الغرب يخوض حروب إسرائيل دفاعا عن هيمنة منحسرة
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
الغرب يخوض حروب إسرائيل دفاعا عن هيمنة منحسرة
دول «الغرب الجماعي» منقادة بعمى كامل خلف الثنائي الأميركي الإسرائيلي.
لعبت أميركا دوراً كبيراً بكل حروب إسرائيل العدوانية تسليحياً واستخباراتيا وسياسيا وإعلاميا، لكن اليوم نشهد لأول مرّة استعداداً أميركياً للمشاركة في الحرب.
حرب أوكرانيا محطّة هامّة في انتقال تركيز أميركا والغرب على «عودة الصراع بين القوى الكبرى» شرق أوروبا وآسيا، والسعي لـ«تخفيض توتر» الشرق الأوسط لتأمين هذا التركيز.
ظنّ قادة الغرب، وجيوش خبرائهم، أن بالإمكان السماح لإسرائيل باستكمال التطهير العرقي وتصفية قضية فلسطين على «نار هادئة»، والاستمرار في تجويع سوريا ولبنان.
أخفقت جهود أميركا لتشكيل جبهة عربية متواطئة مع العدوان، باستثناء تواطؤ الإمارات العلني، ومعظم دول العالم غير الغربي لا تنساق خلف الأجندة الإسرائيلية الأميركية.
ربّما لا تدرك حكومات الغرب أن تورّطها في الحرب سيحوّل الإقليم برمّته إلى كتلة لهب يحرق مصالحها وجنودها حيث يتواجدون وأن النيران قد تمتدّ لعواصمها الآمنة والهانئة حتى الآن.
* * *
لا يمكن فصل التعبئة الشاملة لـ«الغرب الجماعي» إلى جانب إسرائيل، بعد الهزيمة المدوّية التي مُنيت بها الأخيرة بفضل ملحمة «طوفان الأقصى» البطولية، عبر حشد حاملات الطائرات والزوارق الحربية الأميركية والبريطانية والإيطالية، وربما غيرها في القادم من الأيام، دعماً لها، والتغطية السياسية والإعلامية الكاملة لعمليات القتل الجماعي والتدمير الواسع النطاق التي ترتكبها في غزة، بذريعة حقّها في «الدفاع عن النفس»، عن الحروب والمواجهات التي يخوضها الأول في أكثر من ساحة حفاظاً على هيمنة منحسرة ومترنّحة.
من المعروف للجميع أن أميركا كانت شريكاً دائماً لإسرائيل في حروبها العدوانية تسليحاً ومساعدة استخبارية ومساندة سياسية وإعلامية، بدءاً من عدوان حزيران 1967، مروراً بحرب تشرين الأول 1973، وبالاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، وبحرب تموز-آب 2006، وصولاً إلى الحروب المتتالية على غزة حتى 2021، إذ لعبت واشنطن دوراً كبيراً في جميع هذه الحروب في المجالات التي ذُكِرت أعلاه، لكننا اليوم نشهد للمرّة الأولى استعداداً أميركياً للمشاركة في الحرب.
هي المرّة الأولى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى بقية القوى الغربية. فعدوان السويس على مصر في عام 1956، كان بريطانياً - فرنسياً - إسرائيلياً.
صحيحٌ أن قرار الحرب آنذاك اتُّخذ أساساً في لندن وباريس عقاباً للقاهرة على تأميمها قناة السويس، وقيادتها حركة التحرر العربية ضدّ هاتين القوتَين الاستعماريتَين، لكنّ الطرف الإسرائيلي، كما كشف الأرشيف الرسمي للجهات الثلاث، كان محرّضاً على اعتماد الخيار العسكري، ونجح في تسويق دوره كـ«مخلب قطّ» للقوى الغربية ضدّ تيّار القومية العربية الصاعد، والذي بات يهدّد بقاء إمبراطورياتهما الاستعمارية.
وفي محاضرة ألقاها في «كيبوتس» عام 1955، قال شمعون بيريز، بعد اشتباك بين القوات الصهيونية والجيش المصري على أطراف غزة، إن كلّ رصاصة تُوجَّه إلى رأس جندي مصري «سترفع أسعار أسهم إسرائيل في بورصتَي باريس ولندن».
غير أن العدوان الثلاثي هُزم، وتسارع بعده انهيار السيطرة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية على بلدان المنطقة. بطبيعة الحال، هناك اختلافات هامّة بين السياق الدولي والإقليمي الراهن، وذلك الذي ساد في تلك المرحلة، لكن أبرز وجه للتشابه بينهما هو مسار انحدار القوة أو القوى الاستعمارية المسيطرة على الإقليم، وانعكاس ذلك على موازين القوى فيه.
مسار انحسار النفوذ الأميركي في المنطقة، بدأ في الحقيقة منذ فشل «مشروع الشرق الأوسط الكبير» في العقد الأول من الألفية الثانية، وتسارَع مع تنامي دور الصين وروسيا كمنافسَين إستراتيجيين للولايات المتحدة على المستوى الدولي، إلى درجة أن الأخيرة أضحت تَجهر بنيّتها «التخفّف من أعباء الشرق الأوسط» للتفرّغ لأولوية التصدّي لهذين المنافسين.
وقد شكّلت حرب أوكرانيا محطّة هامّة في عملية انتقال التركيز الأميركي والغربي على «عودة الصراع بين القوى الكبرى» في شرق أوروبا وشرق آسيا، والسعي إلى «تخفيض التوتر» في الشرق الأوسط ليضحي مثل هذا التركيز ممكناً.
ظنّ القادة الغربيون الأفذاذ، وجيوش مستشاريهم وخبرائهم، أنه بالإمكان السماح لإسرائيل باستكمال التطهير العرقي وتصفية قضية فلسطين على «نار هادئة»، والاستمرار في تجويع سوريا ولبنان، والمضيّ في محاولات زعزعة استقرار إيران، من دون أثمان تُدفع، لكنّ «طوفان الأقصى» موضوعياً، وبشكل مباشر وغير مباشر، أغرق جميع هذه المخطّطات.
قد يكون الفارق الرئيس بين المجابهة الراهنة وعدوان تموز - آب على لبنان، أن الأخير اندرج ضمن إستراتيجية الليكوديين الأميركيين، أي المحافظين الجدد، لـ«بناء شرق أوسط جديد»، أمّا الأولى فإنها تأتي خارج إطار أيّ إستراتيجية إقليمية، وتشكّل ردّة فعل غربية مسعورة لا أكثر. سقط «الشرق الأوسط الجديد» كما أسلفنا بفعل مقاومة شعوب المنطقة ودولها الوطنية، رغم أن الظروف الدولية والإقليمية كانت مؤاتية أكثر لواشنطن من تلك القائمة حالياً.
الأُحادية الأميركية كانت في أوجها، ولم تكن واشنطن في حالة صراع مفتوح مع موسكو وبكين. والأمر نفسه ينسحب على الإقليم، حيث نجحت إدارة بوش الابن في فرزه بين دول «معتدلة وحليفة» قامت بتغطية العدوان عملياً عبر تحميل قوى المقاومة مسؤولية «اندلاع العنف»، وحركات المقاومة والدول الوطنية التي قاومته.
المشهد الراهن متمايز جذرياً لأن الدول العربية المصنّفة «معتدلة وصديقة لواشنطن» كمصر والسعودية مثلاً، رفضت الإملاءات الأميركية بتحميل المقاومة الفلسطينية وحدها مسؤولية انفجار المواجهة، وعارضت بحزم المشروع الصهيوني لتهجير أهل غزة إلى سيناء، والذي تبنّاه وزير الخارجية الصهيو-أميركي، أنتوني بلينكن، وحاول الضغط عليها لقبوله.
صحيفة «لوموند» تحدّثت عن مجابهة دبلوماسية أميركية عربية حول المشروع المشار إليه. أخفقت جهود واشنطن لتشكيل جبهة عربية متواطئة مع العدوان الصهيوني، باستثناء تواطؤ الإمارات العلني معه، والواقع نفسه ينطبق على مواقف معظم دول العالم غير الغربي التي لم تنسَق خلف الأجندة الإسرائيلية - الأميركية. أمّا دول «الغرب الجماعي»، فهي منقادة بعمى كامل خلف الثنائي الأميركي الإسرائيلي.
من المفيد لفهم هذا التوجّه، قراءة مقال «الخبير» في شؤون الإسلام السياسي، جيل كيبيل، وهو مستشار غير معلن للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وصاحب مقولة «الانفصالية الإسلامية في فرنسا» والتي روّج لها الأخير في السنوات الماضية.
اختار «الخبير» لمقاله في صحيفة «لوفيغارو»، العنوان التالي: «11 أيلول إسرائيل، النسخة الإيرانية»، ورأى أن طهران خطّطت وأشرفت على عملية «طوفان الأقصى» كجزء من مشروع هجومي يهدف إلى القضاء على إسرائيل على المدى الطويل، والإجهاز على نفوذ الغرب في الشرق الأوسط، مستغلّةً انشغال الغرب بصراعه مع روسيا والصين.
وهو أضاف أن «بوتين يهاجمنا من شمال شرق أوروبا وإيران تهاجمنا على الضفة الشرقية للمتوسط». هو يفترض فعلياً أن هذين الهجومين منسّقان، ويبغيان تحقيق الهدف نفسه على المستوى الإستراتيجي، وهو القضاء على النفوذ الغربي وتغيير الموازين في الشرق الأوسط وفي شرق أوروبا.
ضحالة مثل هذه الفرضيات لم تمنع انتشارها والترويج لها في أوساط قطاعات وازنة من النخب السياسية والإعلامية الغربية، رغم أن أوساطاً معتبَرة من الرأي العام تشكّك في وجاهتها وصدقيّتها.
المهمّ أن السياسات التي باتت تعتمدها حكومات الغرب، عبر إرسال حاملات الطائرات والسفن الحربية إلى المنطقة نصرة لإسرائيل، وعبر تجريم التضامن مع فلسطين في داخل بلدانها، كمنع رفع العلم الفلسطيني واعتقال وفرض غرامات مالية على من يفعل ذلك، وقرارات بسجن من يدافع عن حركات المقاومة لمدّة تتراوح بين 5 و7 سنوات، والتبنّي الكامل للرواية الإسرائيلية عن المعركة الدائرة، هي جميعها دلائل قطعية على رسوخ أطروحات كيبيل وأمثاله في أذهانها، وأنها تعتبر نفسها في حالة حرب على جبهة ثانية، إضافة إلى الجبهة الأوكرانية.
ربّما لا تدرك حكومات الغرب أن تورّطها في مثل هذه الحرب سيحوّل الإقليم برمّته إلى كتلة من لهب يحرق مصالحها وجنودها حيث يتواجدون، وأن نيران هذا الحريق قد تمتدّ إلى عواصمها الآمنة والهانئة حتى الآن.
*د. وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية.
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أميركا الغرب حروب إسرائيل مشاركة في الحرب طوفان الأقصى الأحادية الأميركية حرب أوكرانيا قضية فلسطين الشرق الأوسط شرق أوروبا
إقرأ أيضاً:
حروب نتنياهو الكثيرة.. لماذا لن يحسمها ولماذا ستنفجر في وجهه؟
الهروب للأمام هو أحد خيارات الساسة في مواجهة التحديات المستعصية. وقد وجد نتنياهو نفسه بعد 15 شهرا من العدوان على غزة أمام لحظة تشبه لحظة بداية الحرب، فبعد أن وقّع على اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس، ظهر للجميع خلال الإفراج عن دفعات الأسرى أن أهداف الحرب المعلنة رسميا من طرف الحكومة الإسرائيلية، والمتمثلة في استخدام نهج الضغط العسكري للإفراج عن الأسرى، والقضاء على القدرات العسكرية للمقاومة، وتفكيك قدرات حماس على إدارة شؤون الحكم في غزة، لم تتحقق رغم المجازر الواسعة التي أدت إلى استشهاد 50 ألف شخص ودمرت قطاع غزة.
هنا أصبح نتنياهو أمام مفترق طرق، إما الإقرار الذاتي بالفشل في الحرب عبر تنفيذ بنود المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بما يشمله من الانسحاب من محور فيلادلفيا، والسماح بدخول آلاف الخيم والمنازل الجاهزة، فضلا عن مئات شاحنات المساعدات الغذائية والوقود يوميا، والبدء في مفاوضات المرحلة الثانية التي ستقود إلى وقف الحرب والانسحاب من كامل قطاع غزة وبدء إعادة الإعمار، وإما خرق الاتفاق والعودة للحرب وارتكاب المجازر مجددا سعيا لتحقيق عدة أهداف داخلية وخارجية. وتبنى نتنياهو الخيار الثاني عبر شن سلسلة غارات جوية واسعة ليلة 18 مارس/آذار الجاري أسفرت عن استشهاد ما يزيد عن 430 شخصا، فضلا عن إصابة المئات في الضربة الافتتاحية فقط.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل الاعتناء بالنفس أكذوبة رأسمالية؟list 2 of 2كيف نفهم الدروز؟ وكيف يؤثرون على مستقبل سوريا؟end of list إعلان الأهداف الداخليةيُعد نتنياهو رئيس الوزراء الأطول حكما في تاريخ إسرائيل، فمجموع فترات حكمه حتى الآن بلغت 18 عاما، ونجح خلالها في قيادة حزب الليكود وإعادته مجددا لمقعد الحكم بعد انشقاق رئيس الوزراء الأسبق شارون عن الليكود عبر تأسيسه حزب كاديما، فضلا عن نجاحه في إضعاف أحزاب اليسار، وفي مقدمتها حزب العمل الذي أصبح جزءا من الماضي أكثر من كونه فاعلا في المشهد الإسرائيلي بعد اندماجه مع حزب ميرتس تحت لافتة حزب الديمقراطيين في عام 2024.
لقد تعرض نتنياهو لزلزال صبيحة طوفان الأقصى هدد بختم مسيرته السياسية بأكبر إخفاق أمني في تاريخ إسرائيل منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، لكن "بيبي" -كما يحب أن يطلق على نفسه- عمل بالوصية التي أوصى بها جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس ترامب في إدارته الأولى وزوج ابنته، حيث قال كوشنر في مذكراته "أخبرني نتنياهو أنه تعلم في بداية حياته السياسية أن أهم شيء هو الزخم. كلما سقط يبحث عن أي أخبار جيدة ويجعلها أكبر شيء، في السياسة تولد الانتصارات المزيد من المكاسب"، وهو ما حرص نتنياهو على فعله في الحرب عبر البحث عن إنجازات يستثمرها سياسيا لتعويض الإخفاق غير المسبوق الذي مُني به يوم الطوفان.
فحكومة الحرب التي شكلها نتنياهو رفقة قائدي الجيش السابقين غانتس وإيزنكوت سرعان ما تفككت، وحمّلهما نتنياهو مسؤولية كبح جماحه وتقييده عن استهداف حزب الله في لبنان. وبعد مغادرتهما الحكومة، قرر نتنياهو في منتصف سبتمبر/أيلول 2024 نقل ثقل العمليات إلى الجبهة الشمالية واضعا عودة المستوطنين إلى منزلهم شمال فلسطين المحتلة ضمن أهداف الحرب، وذلك قبل أقل من شهر على الذكرى الأولى لطوفان الأقصى، ليبحث عن صورة نصر يفتخر به بعد سنة من الحرب.
إعلانوشن الاحتلال هجمات أجهزة البيجر واللاسلكي، وقتل قادة حزب الله، ونفذ عملية برية بحجة تفكيك البنية التحتية العسكرية للحزب في قرى الشريط الحدودي جنوب نهر الليطاني، وعزا نتنياهو لنفسه النجاح في ذلك، ثم أطاح بعدها بوزير الدفاع غالانت بحجة فقدانه الثقة به، ثم دفع وزير الدفاع الجديد كاتس رئيس الأركان هاليفي للاستقالة، ليعين إيال زامير سكرتير نتنياهو العسكري سابقا رئيسا للأركان، وليتبقى فقط كعقبة أمامه مدير الشاباك رونين بار المشرف على فريق التفاوض في صفقة وقف إطلاق النار.
للتغلب على رونين بار، أطاح به نتنياهو أولا من رئاسة فريق التفاوض، وعيّن الوزير رون ديرمر بدلا منه، ثم طلب في مارس/آذار الجاري من بار الاستقالة، وهو ما رفضه بار في بيان رسمي معلنا أنه لن يستقيل وسيبقى في منصبه لحين استكمال الإفراج عن بقية الأسرى، في حين تدخلت المستشارة القضائية للحكومة جالي بهراف ميارا معلنة رفضها إقالة بار في ظل التحقيقات التي يجريها الشاباك بحق عدد من العاملين في مكتب نتنياهو بتهم متعددة، منها تسريب وثائق سرية لصحيفة بيلد الألمانية للتأثير على المفاوضات الخاصة بحرب غزة، وتلقي أموال من دولة أجنبية.
يساهم تجدد الحرب في تقوية جبهة نتنياهو ضد مدير الشاباك، كما يغطي على إجراءات عزل المستشارة القضائية ذاتها، مما سيؤدي حال النجاح فيه إلى تمكن نتنياهو من الهيمنة على الجيش والأمن العام، حيث سيصبح وزير الدفاع ورئيس الأركان ومدير الشاباك من رجال نتنياهو.
كذلك يعزز تجدد الحرب تماسك الائتلاف الحكومي، فوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير رفقة وزراء حزبه الصهيونية الدينية سبق أن استقالوا اعتراضا على اتفاق وقف إطلاق النار، ورهنوا عودتهم للحكومة بتجدد الحرب، في حين علّق وزير المالية سموتريتش بقاءه في الحكومة بعدم الانخراط في المرحلة الثانية من الاتفاق، وشدد على أنه لن تكون هناك مرحلة ثانية حسب وعد نتنياهو له، وقد أوفى نتنياهو بوعده له ونقض الاتفاق، ولذا كان أول قرارات نتنياهو عقب اليوم الأول من تجدد القتال إعادة بن غفير للحكومة مجددا، رغم رفض المستشار القضائية للحكومة.
إعلانإن عودة بن غفير وحزبه للائتلاف الحاكم تمنح نتنياهو أغلبية مريحة في الكنيست، مما يزيد فرص بقاء الائتلاف الحاكم حتى موعد الانتخابات القادمة في عام 2026 دون الحاجة لخوض انتخابات مبكرة أو الاستجابة لابتزازات بعض الأحزاب الصغيرة في الائتلاف، وبالأخص في ملف تمرير الميزانية الحكومية خلال الشهر الجاري أو فيما يخص تجنيد الحريديم في الجيش.
خطة حسم الحرببجوار أهداف السياسة الداخلية، توجد أهداف أخرى تتعلق بالحرب ذاتها، ففي ظل الضوء الأخضر من الإدارة الأميركية، وتصريحات الرئيس ترامب عن تهجير سكان غزة، والتسريبات عن اتصالات أميركية مع حكومتي السودان وأرض الصومال لبحث استقبالهما أهل غزة، بعد رفض مصر والأردن مخطط التهجير، أصبحت العودة للحرب هي الخيار الأكثر عملية لنتنياهو لتنفيذ خطة ترامب.
فاليمين الصهيوني الديني في حكومة نتنياهو يضع ضمن أهدافه منذ بداية الحرب تهجير أهل غزة وإعادة الاستيطان، وهي مطالب لم تكن تحظى بدعم من إدارة بايدن أو الدول الأوروبية، ولذا لم يضعها نتنياهو ضمن أهداف الحرب المعلنة. أما الآن فلدى نتنياهو فرصة تاريخية للاحتماء بترامب وتنفيذ ما يعتبرها خطة حسم بتهجير الفلسطينيين من غزة كخطوة أولى يتبعها بتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية، وبذلك يجلب من منظوره لدولة الاحتلال الأمن المفقود، وينهي الصراع الذي بدأ في عام 1948.
لقد حاول نتنياهو عرقلة اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من مرة، وصولا لاتخاذه قرارا بغلق معابر غزة ومنع دخول المساعدات الإنسانية منذ الثاني من مارس/آذار الجاري، وذلك للضغط على المقاومة لتمديد المرحلة الأولى من الاتفاق ضمن معادلة تقتصر على تبادل الإفراج عن الأسرى دون الإعلان عن إنهاء الحرب أو إدخال مستلزمات إعادة الإعمار.
في المقابل التزمت المقاومة ببنود الاتفاق، وانخرطت في مفاوضات ثنائية مباشرة مع إدارة ترامب عبر مبعوثه للرهائن آدم بولر، وهنا اختار نتنياهو تفجير الاتفاق عسكريا وقطع الطريق على المفاوضات الأميركية مع حماس، فافتتح جيش الاحتلال الحرب مجددا بغارات جوية واسعة طالت العشرات من قادة العمل الحكومي ولجان الطوارئ في غزة رفقة عائلاتهم، مما أسفر عن مقتل نحو 430 شخصا في اليوم الأول فقط.
إعلانتشير طبيعة الاستهداف الإسرائيلي إلى رغبة في إحداث حالة فوضى في قطاع غزة عبر تصفية الأشخاص الذين تولوا تسيير الحياة المدنية خلال فترة الهدنة، وتشديد الضغوط على السكان عبر التوسع في المجازر بالتزامن مع سياسة التجويع وغلق المعابر ومنع دخول المساعدات بأنواعها المختلفة، مما يهيئ البيئة لسيناريو التهجير، كما يضغط على قيادة المقاومة لقبول معادلة تبادل الأسرى دون إنهاء الحرب.
يدرك نتنياهو أن خطة التهجير تواجه عدة تحديات في مقدمتها تمسك الفلسطينيين بأرضهم، ورفض المحيط الإقليمي للتهجير، فضلا عن مزاجية ترامب، الذي قد يتراجع في أي لحظة عن دعمه للخطة. ولذا يراهن نتنياهو على تحقيق أهداف أخرى أقل في حال الفشل في تنفيذ التهجير، وفي مقدمتها نزع سلاح غزة، ونفي كوادر وقيادات فصائل المقاومة من القطاع، وهو ما سبق أن صرح به نتنياهو أثناء إلقائه خطابا أمام الكونغرس الأميركي في العام الماضي قائلا "الحرب في غزة ستنتهي فورا إذا استسلمت حماس وألقت سلاحها وأعادت الأسرى".
إعادة هندسة المنطقةيكرر نتنياهو منذ طوفان الأقصى أنه سيغير وجه المنطقة وسيعيد هندسة الشرق الأوسط، وهو ما لا يمكن تنفيذه إلا بالحرب والمجازر.
يرى اليمين الصهيوني أنه وجّه ضربات قوية لخصوم إسرائيل لكنه لم يتمكن من القضاء عليهم، مما يمنحهم الفرصة لامتصاص الضربات الموجهة لهم والنهوض مجددا، ولذا تسيطر عليه فكرة كسر عظامهم للتخلص منهم نهائيا.
فحزب الله في لبنان فقد أغلب قادته والعديد من عناصره وأسلحته، فضلا عن انقطاع شريان إمداده بسقوط نظام الأسد في سوريا، كما تتواصل الضربات والغارات الإسرائيلية ضد عناصر ومخازن أسلحة الحزب حتى في مناطق خارج جنوب الليطاني مثل بعلبك والبقاع، في حين تعرضت المقاومة الفلسطينية في غزة إلى ضربات باغتيال العديد من قادتها واستشهاد أعداد كبيرة من كوادرها، في وقت يتعرض فيه سكان القطاع لإحدى كبرى المجازر الجماعية في القرن الحادي والعشرين.
إعلانوفي سوريا، عملت إسرائيل على تدمير بقايا أسلحة الجيش السوري الثقيلة من طائرات ودبابات وسفن، فضلا عن مخازن الأسلحة الإستراتيجية، واحتلت المنطقة العازلة وجبل الشيح بأكمله، ونفذت عمليات مداهمة وتفتيش في الجنوب السوري، وصولا لإعلانها على لسان وزير الدفاع كاتس حظر وجود أي أسلحة ثقيلة في المنطقة الممتدة من جنوب دمشق إلى الحدود مع الجولان بعمق 65 كيلومترا، مما يعني تجريد العاصمة دمشق من أي دفاعات فعالة وجعلها ضمن دائرة الاستهداف الإسرائيلي في أي وقت بحجة حفظ أمن إسرائيل.
أما حركة أنصار الله في اليمن، فقد تكفلت بها إدارة ترامب، حيث أعادت إدراجها على قوائم الإرهاب الأميركية، ثم بدأت بشن عملية عسكرية هجومية عليها وفق نهج يختلف عن نهج إدارة بايدن الذي اقتصر على عمليات دفاعية استهدفت تدمير منصات إطلاق الصواريخ ومخازن الطائرات المسيرة والرادارات.
فقد أضاف الجيش الأميركي لبنك أهدافه منازل قادة حوثيين ومقرات في أحياء سكنية، مما أسفر عن سقوط عشرات الضحايا، في حين جاءت الضربات الأميركية بشكل استباقي ردا على تعهد الحوثيين بمنع السفن الإسرائيلية من الإبحار في البحر الأحمر لحين إدخال المساعدات إلى غزة، والتلويح بإعادة إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه إسرائيل في حال عودة الحرب على غزة، وهو ما حدث بالفعل يوم 18 مارس/آذار الجاري بإطلاق صاروخ من اليمن باتجاه قادة نيفاتيم الجوية في النقب.
ويهدف نتنياهو إلى تأمين إسرائيل عبر استهداف خصومها على أراضيهم، وشن هجمات استباقية تقضي على المخاطر قبل تبلورها وتحولها إلى تهديد، لكنه يرى أن تلك الجهود لن تكفي وحدها، فيتحين الفرصة لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية باعتبارها الجائزة الكبرى التي عجز عن تحقيقها في ظل الرفض الأميركي من طرف الإدارات السابقة في واشنطن.
إعلانفإدارة ترامب الحالية تضع الخيار العسكري ضد إيران على الطاولة، وأرسل ترامب رسالة إلى طهران يعرض فيها التفاوض وفق الشروط الأميركية أو مواجهة عمل عسكري، وذلك بعد أن بدأ في فرض سياسة الضغط القصوى التي تهدف لتقييد وتصفير صادرات النفط الإيرانية.
ويقصد بالتفاوض هنا التفاوض على صفقة شاملة لا تقتصر على البرنامج النووي إنما تشمل البرنامج الصاروخي الإيراني، وعلاقة إيران بالجماعات الحليفة لها بالمنطقة، مما يعني التفاوض على حصة إيران من النفوذ الإقليمي وتجريدها من أدواتها الدفاعية الأساسية، الأمر الذي يعني في جوهره تقديم عرض استسلام مقابل تجنب الحرب، وهو ما يصعب أن تقبله طهران التي تخشى بعد تجريدها من أدوات تأثيرها ونفوذها أن تكون الخطوة التالية هي العمل على تغيير نظام الحكم بها.
هل تنجح خطط نتنياهو؟يبدو نتنياهو كمن يسير على حد السيف في مخاطرة قد تؤدي لتفجير المنطقة بأكملها، ففرض حلول وجودية يدفع لردود فعل قوية وحادة، وما كان طوفان الأقصى ذاته إلا رد فعل على السياسات الإسرائيلية التي عملت على خنق القضية الفلسطينية، وتزامن مع موجة تطبيع سرعان ما اصطدمت بحقائق الواقع.
يقاتل نتنياهو على أكثر من جبهة، فهو يعمل على توليد نسخة جديدة من الدولة في إسرائيل، نسخة تقصي اليسار من دوائر السلطة والنفوذ، وتنزعه من آخر معاقله في قيادة الجيش وأجهزة الأمن والقضاء، كما يعمل على تغيير الأوضاع في غزة ولبنان وجنوب سوريا، في وقت تقدم له إدارة ترامب مظلة حماية سياسية وعسكرية، بل تتكفل بمواجهة الجهات البعيدة جغرافيا مثل الحوثيين في اليمن، في حين بدأ التصعيد تدريجيا ضد إيران.
لكن الإمعان في الضغوط وكسر الخطوط الحمراء غالبا ما يؤدي لردات فعل عكسية، مما يهدد استقرار إسرائيل مجتمعيا وداخليا في ظل الدعوات لاحتجاجات خلال الأيام القادمة اعتراضا على الإقالات التي يقوم نتنياهو، كما سيغرق إسرائيل في دوامة صراعات مع محيطها العربي والإسلامي تستنزف مقدراتها وتفقدها الأمن الذي تبحث عنه، ففي النهاية تصطدم إسرائيل بمكونات راسخة في المنطقة، سواء في فلسطين أو لبنان أو سوريا، في وقت تتأزم فيه علاقاتها مع مصر والأردن، وستدفع سياساتها خصومها للتكتل ضدها.
إعلانكذلك قد يؤدي الدعم الأميركي المفتوح بهدف حسم الصراع إلى تفجر صراعات أكثر ضراوة، وهو ما لا تريد واشنطن الانخراط فيه. وقد أثبتت تجارب حربي العراق وأفغانستان أن بإمكان واشنطن تحقيق إنجازات عسكرية في بداية الحرب لكنها سرعان ما تغرق في وحل حروب استنزاف ليس لها نهاية، وقد أوردت بولا بروديل هذا المعنى بشكل معبر في كتابها عن سيرة الجنرال بترايوس قائد القيادة المركزية سابقا، حيث راسل جندي أميركي بأفغانستان أحد نواب الكونغرس عام 2010 قائلا "لا فرق إن بقينا هنا أربع سنوات أو 40 سنة، فالنتيجة ستظل كما هي. سنواصل الدفع بمزيد من الجنود الأميركيين للهلاك، بينما الأفغان يقاتلون دون انتظار موعد لانتهاء الحرب". وما حدث بأفغانستان هو نفسه ما يحدث في فلسطين منذ عام 1948 حتى اليوم.