تحتفظ الذاكرة الإنسانية بسجل حافل يمتد لعقود من الزمن لمجازر وجرائم طالت شعوبا وأمما على أيدي الصهيونية والغرب، إلا أن نصيب ما لحق بالشعب الفلسطيني لا مثیل له من حجم الإجرام الذي تعرض له الشعب الفلسطیني على ید كیان صهیوني في فلسطین المحتلة منذ إعلان وعد بلفور سنة 1917، حيث لم تتوان عصابات صهيونية في اقتراف جرائم، من إبادة جماعیة وتقتیل وتهجیر ومصادرة للأراضي والأملاك وانتهاك للمقدسات الدینیة وكل ذلك أمام أعین "شرعیة دولیة" و"منظمات حقوق إنسان".

 

الاستعمار الغربي على وقع المذابح والإبادة

 

لقد مثل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية نموذجا لضحايا "الاستعمار الاستيطاني"، فهذه الشعوب والقبائل التي استقرت في أمريكا لآلاف السنين كانت ضحية مستوطنين ومهاجرين أوروبيين اغتصبوا أرضهم. وقد شكل مؤلف "مذابح الهنود الحمر"، رسائل المطران برتولومي دي لاس كازاس بوثائقه الخطيرة، شهادة للتاريخ حول إبادة الهنود الحمر ومدى العنف والإرهاب والدموية التي استعملها الغزاة الأوروبيون، إبادة حولت شعبا تعداده نحو 10 ملايين إنسان إلى نحو 200 ألف.

ديمقراطية الغرب التي بنيت على أشلاء الأبرياء من سكان الجنوب عكستها ممارسة الاستعمار الفرنسي لأبشع أنواع التنكيل والقتل ضد الجزائريين. فمنذ احتلال فرنسا الجزائر سنة 1830 خاض الجيش الاستعماري الفرنسي حربا شرسة ضد الشعب الجزائري وأغلب تلك الانتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم حرب، على غرار مجزرة قبيلة العوفية 1832 ومحرقة أولاد رياح أو الظهرة عام 1845، إلى مجازر 8 ماي 1945 ومجزرة ساقية سيدي يوسف في 8 فيفري 1958، حيث استهدف الهجوم الفرنسي البشع على ساقية سيدي يوسف مدنيين جزائريين وتونسيين

وتراوحت ممارسات الاستعمار الفرنسي بين المذابح والمجازر والتهجير، إلى غاية التجارب النووية التي تمت في فيفري 1960 ولكن أيضا ضد الشعوب الإفريقية. فتاريخ فرنسا الاستعماري مشبع بالمجازر والمذابح، فقد ارتكبت انتهاكات عديدة عبر تاريخها إبان إنشائها المستعمرات في كافة أرجاء العالم، خصوصا القارة الإفريقية التي عاشت مشاهد العبودية والمجازر والتمييز العنصري التي لا تسقط بالتقادم، لإخضاع السكان الأصليين ثقافيا وإنسانيا، من نماذجها جمع فرنسا 400 عالم مسلم في تشاد سنة 1917 وقتلتهم بالسواطير، ناهيك عن مذبحة مورامانغا عندما قتلت فرنسا مئات السجناء في مدغشقر عام 1947.

وقد لاحظ الدكتور شاشي ثارور، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة السابق والعضو السابق بالبرلمان الهندي، أن "الشعب البريطاني يعاني من فقدان ذاكرة تاريخية فيما يتعلق بالأعمال الوحشية التي ارتكبتها إمبراطوريتهم المندثرة". فخلال حرب البوير الثانية بجنوب إفريقيا بين عامي 1899 و1902، حاصرت بريطانيا حوالي سدس سكان البوير وأغلبهم من النساء والأطفال واحتجزتهم في المعسكرات التي صارت عرضة لتفشي الأمراض، ومات نحو 28 ألفا من مجموع 107 ألف محتجز في معسكرات الاعتقال، بالإضافة إلى عدد كبير من الزنوج الأفارقة، كما ارتكب المستعمر البريطاني مذبحة أمريتسار بالهند في أفريل 1919 في حق متظاهرين عزل نددوا بالاحتلال، راح ضحيتها نحو 10 آلاف، فضلا عن قمع ثورة "الماو ماو" بكينيا (1951-1960).

 

الدمار الشامل لإخضاع اليابانيين

 

مثل القصف الذري على هيروشيما وناغازاكي أو الهجوم النووي الذي شنته الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في أوت 1945 قمة العبثية، حينما أصرت الولايات المتحدة على قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي باستخدام قنابل ذرية راح ضحيتها أكثر من 220 ألف ضحية، وظلت تداعياتها متواصلة لعقود من الزمن.

ولم تكن ممارسات أمريكا متوقفة عند الحرب العالمية الثانية، فقد تعددت ممارسات العالم "الديمقراطي المتحضر" بسياسة دموية. ففي فجر يوم 13 فيفري 1991 قصفت طائرات أمريكية ملجأ العامرية في بغداد، وكان بداخله 408 شخص، بينهم 52 طفلا ما دون سن الخامسة و12 رضيعا و261 من النساء وآخرون من كبار السن، لتحوله إلى ركام. وشهد غزو واحتلال العراق في 2003 عدة تجاوزات فظيعة، كانت "الفلوجة" من ضحاياه، وظلت صور سجن أبو غريب والفظائع المرتكبة بحق المعتقلين جرحا مفتوحا.

 

ربيبة الغرب.. الكيان الذي ولد من رحم المذابح

 

ويبقى الكيان الصهيوني نموذج "إرهاب الدولة" بامتياز، منذ أن منح البریطانیون للیهود ذلك الوعد البلفوري المشؤوم سنة 1917، وحتى قبله مع مشروع "كامبل بينرمان" 1905، لزرع كيان بشري غريب في قلب الأمة. فإلى جانب موجات الهجرة والتهجیر والغزو البشري الیهودي لفلسطین تحت مظلة ودعم وحمایة الاستعمار البریطاني، أساسا لتشكیل الجریمة الكبرى الثانیة بعد الوعد التآمري ضد أهل فلسطین، بدأت مرحلة تطبیق المشروع الصهیوني على الأرض الفلسطینیة، من خلال الاستیلاء على الأراضي الفلسطینیة والعربیة وبناء أكبر عدد من المستعمرات الاستیطانیة فیها.

وبالموازاة مع تنفیذ خطة إجرامیة مكتملة الأركان اعتمد الصهاينة مخطط إنشاء وتسلیح عدد من العصابات الإرهابیة المسلحة ذات السجل الحافل بالجرائم والإرهاب، ومن أشهر هذه العصابات وأكثرها إجراما شتیرن والهاجاناه والإرغون، وهي العصابات ذاتها التي كونت فیما بعد ما یعرف بجیش الاحتلال الذي أريد تسميته زورا بـ"جيش الدفاع".

 

مجازر العصابات الصهیونیة وجیش الاحتلال ضد الشعب الفلسطیني

 

ارتكبت العصابات الصهيونية المسلحة خلال أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948 عشرات المجازر التي راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين "العُزّل" في مختلف القرى والمدن، ولكن أيضا عمليات إرهابية، على غرار تفجير فندق الملك داوود في مدينة القدس في فترة الانتداب البريطاني، وهي عملية تفجير استهدفت الفندق، تم تنفيذها في 22 جويلية لسنة 1946، حيث قام أعضاء من جماعة الإرغون الصهيونية بتنفيذ هذا الهجوم ضد الحكومة البريطانية في فلسطين آنذاك، إذ أن حكومة الانتداب جعلت من هذا الفندق مركزا لها. قام مناحيم بيغين، رئيس وزراء الكيان، بإعطاء الأوامر لتنفيذ هذا العمل، حيث كان حينها رئيس جماعة الإرغون، وللمفارقة فإن بيغين صنف ضمن مجموعة واسعة أخرى كعناصر إرهابية من قبل بريطانيا، فضلا عن تفجير استهدف فندق سميراميس في حي القطمون غرب القدس بتاريخ 5 جانفي 1948 من قِبل عصابات الهاجاناه الصهيونية وذلك خلال حرب التطهير العرقي لفلسطين 1947–1948. ومع تكريس قرار تقسيم فلسطين، لم تتردد عصابات الإرغون والهاجاناه في ارتكاب المجازر في حق الفلسطينيين، بداية بمذبحة بلدة الشیخ نهاية ديسمبر 1947، حينما اقتحمت عصابات الهاجاناه قریة بلدة الشیخ ویطلق علیها حاليا اسم تل غنان ولاحقت المواطنین العزل. وقد أدت المذبحة إلى مصرع العدید من النساء والأطفال، حیث بلغت حصیلة المذبحة نحو 600 شهید وجدت جثث غالبیتهم داخل منازل القریة. وتعددت الأعمال الوحشية المرتكبة تباعا، خاصة مع إعلان قيام الكيان على أرض فلسطين المحتلة في ماي 1948، بداية بمذبحة قریة أبو شوشة في 14 ماي 1948، وهي قرية قريبة من دير ياسين، سقط فيها 50 شهيدا، ثم مذبحة الطنطورة في 22 أوت 1948.

 

مذبحة دير ياسين وسياسات التهجير عبر الصدمة والترويع

 

وتعد مذبحة دير ياسين نموذجا لإستراتيجية "الصدمة والترويع" المعتمدة، وهي عملية إبادة وطرد جماعي نفذتها في 9 أفريل 1948 مجموعتا الإرغون وشتيرن الصهيونيتان في قرية دير ياسين الفلسطينية غربي القدس، وكان معظم ضحايا المجزرة من المدنيين ومنهم أطفال ونساء وعجزة، ويتراوح تقدير عدد الضحايا بين 250 و360 شهيد. وكانت مذبحة دير ياسين عاملا مهما في الهجرة الفلسطينية إلى مناطق أُخرى من فلسطين والبلدان العربية المجاورة، لما سببته المذبحة من حالة رعب عند المدنيين، ولعلّها الشعرة التي قصمت ظهر البعير في إشعال الحرب في عام 1948.

ولم تتوقف المجازر الصهيونية خلال السنوات التالية، حيث شهدت فلسطين المحتلة مذبحة قبیة في 14 أكتوبر 1953، حينما اقتحمت قوات الاحتلال القریة مطلقة النار على العزل من السكان ووضع شحنات متفجرة حول بعض المنازل التي نسفت فوق رؤوس سكانها. وقد كانت حصیلة المجزرة تدمیر 56 منزلا ومسجد القریة ومدرستها وخزان المیاه الذي یغذیها، كما استشهد فیها 67 شهیدا من الرجال والنساء والأطفال وجرح مئات آخرون. وكان قائد قوات الاحتلال المنفذة للمذبحة هو أرییل شارون التي أضحى رئیسا للوزراء في الكيان.

وكانت هنالك عدة مذابح متلاحقة استهدفت العزل من السكان مثلما حدث في قلقيلية في 10 أكتوبر 1956 وكفر قاسم في 29 أكتوبر من نفس السنة وخان يونس في 3 نوفمبر 1956.

 

إرهاب الدولة.. مجزرة صبرا وشاتيلا نموذجا

 

وتعدى إرهاب الدولة الأرض الفلسطينية إلى لبنان، من خلال مجزرة صبرا وشاتيلا، وهي مجزرة نفذت في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في 16 سبتمبر 1982 واستمرت لمدة ثلاثة أيام على يد مجموعات متمثلة بحزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي والجيش الصهيوني، وقدر عدد الضحايا في المذبحة بنحو 3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين، أغلبيتهم من الفلسطينيين ولكن من بينهم لبنانيون أيضا. صدر قرار المذبحة برئاسة رفائيل ايتان، رئيس أركان الحرب، وأرييل شارون وزير الدفاع آنذاك.

وفي وقت تفنن الصهاينة في امتهان الاغتيالات والتصفيات الجسدية، التي طالت العديد من القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج، وعلى وقع الانتفاضات الشعبية الفلسطينية: الأولى ما بين 1987 و1993 والثانية 2000 و2005 والثالثة 2015 و2016، لم يتردد الكيان في الإمعان في ممارسة أسلوب المجازر مثل مذبحة المسجد الأقصى في 8 أكتوبر 1990 ومذبحة الحرم الإبراهيمي في 25 فيفري 1994 وكذا مذبحة جنين في مارس 2002، دون أن ننسى الحروب والاعتداءات التي شنها الكيان على غزة في 2008-2009 و2012 و2014.. وجریمة بناء جدار العزل العنصري في الأرض الفلسطینیة المحتلة ومواصلة تهجیر وترحیل الفلسطینیین خارج أراضیهم ومدنهم وإنشاء المستعمرات الاستیطانیة الیهودیة على أراضي الفلسطینیین دون رقيب ولا حسيب.

 

المصدر: الخبر

كلمات دلالية: دیر یاسین

إقرأ أيضاً:

هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟

تفاعلات عصر التنظيمات

شهد عصر التنظيمات العثمانية "جدلًا" تاريخيًا وتفاعلًا شاملًا ومطردًا لعملية التحديث وامتداداتها وسيرورتها وتداعياتها عبر أكثر من قرنين شهدا أشكالًا من الصيرورة والتحولات التاريخية.

تزامنت حركة التحديث و"الأوربة" في الدولة العثمانية مع نظيرتها في مصر وإيران تقريبًا، وتشابهت بعض أوجهها وسياقاتها. لكن أكثر التجارب التحديثية اكتمالًا وتطرفًا هي الحالة التركية. وحتى تجربة مصطفى كمال باشا في التحديث والعلمنة والأوربة لم تذهب بعيدًا، بل هي امتداد منطقي لمشروع التحديث العثماني، كما رآه وتعهده السلطان محمود الثاني، وابنه السلطان عبد المجيد، ورجال التنظيمات.

استطاع مصطفى كمال باشا والجيوش العثمانية بقيادته هزيمة الإنزال البحري البريطاني في جناق قلعة (غاليبولي)، وتكبدت بريطانيا هزيمة لا نظير لها في تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وتم تحرير الأناضول من احتلال القوى الأوروبية، وإسقاط معاهدة سيفر التي قضت بتقسيم الأناضول بين الطليان والفرنسيين واليونان والأرمن، وتدويل الممرات المائية (مضيق البوسفور وبحر الدردنيل).

تلقت العسكرية التركية أكبر جزء من عملية التحديث العثمانية للدفاع عن وجود الإمبراطورية، ومن عملية التحديث ما بعد العثمانية لحاجات دخول تركيا الأحلاف الغربية. وكرّس ذلك دور المؤسسة العسكرية في مسيرة الجمهورية التركية حتى يومنا هذا. كذلك، استقرت مكانة الدولة وجيشها عميقًا في الوجدان التركي، ومن الدعاء المأثور لدى الأتراك: اللهم احفظ لنا الدين والدولة!

إعلان فواعل حركة التحديث

منذ بدء عصر التنظيمات، ومن خلال ملاحظة مساراته وتفاعلاته، تعددت الفواعل "البنيوية" في عملية التحديث والاستجابة للتحدي الغربي الحديث:

دائرة القيادة وصنع القرار الواقعة تحت ضغط تداعيات المسألة الشرقية، وتغول الإمبريالية الأوروبية و"راهنية" التفوق الغربي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وضرورة صياغة الاستجابة لهذه التحديات الحرجة. قوى وأوساط تقليدية تعرضت لصدمات عملية التحديث أو تضررت منها وعارضت مساعي التغيير؛ بسبب المصالح أو الجهالة أو تداعياتها الصعبة. دعاة أيديولوجية الأوربة والتماهي الكامل مع النموذج الأوروبي والثقافة الغربية، بمختلف مظاهرها العلمانية والليبرالية والقومية والدستورية. الشرائح والنخب المرتبطة مباشرة بالغرب: طابور خامس وأقليات حاقدة مرتبطة بالاستخبارات الأجنبية، أصحاب المصالح ووكلاء شركات أوروبية، وملتحقون بالسوق الرأسمالية. دعاة التحديث والأسلمة: مفكرون ومثقفون وعلماء دعوا لاستيعاب التحدي الغربي الحديث ونقد الفكر الغربي، وتقديم استجابة قائمة على التجديد الديني والفكري والثقافي.

تلقي هذه المعالجة "الفكرية" الضوء على نخب المفكرين من دعاة "الأوربة" والتماهي مع الغرب وكذلك دعاة التحديث والأسلمة.

ارتبط التوجه نحو أوروبا، إلى حد كبير، بالتقدم العلمي والصناعي، وما استُحدِث من دساتير ونظم سياسية وحياة برلمانية وفصل بين السلطات ومساحة حريات وازدهار الصحافة، لكن مظاهر وتضمينات الحداثة لا تقتصر على الصناعة والسياسة، بل تشمل الفلسفة والفكر والرؤية الكونية والثقافة والآداب والفنون والتعليم، والاجتماع (تحرير المرأة والنهوض بالطبقات الاجتماعية المهمشة)، وغير ذلك مما لفت أنظار المطلعين على الخبرة الأوروبية.

دعاة الأوربة والتماهي

بعيدًا عن استقصاء جميع المفكرين في هذا الاتجاه، نجد اللبناني شبلي شميِّل (1850-1917) من أوائل دعاة الأوربة والاستجابة الكاملة للثقافة الغربية. وكان شميّل قد سافر إلى فرنسا منتصف سبعينيات القرن 19، وترسخت لديه فكرة أو "نزوة" النشوء والارتقاء لداروين أو نظرية التطور، ونقل إلى العربية شرح الطبيب والفيلسوف الألماني لودفيغ بُخنر (1824-1899) لها.

إعلان

فكان شميّل أول من نقل هذه النظرية إلى اللغة العربية قبل ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع". كتب شميّل رسالة بعنوان "شكوى وأمل"، إلى السلطان عبدالحميد الثاني، وقال فيها إن الدولة العثمانية تفتقد العلم والعدل والحرية، وذهب إلى أن "الحكمَ الديني" و"الحكم الاستبدادي" كلاهما فاسدان؛ لأنهما غير طبيعيين وغير صحيحين؛ فالأول يلجأ إلى السلطة لمنع نمو العقل البشري نموًا سليمًا، والثاني لا يعترف بحقوق الأفراد، وكلاهما يؤديان لجمود العقل ويعوقان التقدم.

كان شميل من قيادات حزب "اللامركزية" العثماني الذي ضمّ أيضًا السيد محمد رشيد رضا، وعبدالحميد الزهراوي، ورفيق العظم، وحافظ السعيد، وعلي النشاشيبي، وغيرهم من قادة الحركة الإصلاحية العربية.

اعتبر شميّل العلوم الحديثة الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المتفوقة، ودعا لاقتباسها والأخذ عنها دون تردد. لكن ما دور نظرية التطور البيولوجي لداروين في تحقيق العلم والعدل والحرية والتقدم؟ إن لم تكن "صرعة" أو فتنة للانحطاط بالإنسان إلى درك الحيوانات بعد التكريم والاستخلاف الإلهي!

في مصر، استهل أحمد لطفي السيد (1872-1963) مشروعه التغريبي بالدعوة إلى قومية مصرية، ملتحقة بحضارات البحر الأبيض المتوسط، كأساس لانتماء المصريين، كما دعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، وتأثر بالمدرسة الليبرالية الفرنسية "المنكسرة" أواخر القرن التاسع عشر، بعد انكسار فرنسا أمام ألمانيا في حرب 1870.

وربما هذا ما يفسر انهزامية لطفي السيد إزاء الاحتلال الإنجليزي لمصر ودعوته للانكفاء على الذات. ومع ذلك لُقّب لاحقًا بأستاذ الجيل (جيل المثقفين الليبراليين)، واعتُبِر أبًا لليبرالية المصرية.

أما سلامة موسى (1887-1958) فكان من رواد الاشتراكية بمصر، ونهل أيضًا من الثقافة الغربية، ودعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، بل ذهب (وكذلك عبدالعزيز باشا فهمي) إلى الدعوة لكتابة العربية بالحروف اللاتينية؛ باعتبار ذلك وثبة للمستقبل، ورغم تبريره ذلك بأمّيّة أغلب المصريين، فإن تلك الدعوة مثلت آنذاك صدعًا في جدار الحضارة العربية الإسلامية ووعي الأمة، وبدا أكثر تأثرًا بالغرب وسخطًا على المجتمع.

إعلان

وكان سلامة موسى قد سافر إلى فرنسا ثلاث سنوات تعرف خلالها على أفكار فولتير (1694-1778)، وكارل ماركس (1818-1883)، ثم ارتحل بعد ذلك إلى إنجلترا، وظل بها أربع سنوات، انضم فيها لجمعية الاشتراكية الفابية، والتقى أحد أهم مفكريها جورج برنارد شو (1856-1950) الذي أشاد بمنهج وقدرة رسول الإسلام، ﷺ، على حل مشكلات البشرية.

تبنى سلامة موسى نظرية داروين في النشوء والارتقاء (!) وطرح أفكارًا متماهية تمامًا مع أوروبا ومتصادمة بشدة مع المجتمع، حتى قال: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا… ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها"، وقلل من شأن الدين باعتباره خاضعًا للتطور، فهو عنده مصدر بشري وليس مصدرًا إلهيًا. وصاغ ذلك بقوله: "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدل أن يخضع له".

شارك طه حسين (1889-1973) في مرحلة انبهاره بالغرب، وقبل أوبته، في صياغة أطروحات التغريب، كما ذكر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": "إن الطريق واضحة بيِّنة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي واحدة فليس فيها تعدُّد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أَندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب".

بدأ هذا الانبهار والتماهي التام لدى دراسته في فرنسا (1914-1918)، وهناك فُتن بمنهج ديكارت في "الشك"، والتقى عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم (1858-1917) الذي أشرف على أطروحته: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية".

دعاة التحديث والأسلمة

كان الصدر الأعظم والبيروقراطي العثماني المخضرم، خير الدين باشا التونسي (1820-1890)، من رواد الإصلاح والتحديث في القرن 19، واتسمت أعماله بالتركيز على إصلاح الدولة والإدارة والحكم. ولا يُذكر عصر التنظيمات دون الإشارة إلى أفكاره وأعماله وإصلاحاته، وقد سجّل كثيرًا من أفكاره الإصلاحية في كتابه "أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك". تقوم حركة الإصلاح عند خير الدين باشا على مبدأين:

إعلان

الأول، ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية.

الثاني، ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على الحرية والعدل، فإنهما أصيلان في الشريعة.

دعا خير الدين باشا للإصلاح الشامل على أساس العدل في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والعسف بحكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة بتصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق.

واشترط أن تعي الأمة مسؤولياتها، وتُحْسِن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بحقوقها. من أبرز مآثره صياغة دستور 1861، ومن أهم بنوده:

الالتزام بمقتضيات وثيقة عهد الأمان الصادرة عام 1857. الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. إنشاء "المجلس الأكبر" المكون من 60 عضوًا معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن صلاحياته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية. إنشاء شبكة من المحاكم تباشر القضاء.

كما أنشأ المدرسة الصادقية عام 1875 لتباشر تجديد النهج التقليدي الذي تمثّله جامعة الزيتونة، فدُرّست اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية بالمدرسة الصادقية.

بدوره، يمثّل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نموذجًا بارزًا للمفكرين المسلمين في زمن التحديث المبكر، خاصة بعد انتهاء مرحلة انبهاره مبكرًا بالحضارة الفرنسية، وقام بدور بنّاء في نهضة التعليم بمصر الحديثة.

وكان شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1766-1853) قد رأى أن يرسله مع بعثة فرنسا إمامًا وواعظًا لطلاب البعثة في 1826. وقد سجل انطباعاته المبكرة حول الحضارة الغربية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". قضى الطهطاوي هناك خمس سنوات، ثم عاد لمصر وافتتح مدرسة للترجمة صارت لاحقًا "مدرسة الألسن".

إعلان

وأنشأ أقسامًا للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، وأصدر قرارًا بتدريس المعارف والعلوم بالعربية، فاستطاع الجمع بين الأصالة والتحديث، كما أصدر الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" بالعربية بدل التركية.

ازدهرت الحركة العلمية على يد الطهطاوي، خاصة الترجمة من اللغات الأخرى، وقام بتعريب القانون المدني الفرنسي كاملًا، لكن جهوده النهضوية لم تمنع الحكام من اضطهاده مرتين، ونُفي في إحداهما إلى طوكر بالسودان، وظل رغم ذلك دؤوبًا في أعمال الترجمة والإنتاج الفكري.

وقد قام بنفس المسعى الشيخ حسين الجسر، أستاذ السيد محمد رشيد رضا، عندما مزج دراسة العلوم الشرعية بالعلوم الرياضية والمعارف الطبيعية في المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس لبنان، مما يسترعي التساؤل عن أسباب إجهاض هذه الجهود وعدم تعميمها!

هل كان المطلوب الاقتباس من الحضارة الغربية ومحاكاتها فحسب دون الاتصال بالبعد الثقافي للأمة؟!

أراد الطهطاوي أن يقدم صيغة سابقة لخلفه، ممن ينسب إليهم الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية، فصاغ عقد زواجه ملتزمًا فيه أن تكون زوجه طالقًا منه إذا تزوج عليها، ووعدها أنها إذا دامت معه على المحبة المعهودة لا يتزوج بغيرها أصلًا ولا يتمتع بالجواري أبدًا.

في مصر امتدت آثار الطهطاوي لكثير من المفكرين اللاحقين كالأفغاني والكواكبي اللذين ناديا بإصلاحات دستورية وسياسية، وكذلك الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ومنه إلى تلميذه حسن البنا. وكان محمد عبده قد وضع برنامجًا للحزب الوطني القديم خلال فترة الحركة العرابية:

"هذا الحزب يخضع للجناب الخديوي العالي، وهو مصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في سبتمبر /أيلول 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبًا وقالبًا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون إليه الاستبداد والإجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها".

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • دولة الطوائف في سوريا.. ماذا يريد الغرب؟!
  • عاجل | القناة 14 الإسرائيلية: السلطة الفلسطينية سلمت إسرائيل منفذة عملية الطعن التي وقعت أمس في بلدة دير قديس
  • حركة المجاهدين الفلسطينية تشيد بتكثيف الضربات اليمنية ضد الكيان الصهيوني
  • سوريا الجديدة.. لا خوف منها ولا خوف عليها
  • ما هي المعجزة السينمائية الفلسطينية التي وصلت ترشيحات الأوسكار وتحدثت عن غزة؟
  • حوار مع صديقي الChat GPTالحلقة (80)
  • لا كرامة لوطن يهان فيه المواطن
  • هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟
  • التركة الاستعمارية: استعمار الحلال والبلال (2-2)
  • خبير علاقات دولية: الموقف المصري يعكس التزامًا تاريخيًا بالقضية الفلسطينية