولو كان الأمر دراسةً، لا مقالا، لأنفق المرء جهدا في تعريف هوية هذا "العقلاني العربي" وقدّم تفصيلا لمن يشمله هذا الوصف ومن يستثنيه. لكن السياق لا يحتمل ترفا أكاديميا كهذا، ويكفي القول إن الدمغة الغالبة لهؤلاء هي عداء معلن تجاه "الأدلجة" والعقائدية، وتعالٍ على الظاهرة الدينية، وتكرارٌ عُصابي لمقولة الفصل بين التفكير والعاطفة، وسِمة ليبرالية غالبة تؤطّر مجمل ما يقولونه.
* في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التاريخ الذي صار شامةً للتاريخ، تعرض العقلانيون العرب لفضيحة معرفية من العيار الثقيل، وانكشف خطأٌ معجمي شديد الحساسية في قاموسهم.. تحديدا في تعريفهم للفظة المستحيل. يصعب أن يتخيل المرء لفظاً أهم في المعجم الفكري لأي جماعة، فتعريفه هو تعريفٌ لحدود خيال الجماعة ولسقفها الذهني. ولا مهرب من السؤال: أين المشروعية الفكرية لمن يعجز عن رسم الفارق بين الممكن وغير الممكن، خصوصا إذا كان رسم الفارق مَنهل شرعيته الأول، وكان سجله مزدحما بالتنظير في مسألة "الواقعية"، والتي أساسها التمييز بين الممكن والمستحيل؟
أين المشروعية الفكرية لمن يعجز عن رسم الفارق بين الممكن وغير الممكن، خصوصا إذا كان رسم الفارق مَنهل شرعيته الأول، وكان سجله مزدحما بالتنظير في مسألة "الواقعية"، والتي أساسها التمييز بين الممكن والمستحيل؟
* أشياء كثيرة عَبَرتها المقاومة الفلسطينية في اقتحامها النيزكي فجرَ ذاك السبت، لا أرضا ولا جوا ولا بحرا فحسب، بل وعقلا أيضا. ليست فضيحةُ العقلانيين العرب أنهم لم يتوقّعوا ما حصل. لا أحد توقع ما حصل. مَكمن فضيحتهم -في مقامها الأول- أنهم كانوا في موضع الخصومة من إمكانية شيء كهذا: من إمكانية "طوفان الأقصى"، لا بوصفه عملاً مسلحا في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل بوصفه فكرة يمكن لحركة التاريخ أن تجود بها.
* لكن مشكلتهم لا تنتهي هنا، فحتى بعد أن حصل الذي حصل، ظلّ الحدث أكبرَ من دائرة إدراكهم، ولم يستطيعوا أن يتحرروا من عطالة الفكر الذي نشؤوا عليه، فعاملوا توابع الحدث بذات الأداة التي فشلت باستبصاره؛ الأداة التي تعوّدت -في كسلها الفكري وتحت ضغط النموذج الغربي- ألا ترى شيئا إلا عبر أمرين: المنطق الصوري والواقع المباشر، وغفل أصحابها أن هناك شيئا آخر خارج هذه الثنائية، وأن فضاء الله -الذي لا يعترفون به- أوسع من هذا. لربما يحتاج الأمر مثالا: أحد أقطاب العقلانية العربية المعاصرة، دون أن نلوّث عين القارئ باسمه، كتب مُعلّقا بعد أسبوع من الحدث ليهاجم المقاومة الفلسطينية بوصفها تقود شعبها للفناء وعازيا ذلك إلى: "عقل حمساويّ تجتمع فيه خفّة الوعي الأصوليّ وقسوة الوعي التوتاليتاريّ". المفارقة طبعا أن الكلام -في جانب غير مقصود- صحيحٌ بمعنىً ما؛ أن "الخفة الأصولية" لعبت دورا فاصلا في عبور السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. الخفّة التي تعني انطلاق الخيال من عنانه لأنها تعطف التجهّز والإعداد مع إيمان غيبي. هذا مزيج ثبت بالدليل العسكري الساحق أنه مذهل في قوّته، ويفوق في مداه سعة الإدراك لمثقفنا العقلاني.
* ليست هذه لحظة جديدة. حتى في الفيزياء، في جوهرة العلوم الدقيقة، حصل ذات الشيء. قرنا بعد قرن، تداعى المنطق الأرسطي وانكشف بأن العالَم، وظواهر العالَم، لا تأبه كثيرا لمنطقيّاتنا الصورية (وغير الصورية). وعندما وُلدت فيزياء الكمّ وتبلورت أفكارها "الشاذة"، لم يبق حجر على حجرٍ في معبد المنطق العلمي وعقلانيته الأولى. وحتى في العلوم الإنسانية والاجتماعية، تجلّى مع الوقت عطب المقاربات العددية التي تختزل الظاهرة الاجتماعية في الأرقام، وبات جلياً أنك لن تذهب بعيدا جدا إن صارت علاقتك مع الواقع علاقة عدٍّ وحساب.
لماذا لا يستطيع هؤلاء أن يحوّلوا الحدث فرصة ليحوّلوا أنفسهم ويتجاوزوا مقتل بنيتهم الفكرية، فيحللوا الواقع مِن بَعد الحدث بغير ما كانوا يحللونه من قبله؟ واحدة من السدود المنيعة أمام بصيرة العقلانيين هي أنهم لا يؤمنون بالبصيرة، ولا يَنظرون لمسألة الإيمان والعقيدة الغيبية إلا من خارجها
* لماذا كان حتما أن يكون الطوفان القسامي نقطة معمية في إدراك العقلانية العربية؟ لماذا يستحيل على هذا النمط من التفكير أن يستوعب حدثا كهذا، دع عنك أن يتنبأ به أو يتخيله ممكنا من الأساس؟ ولماذا لا يستطيع هؤلاء أن يحوّلوا الحدث فرصة ليحوّلوا أنفسهم ويتجاوزوا مقتل بنيتهم الفكرية، فيحللوا الواقع مِن بَعد الحدث بغير ما كانوا يحللونه من قبله؟ واحدة من السدود المنيعة أمام بصيرة العقلانيين هي أنهم لا يؤمنون بالبصيرة، ولا يَنظرون لمسألة الإيمان والعقيدة الغيبية إلا من خارجها. وهُم قانعون بهذا النظر من الخارج، معتقدين أنهم يقفون من موضع معرفي مطلّ على الظاهرة الدينية؛ مِن فوقٍ متخيلٍ للدِّين، يسمح لهم باستيعابه واستيعاب أثره دون التورط فيه.
لكنّ "الظاهرة" الإيمانية ليست ظاهرةً تماما، ومن لا يَدخلون فيها قد يفشلون في فهم تعقيدها وأبعادها وقوتها الكامنة. لا تفسير آخر للسذاجة التي خلّفها صادق جلال العظم في "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، حيث تخفيض ساعات العمل في رمضان يتحول سبباً موضوعيا لنكسة حزيران/ يونيو، ويصل به الأمر للقول إن "في هذه الظاهرة وحدها (أي ساعات عمل رمضان) من المغازي والمعاني والمضامين حول حقيقة الوضع العربي الاجتماعي ما يكفي لتعليل الهزيمة العربية دون البحث عن أسباب أخرى". ويصعب حقاً أن يستوعب المرء أن كلاما كهذا يصدر عن رجل يتم تصويره ذروةً فكرية للعقلانيين العرب، لكن المفارقة تنجلي تحديدا هنا؛ أن تحليل أسباب الهزيمة هو بذاته شاهدٌ على بعض أسبابها.
انفتح أفق جديد في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. أفق جديد، لا للقضية الفلسطينية وحسب، وإنما للفكر العربي ذاته. أقول هذا مدركا تماما كم لجملة كهذه أن تستفز العقلانيين العرب
* يستحق كتاب صادق العظم انتباهاً خاصا فالراحل كان نموذجا معبّرا للعقلاني العربي الذي نقصده. وهو مهم لأن كِتاب العظم، تحديدا، كان يبحث في الهزالة العسكرية العربية في حرب الأيام الستة ومنابعها. لا يبدو أن نجاح حماس العسكري الباهر في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كان مبنيا على توجيهات الدكتور العظم، ولا مستخلصا من توصياته، بل يبدو كثيرٌ مما فعلته حماس آتيا تحديدا من أسباب "الهزيمة العربية" كما نظّر لها الراحل.
* لقد انفتح أفق جديد في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. أفق جديد، لا للقضية الفلسطينية وحسب، وإنما للفكر العربي ذاته. أقول هذا مدركا تماما كم لجملة كهذه أن تستفز العقلانيين العرب. تمّ البيان.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العقلانية غزة العالم العربي العقلانية طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بین الممکن
إقرأ أيضاً:
علوش لـ سانا: خلال شهرين من تحرير سوريا من النظام البائد، استقبل معبر جديدة يابوس الحدودي مع لبنان 627,287 مسافراً من المواطنين السوريين والضيوف العرب والأجانب، توزعوا على 339,018 قادماً و288,269 مغادراً، كما استقبل المعبر مئات الوفود الصحفية والدبلوماسية
2025-02-10SAMERسابق علوش لـ سانا: خلال شهرين من تحرير سوريا من النظام البائد، استقبل معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا 72,859 مسافراً من المواطنين السوريين، توزعوا على 60,583 قادماً، و12,276 مغادراً، كما استقبل المعبر عشرات الوفود الإغاثية والصحفية والدبلوماسية، وتم تقديم التسهيلات اللازمة لهم، وعملنا على تسهيل تدفّق عشرات القوافل الإغاثية لدعم أهلنا في سورياالتالي علوش لـ سانا: خلال الفترة ذاتها، استقبل معبر نصيب الحدودي مع الأردن 174,241 مسافراً من المواطنين السوريين والضيوف العرب والأجانب، توزعوا على 109,837 قادماً، و64,404 مغادرين، واستقبل المعبر عشرات الوفود الصحفية والدبلوماسية، وتم تقديم التسهيلات اللازمة لهم، كما عملنا على تسهيل تدفق القوافل الإغاثية القادمة من الدول الشقيقة والصديقة لدعم وإغاثة الشعب السوري انظر ايضاًعلوش لـ سانا: خلال الفترة ذاتها، استقبل معبر نصيب الحدودي مع الأردن 174,241 مسافراً من المواطنين السوريين والضيوف العرب والأجانب، توزعوا على 109,837 قادماً، و64,404 مغادرين، واستقبل المعبر عشرات الوفود الصحفية والدبلوماسية، وتم تقديم التسهيلات اللازمة لهم، كما عملنا على تسهيل تدفق القوافل الإغاثية القادمة من الدول الشقيقة والصديقة لدعم وإغاثة الشعب السوري
آخر الأخبار 2025-02-10مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علوش لـ سانا: خلال شهرين من تحرير سوريا من النظام البائد، استقبلت المنافذ الحدودية مع تركيا 100,905 مواطنين من أهلنا السوريين العائدين للاستقرار النهائي في وطنهم 2025-02-10الصحة تبحث مع الدفاع المدني التعاون فيما يخص حالات الإسعاف والإحالة 2025-02-10وزير التجارة الداخلية ومحافظ حمص يتفقدان الأسواق والواقع التمويني في المحافظة 2025-02-10اتصالات حمص.. جهود مكثفة لتحسين الخدمات وتلبية الاحتياجات 2025-02-10رئيس هيئة الاستثمار: العقوبات على البنوك السورية تعوق الاستثمار 2025-02-10وحدة تعبئة مياه عين الفيجة تستأنف إنتاجها بجودة عالية وأسعار مناسبة 2025-02-10مناقشة الوضع الخدمي في المشافي الجامعية 2025-02-10محافظ حلب يتفقد أعمال إزالة الأنقاض في المناطق المدمرة 2025-02-10مدارس تعليم القيادة في درعا تستأنف اختبارات منح رخص السياقة 2025-02-10وزير الاتصالات: رخّصنا 5 شركات مزوِّدة لخدمات الإنترنت ومن المقرر منح تراخيص لـ 20 شركة أخرى
صور من سورية منوعات تيك توك تستأنف خدماتها في الولايات المتحدة بفضل ترامب 2025-01-20 الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية إلى الفضاء 2024-12-05فرص عمل جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23 الخارجية تعلن برنامج اختبارات المرحلة الرابعة في مسابقتها لتعيين عاملين دبلوماسيين 2024-12-05حدث في مثل هذا اليوم 2024-12-077 كانون الأول-اليوم العالمي للطيران المدني 2024-12-066 كانون الأول 2004- اقتحام القنصلية الأمريكية في جدة بالمملكة العربية السعودية 2024-12-05 5 كانون الأول – اليوم الوطني في تايلاند 2024-12-033 كانون الأول 1621- عالم الفلك الإيطالي جاليليو جاليلي يخترع التلسكوب الخاص به 2024-12-022 كانون الأول- اليوم الوطني في الإمارات العربية المتحدة 2024-12-011 كانون الأول 1942 – إمبراطور اليابان هيروهيتو يوقع على قرار إعلان الحرب على الولايات المتحدة
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |