الغرب يخوض حروب إسرائيل دفاعا عن هيمنة منحسرة
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
الغرب يخوض حروب إسرائيل دفاعا عن هيمنة منحسرة
دول «الغرب الجماعي» منقادة بعمى كامل خلف الثنائي الأميركي الإسرائيلي.
لعبت أميركا دوراً كبيراً بكل حروب إسرائيل العدوانية تسليحياً واستخباراتيا وسياسيا وإعلاميا، لكن اليوم نشهد لأول مرّة استعداداً أميركياً للمشاركة في الحرب.
حرب أوكرانيا محطّة هامّة في انتقال تركيز أميركا والغرب على «عودة الصراع بين القوى الكبرى» شرق أوروبا وآسيا، والسعي لـ«تخفيض توتر» الشرق الأوسط لتأمين هذا التركيز.
ظنّ قادة الغرب، وجيوش خبرائهم، أن بالإمكان السماح لإسرائيل باستكمال التطهير العرقي وتصفية قضية فلسطين على «نار هادئة»، والاستمرار في تجويع سوريا ولبنان.
أخفقت جهود أميركا لتشكيل جبهة عربية متواطئة مع العدوان، باستثناء تواطؤ الإمارات العلني، ومعظم دول العالم غير الغربي لا تنساق خلف الأجندة الإسرائيلية الأميركية.
ربّما لا تدرك حكومات الغرب أن تورّطها في الحرب سيحوّل الإقليم برمّته إلى كتلة لهب يحرق مصالحها وجنودها حيث يتواجدون وأن النيران قد تمتدّ لعواصمها الآمنة والهانئة حتى الآن.
* * *
لا يمكن فصل التعبئة الشاملة لـ«الغرب الجماعي» إلى جانب إسرائيل، بعد الهزيمة المدوّية التي مُنيت بها الأخيرة بفضل ملحمة «طوفان الأقصى» البطولية، عبر حشد حاملات الطائرات والزوارق الحربية الأميركية والبريطانية والإيطالية، وربما غيرها في القادم من الأيام، دعماً لها، والتغطية السياسية والإعلامية الكاملة لعمليات القتل الجماعي والتدمير الواسع النطاق التي ترتكبها في غزة، بذريعة حقّها في «الدفاع عن النفس»، عن الحروب والمواجهات التي يخوضها الأول في أكثر من ساحة حفاظاً على هيمنة منحسرة ومترنّحة.
من المعروف للجميع أن أميركا كانت شريكاً دائماً لإسرائيل في حروبها العدوانية تسليحاً ومساعدة استخبارية ومساندة سياسية وإعلامية، بدءاً من عدوان حزيران 1967، مروراً بحرب تشرين الأول 1973، وبالاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، وبحرب تموز-آب 2006، وصولاً إلى الحروب المتتالية على غزة حتى 2021، إذ لعبت واشنطن دوراً كبيراً في جميع هذه الحروب في المجالات التي ذُكِرت أعلاه، لكننا اليوم نشهد للمرّة الأولى استعداداً أميركياً للمشاركة في الحرب.
هي المرّة الأولى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى بقية القوى الغربية. فعدوان السويس على مصر في عام 1956، كان بريطانياً - فرنسياً - إسرائيلياً.
صحيحٌ أن قرار الحرب آنذاك اتُّخذ أساساً في لندن وباريس عقاباً للقاهرة على تأميمها قناة السويس، وقيادتها حركة التحرر العربية ضدّ هاتين القوتَين الاستعماريتَين، لكنّ الطرف الإسرائيلي، كما كشف الأرشيف الرسمي للجهات الثلاث، كان محرّضاً على اعتماد الخيار العسكري، ونجح في تسويق دوره كـ«مخلب قطّ» للقوى الغربية ضدّ تيّار القومية العربية الصاعد، والذي بات يهدّد بقاء إمبراطورياتهما الاستعمارية.
وفي محاضرة ألقاها في «كيبوتس» عام 1955، قال شمعون بيريز، بعد اشتباك بين القوات الصهيونية والجيش المصري على أطراف غزة، إن كلّ رصاصة تُوجَّه إلى رأس جندي مصري «سترفع أسعار أسهم إسرائيل في بورصتَي باريس ولندن».
غير أن العدوان الثلاثي هُزم، وتسارع بعده انهيار السيطرة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية على بلدان المنطقة. بطبيعة الحال، هناك اختلافات هامّة بين السياق الدولي والإقليمي الراهن، وذلك الذي ساد في تلك المرحلة، لكن أبرز وجه للتشابه بينهما هو مسار انحدار القوة أو القوى الاستعمارية المسيطرة على الإقليم، وانعكاس ذلك على موازين القوى فيه.
مسار انحسار النفوذ الأميركي في المنطقة، بدأ في الحقيقة منذ فشل «مشروع الشرق الأوسط الكبير» في العقد الأول من الألفية الثانية، وتسارَع مع تنامي دور الصين وروسيا كمنافسَين إستراتيجيين للولايات المتحدة على المستوى الدولي، إلى درجة أن الأخيرة أضحت تَجهر بنيّتها «التخفّف من أعباء الشرق الأوسط» للتفرّغ لأولوية التصدّي لهذين المنافسين.
وقد شكّلت حرب أوكرانيا محطّة هامّة في عملية انتقال التركيز الأميركي والغربي على «عودة الصراع بين القوى الكبرى» في شرق أوروبا وشرق آسيا، والسعي إلى «تخفيض التوتر» في الشرق الأوسط ليضحي مثل هذا التركيز ممكناً.
ظنّ القادة الغربيون الأفذاذ، وجيوش مستشاريهم وخبرائهم، أنه بالإمكان السماح لإسرائيل باستكمال التطهير العرقي وتصفية قضية فلسطين على «نار هادئة»، والاستمرار في تجويع سوريا ولبنان، والمضيّ في محاولات زعزعة استقرار إيران، من دون أثمان تُدفع، لكنّ «طوفان الأقصى» موضوعياً، وبشكل مباشر وغير مباشر، أغرق جميع هذه المخطّطات.
قد يكون الفارق الرئيس بين المجابهة الراهنة وعدوان تموز - آب على لبنان، أن الأخير اندرج ضمن إستراتيجية الليكوديين الأميركيين، أي المحافظين الجدد، لـ«بناء شرق أوسط جديد»، أمّا الأولى فإنها تأتي خارج إطار أيّ إستراتيجية إقليمية، وتشكّل ردّة فعل غربية مسعورة لا أكثر. سقط «الشرق الأوسط الجديد» كما أسلفنا بفعل مقاومة شعوب المنطقة ودولها الوطنية، رغم أن الظروف الدولية والإقليمية كانت مؤاتية أكثر لواشنطن من تلك القائمة حالياً.
الأُحادية الأميركية كانت في أوجها، ولم تكن واشنطن في حالة صراع مفتوح مع موسكو وبكين. والأمر نفسه ينسحب على الإقليم، حيث نجحت إدارة بوش الابن في فرزه بين دول «معتدلة وحليفة» قامت بتغطية العدوان عملياً عبر تحميل قوى المقاومة مسؤولية «اندلاع العنف»، وحركات المقاومة والدول الوطنية التي قاومته.
المشهد الراهن متمايز جذرياً لأن الدول العربية المصنّفة «معتدلة وصديقة لواشنطن» كمصر والسعودية مثلاً، رفضت الإملاءات الأميركية بتحميل المقاومة الفلسطينية وحدها مسؤولية انفجار المواجهة، وعارضت بحزم المشروع الصهيوني لتهجير أهل غزة إلى سيناء، والذي تبنّاه وزير الخارجية الصهيو-أميركي، أنتوني بلينكن، وحاول الضغط عليها لقبوله.
صحيفة «لوموند» تحدّثت عن مجابهة دبلوماسية أميركية عربية حول المشروع المشار إليه. أخفقت جهود واشنطن لتشكيل جبهة عربية متواطئة مع العدوان الصهيوني، باستثناء تواطؤ الإمارات العلني معه، والواقع نفسه ينطبق على مواقف معظم دول العالم غير الغربي التي لم تنسَق خلف الأجندة الإسرائيلية - الأميركية. أمّا دول «الغرب الجماعي»، فهي منقادة بعمى كامل خلف الثنائي الأميركي الإسرائيلي.
من المفيد لفهم هذا التوجّه، قراءة مقال «الخبير» في شؤون الإسلام السياسي، جيل كيبيل، وهو مستشار غير معلن للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وصاحب مقولة «الانفصالية الإسلامية في فرنسا» والتي روّج لها الأخير في السنوات الماضية.
اختار «الخبير» لمقاله في صحيفة «لوفيغارو»، العنوان التالي: «11 أيلول إسرائيل، النسخة الإيرانية»، ورأى أن طهران خطّطت وأشرفت على عملية «طوفان الأقصى» كجزء من مشروع هجومي يهدف إلى القضاء على إسرائيل على المدى الطويل، والإجهاز على نفوذ الغرب في الشرق الأوسط، مستغلّةً انشغال الغرب بصراعه مع روسيا والصين.
وهو أضاف أن «بوتين يهاجمنا من شمال شرق أوروبا وإيران تهاجمنا على الضفة الشرقية للمتوسط». هو يفترض فعلياً أن هذين الهجومين منسّقان، ويبغيان تحقيق الهدف نفسه على المستوى الإستراتيجي، وهو القضاء على النفوذ الغربي وتغيير الموازين في الشرق الأوسط وفي شرق أوروبا.
ضحالة مثل هذه الفرضيات لم تمنع انتشارها والترويج لها في أوساط قطاعات وازنة من النخب السياسية والإعلامية الغربية، رغم أن أوساطاً معتبَرة من الرأي العام تشكّك في وجاهتها وصدقيّتها.
المهمّ أن السياسات التي باتت تعتمدها حكومات الغرب، عبر إرسال حاملات الطائرات والسفن الحربية إلى المنطقة نصرة لإسرائيل، وعبر تجريم التضامن مع فلسطين في داخل بلدانها، كمنع رفع العلم الفلسطيني واعتقال وفرض غرامات مالية على من يفعل ذلك، وقرارات بسجن من يدافع عن حركات المقاومة لمدّة تتراوح بين 5 و7 سنوات، والتبنّي الكامل للرواية الإسرائيلية عن المعركة الدائرة، هي جميعها دلائل قطعية على رسوخ أطروحات كيبيل وأمثاله في أذهانها، وأنها تعتبر نفسها في حالة حرب على جبهة ثانية، إضافة إلى الجبهة الأوكرانية.
ربّما لا تدرك حكومات الغرب أن تورّطها في مثل هذه الحرب سيحوّل الإقليم برمّته إلى كتلة من لهب يحرق مصالحها وجنودها حيث يتواجدون، وأن نيران هذا الحريق قد تمتدّ إلى عواصمها الآمنة والهانئة حتى الآن.
*د. وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية.
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أميركا الغرب حروب إسرائيل مشاركة في الحرب طوفان الأقصى الأحادية الأميركية حرب أوكرانيا قضية فلسطين الشرق الأوسط شرق أوروبا
إقرأ أيضاً:
انقسام وشيك للسودان المنهك
زوايا
حمّور زيادة
مع بداية الشهر الثالث والعشرين للحرب في السودان، انقسمت القوى السياسية، وحلّت تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) نفسَها لتتحوّل الى جسميْن برؤيتين مختلفتين. الجانب الذي يضم أغلبية القوى المدنية، والتي كانت جزءاً من تحالف قوى الحرية والتغيير، أعلن برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك تكوين جسم جديد يسعى إلى محاولة وقف الحرب. بينما انحاز الجانب الذي يضم أغلبية الحركات المسلحة، ومعها بعض الذين هاجروا إليها بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (2021)، لتكوين حكومة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع. وهكذا تمضي المجموعة الثانية بسرعة في طريق تقسيم السودان بشكل رسمي، بإحداث وضع حكومتين. ورغم الخسارة الوشيكة لهذه المجموعة العاصمة الخرطوم، التي يمكن أن يعلن الجيش استعادتها في أي لحظة في الأسابيع المقبلة، إلا أنها توجه أنظارها كما يبدو نحو مدينة الفاشر. المدينة المحاصرة منذ أكثر من عام ونصف العام، وتواجه استنزافاً شبه يومي، يوشك أن يتحوّل إلى مذبحة تحت أنظار العالم أجمع.
المدينة التي تشهد وقفة القوات المشتركة لحركات دارفور المسلحة، الخصم القديم والرئيسي لقوات الدعم السريع، تضم مئات آلاف من النازحين، وتقف عقبة أمام إعلان الحكومة الموازية. ورغم المناشدات الدولية والعقوبات، تمضي قوات الدعم السريع في استهداف المدينة، منذرةً بإبادة تواجهها أعراق دارفورية، في استكمالٍ لحرب الإبادة التي دعمها نظام عمر البشير السابق وجنرالات الجيش الحاكمون.
يبدو العالم كما لو ترك الفاشر لمصيرها. تقرّر عن نفسها وعن آخر شكل لوحدة سياسية هشة خرّقتها ثقوب الرصاص. فامتناع المدينة عن قوات الدعم السريع ربما يعيق قليلاً إعلان الحكومة الموازية. وهو ما يبقي السودان، اسمياً فقط، تحت سلطة عسكرية واحدة تحكم من العاصمة البديلة. بينما تُظهر التقارير الإعلامية كيف تحوّلت العاصمة القديمة إلى ركام. استطاعت حربٌ لم تكمل العامين بعد تدمير المدينة التي عاشت حوالي 200 عام، وتوشك أن تدمّر وحدة البلد المنهك بالحروب الأهلية أكثر من نصف قرن.
انقسام القوى السياسية التي اتحدت تحت شعار محاولة وقف الحرب يبدو منطقياً، بعدما تجاوزت الحرب خانة المخاوف، فكل ما تحذّر منه القوى السياسية حدث. وعربة الحرب المندفعة داست على حلم التحوّل الديمقراطي، وأصبح البلد المناضل منذ العام 1958 للخروج من نار الحكم العسكري مندفعاً لمنح السلطة للجيش مقابل الأمان في جانبٍ منه، ومهرولاً لتقسيم البلاد بحكومة محمية ببندقية متهمة بارتكاب جرائم الحرب والتطهير العرقي في جانب آخر.
صادرت البندقية العملية السياسية. وحدثت جرائم الاستهداف العرقي. وزادت قوة المليشيات القديمة والجديدة التي حلّت مكان مليشيا "الدعم السريع" في التحالف مع الجيش. ونظّم قادة الجيش والحركة الإسلامية أكبر عملية غسيل سمعة ليتحول من اعتُبروا سنواتٍ "أعداء الشعب وطغاته" إلى منقذيه وأبطاله.
في الوقت نفسه، يمضي الجيش السوداني في تأكيد احتكاره السلطة المستقبلية، فقائده الذي أعلن، السبت، أن "القوى المساندة للجيش لن تختطف السلطة بعد الحرب"، عاد ليؤكّد، الخميس، أن "الجيش لن يتخلى عن الذين حملوا السلاح وقاتلوا بجانبه، وأنهم سيكونون جزءاً من الترتيبات السياسية المقبلة". تُخبر هذه التصريحات بأن السلطة للجيش، وهو من يحدّد من يشارك معه فيها، وهو من يطمئن القلقين على حصّتهم. يحدُث هذا مع تنامٍ غير مسبوق لتيار شمولي يؤيد بلا تحفظ استمرار الحكم العسكري ظنا أنه جالب الأمان والمظهر الأخير لوحدة السودان.
ما بدأ باشتباكات مسلحة في قلب الخرطوم قبل حوالي عامين تحوّل اليوم إلى أكبر أزمة نزوح في العالم، وحرب تهدّد تماسك البلاد. ولم تنجح القوى السياسية في وقف الحرب، إنما كانت ضحيتها الأولى. تاركة البلاد تواجه مصيرها المحتوم بين بنادق المتقاتلين.
قسّمت الحرب الأهلية الأطول في تاريخ القارّة الأفريقية (1955 – 2005)، السودان إلى بلدين، شمال وجنوب. وتبدو الحرب الأهلية الحالية ماضية إلى تقسيم جديد، شرق وغرب. وهو تقسيم قد لا يصمد سياسياً وقتاً طويلاً، لكن أثره المباشر سيكون مدمّراً على البلاد التي لم يبق فيها ما يُدمّر.
نقلا عن العربي الجديد