خبراء: مبادلة الديون بين الصين ومصر احتلال اقتصادي ومؤشر إفلاس
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
أثار إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ إقرار برنامج لمبادلة الديون بين بلاده ومصر، وذلك بهدف تنفيذ مشروعات تنموية في البلد العربي الأفريقي الذي يعاني أزمات متتابعة بفعل تفاقم الديون الخارجية وحلول آجال الكثير من أقساطها وفوائدها، مخاوف واسعة وسط تحذيرات اقتصادية من تبعات نظام "مبادلة الديون".
الرئيس الصيني، وخلال لقائه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ووفد وزاري اقتصادي كبير في بكين الخميس الماضي، أعرب عن ترحيبه بطرح مصر "سندات الباندا" في السوق الصيني، معلنا دعم حكومة بكين لحكومة القاهرة في هذا الشأن.
وأعلنت وزارة المالية المصرية، الاثنين الماضي، أنها نجحت في إصدار سندات دولية "باندا" مستدامة بسوق المال الصينية، بنحو 3.5 مليار يوان (500 مليون دولار) كأول دولة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
ومبادلة الديون إحدى الأدوات التمويلية المبتكرة باستخدام شرائح من المديونية الصينية لتنفيذ مشروعات تنموية يتفق عليها الجانبان، خاصة بمجالات البنية التحتية والطاقة والطيران والسياحة والطاقة المتجددة والرعاية الصحية وفق، بينغ.
"اجتماع جنيف"
المثير أن الحديث عن مبادلة الديون الصينية على مصر يثير مخاوف اقتصادية ويعتبره البعض احتلال اقتصادي غير مباشر للبلاد، مع وجود سوابق صينية بلدان مدينة لها وخاصة بأفريقيا، حيث تحصل بكين في النهاية على أصول سيادية كالموانئ والمطارات لمدد طويلة وفاء لمستحقاتها.
وفي 7 آب/ أغسطس 2022، كشفت مصادر لـ"عربي21"، عن لقاء جمع مسؤولين مصريين وصينيين، بالعاصمة السويسرية جنيف لمناقشة مبادلة الديون الصينية على القاهرة المقدرة بنحو 8 مليارات دولار بأصول مصرية استراتيجية، بين موانئ ومطارات.
وذلك إلى جانب مبادلة أصول بنحو 10 مليارات دولار، ليصبح إجمالي صفقات المبادلات نحو 18 مليار دولار، ما أثار المخاوف على منطقة قناة السويس الاقتصادية التي تنتشر فيها الشركات الصينية الحكومية والخاصة العملاقة.
وفي هذا الإطار، عقدت مصر اتفاقيات مبادلة ديون مع إيطاليا منذ عام 2001 وألمانيا من عام 2011.
"فخ التنين الصيني".
وتتجه الصين خلال السنوات الماضية إلى إقراض العديد من دول العالم، حتى بدت كمنافس قوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في هذا الإطار، ما يثير الشكوك إزاء نوايا بكين والمخاوف من استيلاء التنين الصيني على أصول وممتلكات سيادية في تلك البلدان، وهو ما رصده تقرير لموقع "CNBC عربية".
تقديرات وزارة الخزانة الأمريكية تؤكد أن الصين أكبر دائن ثنائي بالعالم متجاوزة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأن إجمالي القروض المستحقة لصالحها بين 500 مليار إلى تريليون دولار، لافتا لوجود 44 دولة تدين بأكثر من 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لديها للمقرضين الصينيين.
ويدعم الاتهامات الموجهة للصين باستغلال دول فقيرة بإقراضها ثم السيطرة على مشروعات بها اتفاق سريلانكا مع بنوك وجهات صينية مانحة عام 2017، للحصول على حصة حاكمة تقدر بـ70 بالمئة لمدة 99 بالمئة في مشروع ميناء كانت تبينه بكين في الجزيرة الواقعة شمال المحيط الهندي.
وهو الأمر الذي جرى تنفيذه بصورة مشابهة وبالسيطرة على مضائق وجسور حيوية ومطارات وموانئ، مثل مطار عنتيبي في أوغندا، وميناء مومباسا بكينيا، وميناء غوادار بباكستان، إلى جانب صفقات مبادلة ديون مع اليونان، ومونتينيغرو، وليتوانيا.
"مصر على الطريق"
وهو الأمر الذي يقابله توجه مصري بقبول خيار مبادلة الديون، وذلك منذ نيسان/ أبريل 2019، حين أعلن وزير المالية محمد معيط، تأهيل ديون مصر المحلية للمقاصة الأوروبية باتفاق مع شركة "يورو كلير"، وجعلها مفتوحة أمام المستثمرين الأجانب بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
وكذلك إعلان "صندوق مصر السيادي"، في حزيران/ يونيو 2020، أن الحكومة تسعى للتخلص من بعض ديونها الخارجية ببيع أصول حكومية لمستثمرين أجانب بالشراكة مع الصندوق.
وفي أب/ أغسطس 2021، أعلن السيسي، طرح أسهم شركة العاصمة الإدارية الجديدة بالبورصة المصرية، لجمع 4 تريليونات جنيه خلال عامين، لسد العجز المالي والوفاء بفوائد وأقساط الديون في موعدها.
وتخطط شركة "العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية" في مصر، لطرح نسبة 5 إلى 10% من أسهمها في البورصة، بالربع الأول أو الثاني من العام المقبل، بحسب حديث خالد عباس، رئيس مجلس الإدارة لـ"اقتصاد الشرق" 18 أيلول/ سبتمبر الماضي.
حجم الديون المصرية يبلغ نحو 165 مليار دولار في أيلول/ سبتمبر الماضي، في تفاقم مرعب في عهد السيسي، من نحو 36.7 مليار دولار نهاية 2010، وهي الديون التي تأتي الصين على قائمة أكبر الدائنين لمصر وفقا للبنك المركزي المصري، في كانون الأول/ ديسمبر 2021.
وأكد البنك المصري، أن الصين تتصدر الدول الدائنة لمصر بنهاية حزيران/ يونيو 2021، بنحو 4.631 مليارات دولار، حيث اقترضت حكومات السيسي لبناء "البرج الأيقوني"، بالعاصمة الإدارية الجديدة 1.2 مليار دولار.
وفي أيار/ مايو 2020، اقترضت مصر 15 مليار دولار من الصين عبر مبادرة "الحزام والطريق"، بحسب نشرة "انتربرايز" الاقتصادية، وقرضا بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل القطار الكهربائي الذي تنفذه شركة "إفيك" الصينية في أيار/ مايو 2019، وذلك قبل أن تقترض 3 مليارات دولار من الصين في تشرين الأول/ أكتوبر 2016.
"إعلان إفلاس"
وفي إجابته على السؤال: ماذا يعني إعلان الرئيس الصيني بنفسه إقرار برنامج لمبادلة الديون مع مصر؟، أوضح الخبير الاقتصادي والاستراتيجي الدكتور علاء السيد، أن "مبادلة الديون تعني ببساطة شديدة إعلان إفلاس مصر وعدم قدرتها على سداد أقساط ديونها".
رئيس الأكاديمية المصرفية الدولية، وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن مصر وصلت لتلك النتيجة "في ظل إدارة غير رشيدة ونظام اقتصاد جبائي غير مخطط وغير انتاجي وعشوائي وفاسد".
وقال إن "ترجمة عبارة: (مبادلة الديون المصرية للصين مقابل مشروعات تنموية)، هو تنازل مصر بالبيع عن أصول مصرية ممتازة من شركات وأراضي وعقارات لصالح الصين، بأبخس الأثمان، عوضا عن سداد الأقساط المستحقة للديون التي حصلت عليها منها مصر".
ولفت الخبير والأكاديمي المصري إلى خطورة الأمر على مصر واقتصادها وأمنها القومي، مؤكدا أن "التقييم بأسعار بخسة؛ يأتي بمثابة غرامات تأخير السداد، والامتناع عن سداد الأقساط نقدا كسيولة للجهات الصينية الدائنة لمصر".
وأوضح أنها "تجد نفسها مضطرة لقبول التنازل عن ملكية أغلى ما تمتلك من الموانئ والمناطق الصناعية والشركات الرابحة الاستراتيجية، والتفريط بممتلكات الشعب، والتفريط في الأمن القومي المصري، وذلك للتغطية على الفشل الإداري والاقتصادي والسياسي والاستراتيجي والتخطيطي".
"تبخر حرية مصر"
وقال السيد، إن "انتهاج هذا الطريق فيما يسمى تجميليا بمبادلة الديون السيادية المصرية لدول متناحرة اقتصاديا هو بمثابة تحويل القطر المصري لساحة تنافس بين أمريكا والغرب والصين وروسيا ودول الخليج".
وبين أن "التناحر وربما الاقتتال على أرض مصر هو لفرض الهيمنة على ممر قناة السويس، وعلى موانئ مصر وأراضيها وقطاعاتها الاقتصادية الاستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي المصري، وبالمصالح الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية والتجارية الدولية المتضاربة".
ويرى الخبير الاقتصادي والاستراتيجي أن "ملف الديون الخارجية المصرية الثقيلة غير القابلة للسداد لا اليوم ولا بعد مائة عام سيظل ملفا خطيرا للغاية للضغط على مصر كدولة وكحكومة وكشعب، واخضاعها لتنفيذ أجندات متضاربة للكيان الصهيوني وللولايات المتحدة ولروسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا ودول الخليج العربي".
وأكد أنه "لا طاقة لمصر حكومة وشعبا على تحمل التبعات الكارثية لخطة ما يسمى بمبادلة الديون التي ستتبخر نتيجة لها حرية مصر، واستقلال قرارها، وستتفاقم كنتيجة حتمية لها الضغوط على الطبقة الفقيرة والمتوسطة في مصر وستدمر القطاع الخاص تماما".
وتابع: "وستجد مؤسسة الجيش المصري نفسها غريقة في محيط لا قعر له من المصالح الدولية المتضاربة والمتشاكسة والمتناحرة على أرض مصر".
ويهيب السيد، "بحكومة مصر وبعلمائها ومؤسساتها وأحزابها والمخلصين من أبنائها وضع حد لهذا التوجه بالغ الخطورة وشديد الكارثية والذي ربما لا يدرك صانعوا القرار تبعاته لانعدام أهليتهم أو عن جهل أو تحت ضغوط لم يعد ممكنا مقاومتها بعد الوصول بالاقتصاد المصري إلى هذا المستوى المتدني، وفي ظل اقتصاد عالمي متلاطم الأمواج منعدم اليقين حول مآلات العشرية المقبلة".
"بيع أصول أم استثمار؟"
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي المصري الدكتور علي عبدالعزيز، في حديثه لـ"عربي21"، أن "برنامج مبادلة الديون من البرامج التنموية الهامة والتي تلجأ إليها الدول من أجل استثمار المبادلة كعملية تمويلية بديلة وأقل تكلفة في مشروعات تنموية".
وأوضح أن هناك "مؤسسة وسيطة حكومية أو غير حكومية تقوم بشراء الدين الخارجي بالدولار على الدولة، ثم بيعه للدولة بالعملة المحلية، مع الحصول على خصم من الطرفين".
وأشار إلى أنه "وبالقياس على البرنامج مع الصين، والذى ستقوم به الوكالة الصينية للتعاون الإنمائي الدولي فالهدف هنا بيع أصول وليس الاستثمار بمشروعات إنمائية".
وأكد الأكاديمي المصري، أنه "أمر يمثل خطورة كبيرة على أصول الدولة والتي أخذت أموالا ووقتا كبيرا لإنشائها، وستباع بقيمة أقل كثيرا من قيمتها".
وقال إن "كان الدين الخارجي لمصر يمثل أزمة كبيرة خصوصا وأن القاهرة مطالبة بسداد 24.5 مليار دولار حتى حزيران/ يونيو 2024، فهنا تتضح الصورة أن الهدف الرئيسي هو القدرة على سداد الالتزامات الأخرى".
وأوضح أن ذلك يأتي "في الوقت الذي تباطئ فيه الممول الخليجي عن دعم النظام بالأسعار الحالية، وضغطه الشديد لتخفيض قيمة الجنيه قبل شراء أصول، ووضع ودائع بقيمة 14 مليار دولار حتى يوافق صندوق النقد على قرض الـ3 مليارات دولار".
"موضع سيطرة"
عبدالعزيز، أكد أن "مبادلة الديون مع الصين ليست الأولى، بل كانت هناك مبادلة مع إيطاليا عام 2001، وأخرى مع ألمانيا عام 2011، شملت 120 مشروعا بقيمة 750 مليون دولار".
لفت إلى أن "من أمثلة هذه المشروعات (التنمية الريفية) غرب النوبارية، وانشاء مدارس، والحفاظ على التراث الحضاري، وبرامج تمكين المرأة، إلخ، وهي مشروعات تنموية حقيقية على عكس ما يهدف إليه البرنامج الحالي مع الصين".
وفي توقعاته أكد أنه سيجري "بيع أصول وشركات وحصص في شركات منتجة"، مبينا أنه "بالفعل يجعل الصين في موضع سيطرة على الاقتصاد المصري، وهو أمر حتما سيؤثر على أولويات التنمية والتشغيل".
وبين أن "المقابل هو سداد ديون وأخذ مليارات من الدولارات جديدة لإهدارها في أوجه لا نعلم شيئا عن جدواها ومدى أولوياتها، في ظل مستويات تضخم تجاوزت 40 بالمئة، وانخفاض في تصنيف مصر وصل إلى (Caa1)، وهو يمثل خطورة عالية للقدرة على السداد، وبالتالي مصاعب وتكاليف مرتفعة لجذب المستثمرين".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية الصيني المصري السيسي الاقتصادي المصري مصر السيسي الصين الاقتصاد المصري سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مشروعات تنمویة ملیارات دولار مبادلة الدیون ملیار دولار دیون مع
إقرأ أيضاً:
الحرب تكبّد لبنان 8.5 مليار دولار.. التداعيات وفرص التعويض
أدت الحرب المستمرة بين حزب الله وإسرائيل إلى تفاقم الأزمات في لبنان، إذ زادت الضغوط على الاقتصاد المتدهور منذ سنوات، مما أثر سلبا على مختلف القطاعات الحيوية، وأدى إلى تعميق المعاناة الاجتماعية.
وخلال كلمته في القمة العربية الإسلامية، صرّح رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، بأن خسائر لبنان جراء هذه الحرب تُقدر بنحو 8.5 مليار دولار، استنادا إلى تقديرات البنك الدولي. وأوضح أن قطاع الإسكان تكبد خسائر فادحة، مع تدمير حوالي 100 ألف مسكن بشكل كامل أو جزئي، بتكلفة تصل إلى 3.4 مليار دولار.
وأشار ميقاتي إلى أن القطاعات الحيوية الأخرى، مثل التربية والصحة والزراعة والبيئة، لم تكن بمنأى عن الأضرار، حيث بلغت خسائرها نحو 5.1 مليار دولار، ما يعرض هذه القطاعات إلى خطر التراجع الكبير في قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين ويزيد من الأعباء على الدولة التي تعاني من محدودية مواردها وضيق خياراتها المالية.
حتى الآن، بلغت خسائر لبنان من الحرب الجارية هذا الرقم المرشح للارتفاع مع كل يوم يستمر فيه الصراع، ما يثير التساؤل حول كيفية تمكّن لبنان من تعويض هذه الخسائر، وما هو تأثيرها على اللبنانيين الذي أنهكتهم الأزمات المتتالية؟
خسائر مضاعفةيرى الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين أن الحديث عن الخسائر والأضرار المباشرة وغير المباشرة للحرب ما زال مبكراً، "لاسيما أنها مستمرة وقد تطول"، ويشير إلى أن "عمليات المسح الميداني للأضرار لم تُجرَ بشكل كاف، مما يجعل الأرقام المتداولة تقديرية وغير نهائية، وتعتمد على ما يتم تداوله في وسائل الإعلام حول الدمار والأضرار".
ويوضح شمس الدين في حديث لموقع "الحرة" أن قيمة الأضرار والخسائر المباشرة وغير المباشرة وصلت إلى "نحو عشرة مليارات دولار، مقارنة بـ5.3 مليار دولار خلال حرب يوليو 2006، أي ضعف القيمة تقريبا".
ووفقا لشمس الدين، فإن الخسائر توزعت على مرحلتين: الأولى من 8 أكتوبر 2023 إلى 16 سبتمبر 2024 (حيث كانت المعارك محدودة بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان)، ووصلت الخسائر فيها "إلى نحو 3 مليارات دولار".
"أما المرحلة الثانية فتبدأ من 17 سبتمبر 2024 (تاريخ تفجير البايجر) حتى 21 أكتوبر 2024، "ووصلت فيها الأضرار إلى حوالي 7 مليارات دولار".
وبلغت خسائر البنى التحتية في حرب 2006 بحسب الباحث في الدولية للمعلومات "900 مليون دولار، وهي أعلى مقارنة بالحرب الحالية التي تقدر فيها الخسائر بنحو 570 مليون دولار"، وفيما يتعلق بالأضرار التي لحقت بالمساكن "بلغت في حرب يوليو 2.2 مليار دولار، مقابل 4.260 مليار دولار في الحرب الحالية".
وفيما يخص خسائر المؤسسات التجارية والصناعية، يقول شمس الدين إنها "وصلت إلى 470 مليون دولار، وهو رقم مماثل لما كان عليه في الحرب الماضية"، كما يلفت إلى أن خسائر القطاعين الزراعي والبيئي "تضاعفت من 450 مليون دولار في 2006 إلى 900 مليون دولار حاليا"، مضيفا أن الخسائر غير المباشرة الناتجة عن تراجع الاقتصاد "وصلت إلى 3.380 مليار دولار مقارنة بـ1.2 مليار دولار في 2006".
عجز من دون دعم؟يواجه لبنان تحديات جسيمة في تأمين التمويل اللازم لتعويض الخسائر الناتجة عن الحرب الحالية، والتي يقدرها الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة بأكثر من عشرة مليارات دولار، مؤكدا أن لبنان "غير قادر على التعويض عن هذه الخسائر بمفرده"، واصفا الوضع بـ"المستحيل"، كما يشير إلى أن "احتياطات مصرف لبنان، والتي تشمل أموال المودعين والحكومة، لا تكفي لسد هذه الفجوة المالية الكبيرة".
كذلك يرى الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا أن لبنان "لا يستطيع تحمل هذه الأعباء وحده، خاصة مع تعاظم الأضرار المباشرة التي طالت المنازل والمؤسسات والبنية التحتية، بالإضافة إلى الخسائر غير المباشرة الناتجة عن تدهور النشاط الاقتصادي".
ويوضح أبو شقرا أن "حجم الأضرار الاقتصادية في لبنان، التي كانت تقدر بـ 8.5 مليار دولار أثناء انعقاد القمة العربية، ارتفعت بوتيرة سريعة نتيجة التصاعد المستمر للعمليات العسكرية في مناطق مختلفة"، مشيرا إلى أن الخسائر أصبحت تتزايد بشكل يومي، مما يزيد من التحديات المالية والاقتصادية أمام لبنان.
ويشرح أبو شقرا أن الدولة اللبنانية تفتقر للموارد المالية اللازمة للتعويض عن الخسائر، "حيث تبلغ احتياطاتها في مصرف لبنان نحو 5.8 مليار دولار، إلا أن المتاح منها بالعملة الصعبة لا يتجاوز 600 مليون دولار، بينما الباقي مقيد بالليرة اللبنانية، وأي توسع في الإنفاق بالليرة سيؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار، ما يفاقم من عمليات المضاربة ويؤدي إلى تدهور سعر الصرف، وهو ما يهدد الإنجازات الاقتصادية البسيطة التي تحققت مؤخرا".
كما أن "السلطة عاجزة في ظل الظروف الحالية عن رفع الإيرادات عبر الضرائب والرسوم لتعويض خسائرها من الحرب، بالتالي هي تواجه معضلة في تحقيق تقديراتها في موازنة 2025"، كما يقول أبو شقرا "والتي قدرت الإيرادات بـ 4.7 مليار دولار، فمع التدهور الاقتصادي وتزايد معدلات البطالة، قد لا تتمكن الحكومة من جمع نصف الإيرادات المستهدفة، عدا عن زيادة النفقات العامة، حيث بدأت السلطة باستنزاف بعض الإيرادات التي ادخرتها بين عامي 2023 و2024".
ومع تعثرها في سداد ديونها، لم يعد بمقدور السلطة اللبنانية وفق ما يقوله الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق "الاقتراض من الأسواق الدولية، مما يجعل مصرف لبنان خيارها الوحيد لتعويض خسائرها.
"ووفقا للمادة 93 من قانون النقد والتسليف، يحق لمصرف لبنان تقديم قروض للدولة في حال عجزها عن تأمين الإيرادات من مصادر أخرى، وهو الأمر الذي اعتمدته الحكومة في الفترات السابقة للاقتراض من المصرف المركزي".
لكن احتياطي مصرف لبنان البالغ نحو 10.3 مليار دولار، هو بحسب أبو شقرا "ملكا للمودعين الذين حجزت أموالهم وتبخر القسم الأكبر منها، في هذا السياق أثيرت دعوات لاستثمار احتياطي الذهب لدى المصرف، الذي ارتفعت قيمته منذ عام 2019 إلى 13 مليار دولار. ورغم الاقتراحات بتأجير أو رهن احتياطي الذهب للحصول على قروض، إلا أن ذلك يعتبر مجازفة كبيرة لأن قانون النقد والتسليف يشدد على أهمية الذهب في دعم سعر صرف العملة الوطنية، ويشترط الاحتفاظ بنسبة لا تقل عن 30% من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من الذهب، بالإضافة إلى ذلك، يتطلب اتخاذ مثل هذا القرار موافقة رئيس جمهورية وحكومة أصيلة، إلى جانب مجلس النواب".
يبقى أمام لبنان الخيار الوحيد للمساعدة في تعويض خسائره وهو "المساعدات الخارجية، إلا أن المجتمع الدولي، فقد الثقة في النظام السياسي اللبناني، لذلك لن يعاود منح السلطة الحالية قروضا أو هبات"، ويشير أبو شقرا إلى أن "أول 108 مليون دولار تم تخصيصها مؤخرا من مؤتمر باريس للبنان، تسلمتها منظمات الأمم المتحدة، وليس الحكومة اللبنانية".
سيناريوهان لتداعيات الأزمةهناك سيناريوهان محتملان لتأثير الخسائر الضخمة على اللبنانيين. السيناريو الأول، كما يوضح أبو شقرا، يتمثل في "تدفق مساعدات دولية إلى لبنان مخصصة لإعادة إعمار ما تهدم وتعويض المتضررين، مما سينعكس إيجابا على الاقتصاد اللبناني. إذ إن وصول المساعدات بالدولار سيسهم في خلق فرص عمل جديدة، ويعزز الحركة الاقتصادية، ما يخفف من وطأة الأزمة على المواطنين ويعيد بعض الاستقرار إلى السوق المحلي".
أما السيناريو الثاني، الذي يعد أكثر خطورة، فيحدث في حال "عدم تدفق المساعدات أو تخصيص مساعدات أقل من الحاجة، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. في هذا السياق، قد نشهد تدهورا جديدا في سعر الصرف، وارتفاعا في معدلات التضخم، وفقدانا للقوة الشرائية، إلى جانب تراجع الأجور وتدهور الخدمات في القطاع العام".
ويشدد الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، أن "غياب الدعم الكافي قد يعيق أي محاولة لتنفيذ خطط اقتصادية لإعادة توزيع الخسائر بعد الحرب، مما يؤدي إلى تعمق الفقر وارتفاع الأسعار وزيادة معدلات البطالة، وهو ما سيؤثر سلبا على جميع المستويات ويضع اللبنانيين أمام تحديات معيشية أشد قسوة".
يذكر أن معدل الفقر في لبنان ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي (بين عامي 2012 و2022)، إلى 44% من مجموع السكان، وفقا لتقرير للبنك الدولي حمل عنوان "تقييم وضع الفقر والإنصاف في لبنان 2024: التغلب على أزمة طال أمدها"، غير أن المعهد اللبناني لدراسات السوق يقدّر أن نسبة الفقر الفعلية تجاوزت 80%.
وفي السياق ذاته، أشار بيان صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الشهر الماضي إلى أن ارتفاع معدلات البطالة قد يؤثر في حوالي 1.2 مليون عامل في لبنان، حيث توقع أن يسجل معدل البطالة رقما قياسيا عند 32.6% بحلول نهاية العام.
شروط الخروج من المأزقيحتاج لبنان لتعويض خسائر الحرب كما يقول عجاقة إلى مساعدات خارجية واسعة، لكن الحصول على هذا الدعم "يتطلب من لبنان تنفيذ إصلاحات جوهرية تنقسم إلى شقين: سياسي واقتصادي.
"فعلى الصعيد السياسي، يتطلب الأمر حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية، بينما تشمل الإصلاحات الاقتصادية الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي بشكل عام، ومنها تحقيق الشفافية في إدارة الأموال العامة، وتقليص الإنفاق غير الضروري، وتوجيه الموارد لتحسين الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون".
ويضيف عجاقة أن "تطبيق الإصلاحات الاقتصادية وحده قد يكون ممكنا، ولكن الإصلاحات السياسية تواجه صعوبة بالغة في ظل الانقسام الداخلي".
ويشير إلى أنه في حال تحققت الإصلاحات في الجانبين، فإن ذلك "سيعود بفائدة كبيرة على الاقتصاد اللبناني، مع توقع ضخ الأموال تدريجيا بمعدل يتراوح بين مليار إلى مليار ونصف دولار سنويا، وهو معدل يمكن للاقتصاد اللبناني تحمله، ويساعد على تجنب التضخم".
وفيما يتعلق بإمكانية تقديم إيران دعما ماليا للبنان، بوصفها الداعم الرئيسي لحزب الله، يستبعد عجاقة هذا السيناريو، مشيرا إلى أن "طهران تعاني من أزمات اقتصادية خانقة نتيجة العقوبات الأميركية، ما يحدّ من قدرتها على تقديم دعم مالي للبنان. وحتى في حال توفرت الرغبة، فإن العقوبات تجعل ذلك أمرا بالغ الصعوبة".
كذلك يرى أبو شقرا أن الحل لإعادة الإعمار يبدأ "بإصلاح سياسي شامل يعيد الثقة بالبلاد، من خلال إنهاء الصراع الداخلي، وإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية ومكافحة الفساد، وفي حال تمكنت الحكومة اللبنانية من تنفيذ هذه الإصلاحات بنجاح، فإن ذلك قد يشجع الجهات الدولية المانحة على تقديم الدعم المالي، ما قد يخفف من وطأة الأزمة ويعيد بعض الاستقرار إلى الاقتصاد. لكن من دون إصلاحات جدية، يبقى مستقبل الدعم الخارجي غامضا، ما سيضع لبنان أمام تحديات اقتصادية أشد قسوة".