مقدمة الترجمة:

في مقاله المنشور بمجلة "ذي أتلانتيك"، يحلل داران أندرسون التوجهات الجديدة في الحروب الحضرية، وكيف تمثل هذه الحروب التي تخاض داخل المدن تحديا للجيوش الغازية وكارثة للمدنيين على السواء. ويجادل أندرسون أن تطور التقنيات العسكرية لم يفعل شيئا سوى أنه جعل الحروب أكثر قسوة، وزاد من وتيرة الرعب وأعداد الضحايا، منوها إلى الطريقة التي تتحول بها الحرب إلى وسيلة لتحقيق أغراض الساسة، وربما جني الأموال لجهات بعينها.

 

نص الترجمة:

يمكن الفوز بالحروب عن طريق كسر معنويات العدو إلى أن تنهار قدرته على المقاومة. في العراق على سبيل المثال، تبنَّت القوات العسكرية الأميركية عقيدة عسكرية تُسمى "الصدمة والترويع"، وتُعرف أيضا باسم "الهيمنة السريعة"، وأظهرت خلال حربها في ذلك الوقت قوة ساحقة باستخدام التكنولوجيا والاستخبارات المتفوقة. وكان ما تبنَّته في الحقيقة مصطلحا جديدا لنهج قديم أشار إليه الجنرال الصيني والخبير العسكري سون تزو في كتابه فن الحرب الذي خطه قبل الميلاد بعدة قرون: "اجعل خططك مُظلمة وعصية على الاختراق كما الليل، وعند التنفيذ انقضَّ كالصاعقة. اضرب عدوك فجأة وبوحشية، انتهج عنصر المفاجأة لبث البلبلة بين صفوفهم وحثهم على الاستسلام ومن ثم الانسحاب، أو لتنفيذ عمليات الإبادة".

 

لعبت تقنيات الهجوم السريع والمفاجئ التي استخدمها النظام النازي في الحرب العالمية الثانية والمعروفة باسم "Blitzkrieg"، التي تعني بالألمانية "الحرب الخاطفة" أو "حرب البرق"، دورا مهما في ذلك الوقت. فقد لاحظ الجنرال الألماني هاينز جوديريان أن القدرة على التحرك بسرعة والوصول إلى المواقع المستهدفة هي جزء أساسي من تقنيات الهجوم السريع، فمحرك الدبابة هو سلاح لا يقل أهمية عن المدفع الرئيسي لها، وهذا يعكس فكرة أن الدبابة لا تعتمد فقط على المدفع الرئيسي لتحقيق الهجوم القوي، بل تعتمد أيضا على قوة وقدرة المحرك للانطلاق بسرعة.

 

سحق الأعصاب ستجلب تقنيات الحرب التكنولوجية التي ستُستخدم للهيمنة والتدمير المزيد من الصراعات الشرسة التي لا هوادة فيها إلى المدن، وستزداد حصيلة الضحايا وتعم الفوضى ويسود الخوف. (الصورة: الفرنسية)

بالإضافة إلى ذلك، استخدمت القوات الألمانية صفارات إنذار مُعَلَّقة على طائرات من طراز "Luftwaffe" أثناء الغارات الجوية على المدن. لم تكن غايتها من ذلك كله هو سحق المباني فحسب، بل كانت تهدف إلى إثارة الذعر بين السكان وتحطيم أعصابهم بهذه الصفارات لدرجة ألا تعرف السكينة سبيلا إلى نفوسهم. قد يبدو الأثر المرعب للحروب أكثر ترقبا أو تخفيا في وقتنا الحالي، لكن هذا التأثير الصامت أشد فتكا على المدنيين (جرّاء مشاعر الخوف والاضطراب المتفشية بين الناس دون أن يكون هناك ضجيج أو إشعار واضح بالتهديد). لعل ذلك كله نابع في الأصل من تطور التكنولوجيا الحديثة في الحروب بسرعة هائلة في وقتنا الحالي، وقريبا ستصبح الصواريخ التي تمطر من السماء فائقة السرعة بحيث تتجاوز سرعة الصوت بخمس مرات، فيغدو من الصعب الكشف عنها والتصدي لها بفعالية.

 

صحيح أن الحرب تغيّرت، لكنها ما زالت تحمل بين طياتها الجوهر ذاته. فجذور الحروب المستقبلية موجودة بالفعل، وتتمثل في السياسات والطموحات، والمنافسات والموارد، والطمع والمظالم. كما أن تقنيات الحرب التي ستُستخدم للهيمنة والتدمير موجودة بالفعل أو قيد التطوير، وستجلب هذه التكنولوجيا المزيد من الصراعات الشرسة التي لا هوادة فيها إلى المدن، وستزداد حصيلة الضحايا وتعم الفوضى ويسود الخوف. ندرك أن الحرب دائما سيئة، ولكنها ستصبح أسوأ بكثير في المستقبل.

 

ستستمر الحروب العسكرية المدعومة من قِبل أطراف خارجية والحروب الأهلية في التغلغل والانتشار. وعلى هوامش القوى السياسية الكبرى التي تتنافس على الهيمنة العالمية، تنشب صراعات إقليمية ودولية تتأثر بتدخلات هذه القوى وتتسبب في تصعيد الصراعات وتفاقم الأزمات. لقد نجا الكوكب بالفعل من أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، والإنذار السوفيتي الكاذب في عام 1983 (حينما تلقى أحد الضباط الروس إنذارا خاطئا بوجود هجوم صاروخي نووي أميركي قادم نحو الاتحاد السوفيتي. واعتُبرتْ هذه الحادثة أحد أكثر الأوقات توترا في الحرب الباردة بسبب المخاوف من اندلاع صراع نووي بين القوتين).

لقد نجت البشرية بأعجوبة أيضا من حادثة الصواريخ النووية النرويجية "بلاك برانت" (Black Brant) (التي تسببت في حالة من الهلع والذعر في العديد من الدول، وتبين فيما بعد أن هذه الصواريخ كانت لأبحاث علمية لا لأغراض عسكرية). صحيح أننا نجونا من ذلك كله، لكن في نهاية المطاف قد ينفد حظنا، وعندما يحدث ذلك، ستسقط المدن على الأرجح فريسة لهذه الحروب وتتحول إلى مراكز للدمار.

 

المشكلة أن نزوح السكان إلى المناطق الحضرية يزداد بشراسة وفقا للأمم المتحدة التي تشير إلى ارتفاع عدد سكان المدن في العالم من 746 مليون نسمة في عام 1950 إلى 4.2 مليارات نسمة في عام 2018 (وما زالت تتوقع زيادة إجمالية بمقدار 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050). وبالتالي فإن السيطرة على دولة بات يعني السيطرة على مراكزها السكانية المأهولة بالمدنيين. وفي وقتنا الحالي، ثمة أسباب تشير إلى أن الحروب القادمة ستصبح أشد فتكا. فرغم أن الضربات الدقيقة على الأهداف العسكرية قد تبدو أسهل في التنفيذ مع تزايد دقة أنظمة الأسلحة بفضل تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية، فإن تاريخ "القنابل الذكية" المُشبّعة بالدماء يُظهر أنها ذكية فقط بقدر الذكاء المستخدم في تنفيذها، بمعنى أن فعالية ودقة هذه الأسلحة تعتمد في الأساس على جودة وكفاءة المعلومات والاستخبارات المتاحة للقوات المشاركة في استخدامها.

 

في بعض الأحيان، قد تخطئ الأسلحة الذكية -كالقنابل الموجهة بالليزر- هدفها رغم تطور تكنولوجيا هذه الأسلحة، وأكبر دليل على ذلك هي الحوادث التي وقعت في العراق وأفغانستان. في عام 1991، اخترقت الصواريخ الموجهة بالليزر مأوى القنابل بمدينة العامرية في العراق عبر فتحة تهوية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 400 مدني، في حين دمرت غارة جوية في عام 2008 حفل زفاف في قرية حسكة مينا بأفغانستان، وعلى الأرجح ستتلمس مثل هذه "الانحرافات" طريقها نحو الازدياد في المستقبل.

 

استهداف المدنيين

من المعروف أن إستراتيجية "الضربة المزدوجة"، وهي شن ضربة عسكرية واحدة تليها سريعا ضربة ثانية تستهدف فرق الإنقاذ والكوادر الطبية، تميل إليها القوات الغاشمة في الحروب. وتسحق هذه الإستراتيجية الروح المعنوية للمدنيين، وتقوّض قدرتهم على النجاة والتعافي. وفي ظل غياب أي ردود فعل قوية لردع هذه الهجمات، قد تتخلى القوات العسكرية بسهولة عن محاولة الابتعاد عن استهداف المدنيين. وقد حدث ذلك بالفعل أثناء القصف الروسي على أجزاء من مدن سورية (وكما يحدث حاليا من قصف إسرائيلي عنيف ومستمر على المدنيين في قطاع غزة)*.

 

حتى الهجوم العسكري الذي يستهدف البنية التحتية بدلا من المدنيين يخلِّف وراءه عالما رازحا تحت وطأة المآسي والمعاناة. فتدمير المطارات والجسور، وتعطيل محطات الطاقة وشبكات الاتصال سيفكك وتيرة الحياة اليومية، ناهيك بأثر هذه الحروب على نفسية الأطفال الذين أُجبروا على العيش داخل الأقبية والتعرض لأصوات القصف والارتجاجات الناجمة عنه، والانعزال عن النظم الاجتماعية والتعليم والصرف الصحي المناسب، ومواجهة نقص الغذاء والرعاية الطبية. يواجه المدنيون وحدهم ذلك كله بجانب المخاوف التي تداهمهم من احتمالية قصفهم بالقنابل العنقودية (التي ما زالت تقتل وتشوه المدنيين في جنوب شرق آسيا بعد عقود من استخدامها)، فضلا عن الأسلحة الكيميائية القابعة بين الأنقاض والحطام التي يلعب فيها الأطفال.

 

على الجانب الآخر، أدى الخوف من الحروب الحضرية إلى تغيير تصميم المدن بالفعل، كأن يتمتع بعضها بمترو أنفاق تحت الأرض حيث يمكن للناس اللجوء إليه ملاذا آمنا في أوقات الحرب. افتخرتْ على سبيل المثال دولة أوزبكستان التي تقع في وسط قارة آسيا بعاصمتها طشقند المسلحة بأبواب خاصة قادرة على حماية المدينة من تأثيرات الانفجار النووي وتسرب إشعاعه. وفي بكين، تقبع مدينة كاملة تُسمى ديكسيا تشنغ تحت الأرض لتوفير مأوى آمن للسكان خوفا من اندلاع حرب نووية بين الصين والاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، وتتميز هذه المدينة بقدرتها على إيواء ملايين الأشخاص. وخلال الحرب العالمية الثانية، قررتْ سويسرا بناء ما يكفي من ملاجئ ليهرع إليها جميع السكان، إلى جانب تصميم بنية تحتية خاصة لتنفجر بمجرد أن تطأ قدم العدو أراضيها، وذلك كله لمنع الأخير من الاستفادة منها أو استخدامها ضدهم.

 

ومع ذلك، لا يمكن تخيل حجم التأثير النفسي الذي قد يُحدثه التهديد العسكري على المدن وسكانها، فالإجراءات المُتاحة للسكان في حالة شن هجوم على المدينة تكون عشوائية وغير فعالة. فقد يلجأ البعض إلى حفر مخابئ سريعة وغير آمنة، بينما يهرع معظم السكان إلى مخيمات اللاجئين، أو يستقرون في الغرف الداخلية للمباني، متجنبين النوافذ وضوء النهار ومتخفيين في الظلال لتجنب الكشف عنهم.

 

مخاطر الحرب الحضرية دائما ما تواجه قوات الغزو أو الاحتلال مخاوف بشأن الهجوم البري والتسلل إلى داخل المدينة، لأنهم يخشون من مقاومة الطرف الآخر وهجماته التي تأتي عادة من أماكن مظلمة وضيقة. (الصورة: رويترز)

ولتقليل نسبة الغموض والنتائج غير المؤكدة بشأن الحروب، تتلقى الجيوش العسكرية الآن تدريبات على مدن وهمية مُصمَّمة خصوصا لهذا الغرض قبل فترة طويلة من المواجهة الحقيقية. فمثلا صَمَّمت الصين نسخة طبق الأصل من مدينة تايبيه، عاصمة تايوان، لاستخدامها في تدريبات عسكرية والاستعداد لاقتحامها فيما بعد. بينما يتدرب الجيش الألماني على محاكاة الحرب الأهلية في مستوطنة شنوغرسبورغ الاصطناعية لتقديم بيئة واقعية للتدريب العسكري. فيما صمَّم الأميركيون مدينة وهمية في صحراء موهافي بالولايات المتحدة تشبه المدن الأفغانية وأطلقوا عليها اسم "إرتبات شار"، واستخدموها موقعا لتدريب القوات الأميركية على التعامل مع سيناريوهات الحروب الحضرية والقتال في بيئة حضرية مُعقدة. وإحدى المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي تنهار فيه البنية التحتية للمدن الحقيقية، تبني الحكومات على الجانب الآخر مدنا وهمية من أجل تدميرها.

 

تلعب البيانات والتكنولوجيا الذكية دورا في تسهيل عمليات القتال في المدن الكبيرة، إذ تُمكِّن الطيارين العسكريين من رؤية المشهد أسفلهم عبر نظارات الواقع المعزز التي تزودهم بأحدث المعلومات والتعليمات اللازمة. وبالفعل، تُستغل التقنيات الاجتماعية التي يعتبرها البعض بريئة على نحو خبيث في أغراض القتل والعنف. فقبل وأثناء الإبادة الجماعية في رواندا على يد الميليشيات المتطرفة هناك، استمرت بعض محطات التلفزيون والراديو في بث الشكوك والمؤامرات في نفوس السكان وتحريضهم على العنف. وأثناء استهداف الجيش للروهينغا، وهي أقلية مسلمة في ميانمار التي تقع في جنوب شرق آسيا، استغل الناس منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك للتحريض على الكراهية ضد هؤلاء الأقلية.

 

صحيح أن التقدم في مجال تقنيات التعرف على الوجوه والمراقبة قد يساعد في الفصل بين هوية الأشخاص المُستهدفين وهوية الأبرياء، لكنَّ هذا التقدم سلاح ذو حدين، فقد يستهدف فئات عِرقية مُحددة مما يسهل قمعها أو تصعيد الأمور معها إلى أسوأ من ذلك. وتساعد هذه التكنولوجيا بالفعل في زيادة قمع واضطهاد المسلمين في المعتقلات الصينية، كما تساهم في تعزيز نظام الائتمان الاجتماعي في الصين الذي يراقب سلوك الأفراد ويقيّمهم بناء على سلوكهم ومواقفهم الاجتماعية، وهو ما يعبِّد السبيل أمام استخدام المعلومات التفصيلية لخدمة الصراعات بين البشر.

قوات الغزو باتت مسلحة بما هو أكثر من قاذفات اللهب، فقد أصبح بحوزتهم تقنيات السونار، بجانب الطائرات المسيَّرة لوضع خرائط ثلاثية الأبعاد للمواقع التي تُحلِّق فوقها. (الصورة: رويترز)

رغم كل هذه التطورات التكنولوجية، فإن القتال على مستوى الشوارع والانتقال من مبنى إلى مبنى ومن غرفة إلى غرفة يستمر في تكبيد القوات العسكرية تكاليف باهظة. يحاول الجنود أثناء الحروب الحضرية تجنب الطرق التقليدية، ويؤمنون أن خير وسيلة هي اللجوء إلى تقنية "ماوس هولينغ" (mouse-holing) أو ثقب الفئران، وهي استخدام القوة المتفجرة لإنشاء ثقوب في الجدران أو الحواجز الموجودة بين المباني واستغلالها بوصفها ممرات للتنقل بين المباني دون الحاجة إلى استخدام المداخل الرئيسية التي قد تكون محمية بشكل أقوى.

 

لكن دائما ما تواجه قوات الغزو أو الاحتلال مخاوف بشأن الهجوم البري والتسلل إلى داخل المدينة، لأنهم يخشون من مقاومة الطرف الآخر وهجماته التي تأتي عادة من أماكن مظلمة وضيقة كالأنفاق والصرف الصحي وغيرها، وهو ما يجعل الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة إليهم. في حرب فيتنام على سبيل المثال، كان الجنود الأميركيون يصفون أنفاق الفيتكونغ التي تقع في منطقة كو تشي بجنوب فيتنام (واعتُبرت نموذجا للتكتيك العسكري والمقاومة الشعبية في تلك الحقبة) بتعبير يطغى عليه طابع الرعب، فقد كانوا يصفونها بـ"صدى الظلام".

 

لكن قوات الغزو باتت مسلحة الآن بما هو أكثر من مجرد قاذفات لهب تُستخدم من مسافة قريبة، فقد أصبح بحوزتها الآن تقنيات السونار (لاكتشاف وتحديد الكائنات الموجودة في البيئة المحيطة وذلك بتحويل الإشارات إلى صور ثلاثية الأبعاد أو تمثيلات صوتية للمعلومات التي استقبلوها)، بجانب طائرة مسيَّرة لوضع خرائط ثلاثية الأبعاد للمواقع التي تُحلِّق فوقها ويخشى الجنود أن يخطوها.

 

تُستَخدم بعض التكنولوجيات العسكرية فقط لحماية القوات العسكرية واستعادة الثقة في نفوسها عند دخولها إلى الأراضي التي ترغب في غزوها. ومن ضمن هذه التكنولوجيا تركيب أجهزة على المركبات للكشف عن وجود قناصة أو أعداء محتملين، أو ارتداء الجنود هياكل خارجية معززة (exoskeletons) لزيادة القوة والقدرة على الحركة، أو دروع واقية مصنوعة من مادة الغرافين التي تتميز بقدرتها على امتصاص الصدمات وتحمل الضغط، بجانب خفة وزنها التي تساعد على تسهيل حركة الأفراد وتقليل التعرض للأذى. وقد يصنعون في المستقبل رصاصات قادرة على التوجه ذاتيا، أو يقودون دبابات مصنوعة من مادة تتألف من مزيج من المعادن والمواد المرنة، لصناعة هياكل خفيفة الوزن ومتينة، ومن المفترض أنها لا تُقهَر.

 

بديلا أكثر أمانا لازال هناك جدلا حول الأخلاقيات المتعلِّقة بالحروب التي تُخاض بالرّوبوتات، لدرجة أن المسألة أدت إلى حملة معاصرة لوقف الروبوتات القاتلة. (الصورة: رويترز)

نظرا للمخاطر المترتبة على دخول القوات العسكرية المدن والالتحام المباشر بأهلها على الأرض، فإن الطائرات المسيّرة ( بدون طيار) توفر بديلا أكثر أمانا بالنسبة إليهم، إذ يمكن استخدامها تحت الماء لتنفيذ مهام المراقبة والاستطلاع في المدن الساحلية. أما أسراب الدرونز التي تلتهم كل شيء في طريقها كالطاعون فهي موضوع آخر للحرب النفسية. في ظروف كهذه، يسري القلق والتوتر في أوصال المجتمع ويشيع الشعور بالهلع، فالسماء التي تبدو خالية من الروبوتات والطائرات، قد تحمل في أية لحظة تهديدات غير مرئية، فضلا عن الروبوتات البرية القادرة على بث الرعب في قلوب المدنيين أثناء جمعها للمعلومات وسط ضبابية وفوضى الاضطراب الذي تخلِّفه وراءها.

 

إن وجود مشرف بشري في عملية تشغيل هذه الأسلحة الذاتية لن يوفر الطمأنينة الكافية للمواطنين الذين سيشاهدونها وهي تتجول في الشوارع بصورة ميكانيكية وكأنها كائنات حية، كالكلاب أو القردة أو البشر (وهو ما قد يؤجج الشعور بالغرابة وعدم الراحة فيما يتعلق بتلك الأنظمة الأوتوماتيكية).

 

ما زال هناك جدل يحوم على غير هدى حول الأخلاقيات المتعلِّقة بالحروب التي تُخاض بالروبوتات، لدرجة أن المسألة أدت إلى حملة معاصرة لوقف الروبوتات القاتلة، وقد وقَّع عليها قبل ذلك ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك، بينما يطالب باحثون آخرون بضرورة المُضي قُدما فيما يتعلق بمجال الجنود الآليين للتفوق على الخصوم الآخرين أو من يعتبرونهم "أشرارا". وعلى الأرجح لم تُطبَّق تشريعات دولية في هذا الصدد لأسباب متعددة، منها استمرار سباق التسلح والربحية المرتبطة به، بالإضافة إلى وجود منطقة غامضة أو مشوشة حول ما يُعد بالضبط "روبوتا قاتلا" نظرا لاستخدام أنظمة الأسلحة الآلية بالفعل في المواقع الدفاعية.

في أثناء الحروب الحضرية، ينفِّذ عملاء الدول عمليات اختراق وتخريب للبنية التحتية الحيوية للمدن. (الصورة: رويترز)

أما السبب الثالث فيتمحور حول سهولة تصوير الروبوتات الحربية على أنها نتيجة للتقدم البشري، بافتراض أنها ستحل محل الجنود وبالتالي ستعفيهم من الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الناجم عن العمليات الفوضوية التي تفرضها الحروب، فضلا عن كونها لن تحتاج إلى طعام أو نوم، ولن يقتلها الشعور بالذنب أو الندم الذي يأكل البشر. ومع ذلك، فإن استبدال الروبوتات الحربية بالجنود البشرية وافتراض أن هذا هو التقدم الإنساني قد يكون خطأ فادحا.

 

فعندما يعاني البشر من صدمة نفسية بعد تجربة مروِّعة في الحرب، فتلك رسالة تحذيرية من العقل لتنبيه الفرد بأن هذه التجربة التي يخوض غمارها الآن غير طبيعية تماما وثمة شيء خاطئ بالتأكيد. في المقابل، فإن استخدام الروبوتات الحربية لا يمكن أن يحقق مثل هذه الرسالة التحذيرية التي ترسلها الصدمات النفسية للبشر، لذا يتمتع الجانب الإنساني والتجربة الشخصية للجنود بأبعاد أخرى لا يمكن تعويضها بالتكنولوجيا الحديثة.

 

إن الصراعات المستقبلية تضرب بجذورها بعمق في حاضرنا الآن. وهذه الجذور كما نرى تتمثل في الصراعات التجارية والنزاعات الإقليمية، ومحاولات الاستيلاء على الموارد الطبيعية. على الجانب الآخر، تتعرض المؤسسات الدولية التي تعمل على تعزيز التنمية والاستقرار للتقويض بسبب تصرفات الدول التي تتبنى مواقف استغلالية لمصالحها الخاصة. وفي أثناء الحروب الحضرية، ينفِّذ عملاء الدول عمليات اختراق وتخريب للبنية التحتية الحيوية للمدن (عن طريق استهداف الأنظمة الحديثة المتصلة بالإنترنت، مثل الشبكات الكهربائية والماء والنقل والاتصالات، لزعزعة استقرار السكان وتعطيل الخدمات الحيوية).

 

ولأن تقنيات المدينة الذكية والتطورات التكنولوجية الحديثة أدت إلى تحول المدن إلى مجموعة من الأنظمة المتصلة والمتكاملة، فإن أي معركة أو صراع قد يحدث في هذه المدن سيُخلِّف وراءه تأثيرا مدمرا على المدينة وسكانها. وفي الوقت ذاته، قد تُستخدم التكنولوجيا لأغراض التضليل، وأقرب مثال على ذلك هي حملات المعلومات السياسية المُضللة التي باتت متفشية عبر الإنترنت مع تحول تقنية الخداع والتمويه العسكري الروسي المعروفة باسم "maskirovka" إلى تقنية رقمية لنشر أخبار كاذبة بغرض التأثير في الرأي العام وتشويش الحقائق والتلاعب بالمعلومات السياسية.

 

ركائز أساسية للسلام

أشار معهد الاقتصاد والسلام بأستراليا إلى ثماني ركائز أساسية لما يسميه "السلام الإيجابي" (positive peace)، ويتحقق هذا السلام فقط في ظل وجود حكومة فعالة تعمل على نحو جيد، وتوزيع عادل للموارد، والتدفق الحر للمعلومات، وعلاقات جيدة مع دول الجوار، بالإضافة إلى وجود مستويات عالية من المهارات والقدرات الإبداعية التي يمكن استغلالها في تعزيز النمو الاقتصادي، وقبول حقوق الآخرين، فضلا عن انخفاض مستويات الفساد، وأخيرا ضرورة توفير بيئات عمل صحية ومناسبة.

 

على الجانب المقابل، فإن غياب مثل هذه الركائز أو هشاشتها يُعد عائقا لتحقيق السلام والتنمية الإيجابية. فكارثة التغير المناخي وحدها بدأت بالفعل في تأجيج الصراعات، وحتى محاولات التصدي لهذه الكارثة بدأت في إثارة الحنق والعنف بين الدول. يمكن لأي حدث بسيط أن يُشعل فتيل الصراعات بين الدول، كالاحتلال المفاجئ لجزيرة في بحر الصين الجنوبي، أو سلسلة من الرسومات الجدارية، أو أن يقرر أحد البائعين في الأسواق إشعال النار في نفسه (تعبيرا عن اليأس أو الاحتجاج).

 

رغم أن هذه الحروب قد تحدث بعيدا عن المراكز الحضرية في الغرب، فإن تأثيرها يمتد حتما إلى العالم كله في ظل العولمة التي تحكمه. ومن هذه النقطة يتفجر ما لا يُحمد عقباه، بما يشمل الانهيارات الاقتصادية، وزيادة أعداد اللاجئين، وارتفاع شعبية الأحزاب المتطرفة، فضلا عن استمرار تسليح القوات الشرطية المحلية بالتكنولوجيا العسكرية بلا هوادة. في غضون ذلك، تتجه نحو التخصيص بناء على طلب من المقاولين العسكريين، بتنفيذ المزيد من الخدمات والأنشطة عن طريق شركات خاصة بدلا من الجهات الحكومية. كما تشهد معارض الأسلحة التي تبيع التكنولوجيا للاستخدام المحلي والدولي ازدهارا أثناء الحروب، وهو ما يعكس تغيرا جذريا في طبيعة الحروب التي باتت تستغلها بعض الجهات بوصفها فرصة عظيمة لجني الأموال.

——————————————————————————————

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القوات العسکریة الحروب التی على الجانب هذه الحروب على المدن ت ستخدم فضلا عن مثل هذه وهو ما التی ت فی عام

إقرأ أيضاً:

الوحشية .. عائلات بأكملها قضت في غارات اسرائيلية على لبنان

1 أكتوبر، 2024

بغداد/المسلة:  قبل يومين، خرج قاسم القاضي يبتاع خبزا لعائلته المؤلفة من 17 شخصا، زوجة وأبناء وأحفاد، لكنه عاد ولم يجدهم… فقد قضوا جميعا في لحظة واحدة جراء غارة اسرائيلية استهدفت منزلهم الواقع في شرق لبنان.

لم يبق من العائلة سوى قاسم (57 عاما) وابنه الجندي حسين الذي نجا من الموت بدوره بعدما توجه إلى خدمته العسكرية قبل غارة الأحد التي استهدفت وفق الوكالة الوطنية للإعلام الرسمية بلدة زبود وأودت بعائلة باكملها.

وفيما كان هائما بسيارته مع ابنه الوحيد الذي تبقى له، قال: “كانت الساعة 11 صباحا، كنا جميعا جالسين أمام المنزل، ثم ذهبت لأشتري لهم الخبر”.

يقول قاسم إنه سمع دوي انفجار قوي حينما كان يشتري الخبز. ويضيف بحرقة “بدأت أتصل بهم، ثم جئت إلى البيت، لم أجد أحدا، لم أجد سوى أشلاء”.

ويضيف متألما “17 شخصا، بينهم خطيبة ابني وأمها وزوجتي، أولادي الشباب الثلاثة وابنتي، وسبعة أطفال.. 17 شهيدا في بيتي”.

ويتحدث قاسم بإسهاب عن أولاده: ابنه الأكبر محمّد (38 عاما) كان يعمل كهربائيا، والآخران علي ومهدي لطالما عملا معه في زراعة الأرض ورعاية المواشي.

أما الأحفاد فيتلعثم عند تعداد أسمائهم، يقول إنهم كانوا سبعة، أكبرهم تسع سنوات وأصغرهم عامان ونصف العام. يتحدث عنهم كما لو أنهم ما زالوا على قيد الحياة مع ابنتيه المدللتين، الطالبتين الجامعيتين زينب (22 عاما) وفاطمة (18 عاما).

فوق خسارته التي لا تعوض، يجد الرجل المكلوم نفسه مشردا مع ابنه. ويقول “لا مكان ننام فيه سوى الحقول والبساتين … لم يبق لنا بيت، أنا مشرد على الطريق، إلى أين نذهب؟”.

أما حسين، فلا يعرف عمن يتحدث. ويقول إنه عاجز عن استيعاب الصدمة. وعدا عن خسارته عائلته، فقد ايضا خطيبته بينما كانا يستعدان منذ سنوات لزواج طال انتظاره.

ويروي الشاب (25 عاما) بتأثر: “كنا سنتزوج في 12 تشرين الأول/أكتوبر، لكنها رحلت قبلي… رحلت في مجزرة، لا أعرف ماذا أقول”.

صبيحة الأحد، توجه حسين إلى خدمته العسكرية، لكنه سرعان ما عاد أدراجه.

ويقول “بعد ساعة من وصولي، تلقيت الخبر ورجعت. إنها صدمة لا تصدق. قبل ساعتين كنت معهم، وفجأة، لم يعد هناك أحد”.

ويضيف ساهما “كنا نشعر بأمان في المنطقة” الواقعة على بعد أكثر من 125 كلم من الحدود مع إسرائيل. ولم تكن الغارة الإسرائيلية على القرية الصغيرة متوقعة.

– “أمر لا يصدق” –

بعد أن كثّفت اسرائيل غاراتها على لبنان منذ أكثر من أسبوع، توالت أخبار مماثلة عن عائلات قضى معظم أفرادها في جنوب وشرق لبنان. وأفادت الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام عن أربع حالات مماثلة على الأقلّ في الأسبوع الأخير.

وكانت منظمة هيومن رايتش ووتش حذّرت الأربعاء من أن الغارات الاسرائيلية على لبنان تعرض المدنيين “لخطر الأذى الجسيم”.

وشدّدت مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة لما فقيه على أن “وجود قيادي في حزب الله أو منصة لإطلاق الصواريخ أو منشأة عسكرية أخرى للحزب لا يُبرر مهاجمة المنطقة بدون مراعاة السكان المدنيين”.

في مؤتمر صحافي في 24 أيلول/سبتمبر، قال وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض أن “الغالبية العظمى” لقتلى الغارات التي وقعت قبل يوم في جنوب وشرق البلاد، “هم من العزل الآمنين الذين كانوا في منازلهن”.

في قرية الداوودية في جنوب لبنان، خسرت نجاح دياب عشرة أفراد من عائلتها بعدما “أغارت طائرات حربية معادية على منزل ودمرته”، وفق الوكالة الوطنية.

وتقول بينما لا تزال تحت الصدمة، “أهلي مدنيون، لا ناقة لهم ولا جمل. والدتي مسنة كانت تبلغ 75 عاما ولا تخرج من المنزل، أما أخي الكبير (54 عاما) فهو عاطل عن العمل ومريض”.

وفقدت نجاح جراء الغارة والدتها وشقيقتها مع ابنتها وأشقاءها الأربعة مع عائلة أحدهم وابن عمها.

وتوضح “لم يبق لي إلا ابن شقيقي الأكبر وهو طالب جامعي”.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author Admin

See author's posts

مقالات مشابهة

  • جنبلاط: الحرب الإسرائيلية على لبنان يمكن أن تستمر عامين
  • قوات صنعاء تكشف تفاصيل العملية العسكرية التي استهدفت العمق الإسرائيلي
  • و أنت عائد إلى بيتك فكر في تلك المدينة الصامدة التي غيرت مجرى الحرب
  • الحرب و السياسة و المتغيرات التي أحدثتها
  • الوحشية .. عائلات بأكملها قضت في غارات اسرائيلية على لبنان
  • نهاية الحروب القصيرة.. هل أدخلت إسرائيل الشرق الأوسط في حرب بلا نهاية؟
  • لماذا الفرح ولو توهماً؟
  • رسالة إلى التجار وأصحاب تحويلات بنكك لا تقتلوا الضمير الإنساني مرتين!
  • قد يتساءل شخص لماذا لم يتقدم الجيش هذه التقدمات منذ بداية الحرب ؟
  • حاتم السر: القصة الكاملة والرواية الحقيقية للحرب لم تحكى بعد!!