قال الشيخ أحمد وسام، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إنه لما كانت الغاية من إنزال الشريعة وتشريع الأحكام تحقيق مصالح العباد وسعادتهم في الدارين، ناسب ذلك أن تتسم أحكامها بالسعة والمرونة والشمول لكافة الجوانب التي تسهم في تحقيق هذا المقصد النبيل، ولهذا لم تكن الغاية من النصوص الشرعية التعبد بها فحسب، وإنما كانت الغاية هي إعمالها بما يحقق النفع والمصالح للعباد.

جاء ذلك خلال كلمته في الجلسة الثالثة ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للإفتاء، المنعقدة تحت عنوان "الفتوى والتحديات الاقتصادية وتحديات الفضاء الإلكتروني"، مضيفًا أن الشريعة قائدة للإنسان لتحصيل مصالحه على أكمل وجه، وتكميل سعادته على أتم صورة، وكما يقول الراغب الأصفهاني: "فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة".

وأوضح أن الفتوى أحد روافد الشريعة التي يُستقى منها أحكامها، وتسهم في تحقيق وحفظ مقاصدها، مشيرًا إلى جانبٍ من أهم الجوانب التي لا تستقيم حياة الإنسان إلا به، ألا وهو جانب المعاملات المالية، وذلك من خلال بيان المقصد العام للفتوى في هذا الجانب وما ينبغي مراعاته في الفتوى لتحقيق مقصود الشرع الشريف في هذا الجانب.

وأكد أن أحكام المعاملات غير مشروعة لذاتها، بل شُرعت باعتبارها وسائل لتحقيق مصالح العباد، مع مراعاة مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية هو مقصد حفظ المال، و"ما ثبت أن الأحكام شُرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية؛ فلا إشكال، وإن كان الظاهرُ موافقًا والمصلحةُ مخالفةً، فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودةً لأنفُسها، وإنما قُصد بها أمورٌ أُخَرُ هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل مِن ذلك على غير هذا الوضع؛ فليس على وضع المشروعات".

الشروط والضوابط

وشدد على أنه عند النظر في تلك الشروط والضوابط ينبغي أن يكون ذلك في ضوء الغاية المرجوة منها دون الوقوف على ألفاظها ومبانيها، إذ العبرة في مثل هذه العقود بالمعاني والقصود، لا بظاهر الألفاظ أو صياغة البنود. كما ينبغي التفريق -عند النظر فيها- بين المقاصد والوسائل، إذ قد ثبت في القواعد أنه "يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد". فإذا ما تبين أن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة يقتضي مخالفة تلك الشروط والضوابط إلى شروطٍ وضوابط أخرى؛ فإن الحكمة تقتضي العدول عن هذه الشروط إلى ما يحقق المصلحة الراجحة ويدرأ المفاسد؛ "فكل ما شرع لجلب مصلحةٍ، أو دفع مفسدة؛ فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك".
واختتم كلمته بالتأكيد على أن جُمُود المفتي على ظواهر النصوص، ووُقُوفه عند المسطور في الكتب مِن الأحكام في باب المعاملات والعقود، مِن غير نظرٍ في العوائد وإعمالها، فيه فسادٌ كبيرٌ وتضييعٌ لحقوق العباد.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: أمين الفتوى أمين الفتوى بدار الإفتاء الإفتاء الدارين

إقرأ أيضاً:

مقاصد الشريعة بين ظاهر النص وباطنه.. مقارنة بين ابن عاشور والإمام الشاطبي

نظرية المقاصد هي واحدة من أبرز الإسهامات الفكرية في الفقه الإسلامي، وقد تطورت بشكل كبير من خلال جهود علماء بارزين مثل الإمام الشاطبي والشيخ الطاهر بن عاشور.

فقد أصل  الإمام الشاطبي (ت 790هـ) لنظرية المقاصد كركيزة أساسية للشريعة، فهو هو أول من وضع الأسس الفكرية لنظرية المقاصد بشكل شامل في كتابه "الموافقات". ويرى أن الشريعة الإسلامية وُضعت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.

وقسّم المقاصد إلى ثلاث مراتب:  الضروريات: الأمور التي لا تستقيم الحياة بدونها، كالدين، النفس، العقل، النسل، والمال.

الحاجيات: ما يُرفع به الحرج عن الناس ويُيسّر حياتهم.
التحسينيات: الأمور التي ترتقي بحياة الإنسان إلى مستوى الكمال والجمال.

وركّز على ضرورة أن يُراعي المجتهد مقاصد الشريعة في فهم النصوص واستنباط الأحكام، مشيرًا إلى أن الغفلة عن المقاصد قد تؤدي إلى تعطيل روح الشريعة.

أما  الطاهر بن عاشور (ت 1973م)، فقد وسّع نطاق المقاصد في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، محاولًا إبرازها كمنهج شامل يصلح للتعامل مع المستجدات في العصر الحديث.

ورأى أن المقصد العام للشريعة هو "حفظ نظام الأمة وضمان استمرارها بتحقيق الصلاح في الدنيا والآخرة". هذه الرؤية أضافت بعدًا اجتماعيًا وتنمويًا لنظرية المقاصد.

ودعا بن عاشور إلى استخدام نظرية المقاصد في مواجهة القضايا المعاصرة، مثل قضايا التنمية، حقوق الإنسان، والمساواة. وقد ركّز على أن المقاصد يجب أن تكون موجهة للإصلاح وتيسير حياة الناس.

وأضاف بن عاشور مقاصد مثل الحرية والعدالة كأهداف أساسية للشريعة، مما يُظهر عمق تفكيره في توسيع المفهوم التقليدي للمقاصد.

الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، ويعتبر من المساهمين في تأصيل الاجتهاد المقاصدي كمنهج للتعامل مع النصوص، ومؤكدا على أهمية النظر إلى مقاصد الشريعة لتحقيق المصلحة العامة، يقدم في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، مسالك المقاصد عند ابن عاشور.. مقارنة بالإمام الشاطبي.

2 ـ  مقدمات القضية عند الشاطبي وابن عاشور

لقد بحث الشاطبي وابن عاشور جملة من المسائل تتعلق بالكشف عن مقاصد الشريعة، وتقوم منه مقام المقدمات المؤصلة للبحث فيه، وأهم تلك المسائل ما يلي:

أ ـ ثبوت المقاصد وحقيقتها:

لم يكتف كل من الإمامين بأن عقد فصلا في فاتحة تأليفه لإثبات المقاصد الشرعية في الأحكام، بل تعرضا أيضا لنفاة التعليل بنقد مذهبهم وبيان ما يؤول إليه من نفي الحكمة في التشريع الإلهي، وهو ما يؤول إلى نفي الحكمة في التدبير الإلهي بأكمله.

وقد كان ابن عاشور أكثر وضوحا ودقة في بيان مراتب المقاصد من حيث ظهورها وخفاؤها في الأحكام، فجعل هذه المراتب ثلاثا: مرتبة تكون فيها العلل في أعلى رتبة من الظهور، حيث تكون منصوصا عليها أو مومأ إليها. ومرتبة تكون فيها خفية، ولكنها تستنبط بالاجتهاد. ومرتبة تكون فيها خفية بحيث لا يهتدى إليها  .أما الشاطبي فقد بحث هذه المسألة، ولكن من جهة اعتبار المكلف في تعبده لعلل الأحكام وتفاوت ذلك بين العبادات والعادات ، فلم يكن تحليله منصبا على مراتب العلل في ذاتها، وقد كان محل نقد في ذلك من ابن عاشور .

ب ـ المقاصد بين القطعية والظنية

لقد خصص الإمام الشاطبي المقدمة الأولى من مقدمات المواقف للاستدلال على أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، وذهب في ذلك إلى أن هذه الأصول تضافرت على بيانها كثرة من الأدلة لئن كانت ظنية بالنظر إليها أفرادا فإن اجتماعها وتضافرها يبلغ بها إلى درجة القطع في دلالتها على مدلولاتها من الأصول. وليست المقاصد بخارجة عن هذا الحكم، فهي من أصول الفقه بل قطعيتها أبين من قطعية غيرها  . وهذا التعميم الذي يجعل كل المقاصد عند الشاطبي قطعية سواء ما كان راجعا إلى المقاصد العالية أو إلى المقاصد القريبة يجعل هذا الحكم الجازم يداخله الضعف حينما يتعلق الأمر بالمقاصد التي هي علل الأحكام التي قامت عليها آحادها، فإن بعض تلك العلل لا تخفى ظنيتها، وهو ما أدى إلى اختلاف الفقهاء في تقديرها.

لقد أورد كل من الشاطبي وابن عاشور مقدمة بين يدي مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة تتعلق بالخط العام الذي ينبغي أن ينتظم تلك المسالك فيما يتعلق بمدى اعتبار ظواهر النصوص وبواطنها في استخراج المقاصد.وقد كان هذا الضعف ملحظا للإمام ابن عاشور حينما توجه بالنقد لما ساقه الشاطبي من أدلة على قطعية أصول الفقه واصفا إياها بأنها "مقدمات خطابية وسفسطائية أكثرها مدخول ومخلوط غير منخول"، ثم عقد الإمام فصلا مستقلا بيّن فيه أن مقاصد الشريعة منها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، ولكنه جعل غاية الأصوليين والمتفقهين أن يتحروا شديد التحري في تعيين المقاصد، وأن يجدوا بذلك ثلة من  المقاصد القطعية أو الظنية القريبة من القطع ليتخذوا منها أصلا يصار إليه عند الجدل والاختلاف في الفقه، ثم يكون الجهد بعد ذلك متواصلا بين النظار ليلحقوا المظنونات من المقاصد بالبحث والاجتهاد بالقطعيات ، وهو ما يفهم منه أن ابن عاشور وإن كان يعتبر أن المقاصد منها ما يدخل في دائرة الظن فهو يعتبر أنّ هذه الظنية يمكن أن تضيق بالنظر والاجتهاد الذي تقوم به الأجيال المتعاقبة، ولعل هذا المعنى هو الذي عناه في مقدمة المقاصد حينما اقترح تأسيس علم المقاصد منتخباً من أصول الفقه ليكون علماً أصوله قطعية .

ت ـ مقاصد الشريعة بين ظاهر النص وباطنه:

لقد أورد كل من الشاطبي وابن عاشور مقدمة بين يدي مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة تتعلق بالخط العام الذي ينبغي أن ينتظم تلك المسالك فيما يتعلق بمدى اعتبار ظواهر النصوص وبواطنها في استخراج المقاصد. وما قدم به الشاطبي في هذا الصدد كان أبين وأكثر إيفاء بالغرض، حيث عرض منهج الظاهرية في اقتصارهم على ظواهر النصوص وألفاظها في استخراج المقصد الشرعي، كما عرض منهج الباطنية ومن يلحق بهم في اقتصارهم على ما وراء ظواهر النصوص وألفاظها من معان تعتمد وحدها في تعيين المقاصد وإن أدى ذلك إلى مخالفة الظواهر، وانتهى من ذلك إلى اختيار منهج يقوم على « اعتبار الأمرين جميعا (أي الظواهر والمعاني) على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمَّه أكثر العلماء الراسخين، فعليه الاعتماد بالضابط الذي به يعرف مقصد الشارع" .

أما ابن عاشور فقد أورد في هذا الشأن تعاليق متفرقة بين الفصول تنتهي عند الجمع بينهما إلى نفس المنهج الذي اختاره الشاطبي: فقد نقد وجهة الظاهرية وقال في هذا الصدد: "وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحكمة لأنهم نفوا القياس والاعتبار بالمعاني، ووقفوا عند الظواهر فلم يجتازوها ... على أن أهل الظاهر يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان، وهو موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار".

كما نقد الوجهة المقابلة لها، وهي تلك التي يتخذ أصحابها من الأوهام والتخيلات معاني يقدّرون أنها مقاصد للشارع فينيطون بها الأحكام مع أنها ليس لها من أصل في دلالة النصوص، ولكنه يمثل لهذه الوجهة بأمثلة جزئية بسيطة  دون أن يرتقي بها إلى أن تشمل بالنقد ما اعتمده الباطنية القدماء والمحدثون من أوهام اتخذوا منها مقاصد أتت على دلالات النصوص بالنقض والإبطال. ثم يخلص من هذين النقدين في غير ترتيب تأليفي إلى الطريق المختار عنده وهو أن تلتمس المقاصد من بين ظواهر النصوص ومما يحف بها من سياق الكلام ومقام الخطاب ومبينات من السياق وحافات القرائن، فتلك كلها معينات على تعيين المقاصد.

بناء على هذه المقدمات وضع كل من الشاطبي وابن عاشور منهجا للكشف عن مقاصد الشريعة يشتمل عند كل منهما على جملة من المسالك التي يتبين منها الناظر هذه المقاصد. وهذا موضوع ما يأتي من قول.

إقرأ أيضا: مسالك المقاصد عند ابن عاشور.. مقارنة بالإمام الشاطبي.. مقدمات أولية

مقالات مشابهة

  • أمين الفتوى بدار الإفتاء: يجوز إعلان الصدقة في حالات التحفيز
  • حكم العلاج بالحجامة في الشريعة والسنة
  • لماذا أطلق نبي الله نوح على مصر " أم البلاد وغوث العباد"
  • مقاصد الشريعة بين ظاهر النص وباطنه.. مقارنة بين ابن عاشور والإمام الشاطبي
  • أمين الفتوى بدار الإفتاء: لا يشترط زي معين للنساء في الحج والعمرة
  • أمين الفتوى: يجوز للمرأة أن تحج وتعتمر بالفستان - (فيديو)
  • هل نسيان التشهد الأوسط يبطل الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)
  • هل يجوز إعطاء الزكاة لأخت زوجي؟.. أمين الفتوى يُجيب
  • أمين الفتوى بدار الإفتاء: الأصل في زكاة المال إخراجها نقدا وليس عينا
  • الكيخيا: المجتمع الدولي يتعامل بجدية فقط مع القضايا المؤثرة على مصالحه في ليبيا