ليست المستشفيات والمرافق الصحية أماكن رومانسية تبدأ فيها قصص الحب عادةً، ولكن ذلك تحديدا هو السبب في أن المستشفى المعمداني في غزة -أقدم مستشفى في القطاع المحاصر- كان أكثر من مجرد مشفى.

ويروي همام فرح قصة عائلة فرح مع هذا المبنى، من بداية عمل جده إلياس فرح، في المستشفى، عندما كان في الـ17 من عمره.

وقد بدأ إلياس نادلا في مطعم خلال الانتداب البريطاني لفلسطين قبل أكثر من 80 عامًا، وأصبح لاحقًا مديرا للمشتريات، مسؤولا عن شراء الطعام والأدوية والمستلزمات.

وفي يوم من الأيام، رأى للمرة الأولى المرأة التي ستصبح قريبا زوجته، والمعروفة للكثيرين باسم السيدة ثرى.

وكانت ثرى مديرة في المدرسة الابتدائية القريبة من مخيم الشاطئ بإدارة الأونروا، وكانت تزور المستشفى في كثير من الأحيان، وهناك بدأت قصة حبهما.

إلياس وثرى جدا همام فرح في صورة عائلية قديمة (أرشيفية) كرة الطاولة والعشاء والألعاب

أطلال المستشفى المدمر -إثر قصف إسرائيلي أدى لمجزرة أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 500 إنسان ليلة الثلاثاء الماضي- صارت شاهدة على ذكريات وقصص إنسانية مندثرة.

"كان المستشفى مجتمعًا بأسرْه" يقول همام لمراسلة الجزيرة الإنجليزية عروبة جمال.

ورغم أن همام لم يتمكن من زيارة غزة -مسقط رأسه- منذ 23 عامًا، يتشبث المعالج النفسي المقيم حاليا في تورونتو الكندية بذكريات طفولته هناك.

وكثيرًا ما كان جده يأخذه إلى المستشفى خلال وقت عمله.

ويروي همام ذكرياته بحنين "كان هناك أطفال يلعبون، وطاولة كرة الطاولة، كانت المستشفى مركزًا اجتماعيًا، وكانت تقام فيها مجالس عشاء".

جدا همام عاشا قصة حب وزواج وعمل إلياس طويلا بمستشفى الأهلي المعمداني (أرشيفية)

 المستشفى -الذي تأسس عام 1882 ويقع في حي الزيتون السكني بغزة وتديره أبرشية الكنيسة الإنجيلية في القدس- كان يحتوي أيضًا على كنيسة وفناء كبير وملعب تنس، حيث كان جد همام يلعب كثيرًا.

تأسس المستشفى على يد البعثة التبشيرية التابعة لإنجلترا، وأداره القس "أليوت" وخلفه الدكتور بيلي، ثم الدكتور ستيرلينغ، وكان المستشفى الوحيد بالمنطقة ما بين يافا وبورسعيد المصرية، ويقدم خدماته لما يقارب 200 ألف نسمة.

وتحيط بالمستشفى كنيسة القديس برفيريوس ومسجد الشمعة الذي بني في القرن الـ14 الميلادي ومقبرة الشيخ شعبان.

إلياس مع طبيبة أميركية زائرة بالمستشفى الذي عرف باستقطاب المتخصصين طبيا (أرشيف)

وبعد 40 عامًا من لقاء جديها الأول في أروقة المستشفى عام 1983، وُلد همام نفسه في ذلك المستشفى، وكذلك أخته.

وفي الحرب العالمية الأولى تعرض "المعمداني" للتدمير والسرقة والنهب، ثم أعيد بناؤه وسمي "المستشفى الأهلي العربي" عام 1919، وبقي تحت إدارة الدكتور ستيرلينغ حتى عام 1928، ثم انتقلت إدارته إلى الدكتور ألفرد حتى عام 1948.

وفي ذلك الوقت، قررت البعثة التبشيرية الإنجيلية التابعة لإنجلترا إقفال المستشفى مع انتهاء الانتداب على فلسطين، إلا أن البعثة المعمدانية تكفلت بالمستشفى فأخذته وانتقلت إدارته إليها، وكانت غزة في ذلك الوقت تتبع إداريا لمصر.

وقد حدث خلاف على ملكية هذا المستشفى في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إثر إلغاء الإدارة المصرية قانون الوقف الأهلي بغزة، مما عرض ممتلكات المستشفى وأراضيه لخلاف على الملكية.

واستمر في تقديم خدماته رغم الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، كما واصل مسؤولوه تطويره فبنوا طابقا ثانيا ضم مكتبا لطبيبين ومختبرا و3 غرف خصصت لأغراض علاجية متنوعة، كما ضم المختبر خدمات تدريب الطلاب المحليين واعتمادهم فنيين بالمختبرات. وأسس المستشفى أول وحدة علاج طبيعي بالقطاع.

وعام 1976 قطعت وكالة الأونروا المساعدات عن "المعمداني" وأوقفت دعمها لمدرسة التمريض التابعة للمشفى، فتراجع عمله وقلّص عدد موظفيه. ومع بداية 1977 كان عدد أطبائه 3 فقط، و28 ممرضا، وبدأت أعداد المرضى الذين يستقبلهم بالتناقص. ومع نهاية السبعينيات عادت ملكيته لأبرشية القدس الأسقفية.

وفي ذلك الوقت، مولته الجمعية المتحدة الفلسطينية بأميركا، واستمر بتقديم خدماته واستقبال المرضى والإصابات خلال الحروب المختلفة، بدءا من الانتفاضة الفلسطينية الأولى (ديسمبر/كانون الأول 1987).


"يشمون رائحة الجثث المحترقة"

الآن، امتلأت طرقات مستشفى المعمداني بجثث وأشلاء ملقاة في أكوام، وتضرر المستشفى.

وعند سماعه أخبار الانفجار والمجزرة، انهار همام. وما زال لديه عائلة وأقارب في قطاع غزة، وأقارب يتحصنون في كنيسة قرب المستشفى.

وقال إنه حاول بشكل يائس الاتصال بهم، وبدأ يتمالك نفسه فقط عندما علم أنهم لم يتعرضوا لأذى جراء الانفجار، ولكنهم "شهدوا الدمار عن قرب".

وأضاف همام "يمكنهم أن يشموا رائحة الجثث المحترقة".

وتعيش عائلته في القطاع (أعمامه وعماته وأقرباؤه وأقاربه الآخرون) على طعام بسيط هو تونة معلبة ومعكرونة مجففة، حيث نفد الطعام والإمدادات الأخرى بسرعة، مع منع القوات الإسرائيلية المساعدات الإنسانية من الوصول.

وفي يوم سابق، تحدثت والدة همام مع إحدى عماته هناك، وقالت له "إنها ليست طبيعية".

وتم تدمير منازل جميع أقاربه خلال أسبوعين تقريبًا من القصف الإسرائيلي. ويفكر حاليا ووالدته في كيفية نقل عائلتهم حتى تسنح الفرصة لمغادرة قطاع غزة.

ومنذ أن بدأت إسرائيل عدوانها على القطاع قبل قرابة أسبوعين، لم يستطع المعالج المختص بالصحة العقلية أن يفعل شيئًا آخر غير العمل.

ويقول "عيناي لا تفارقان هاتفي أو التلفزيون" مضيفًا أن جدوله الزمني بأكمله يتعلق بانتظاره يوميا أخبارًا من أقاربه محاولا الاطمئنان عليهم.

صورة قديمة لعائلة همام فرح بمستشفى الأهلي المعمداني (أرشيفية) "توفوا واحداً تلو الآخر"

زار همام غزة للمرة الأخيرة عام 2000، دون أن يعلم أنها ستكون زيارته الأخيرة. وعاشت عائلته في الإمارات سنوات عديدة، وكانوا يقومون برحلات إلى هناك كل صيف.

وكان يدهشه دائماً رد فعل أقاربه عندما ينوون المغادرة نهاية كل صيف.

"كانت هناك صراخة مؤلمة وبكاء، كما لو أنها ستكون المرة الأخيرة التي نرى فيها بعضنا البعض" يقول همام.

وعام 2000، كان في الـ17 من عمره فقط، غادر القطاع معتقدا أنه سيعود في الصيف التالي كما جرت العادة، لكن هذه الفرصة لم تأتِ.

وقد فرضت إسرائيل حصاراً على غزة عام 2007، مما جعل العودة صعبة.

ومنذ ذلك الحين، أمل همام بزيارة غزة، خاصة لرؤية جدته وجدته، لكن لم تتح له تلك الفرصة بعد.

"بدؤوا يموتون واحداً تلو الآخر" يقول همام بأسى. والآن رحلوا وقد صارت ذكرياتهم محفورة في قلبه فقط، ويضيف بأن جدته ثرى بشكل خاص لا تزال تؤثر بشكل عميق على هويته الفلسطينية.

وفي رسالة وجهها إلى جدته بعد وفاتها، كتب همام: سيكون أسهل رؤيتك في الحياة الآخرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی ذلک

إقرأ أيضاً:

"سجن لدقائق فقط".. مفهوم غريب قد يُحدث ثورة في نظام العدالة الجنائية

كشف أحد العلماء عن مفهوم جديد لـ"سجن المستقبل"، زعم أنه سيسرّع عملية إطلاق سراح المجرم إلى دقائق، بدلا من سنوات أو عقود.

يزرع النظام، الذي يطلق عليه Cognify، ذكريات اصطناعية لجريمة الشخص في دماغه، لكنه يظهر وجهة نظر الضحية.

ويمكن أن يحتوي على جهاز يشبه الواقع الافتراضي، يعرض لقطات للجريمة تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، مع "زرع دماغي" يحفز حالات عاطفية مثل الندم، وهي مشاعر قد لا ينتجها بعض الأفراد من تلقاء أنفسهم.

ويُزعم أن هذا المفهوم، الذي طوره هاشم الغيلي (العالم اليمني) قد يضمن التأثيرات طويلة المدى لجلسة العلاج من خلال جعل الذكريات دائمة.

إقرأ المزيد عالم يحذر من خطر "ذكي" يهدد البشرية

ومنذ فترة طويلة، يُقال إن السجن يردع المجرمين عن ارتكاب جرائم مستقبلية، لكن أكثر من 100 دراسة في عام 2021، وجدت أنه لا يمنع المجرمين من ارتكاب الجرائم مرة أخرى.

ومن هذا المنطلق، يتطلع الغيلي نحو المستقبل من خلال سجن "يزعم أنه سيساعد المجرمين على التعلم من ماضيهم".

وجاء في مقطع فيديو روائي: "يمكن لـ Cognify يوما ما إنشاء وزرع ذكريات اصطناعية مباشرة في دماغ السجين. يتم إنشاء هذه الذكريات المعقدة والحيوية والنابضة بالحياة في الوقت الفعلي باستخدام محتوى يعتمد على الذكاء الاصطناعي. وفي حين أن إعادة التأهيل قد تستمر لعدة دقائق، إلا أنها قد تبدو وكأنها سنوات بالنسبة للمجرم".

وفي التجربة، يخضع السجناء لمسح دماغي عالي الدقة ينشئ خريطة مفصلة لمساراته العصبية.

إقرأ المزيد صانع ChatGPT يتجاهل التهديد القاتل الذي يشكله الذكاء الاصطناعي

وتسمح الخريطة لجهاز Cognify باستهداف مناطق محددة في الدماغ مسؤولة عن الذاكرة التفكير المنطقي. وهذه مهام مخصصة في الحصين وقشرة الفص الجبهي واللوزة الدماغية والفص الجداري والقشرة الحزامية الأمامية.

ويعمل الجهاز على إظهار ذكريات السجناء التي أنشأها الذكاء الاصطناعي عن جرائمهم، والتي يمكن أن تشمل العنف المنزلي وجرائم الكراهية والاختلاس والتمييز والسرقة والاحتيال. ويمكن للتكنولوجيا تحفيز الاستجابة الجسدية، من خلال السماح للجاني بالشعور بالألم والمعاناة التي تحملتها ضحيته.

وكشف الفيديو التوضيحي أن مفهوم Cognify قد يُحدث ثورة في نظام العدالة الجنائية، من خلال الحد من الحاجة إلى السجن طويل الأمد والتكاليف المرتبطة به بشكل كبير.

المصدر: ديلي ميل

مقالات مشابهة

  • مستشفى المعمداني يستقبل مصابين بعد سلسلة غارات إسرائيلية بحي الشجاعية
  • كارثة إنسانية في اليمن: حجاج ومرضى عالقون بين فكي الحوثي والموت!
  • أغلى مبيعات الكوميكس.. بيع غلاف لغز القطة السوداء مقابل 840 ألف دولار
  • محاولة علمية لزرع «ذكريات» للسجناء عن جرائمهم من وجهة نظر الضحية
  • سجن المستقبل.. عالم يريد زرع ذكريات للسجناء عن جرائمهم من وجهة نظر الضحية
  • "سجن لدقائق فقط".. مفهوم غريب قد يُحدث ثورة في نظام العدالة الجنائية
  • هدف الإنقاذ يستنسخ ذكريات ألمانيا في 2006
  • باليه "جيزيل" يعود بروح رومانسية على مسرح أوبرا القاهرة
  • تقرير: عائلة نتنياهو طلبت الحصول على حراسة الشاباك لمدى الحياة
  • وعد الجمهور بمفاجأة.. تامر حسني يستعيد ذكريات طفولته