معركة الشعراء والعجائز في بيت الست وسيلة
تاريخ النشر: 19th, October 2023 GMT
منذ شهور قليلة تولى الشاعر سامح محجوب مسؤولية إدارة نشاط "بيت الشعر" في مصر -تحت قيادة الشاعر الرائد أحمد عبد المعطي حجازي- وهو كيان يهتم بالشعر ويخضع لصندوق "التنمية الثقافية" ومقره البيت الأثري "بيت الست وسيلة" خلف الجامع الأزهر بالقاهرة، وكان يتولاه قبله "حسن طلب" وهو شاعر مصنف ضمن جيل السبعينيات الشعري ويعمل أستاذًا في جامعة حلوان الحكومية، وله دواوين وتاريخ ثقافي يؤكد حرصه على اللغة التراثية، وكان مساعدًا للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في مجلة "إبداع" التي كان يرأس تحريرها منذ سنوات.
نحن إزاء معركة، وإن بدت محلية الطابع فإن لها دلالات قومية وانعكاسات عربية، فالشعراء في كل البلدان العربية يعيشون مأساة الصراع بين الأجيال، والصراع بين الجديد والقديم
الدلالة القومية للمعركةالمهم هنا أن "سامح محجوب" تعرض لحملات تشويه سمعة من جانب السيد "حسن طلب" وأعوانه شغلت مجتمع الشعراء في مصر والمهتمين بالشأن الإبداعي، لأنه جعل "بيت الشعر" حاضرًا في المشهد الثقافي، فالندوات تقام فيه لكل الشعراء البارزين والمهمين وأصحاب التميز الإبداعي، وتمثل كل التجارب وكل الأجيال، وهو ما شهد به الشعراء، والمراقبون، والمهتمون بالشعر وقضاياه.
وهذه المعركة التي تبدو محلية الطابع لها دلالات قومية أيضًا، ولها انعكاسات عربية، فالشعراء في كل البلدان العربية يعيشون مأساة الصراع بين الأجيال، والصراع بين الجديد والقديم. والصراع بين جيل السبعينيات وغيره من الأجيال متمدد من المحيط إلى الخليج بحكم ولادته في زمن الحرب الباردة، والصراع بين الشرق والغرب، والصراع العربي الإسرائيلي، وهذا الجيل يعادي اللون الشعري الذي يمثله أمل دنقل ومحمود درويش ويعتبرهما شاعرين جاهليين، يقولان الشعر وفق المنطق القبلي، ويخاطبان الجماهير، ويتناولان القضايا اليومية والهموم العامة التي يحبها الناس.
والفكرة الجوهرية التي قامت عليها تجربة هذا الجيل هي الانعزال عن الجموع وجعل الشعر مشغولًا بالفرد وهمومه وأزماته وقطع العلاقة بين القصيدة والجماهير، وهذا تحقق بالفعل وجعل كل ما كتبوه ونشروه حوار طرشان لا يهتم به سوى الطرشان المشاركين فيه.
وكان أمل دنقل، في المقابل، حيا ومهمومًا بالفرد والجماعة والقوم والقومية، يحبه الناس ويفهمونه، وجيل السبعينيات يهاجمه ويعتبره مفسدًا للشعر، لأنه سمح للناس بالتواصل معه. والوهم الذي عاش فيه هؤلاء هو تفجير اللغة، ولا أعرف أنجحوا في تفجيرها أم فشلوا، لكن ما أنا متأكد من حدوثه أنهم فجروا أنفسهم، وهجر الناس كلامهم المستغلق الذي أشار إليه المخرج "علي بدرخان" في فيلم “الكرنك” المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، في مشهد المقهى حيث ظهر الفنان فاروق يوسف وهو يقرأ قصيدة عبثية المعاني مشوشة البناء تحتاج إلى قواميس الطب النفسي لفهم مقاصدها، وختمها بجملة فهل جُنِنْتْ؟.
وأعتقد أن "نجيب محفوظ" و"علي بدرخان"، قصدا بهذا المشهد جيل السبعينيات الذي كان يملأ الكون صراخًا وعراكًا، ويصدّر العراك والصراخ إلى النخب الإبداعية والثقافية في العواصم العربية. ومن مفارقات القدر أن "سامح محجوب" رئيس تحرير برنامج "السيرة" على قناة النيل الثقافية، أعد حلقة في ذكرى رحيل "أمل دنقل"، وأذاع لقاءات مسجلة مع شعراء شبان من دول عربية من بينها سوريا والأردن، فذكروا أنهم يحبون الشاعر الذي رحل قبل 40 عامًا (في مايو 1983)، وما زالوا يقرؤون قصائده ويتمتعون بما تحتويه من صور ولغة وثقافة عميقة وانحياز للحرية.
و لعل هذه الحلقة هي سبب الهياج ضد ما يقوم به في "بيت الشعر"، فهو يقدم صورة الشعر في اللحظة الراهنة وهي صورة لا أثر فيها لتجربة جيل السبعينيات الذي قضى في قلب الحياة الثقافية ما يزيد عن 30 عامًا، ثم مضى دون أن يتذكر رموزه أحد. الشاعر "حلمي سالم" هو الاستثناء في هذا الجيل بحكم وجود جائزة شعرية تحمل اسمه، والناقد الوحيد الذي اهتم بتجربتهم، هو الدكتور "محمد عبد المطلب"، لكنه لم يستطع منحهم حب الجماهير، لأنهم يستبعدون الآخر، أي آخر.
وكأننا في مستشفى للصحة النفسية، مسموح فيه بالكلام غير المعقول، وتجربة "بيت الشعر" خير برهان على أن هذا الجيل كان انعكاسًا لظروف غير طبيعية، وأراد أن يجعل من ذلك "غير الطبيعي" قاعدة يلتزم بها الناس، مستخدمًا الإرهاب اللغوي والتخويف النقدي، وذلك الكلام الذي لا يقول شيئًا، فهم الجيل الذي ولد في خمسينيات القرن الماضي، وألحقوا بالتعليم الجامعي المجاني وانخرطوا في "منظمة الشباب" (الجناح الشبابي للاتحاد الاشتراكي الحاكم)، وانتقلت إليهم بذلك أمراض الأحزاب السرية والمنظمات الشيوعية التي ازدهرت في زمن الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، ثم كان رفضهم للنظام السياسي ممثلا في مظاهرات فبراير 1968 بعد الأحكام الهزيلة من المحكمة العسكرية ضد القادة المتهمين بالمسؤولية عن هزيمة 5 يونيو 1967، وتوالى غضبهم، في عامي 1972 و1973 في مظاهرات كان عنوانها الضغط على الرئيس أنور السادات لإعلان الحرب على إسرائيل لتحرير سيناء المحتلة.
ورغم أن الصوت الثوري "الشعري والموسيقي" في تلك الفترة مثله الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم وعدد من شعراء العامية أمثال نجيب سرور، وفؤاد قاعود، وزين العابدين فؤاد، فقد كان شعراء الفصحى في حالة انعزال عما يجري حولهم، وعاشوا حالة "انفصام الشخصية"، فمنهم من كان منظمًا في حزب شيوعي سري، لكنه في الوقت ذاته يتبنى مفهومًا نخبويًا انعزاليًا للشعر. ورغم أن "الماركسية" تستهدف أساسًا الدفاع عن الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين، ورفع وعيهم. وأن الحزب الشيوعي -الذي ينتمون إليه- يستهدف تمكين أولئك الكادحين من الثروة والسلطة، فإن ذلك الشاعر السبعيني المناضل، كان منقسمًا إلى نصفين، نصف في الماركسية والشيوعية، ونصف في الأنا المتورمة غير المعنية بالمجتمع أو السياسة أو الصراع الاجتماعي.
وكانت التنظيرات التي تخرج من الشقق والبارات والمقاهي التي يتجمعون فيها، تبرر هذا الوضع الشاذ، وتعتبر مخالفته نوعًا من الجهل. واختلطت الأفكار، واختلطت المواقف، وهجر الناس الشعر الفصيح، واكتفوا بما يقوله الأبنودي وسيد حجاب وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وغيرهم من شعراء العامية.
تنص القوانين على جرائم لا تسقط بالتقادم، كالتعذيب وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، ولكن شعراء جيل السبعينيات، الذين تنطبق عليهم شروط هذه الجرائم إضافة إلى إهدار المال العام لترويج ذوق شعري فاسد، لم يحاكموا، بل إن كثيرين منهم يتوقع التكريم والتبجيل
عجائز الفرح ونبش الماضيوالمدهش أن هؤلاء "المتغطرسين" كانوا ينظرون للقصيدة المكتوبة بالعامية نظرة استعلاء وتحقير، فانقلب السحر على الساحر، وجاءت قصيدة "النثر" لتكنس كل ما كتبوه وأهدروا فيه أعمارهم.
ومن مكر التاريخ بهم، أن امتدت أعمارهم فرأوا "دنيا غير الدنيا" التي توهموها، فرفضوا قبول ما جرى وتجاهلوا سنة الحياة وقانونها وتشرنقوا حول أنفسهم وذواتهم واعتبروا أن كل جديد هو الكفر بعينه وأن من يناقش أو يعترض على قصيدتهم "المغلقة المنعزلة" يستحق القتل، شأنهم في ذلك شأن "عجائز الفرح" اللاتي يحضرن حفلات الزفاف من باب الفضول، فيستمتعن بانتقاد العروس والعريس، وموائد الطعام، وألوان ملابس الحاضرين، واجترار الذكريات، والبكاء على العمر الضائع، واتهام "الجيل الجديد" بقلة الوعي وقلة الذوق.
تنص القوانين على جرائم لا تسقط بالتقادم، مثل التعذيب وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، ولكن شعراء جيل السبعينيات، الذين تنطبق عليهم شروط جرائم الإبادة الجماعية والتعذيب وإهدار المال العام، لاستغلالهم إمكانات وزارة الثقافة -الممولة من أموال الشعب- للترويج لذوق شعري فاسد، لم يحاكموا على ما فعلوه، بل إن كثيرين منهم يعيشون منتظرين التكريم والتبجيل، حتى انطبق عليهم القول المصري الشعبي البليغ "اللي اختشوا، ماتوا".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: والصراع بین بیت الشعر هذا الجیل
إقرأ أيضاً:
مجلس الوزراء يختار فودافون كمشغل لمشروع الرخصة الوطنية بتقنية الجيل الخامس
بغداد اليوم -