أثير- الروائي العربي الدكتور واسيني الأعرج

كيف نسائل عصرا معقدا يحتاج إلى عدد لا يحصى من النصوص لكي نستوعيه، ونستوعب انعكاساته على عالم عربي يتبدّى اليوم في أصعب صوره القاسية التي تجعل المستقبل كثير السود. الانتكاسة وراء الانتكاسة، وانهيار يستعجل انهيارا، وصلنا للقاع، ولا قاع للقاع. التمزقات المختلفة التي جعلت العالم العربي يتشظّى أفقدته سلطته أمام عالم يتحرك بسرعة لا يحترم، ولو مرغما، إلا القوي.

إخفاق كبير في التحولات وضعف متوغل في النسيج البنيوي للمجتمع العربي، ورؤية مستقبلية مضبّبة جدا على الرغم من الجهود التي تبذل هنا وهناك. لا توجد “نظرية للمؤامرة” توجد حقيقة موضوعية مرة: لا يُراد لهذا العالم أن يتطور، ولا يُراد له أن يستقل، ولا يُراد له أن يكون هو بكل مكوناته وخصوصياته. هناك عصر امبراطوري يقودنا اليوم نحو ما يشتهي، بالقوة الاقتصادية، أو التكنولوجية، أو العسكرية. فقد تم تدمير نواة التطور العربي التي كان يمكن أن تصنع فارقا وتخرج من التبعية، بسبب أخطاء الحكام الذين كانت نظراتهم قاصرة، وبدل أن يعملوا على ترسيخ العمل الوحدوي العربي لتشكيل قوة فعلية، كسروا اللبنة الجامعة، مزقوا الرابط العاطفي والتاريخي والديني والإنساني، وخلفوا جراحات كارثية لن تشفى بسهولة، تحتاج إلى أجيال لنسيانها أو استيعابها كتاريخ والتوجه نحو التنمية. حالة الغزو العراقي للكويت دمرت الثقة الأخوية، ولم يخلف إلا الهلاك لبلد كان يملك طاقات جبارة للتحول الفعلي، أهدرت بسبب غطرسة الحكام. ماذا بقي اليوم من عراق السبعينيات والتسعينيات؟ تمزقات ترتسم في الأفق. ماذا بقي من ليبيا التي تمزقت إلى قبائل ومجموعات تبيع النفط بلا نظام. ماذا بقي من سوريا التاريخية. شمال في يد الغير وحروب داخلية طاحنة بين إخوة الأمس، تهدم ما بقي واقفا. أية سعادة بقيت في اليمن الممزق إلى مجموعات خرجت من رحم البلد الواحد؟ سودان الشعب الطيب لم نعد نعرفه الوم. السودان الذي كان يتقدم يخطى حثيثة نحو الديمقراطية يتقاتل عنه عسكريان يزيدان كل يوم في تكسير بنياته الداخلية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

وهل نستطيع أن نبني ديمقراطية بعسكر فقدوا كل شيء له علاقة بالوطنية وذهبوا نحو تقسيم بلد مقسم أصلا بين شمال وجنون، ودارفور قادم؟ أصبحت الآن حرب السودان منسية في إعلام دولي لا سلطان لنا عليه. الحروب المنسية أصبحت تعني شيئا وهو: لم تعد أي قيمة للإنسان. الصومال كان في السبعينيات يتجه نحو بناء اجتماعي وسياسي قوي، ماذا بقي منه اليوم؟ لا شيء. تقاتل أبناء البلد الواحد ودمروا بلدهم والآن يبحثون عمن يأخذ بيدهم. خوف على مستقبل لم يعد بأيدينا؟ لقد أصبح العالم العربي في مرمى الأعداء كليا. سماؤنا عارية وأسرارنا معلنة. مقبلون بخطى حثيثة على فواجع مرعبة يقف على رأسها مشكل الماء الذي أصبح حالة لا يمكن تفاديها مهما كانت الجهود العربية والاستثمارات التي بُذِلتْ في هذا السياق في الربع قرن الأخير. ويمكنني أن أعدد المآسي التي مضت وما ينتظرنا اليوم وفي المستقبل القريب والمتوسط. ديستوبيا بكل معنى الكلمة، فقط لأقول إن مهمة الروائي في العالم العربي شاقة وثقيلة. كيف نكتب هذا الشطط وهذا الخوف، دون أن نتخلى عن مساحاتنا الإبداعية لصالح السياسي. للسياسي مهامه ولكن للروائي أيضا مهامه النبيلة التي يصنع من خلالها وجدانا صادقا يكون مآلا إيجابيا للجيل حتى لا يفقد حقه في الحياة الكريمة. كيف التعبير عن ذلك في عالم لسنا الوحيدين فيه؟ هذا يطرح علينا سؤالا خطيرا وشديد الحساسية: ما جدوى الكتاب في عالم يتم تصنيعه خارجنا؟ لماذا نكتب وماذا نكتب ولأي جمهور نكتب؟ قد تبدو الإجابة سهلة: نكتب لأننا نريد أن نعبر عن شيء يشغلنا ويحرقنا من الداخل. المعضلة الكبرى التي كثيرا ما تعيدنا إلى قسوة البدايات: ماذا يمكن للرواية أن تفعل في مجتمع نسبة الأمية فيه تجاوزت الستين بالمائة؟ حتى الذين يقرؤون سرقتهم الوسائط الاجتماعية السهلة. هذه الأسئلة الوجودية تطرح علينا بحدة.

من معضلات عصرنا، بل وعلامته المميزة، هي أن نكون كجزء من هذا العصر الذي علينا فهمه للكتابة إما أن نكون أو لا نكون ولا يُحسَب لنا أي حساب.

عصرنا تخترقه سلسلة من أصعب المعضلات، منها كيف وماذا نكتب في زمن لا يظهر حماسا كبيرا للكتابة؟ كيف نواجه كتابيا معضلات الهوية وكل ما يحيط بها من تناقضات وصراعات. وكثيرا ما تحدثنا في هذا السياق عن الهويات المسلحة أو القاتلة  ولم نتحدث عن الهويات القتيلةـ/ الضحية، التي يتم تدميرها على مرأى من العالم. ثم أن هناك حوار يجب أن ندرك قيمته في سياق محاضرتنا. لسنا وحدنا في هذا العالم. لهذا الحوار ليس فقط مطلبا تاريخيا ولكنه حاجة ثقافية وفكرية وإنسانية للاستمرار داخل عالم حي، وليس على هوامشه. ثم داخل هذا النظام، كيف يمكننا أن نحافظ على نظام الرواية الأدبي تحديدا. لا يمكن أن نكتب الرواية في عصرنا خارج مكوناتها وقوانينها وإلا ستنتمي إلى نوع آخر وتخفق في قول سرديتها التي تميزها بحريتها وتذهب نحو سرود ليست لها، يغلفها السياسي ويسيطر فيها الإيديولوجي على الكتابة الإبداعية

1-    سؤال الكتابة؟

هل يحيل سؤال الكتابة إلى ما نكتبه وما يشغلنا من أسئلة معقدة؟ هل هو هشاشتنا تجاه ما يحيط بنا التي هي أهم صفة للكاتب. أي قدرته على تشغيل حساسيته الإنسانية في أقسى درجات الحياة واليأس؟ هل هي الفعل الفيزيقي المصاحب للكتابة الذي يشبه إلى حد كبير صخرة سيزيف. والذي لا يعني مطلقا أنه مسألة سهلة لأنه يقصر من أعمارنا عندما تتحول الكتابة إلى رديف لمهنة الحياة، هل هي وسيلتنا القوية لمقاومة الاندثار القدري الصعب الذي يمنحنا حياة قليلا ما نتخلى عنها، وحبا نصنعه على مقاسنا، أم هو وسيلتنا للهرب ليس من جاذبية الكرة الأرضية ولكن من جاذبية المرايا التي تصورنا أكبر من أحجامنا وبشكل مقلوب. ما أرفضه هو وهم العظمة والاكتفاء بوهم صغير هو من حق الكاتب بأن حياة نصنعها يمكن أن نتقاسمها مع غيرنا في لحظة من اللحظات، ونحتاج إلى أن نصدقها أنها حقيقة كما يقول كولريدج. ربما أهم صدمة هي أن يدرك الكاتب بفعله الكتابي أنه ليس معلما ولا قائدا عظيما ولا نبيا ولا إلها صغيرا ولكنه مجموعة تشظيات لا شيء يجمعها إلا شعاع الكتابة التي تعطيها المعنى؟

لهذا كله أمام هذا الكم من التساؤلات ليس أمام الكاتب أية أجوبة إلا ما تصنعه يده من حروف ومصائر إيهامية، وما خارجه هو مجرد حياة اعتيادية التي عليه أن يلبس لها الأقنعة اللازمة لكي يستمر في الحياة. في رواية الأمير لم يكن الرهان مهما ولا تاريخيا كما قد يتبدى. في الرواية إيقاعات وموسيقى وألوان تتجاوز فعل التاريخ. كانت الرغبة الكتابية هي تدمير اليقين والدخول في الهشاشة. ملامسة الأمير الذي أردته واشتهيته. غير أمير الكتب المدرسية، ذلك الرجل العظيم الذي لا يتعب. غير أمير اليقين والمؤمن الثابت والصوفي العظيم. كنت في حاجة إلى أمير أعرفه أمير يشبهني ويساعدني في الإجابة عن بعض أسئلة العصر: العولمة وصدام الحضارات. وكلما سمع كلاما جميلا اهتز، وكلما سمع مقطوعة موسيقية أحس بعمقها الإنساني، وكلما سحبته من يده باتجاه أقرب متحف وطني في المدينة امتعض من المجسمات التي ترسمه خارقا وباردا وجامدا. وكلما أدخلته إلى مدرسة مزق الكتاب المدرسي الذي أفقده هشاشته وحوله إلى صنم، واكتفى بأن يحكي نكتا مضحكة للتلاميذ. النتيجة يمكن أن نتوقعها بسهولة. اكتسبت الآلاف من الأصدقاء الذي أحبوا الأمير الذي يشبههم جميعا في ترددهم وخوفهم وشجاعتهم أيضا عندما تتوفر هذه الأخيرة، والكثير من الأعداء أيضا الذين فقدوا أميرا ظل يسندهم في كذبهم. وضعت على ظهري كما لا يضاهى من الأعداء في المؤسسة الرسمية والأعداء السلاليين: أذكر منهم حفيدة الأمير السيدة بديعة التي لم تفهم أن الأمير لم يكن أميرها أبدا. وأن الأمير الحقيقي لا يوجد إلا في مخيالها مثلما يوجد في مخيالي، رفضت عنه صوفيته وحولته إلى رجل وهابي حتى قبل الوهابية، وحولته إلى بناية جافة وحديدية صماء، تعلن أخبار الانتصارات ولا تعرف الهزائم تصنع الرجال أيضا. كان من الصعب إقناع الأميرة بديعة بأن أميري وأميرها لا يتشابهان بل أحيانا كثيرا ما تعاديا وكثيرا ما تقاطعا مع فهمنا للحياة.

أميري عندما انهزم اعترف وتكلم وقال ما لم يقله المؤرخون عنه أبدا. وقبل أن يختبر هشاشته أمام قسوة زمن لم يكن في النهاية في صالحه. وأميرها كان بطلا يشبه الإله قليلا. طبعا خسرت أيضا عاطفة المؤسسة التي نقلت رفاة الأمير من جانب معلمه الأكبر الشيخ ابن عربي لتضعه في مقبرة الشهداء بدون أن تعتذر منه لأنها اخترقت وصيته. لقد سرقت منها هي أيضا أميرها الذي سوقته من خلال الكتاب المدرسي والمؤسسات الوطنية ولم تعرف كيف تحفظه في ذاكرتها بالشكل الذي يجعل من الأمير قيمة إنسانية مضافة وليس أكثر. الغريب أن الأمير يذكرني بأيقونة أخرى اشتغل عليها منذ سنتين وهي جميلة بوحيرد التي لا يعرف الكثيرون منا أنها حية وتعاني أمراضا كثيرة أكبرها مرض الخيبة من زمن سرق طفولتها الغضة ولم يمنحها إلا المزيد من النسيان. منذ الاستقلال تفقه حكامنا في تدمير كل ما هو أيقوني وحي ورمزي، وابتذاله لكيلا يعبر عن أي شيء أبدا. وكأن الصورة المقلوبة هي التي تحدث. جيء برفات الأمير  عبد القادر لتأكيد رمزية الدولة الوطنية، وأهملت أيقونة وطنية حية وتم قتلها لأن الدولة الوطنية في طريقها إلى التآكل والزوال. كيف يتحول الأفراد إلى حالات رمزية غريبة تشبه أوطانها في قيامها وانكسارها. نفس الأشخاص الذين زرعوا الحياة في جسد الأمير، زرعوا الموت في جسد جميلة لكي يندثر الرمز بأقصى سرعة ممكنة لأنه مؤرق لذاكرة خانت شهداءها؟

2-    الهويات القتيلة

نعيش اليوم عالما تتصارع فيه الهويات بقسوة شديدة، مخلفة وراءها خرابا كبيرا لا يمكن ترميمه بسهولة، ويندرج ذلك في استراتيجيات النظام الدولي الجديد الذي فجر الهويات التي ظلت زمنا طويلا مكتومة، وفتح أمامها التعبيرات التي بدل أن دمرت الروابط البينية الآتية من بعيد، وتحولت إلى سلسلة من الحروب الأهلية المدمرة. مخلفات “الهوية” كانت مرعبة، حروب أهلية مستدامة، نعت الآخر وتحميله كل الهزائم والانكسارات، انفجار أوطان بكاملها كانت إلى وقت قصير حية وديناميكية على الرغم من الديمقراطيات الغائبة والمغيبة فيها. الاستراتيجيات الدولية الكبيرة فرضت ذلك بالقوة الناعمة من خلال ثورات داخلية لم تكن حرة بالشكل الوهمي الذي نتصوره. هناك ثورات حقيقية تتأسس على قيادات حقيقية تقودها حتى النهاية للتغير العالمي الإيجابي، وفتح أبواب التطور والانتهاء من هيمنة الديكتاتوريات، المبرر الطبيعي لكل الاستعمارات اللاحقة. لكن هناك أيضا ثورات تقودها الأقمار الصناعية من الأعلى وتوجهها مثلما تريد، وفق المصالح الاستراتيجيات المبتغاة. ما يزال جزء كبير من العالم العربي حتى اليوم تحت وطأة هذا الوضع الصعب والمدمر الذي فكك كل بنيات الحكم التقليدية دون أن يوفر بنيات بديلة وحقيقية، ولا أن ينتقد نفسه أو يعيد النظر فيها هو الذي بنى مشاريع الحداثة وما بعدها على العقل المحض  الذي انتقد الأنظمة التي كبل البشر أنفسهم بها

. فأصبحت الفوضى بأشكال متفاوتة هي النظام المستشري الأوحد (ليبيا، سوريا، العراق، اليمن، الصومال التي كانت مخبر تجربة…)

تفطن المفكر الفلسطيني، في وقت مبكر، إلى ذلك منطلقا من حالته الخاصة متسائلا في عمق أتون الهوية عن حالته: وهو العربي المسيحي، الفلسطيني، بحكم أصوله العائلية والتاريخية، والمصري، بحكم الثقافة والتعلم والإقامة، والأمريكي بحكم الحياة في نيويورك، والتدريس في واحدة من أهم جامعاتها، “كولمبيا”، وحضّر رسالة دكتوراه حول شخصية إشكالية شبيهة له قليلا في مواصفاتها الهوياتية المتعددة “جوزيف كونراد” الذي عاش مثله في عمق هويات متعددة ومتناحرة، فهو بولندي الولادة (1857)، إنجليزي لغة الكتابة بعدما نفي من وطنه الأصلي، عاش جزءا من حياته متنقلا بين العواصم الغربية، لندن وباريس وغيرهما. عمل بحارا يحاول أن يجد مسلكا له في عالم متلاطم الموج. توفي بسكتة قلبية مخلفا وراءه حوالي 13 رواية، منها قلب الظلام التي شكلت مرجعا مهما في بحث إدوارد سعيد، وغيرها وكلها من النصوص ذات الصلة الحيوية بالبحر. يتضح الإرباك الهوياتي أكثر في قصة “إيمي فوستر” التي جسد فيها معاناة المنافي التي عاشها، وتركت ملامسها على هوية شديدة التمزق، لكن أيضا، شديدة الغنى. ازدواجية الذات التي تتحلل حتى تكاد تتبدد، قبل أن تعيد تركيب نفسها باستمرار من خلال استيعاب عناصر هوياتية جديدة تغني الأصل وتقلل من تطرفه. هي نفسها حالة إدوارد سعيد الذي استعاد في إحدى مقالاته “تأملات في المنفى” هذه القصة القصيرة تحديدا “إيمي فوستر” التي قرأها من جديد وخرج بخلاصات تجسد الحالة العميقة التي كان يعيشها هو نفسه. هناك شبه بينه وبين بطل القصة بانكو الذي رمته أمواج البحر في منفى إنجليزي قاسي لم يختره أبدا، بعد أن غرقت سفينته التي كانت تعني اللاعودة إلى الأرض الأولى (بولندا) بعد أن نجا من رحلة بحرية مميتة أغرقت كل مرافقيه. التشابه يظهر واضحا بينهما في القلق الكبير وبدء نسيان ما كان يربطه بالأرض الأخرى التي انتهت بغرق السفينة. فقد بدا غريبا على حواف الأرض الجديدة. كل من رآه، بما في ذلك الذين أنقذوه من موت حقيقي، يتعجب منه. لقد بدا لهم “مختلفا” لا يشبه البقية. وهو ما دفع به نحو العزلة اللغوية والجسدية والنسيان. يذكر ذلك إلى حد بعيد بحي، في رواية “حي بن يقظان” الفلسفية. حي وهو يكتشف الجنس البشري الذي يشبه عالمه ولا يشبهه. ثم وهو يسافر في سفن الوافدين عليه التي رست في جزيرته وأغوته بالسفر معها. لا أحد كان يفهمه ولم يكن قادرا على فهم الآخرين. الغرابة التي قادت امرأة مثل إيمي نحوه، سرعان ما كان الاختلاف فيها، عنصر فرقة. الأحادية المجتمعية سطحت كل شيء. فكل مختلف، هو مرفوض بل ومنبوذ أيضا. لقد دفعت إيمي الثمن غاليا باقترابها من يانكو.

رفضها المجتمع المستقر في أوهامه وصفائه، وعزلها كما لو كانت وباء معديا يجب التخلص من حامله، بالخصوص بعد أن عارضت الكل، بما في ذلك النظام المستقر، وتزوجته. كل الناس يشتهون معرفة يانكو الذي “اتى من هناك”، هذا “الهناك” المحدد لقيم التسامح والعنف والحب والكراهية والاختلاف بحسب منظوراته القاصرة حتما لأنها ترى العالم وفق رؤى ضيقة لا تقدم الكثير من أجل تحسين الأوضاع البشرية. لون بشرته، لغته، جسده، مشيته الرقيقة التي بها بعض الغنج. اللغات الأوروبية المستعملة في محيطه، الإيطالية، الألمانية والإسبانية، لتقريبه من المكان والبشر، يشعر بها يانكو شديدة البعد والمسافات بينه وبينها تتسع كلما حاول أن يفهمها قليلا. لا تمثله مطلقا. هذه العزلة المفروضة والمميتة هي التي انتهت به وهو حالة اختناق تجهز عليه وهو يتكلم ويطلب كوب ماء لا يصله، بعد أن أخذت زوجته ابنيها وغادرت البيت وهي في عمق دائرة الاغتراب كما حدد مفهومة إدوارد سعيد. صعب على يانكو أن يجمع بين بين البولندي الذي يكتب بلغة أجنبية الإنجليزية، التي لا علاقة لها بلغة الام التي تحدد البنية النفسية، ترتفع بها أو تؤزمها.

تشكل حالة يانكو حالة نموذجية لتحديد تصورات المنفى في أقسى صورها وأصعبها، كما كتب ذلك إدوارد سعيد في مقالته: تأملات في المنفى التي بطنها بشكل غير مباشر حالته الذاتية. «للمنفى شجن لا يمكن التغلب عليه»، مقولة إدوارد سعيد، في تحديده للحالة الداخلية التي تخترق المغترب الذي يصبح “غريبا” بغض النظر عن الجنسية التي يحملها وسنوات العمر التي قضاها مدافعا ومعلما ومنتجا إيجابيا للمعرفة. وجد في بحث شتاينر عن الأدب المهجري بعض الإجابات عن أسئلته الأنطولوجية ظلت تشغله حتى وفاته. الذي يقر بأن هناك أدبا مهجريا يُكتب على هامش الثقافة الغربية التي لا تعترف به إلا قليلا أو تضعه في الزوايا الخلفية للمكتبات. «المفارقة التي يوضحها شتاينر تكمن في أن المبدعين، ممن رُحلوا عن بلدانهم وشردوا بسبب آلة الدمار الغربية الوحشية، أصبحوا هم أنفسهم شعراء بلا ديار، ومرتحلين عبر حدود اللغة، أناسا يتسمون بغرابة الأطوار، وبالانطواء، وبالشجن، وبتعمدهم الخروج على الزمان» أو الدخول في حالة انسلاخ كلي هربا من الهويات المضيق عليها، والاندغام في الآلة الصعبة للمجتمع ومن هناك فرض النفس. لكن التجارب بينت أن هذه الحالة “المتنكرة للذات” ليست كافية للتقليل من ثقل الغربة والحصول على اعترافات تتأسس على مسبقات سياسية أكثر منها ثقافية حرة.

إثارة قضية الهويات القلقة ليس أمرا ثانويا بل ينبع من عمق الرغبة في فهم ظاهرة أصبحت وسيلة للإقصاء والتدمير والاختلاف المميت. بدأ زمن “من يختلف معي ليس شرطا أن يكون عدوي”. أصبح مجرد ذاكرة وسط لعبة الصراعات التي كانت باطنية وأصبحت اليوم معلنة، في ظل قوانين لم يعد لها أي تأثير في الصيرورة المجتمعية.

لهذا يمكننا القول بلا تردد، إن عالمنا اليوم ليس بخير، فهو يزحف بخطى حثيثة نحو عملية إفناء غير مسبوقة يسهم فيها الإنسان المتوحش تجاه نفسه وتجاه الطبيعة حتى أفقدها توازنها فأصبحت عدوة له ولكل ما بناه. صحيح، إن العولمة غيرت العالم وحررت الأسواق، ولكنه تحرير غير فعال لأنه مسيس في الأصل ونفعي، مرتبط بمصالح الدول العظمى. فكلما أصبح مردود هذه الأسواق المحررة غير مفيد، عاد الأقوياء إلى سياسة الحماية القديمة، حماية الاقتصاد، حماية التجارة من الحرية نفسها وتنشيط الأسواق النائمة بالخصوص أسواق السلاح التي اجتاحت لأمريكا تحديدا ولا يهم إذا أصبحت المصائر البشرية مهددة. الخلافات الاقتصادية بين الصين وأمريكا تبين إلى أي حد يمكن أن يقود الخلاف الاقتصادي الذي يشكل باكغراوند العلاقة الصينية الأميريكية، إلى حرب محتملة وخطيرة. ليست تايوان إلا الجزء الخارجي من كتلة الآيزبيرغ الثلجية. نحن أمام لحظة تفكك بدأت تطال كل شيء، عاداتنا وحياتنا السابقة، بلداننا التي لم تعد بلدانا مانحة للحماية والراحة، بدأت بدورها تتفكك إلى عشرات الدويلات الضائعة هنا وهناك، بلا مقومات حقيقية، على أساس ديني، طائفي، عرقي وإثني، وغيره، تحت مظلة دول عظمى حامية لهذا التفكك الذي سيطالها حتما يوما ما، في أمريكا أو في أوروبا.  لدرجة أن هذه الحرية في النظم دمرت الحدود واجترحت أخرى، وأربكت الجندر نفسه الذي لم يعد يكتفي بالرجل والمرأة بعد أن أدرج عنصرا ثالثا بينهما لا هو امرأة ولا هو رجل، بين البينين.

ندرك جيدا أن مجتمعات ما بعد الحداثة Post-Moderne، لا تتحرك فعليا، ولا تتطور، دون مسبق تكسر للبنيات التي أصبحت تقليدية ومعطّلة، والانتقال نحو آفاق جديدة تسمح للبشرية بفتوحات جديدة. الإشكال الصعب الذي يُطرح في هذا السياق، هو كيف نوفق بين ما بعد الحداثة وهزاتها من جهة، وبين الحفاظ على البلدان الهشة من الاندثار والزوال. أية قنوات تحفظ للبلدان الضعيفة، وحدتها وقوتها الداخلية وطاقتها الخلاقة بدل تدميرها وتشتيتها؟ لأن فعل ما بعد الحداثة تحركه قوى عظمى أيضا، وفق مصالحها. تحطيم العراق لم يكن الغرض من ورائه دمقرطة المجتمع العراقي الذي تكلس سياسيا في الفترة الصدّامية، ولا جر الآلة العسكرية العراقية النووية نحو السلام، والتي اتضح فيما أنها أكبر كذبة إذ لم توجد ولا ذرة واحدة خارج المدار الذي سطروه سلفا. لم تسلم الهوية/ الهويات من هذا التدمير المبرمج الذي عطل الفاعليات وضيَّق من مداها وحصرها في دائرة قاتلة للهوية نفسها، بحيث أصبح التفكير في الأنا الضيقة هو الأساس بدل الأنا الواسعة، لأن الأنا الممتدة ماتت أو اضمحلت، أو هي في طريقها إلى ذلك، في الدولة الوطنية l’Etat Nation، بشكل يكاد يكون قدريا ومن خلال التفكيك المتواتر للبنيات المتوارثة حتى تلك الحافظة للمجتمع، وفق منظورات تصنيع العالم القديم/الجديد. عالم الهيمنة الأحادية المطلقة. الأرضية لذلك كانت مهيأة منذ عشرات السنين، وربما منذ قرون. هوية مداسة ومقتولة، وغير معترف بها، أدرجت ضمن هوية الهيمنة الكلية، أو الغالبة، دون اعتراف بها. تعودنا أن نقول الجمهورية الإسلامية الموريتانية دون أن تُعطي أية قيمة للديانات الأخرى أو العبادات المختلفة، التي لها حضور تحت-أرضي في المجتمع. أو نقول الجمهورية العربية السورية ولا ننتبه أنه ليست سوريا كلها عربية (العنصر الكردي، الأرميني، الشركسي، التركي إلخ…) والأمثلة كثيرة في العالم العربي وفي غيره. لا نستفيد من المجتمعات الأخرى التي عانت بل ودمرت نفسها بنفسها بسبب هذه المعضلات الهوياتية. طبيعي أن تظهر الهويات الجديدة التي كانت صغيرة قبل فترة، رافضة لكل الأشكال السابقة، تبحث لها عما يجعلها تنفصل، في ظل مناخات دولية مناسبة لها تريد استغلالها حتى النهاية.

متى تصبح الهويات قتيلة إذن؟ بالضبط في الحالة التي ذكرتها. عندما تجد نفسها ضمن دائرة تضيق عليها باستمرار ولا يُعترف لها بأي حق: حق الظهور إلى العلن. الهوية العربية؟ الإسلامية؟ في أوروبا؟ داخل سلسلة من الصعوبات التي بدل تفكيكها، يتم اللجوء إلى الاختزالات، الكثيرة التي لا تساعد مطلقا على فهم الظاهرة. ما معنى أن تكون مسلما في أوروبا مثلا؟ أن تمارس طقسك الديني داخل دائرة تضيق باستمرار من الشكوك؟ ينشأ ذلك كله داخل سؤال كبير يعيدنا إلى البديهيات التي قفزنا فوقها بسهولة: هل هناك إسلام واحد في أوروبا؟ إسلام الصيني الفرنسي هو نفسه إسلام الهندي؟ الباكستاني، البنغالي، العربي والأمازيغي المغاربي؟ الإفريقي؟ الإسلام السني أم الشافعي أم المالكي أم الحنبلي؟ وكل “إسلام” نبت داخل معتقدات وأساطير وثقافات متأتية من بعيد ولها تأثيرات عميقة في المعتقد والوجدان التي لها وزن كبير على فهم الدين وفق المعتقدات التي لا يمكن الانفصال عنها. في وقت يبدو فيه الختان النسوي ضروريا دينيا “للتحكم في رغبات المرأة الجنونية” وهو معتقد أقدم من الإسلام، يبدو الأمر مسا من الجنون في “الإسلام المغاربي” مثلا. وحيث يبدو الزواج بأربع نساء محللا ومستحبا، بدون شروط ولا ضوابط، تمنع القوانين ذلك في أمكنة ثانية. كيف يمكن لهذه الهوية أن تجد كل تعبيراتها المعقدة في البلد الواحد، إذ لا يمكن مثلا بناء مسجد أو معبد في كل مكان حيث تكون المجموعة البشرية. أمر مثل هذ يحتاج إلى تفكير وتنظيم حقيقيين؟ الدولة العلمانية غير معنية بتشييد الأماكن الدينية سيقتصر ذلك على المجموعات القوية ماديا، الإسلام السني مثلا. يمكن للمسلمين بناء مساجد مفتوحة على بعضها سنية وشيعية ويترك لها تسيير شؤونها بإيجاد وسائط ممكنة. وإذا كانت المجموعة المتمركزة في مكان معين بكثافة وتملك المال الكافي، يمكنها أن تبني معبدها أو مسجدها وفق خطط مسبقة للدولة المنظِّمة. لا أعتقد أن أمرا مثل هذا سيضر بالبلاد التي يعيش فيها المواطن حياته ووفق معطيات البلاد الثقافية وقوانينها.

وهذا يقتضي تفهما كبيرا يصبح في المسجد غير مخيف، ويُنظر له كما ينظر إلى الكنيسة أو الكنيس اليهودي، أو المعبد البوذي. طبعا مازلنا بعيدين عن هذه الحالة الافتراضية، واستيعابها في تعددها يقتضي فهما آخر للدين غير ذاك الموجود اليوم الذي كثيرا ما يميل نحو الاختزال. هذا يتسبب في خوفين هوياتيين. الخوف من الاضمحلال والموت والاندثار، أو وضع الهوية نفسها مثار تساؤل الأسبقية لمن للهوية أم للمواطنة: هل أستطيع أن أكون فرنسيا أو أمريكيا أو بريطانيا أو برتغاليا أو إيطاليا أولا، ثم بعد ذلك تأتي الهوية الدينية مسلما مثلا. كيف يتحول الدين إلى حالة توازن تضمن الوطنية ولا تنفيها. وهل يمكن الفصل بين الدين والوطنية، السؤال الكبير الذي يطرحه اليوم من يعيش في فرنسا داخل شبكة من المسبقات: كيف أكون فرنسيا كاملا ولا أحاكم من خلال اسمي أو هويتي الدينية التي تتحول إلى بعبع مخيف يلغي الوطنية كليا ويحول الفرنسي المسلم إلى فرنسي مشكوك فيه؟ ويعيش طقسه الديني الجماعي في قبو تحت بناية قديمة، بجانب قبو آخر يعيش فيه مهربو المخدرات. التطرف الهوياتي ينشأ داخل تلك المغارات بدل مساجد محترمة ومكشوفة للعيان.

3-    الحِوَارُ الثَّقَافِي نعم… لكن

لسنا وحدنا في هذا العالم. لهذا الحوار ليس فقط مطلبا تاريخيا ولكنه حاجة ثقافية وفكرية وإنسانية للاستمرار داخل عالم حي وليس على هوامشه. واضح من العنوان أن فكرة الحوار تخفي أكثر مما تظهر. هناك عامل مهم كثيرا ما يغيب عنا. عندما نقول “حوار” نفترض أي هل يمكن للحوار أن يقوم في ظل منطق القوي والضعيف؟ قد يقول قائل ولِمَ لا كون الحوار حاجة بشرية عميقة، لا يوجد لها بديل إلاّ الغطرسة والحروب ومنطق الغاب، القوي يبيد الضعيف. لكن، ما معنى الحوار الثقافي في ظل عالم متوتر وغير متوازن، بني كل مشاريعه على القوة، في فترة الاستعمارات الكبرى والحروب الباردة المتكررة؟ الضعيف غير محسوب فيه إلا عندما يستعمل كل طاقاته الكامنة وذكاءه الطبيعي المرتبط بغريزة حب البقاء، فيشوش على القوي ويدفع إلى التفكير وبعض التنازل عن يقينيات القوة. وهل هو ضرورة إنسانية اليوم، في ظل التطرف الديني، الصراعات الهوياتية الكبيرة، التمزقات داخل البلد الواحد، والحروب المشتعلة هنا وهنا حيث يشكل العالم العربي اليوم وقودها الأساسي لدرجة أن أصبح هذا العالم تحت الأرض في مجمله منذ ما لا يقل عن عشرين سنة بلا توقف، والحروب الكونية النووية التي تنتظر لتجهز على ما تبقى من إنسانية الإنسان والعودة إلى البدائيات الأولى. اليوم، البشرية على حافة قطبين حيويين: إما حوار حي تجد فيه الثقافات مكانها الطبيعي، وإما حروب مدمرة لاسترداد حق في التعبير يتم اليوم محوه أو ابتذاله.

لكن للحوار شرطياته الأساسية التي لا يمكن أن يقوم بدونها، بل هي من أساسياته. الحوار الثقافي جيد ومطلوب عندما يتأسس على معادلة الاعتراف المتبادل. أي أن المحاوِر (بكسر الواو) والمحاوَر (بفتح الواو) يقعان في نفس السوية والمستوى حتى ولو كان أحدهما أكثر تطورا وتقدما من الآخر. الحقيقة الموضوعية شيء آخر، مرة. هناك تراتبية القوة. كل شيء يفرض على الضعيف وعليه أن يقبل به، وليس الحوار في النهاية أكثر من وسيط مشروع لتمرير خطاب الهيمنة. في العالم العربي، مركز اهتمامات القوى المهيمنة، كل شيء يفرض عليه مشفوعا برؤية مسبقة بما في ذلك محاورة الآخر من موقعي الأقوى والأضعف، لهذا يجد العرب أنفسهم وسط مساحة من الظلم الكبير، كلمتهم غير مسموعة، مطالبهم لا تهم أحدا على الرغم من مشروعيتها، داخل المبادرات بدون أن يكون لهم دور فيها ولو ثانوي. قد يكون الغرب بشكليه البشع والإنساني هو من يقوم بذلك. السؤال الكبير ليس هنا إذ يكاد يكون الأمر عاديا في ظل الهيمنة والغطرسة، ولكن في السؤال التالي: هل نستطيع على الأقل أن نقرأ أنفسنا في ظل هذه النقاشات؟ هل تهمنا هذه الأخيرة أصلا؟ الغريب أن بعض ردود الأفعال العربية قد تحولت إلى سجالات مفرغة في العمق، ولا تحكمها حتى إرادة الفعل. قبل شهور، كنت بصحبة أديب مغاربي يكتب باللغة الفرنسية، في ندوة بإحدى المدن الأوروبية، لا يهم اسمه بقدر ما يهم فعله. قال وهو ينتقد القصور العربي: العرب معطلون كليا. علينا أن ننتبه لمشكلات إنسانية كبيرة تعترض تطورنا: مشكلة أفغانستان، ومشكلة التيبت التي ليست بعيدة عنا، حقوق الإنسان في الصين، القنبلة النووية في إيران وتهديداتها للبلدان المحيطة بها، الإبادات الجماعية التي تدور رحاها في تلك البلدان؟ بشكل لاشعوري قلت متمما كلامه: ومشكلة الاستعمار الحديث الذي لبس قباعات جديدة، محنة الشعب الفلسطيني الذي يعاني محرقة جديدة أبطالها الذين غيروا التاريخ والجغرافيا والخرائط، ومزقوا الأمم، وأفقروا العقل العربي وذبحوا أرضه، ما يزالون بيننا إلى اليوم ويمكن محاكمتهم. من حق القانون الدولي أن يضع أي طاغية في مدار القانون، ولكن لنتفق أن القانون يسري على الجميع ولا يوجد من هو خارجه. ألم يتم تحطيم العراق بحجة تكشفت كذبتها؟ من يعيد للمليون عراقي الذين ابادهم الاحتلال الأمريكي، حياتهم؟ من يحاكم بوش الابن مثلا؟ كنت أظن أن صاحبي نسي سهوا هذه التفاصيل في عرض حديثه السريع؟ قال وهو يخرج عنقه أكثر بمزيد من اليقين: فلسطين، قضية أخرى أكثر تعقيدا؟ على الفلسطينيين أن يدركوا أن النار لا تخدمهم وعليهم أن يقبلوا بالموجود؟ قلت وأنا أحاول أن أكون متزنا: والبلدان التي ذكرتها أليست الوضعيات معقدة ويصعب الحكم عليها انطلاقا من الرؤية المستبدة للإعلام؟ قال: القضية الفلسطينية لا تحل إلا بحل إرهاب حماس وحواشيها؟ طيب، قلتُ: وإرهاب الدولة المبني على قناعات صهيونية توسعية يظلم فيها حتى اليهودي الطيب الذي لا يطلب أكثر من أن يعيش في أمان؟ التفت نحوي هذه المرة، ثم واصل حديثه وكأني لم أكن موجودا أبدا بجواره مفصلا في القنبلة النووية الإيرانية التي ستفتك بالجميع إذا لم تتحرك المنظومة الدولية لتوقيفها. لم أشأ هذه المرة أن أطرح مشكلة مفاعل ديمونة الذي أنتجت إسرائيل من خلاله، وبحماية كلية من سدنة القانون الدولي، مئات القنابل النووية التي تنتظر أي عربي يجرأ أن يرفع رأسه. هذه اليقينيات أعادتني إلى الأسئلة الثقافية القلقة التي تخترق المثقفين ولا يتفطنون أحيانا لمصدرها.

المشكل ليس في الرأي الخاص ولكن فيمن يتخفى وراءه؟ للنقاش مساحات مسبقة. من يحددها اليوم ومن يتحكم فيها؟ من يقودها وما هي استراتيجياته والخواتم التي يستهدفها؟ لا يوجد شيء بريء وربما كان على مثقف اليوم أن يتنبه قبل أن ينخرط في نقاشات ويقينيات هي في الجوهر ضده. مشكلات كثيرة تحتاج إلى الانتباه والحذر على الرغم من صدق نواتها وجوهرها: الديمقراطية؟ الإرهاب؟ الدين؟ الدولة؟ الصراع الدولي؟ حماية البيئة؟ المجتمع المدني؟ حقوق الإنسان؟ وغيرها؟ طبعا لا نرفض بشكل أعمى الخوص في هذه المسالك الصعبة، لأن هذه مشكلات حقيقية في بلداننا المتخلفة والتي منذ قرن على الأقل وهي تعيد إنتاج تخلفها. فهي تدور في حلقات توضع فيها بدون دراية ولا استعدادات حقيقية. تلبس الديمقراطية عند الحاجة، وتأبى أن تتخلى عن نظمها السلالية. تقبل بحقوق الإنسان وتدفن من تشاء في غياهب السجون والمعتقلات. أحيانا لا تسجن حتى لا يحسب ذلك عليها ولكنها تنظم المقتلات بنباهة عالية. تقبل بالعدالة شرط أن تطلق يدها ويد كارتيلاتها التي تربت في حماها وحضنها. تفعل اليوم ما فعلته بالإسلام قبل قرون، بعد أن أفرغته من محتواه الإنساني وحولته إلى آلة ضالة وبليدة للانصياع والقتل والإجرام، وبالاشتراكية التي اعتنقتها بسرعة قبل أن تكسرها ويستفرد مناضلوها؟ بأسواق البلاد والتجارة الخارجية. حتى الليبرالية لم تنج من عملية المسخ، فقد تحولت إلى مجرد غطاء عظيم للنهب والسرقة الموصوفة المغطاة بالقانون. هذه مجرد أمثلة عن الحالات التي تفرغ كل حوار من جوهره. تهمنا، طبعا، مساحات المحاورة على الأقل في أجزائها الحيوية. منظومتنا السلطوية في الدولة ناشئة ولهذا فهي تحمل كل سلبيات النشأة الطبيعية يضاف لها غياب الاستراتيجيات الفعلية. المحاورة في هذا الموضوع ليس هدفها فقط تبيان ازدواجية المكيال، ولكن أيضا الإقرار بضعف البنيات العربية ومؤسساتها السياسية والثقافية والاجتماعية. فهي غير قادرة على حماية مواطنيها وحدودها. السياسة كهاجس وكممارسة، كثيرا ما تكون مشتركة في الجريمة لأنها تبررها وتتستر عليها. وحده الأدب يخترق دائما، بجرأته المعهودة، الزيف الذي لا قوة تبرره إلا الهيمنة والسيطرة. هو الأقدر دوما وتاريخيا، على وضع كل شيء في الواجهة من خلال أدواته الفنية الخالدة، وفي متناول القراء. ماذا تقول رواياتنا العربية الحديثة سوى فضح آليات مجتمعات تختزل حق المواطن في التعبير عن رأيه وحقه في العيش كأي كائن على وجه هذه الأرض. قد تبدو الروايات مغالية في بعض انتقاداتها أو دون المشكل الذي تتطرق إليه، ولكنها في جوهرها تدافع كلها عن حق الإنسان في ألا يخسر إنسانيته في مجتمعات لا تجد أي حرج في تغيير قوانينها لتثبيت ما تريد ترسيخه. لا نستطيع اليوم أن نكتفي بالقول إن الغرب هو المتسبب في مآسينا الكثيرة، ولا يمكن أيضا أن نبرئه مما يحصل من انكسارات متكررة. نحتاج عربيا تحديدا، إلى فتح مساحات الحوارات التي تهمنا لنقول ما نفكر فيه دون ملاحقات محتملة. غير ذلك، ستظل قضايانا الكبرى، رهينة مساحات يحددها الآخرون وبالشكل الذي يشاؤونه. للعرب الحق في أن يكون لهم مكانهم الحقيقي في عالم تأسس على القوة والظلم.

4-    “الأدبية” قياس الجودة

لا يمكن أن نكتب الرواية في عصرنا خارج نظمها وقوانينها وإلا ستنتمي إلى نوع آخر وتخفق في قول سرديتها التي تميزها بحريتها وتذهب نحو سرود ليست لها يغلفها السياسي ويسيطر فيها الإيديولوجي على الكتابة الإبداعية. الهيمنة السياسية في النص السردية الروائية قاتلة. كثيرا ما نغرق فيما نظنه مسلمة وهو ليس كذلك. ويحتاج الأمر إلى سجالية أعمق تعيد تنضيد الأشياء التي مررنا عليها مرور الكرام من جديد، بحثا عن حقيقة ثقافية تظل غائبة. الرواية “أدب”، وليست شيئا آخر مهما تقاطعت مع ما ليس أدبا، وخارج جنسها. لا اختلاف في ذلك. بل هذا ما يجب الدفاع عنه من أجل تثبيت هوية الجنس الأدبي. لن تكون السياسة أدبا ولا علم الاجتماع، ولا علم النفس وإن تقاطعت هذا الأشكال مع الرواية في الكثير من مكوناتها. حتى الإيديولوجية لن تجد مكانها في الأدب إلا إذا لبست لباسه، وتماهت فيه حتى تصبح منه. هذا يعني ببساطة أنه لا أدب خارج نظام الأدب. المعيار الأوحد لقياس درجة الجودة والنجاح هو الأدبية La littérarité، فهي جوهر الفعل الأدبي. ماذا نقصد بالأدبية؟ المفهوم في غاية البساطة كما حدده رومان ياكوبسون في محاضرة 1919، قبل أن يتم تخصيصه والتنظير له “الأدبية هي كل ما يجعل من أثر محدد، نصا أدبيا” تصبح الأدبية بهذا المفهوم مقياسا للتفرقة بين ما هو أدبي وما ليس كذلك. الأمر الذي يحرر النص الأدبي، الرواية تحديدا، من يقين الإيديولوجية وجانبها التدميري الذي يحصر المنتج الفني في الخطاب الوثوقي. لا توجد حيادية في المطلق على الأقل، كل شيء يخضع لمنظومة سابقة عليه وتؤثر فيه بقوة، بل وتوجهه وتحدد تعريفاته. لأنه، ببساطة، لا يوجد في النظام الفكري والثقافي البشري ما ينشأ من الفراغ أو من العدم. النص هو ثمرة كتابة وجهد كبيرين، لهما تماس عميق بالذات الإبداعية الخاضعة لكل التحولات النفسية المعقدة، ولهما تماس أيضا بسياقات مجتمعية عامة، تتحكم فيه المؤسسات المحيطة به، أي أنّ النص الروائي لا ينشأ خارجها لكنه في الوقت نفسه لا يخضع لها. وهو ما عمل عليه الباحث الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu وأطلق عليه تسمية “الحقول الثقافية والأدبية” التي تفرض نفسها مسبقا، كشرطيات أساسية، على الفعل الثقافي أو المنجز الأدبي. السؤال الكبير في هذه الحالة، هو كيف يفلت الكاتب “الاستثنائي” أو “العبقري” من أسرها الثقيل؟ كيف يظل الكاتب داخل منجزه السياسي خارج شرطيات السياسة التي تحوله إلى مجرد خطاب عام يقول السياسة والتسطحات المختلفة، بعد أن تفرغه من عمقه الأدبي، أي هويته (أدبيته) التي لا وجود له خارجها. النص الأدبي في النهاية أكثر تعقيدا، أكبر من الحيادية الوهمية أو نقيضها، مما يقتضي بحثا عميقا ومسبقا في العناصر الصغيرة المشكلة للنص والتي تجعله يتفرد بهروبه من هذا “القدر” الإيديولوجي أو المجتمعي القاتل للإبداعية والأدبية الذي يعمل على مسخه بتحويله إلى رديف للسياسي والأيديولوجي. مما يشترط على الرواية أن تواجه سؤالا مركزيا مهما وحاسما: كيف تستطيع هذه الأخيرة، في النهاية، تحويل كل هذه التفاصيل الحياتية المعيشة المحيطة بها والمؤثرة عليها، إلى مادة أدبية؟ ببساطة، كيف تقول الرواية التاريخ والأيديولوجيا والمجتمع دون أن تخسر أدبيتها؟ وينتهي سؤال الحيادية إلى إعادة صياغة معطياته: هل استطاع النص الروائي أن يخرج من أسر العلاقة المجتمعية المباشرة التي تحول الإبداع بكل تعقيداته، إلى مجرد مادة اجتماعية هي ليست أكثر من صدى للمعيش. أي أنه لا وجود للقيمة سوى لتبرير المجتمع نفسه. الأدب آلة للقياس او أداة ليس أكثر. النص الروائي أكبر من هذا وذاك، هو إعادة صياغة لعالم مادي متحول إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عمليا في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص.

إن العبقرية الأدبية وفق البنيوي التوليدي لوسيان غولدمان، هي القوة الاستثنائية التبصرية التي تجعل من رؤية العالم لكاتب ما، وسيلة لتخطي المعطى التبسيطي للأدب، باتجاه ما هو أكثر أدبية وأصالة، أي العبقرية، حتى ولو تناقض ذلك مع قناعاته الشخصية والخاصة. القناعة الشخصية لا قيمة لها أمام المعطى الجمعي الذي تقوم العبقرية الفردية للكاتب بتحويله بعد أن تخزن في عمقه التجربة الاجتماعية التي تجعل من الفردية منجزا اجتماعيا غير مباشر. العبقرية ليست شيئا آخر سوى المحول الفعلي لكل الطاقات المخزنة نحو خدمة التمايز والخصوصية الأدبية. عمليا لنا أمثلة في التاريخ، عظمة بلزاك ليست فقط في كوميدياه العظيم. بلزاك مثلا أهان الطبقة الأرستقراطية التي كان ينتمي إليها حياتيا لحساب الطبقات الأكثر انكسارا وفقرا، فدافع كتابيا عمن كانوا في حاجة إلى صوته لرفع الظلم عنهم. لم يكن أدبه مجرد صدى لقناعاته الخاصة. ينطبق هذا أيضا على تولستوي الذي عاش في مجتمع القنانة والعبودية، ورفضه كليا، وأدان الوجاهة الإقطاعية والإدارية الكاذبة لطبقة كان ينتمي إليها، في أنا كارنين، منتصرا للحب حتى ولو تناقض ذلك مع الأخلاق المنقذة للإنسانية. الأدب العظيم هو الأدب الذي يتجاوز الثنائية واقع / ذات، باتجاه عنصر ثالث ينشأ من أعماق النص الفاعل والأدبي بامتياز: الأدبية التي تعني بنية النص نفسه من خلال مكوناته اللغوية والجمالية، ومرجعياته الفنية، أولا وأخيرا.

5-    الرّوايَة بوَصْفها مُنجَزا أدَبِيا وليْسَتْ تَاريِخًا

من هذا المنظور الفني والأدبي تصبح تيمة التاريخ جزئية مهمة في تحديد النوع ووظائفه. هل نكتب التاريخ أم نعيد كتابته عندما يتعلق الأمر بالرواية؟ المؤكد في المعادلة الصعبة أن الكاتب أمام إشكالية في غاية الحساسية لا يحسد عليها: أن يستند على المادة التاريخية ولا يقولها، وألا ينسى أنه أولا وأخيرا أديب وينجز نصا روائيا لا وجود لتفاصيله إلا بين دفتي كتاب. أي أن فعله لا ينتظم داخل الحقيقة، ولكن داخل فعل المتخيل الذي هو آلة الكتابة الإبداعية. الخلل المصاحب لهذا النوع من الكتابات هو أن الروائي كثيرا ما ينسى وظيفته الجوهرية ويغرق في التفاصيل التاريخية التي لا يدرك جوهريا نظامها وسيرورتها، لأنه بكل بساطة ليس مؤرخا ولا كاتب سير. هذا النوع من الممارسة يقلل من فاعلية النص الروائي المنجز إذا يضعه على حافة لا تدخل في تخصصه المعني أولا وأخيرا بالأدب. ليست فقط المسؤولية والنتائج المترتبة عن ذلك هي الصعبة ولكن أيضا النوع نفسه إذ يوضع في حالة إحراج ويفقد تعريفه الخلاسي الواقع بين التاريخ والمتخيل. الروائي عندما يختار التاريخ، عليه أن يدخل عالما معقدا، يقرأه في حركيته وتناقضاته، وملابساته المركبة التي نقف أحيانا أمامها بكم من الأسئلة يدفع بنا إلى التوقف زمنا طويلا، وربما نهائيا، إذا كثيرا ما تقتل المشاريع لأنها تصطدم بالحقيقة الموضوعية أو التاريخية التي نرفض تكرارها وتصر علينا بقوة. إعادة إنتاجها بنفس المواصفات يفقد النص الروائي الإيقاع الذي يفترضه أي نص درامي وتاريخي يستهدف قارئا بعينه أولى خاصياته الصبر والفضول الأدبيين. الصبر والفضول ههنا، مثل الداء المعدي. ينتقلان من الكاتب إلى القارئ وإلا فلا جدوى من الكتابة. الفعل الروائي التاريخي يأخذ من صاحبه زمنا طويلا، ولا يُعرف في النهاية مآل النص من ناحية المقروئية التي استقرت على حالة من الوفاق الاجتماعي والسهولة الكبيرين. من مِنَ القراء يبذل اليوم جهدا ضافيا ولو من باب الفضول القرائي، لمعرفة تفاصيل حادثة تاريخية ما، أدرجها الكاتب في نصه؟ من يذهب بعيدا في فهمه انطلاقا من حادثة هامشية مررها المؤرخون ووقف عندها الكاتب طويلا لاستكشاف حقائقها العميقة؟ بل اكتشاف لعبتي الأدب والتاريخ في الآن نفسه وكيف يتبادلان مواقع الحقيقة والمتخيل؟ لا أعتقدهم كثيرون. السبب بسيط.

القارئ اليوم ليس مهيكلا في سياق الفضول ولكن يدور ضمن حلقة الجاهز والتلقي السهل؟ من أين يأتي الفضول إذا لم يكن موجودا أصلا كحاسة سابعة؟ لا ينبع الفضول مطلقا من الفراغ ولكن من تكوين مسبق يحوله إلى وسيلة عظيمة لإغناء التكوين الذاتي. الرواية بهذا المعنى ليست أدبا بحتا ولكن أفقا معرفيا حقيقيا ومفتوحا على كل الإنجازات البشرية. الكاتب، الروائي تحديدا، شاهد حقيقي على لحظات البياض والصمت التي أهملتها عن قصدية مسبقة، المؤسسة التاريخية. لا يخاف من فقدان المكاسب الخاصة والإمبراطوريات المالية الضخمة. لا يملك إلا ضميره الحي وحيوية غير مرئية يحسده عليها العلماء والمؤرخون. من هنا فالعودة إلى التاريخ هي عودة أيضا إلى نظام الحكي. التاريخ في جوهره غير بعيد أبدا عن الكتابة القصصية الدرامية. بل الكثير منه لا يمكن فصله عن الحكاية مما يسهل مهمة التعامل معه نسبيا من الناحية الدرامية والبنائية. كثيرا ما يظن التاريخ أنه تاريخ صرف ولكنه في النهاية لا يغادر الحكائية، أي الاندفان في عمق ذاتية لا تعمل إلا على تقريبه من فرضية انطلق منها أكثر مما تقربه من حقيقة موضوعية يتوخيانها؟ ما الفرق بين التاريخ والحكاية في نص: ملفات الرايخ الثالث، الذي كتبه المؤرخ المختص جاك روبيشو حول صعود النازية وأفولها، ماذا بقي للتاريخ أمام سحر الحكاية؟ من هنا، للتاريخ، على الرغم من صرامته، مساحة مشتركة مع الرواية، تجعل الحدود الفاصلة بين الرواية والتاريخ مغيمة قليلا وتمنح الروائي فرصة كبيرة للتعامل مع التاريخ كيفما كان، بدون الخوف من المزالق الممكنة. الرواية بهذا المعنى تكتب نفسها أي أنها تكتب تاريخها الموازي الذي يعيد تركيب الحقائق وبناءها لا وفق ما تشتهي المؤسسة التاريخية الضاغطة، ولكن وفق مؤسسة أخرى تنتمي لها الرواية بامتياز: مؤسسة المتخيل العظيمة وسلطانها الاستثنائي: طاحونة الحياة، التاريخ، الحقائق، العصر، اليومي، وإفضاءات الذات في لحظات التأزم.

هذه السلسلة من الموضوعات الروائية المركزية تجعلنا ندرك بسهولة المهمة الثقيلة الملقاة على الرواية التي علينا ليس فقط تحملها، ولكن أيضا إدراجها ضمن انشغالاتنا الثقافية والفكرية المتعلقة بالممارسة الروائية بوصفها جهدا يجعل من الكتابة مسؤولية تاريخية أمام زمن شديد القسوة، يتحرك بسرعة جهنمية. نكتب عن حاراتنا، عن قصصنا الصغيرة والكبيرة، نكتب عن تاريخنا العربي الصعب، عن هزائمنا وانتصاراتنا حتى ولو كان جزء منها وهمي، لكن ذلك كله يندرج، أو يجب أن يكون كذلك، ضمن زمن وعصر نحن، في العالم العربي، جزء منه، لسنا خارج مداراته.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: فی العالم العربی على الرغم من إدوارد سعید فی النهایة هذا العالم فی أوروبا على الأقل التی کانت التی تجعل التی کان سلسلة من لکن أیضا ماذا بقی حتى ولو یمکن أن یعیش فی لا یوجد التی لا أن یکون من خلال فی عالم الذی لا أکثر من لا وجود لا یمکن من هنا ما کان من هذا لم یکن دون أن فی عمق فی هذا کل شیء بعد أن الذی ی قبل أن فی ذلک ما بعد

إقرأ أيضاً:

د. عبيديات يكتب .. مناهجنا: بين نارين!!

#مناهجنا: بين #نارين!!
بقلم: د. #ذوقان_عبيدات

من الإيجابيات المبدأية، هذا النقاش حول #التعليم ومناهجه، فالتعليم أداة المجتمع قبل أن يكون أداة الدولة. فالمدرسة مؤسسة أنشأها المجتمع لتشكيل أبنائه! ومن عاش فترة الخمسينيات من القرن الماضي، يدرك أنّ القرية الأردنية هي التي كانت تقدم البناء المدرسي، وهي التي كانت تدفع أجرة المعلم. ومن هنا، فإننا لا نستغرب هذا الحراك المجتمعي، وهذا السيل من آلاف الصفحات: تنقيبًا وتنبيشًا وبحبشة في الكتب لالتقاط همسة، أو إشارة، أو حتى إيحاءٍ باتجاه ما قد يسيء إلى ما يراه بعضنا لثقافة المجتمع وقيمه ورموزه.

(١)

مؤتمر #المناهج

مقالات ذات صلة جدعون ليفي : الاشخاص الذين عينهم ترامب تجار دماء و هم اسوأ اعداء اسرائيل 2024/11/16

تم عقد مؤتمر حزبي السبت١١/٩
ونشر آلاف الصفحات التي تناولت:
-ما ليس موجودًا في كتبنا!
-ما تمّ حذفه من كتبنا.
-تلميح بأن ذلك مخطط مفروض.

طبعًا؛ الكل يعرف أن هذا صوت مسموع جدّا، التقطه الكثيرون
لبناء رأي عام مؤيد وضاغط على
المركز الوطني للمناهج، والذي أراه محاصرًا بطوفان السهام، بل الألغام. وبعدها سيقود النواب حملة المناهج، مدعومين بالرأي العام، ليكون”صراعًا” بين الحكومة وممثلي الشعب والمجتمع! وبذا سيتحول الموقف من نقاش تربوي إلى “صراع سياسي” قد لا ينعكس إطلاقًا على تطوير المناهج!

(٢)

ما المطلوب؟
لقد قام طرف بواجبه خير قيام!
بحث، ونشر، وأعلن، وبالتأكيد نجح في حشد الجمهور وراء دراسته، بينما بقي الطرف الثاني، في موقف دفاعي خجول، قاده شخص متميز، له صفة فنية، وبرأيي:
الموقف ليس فنيّا ليكون ردّنا فنيّا ، ومواجهة جمهور لا يحب سماع أي صوت سوى الصوت الاتهامي، الذي يرى مناهجنا خاضعة لإملاءات خارجية!!
ما علاقة الفني بالسياسي؟
“المعركة” سياسية لا يمكن خوضها فنيًا، لمواجهة حملة سياسية عاصفة!
إذًا خاضت الحكومة معركتها بأسلحة لا علاقة لها بالموقف، وكما يقال: فني واحد أمام جمهور
محتشد وممتلىء بأقوال الخصم!
فالموقف ليس فصاحة لنقول كلا:
لم نحذف أمام المدّ المؤمن بأن الحذف قد تمّ!
أنا شخصيا مقتنع بأن المعركة ليست معركة حذفتم!

(٣)

أين جمهور الدولة؟
يقول المركز الوطني للمناهج، إن
كل كتاب تتم مناقشته من ست وستين باحثًا ومفكرّا وسياسيّا!
فإذا كان لدينا ما يفوق ثلاثمائة كتاب، فإن ذلك يعني أن جمهور
المركز الوطني للمناهج يمتلك نخبة من السياسيين من أعضاء في المجالس وبعض المؤلفين والمراجعين!خاض المركز معركته بأحد الفنيين، وربما أنتج بعض “الريلات “. ولكن لم يتحرك
قيادي واحد، أو سياسي واحد لمؤازرة سياسة الدولة في المناهج! لم تتحرك أحزاب الدولة إطلاقًا! لم يتحرك أي نائب ممن يسهل حشدهم للدفاع عن فلسفة الدولة، وتربية الدولة، وسياسات الدولة! لم تتحرك أحزاب صرفت عليها الدولة جهدًا ورعايةً ودلالًا ومالًا
ولم تتحرك أحزاب الرفاق الحداثية! لم يتحرك الكتاب والتنويريون.
وهكذا بقينا بين نارين:
نار الاتهام، ونار الاختباء!
وحسبك من نارين أحلاهما مرُّ
قال وزير الإعلام: المسؤول السابق الذي لا يدافع عن”بلده”
ليس رجل دولة!
وأنا أقول: المسؤول السابق والمسؤول الحالي الذي لا يتصدى للدفاع عن “سياسات التعليم” ليس بِ…..

فهمت عليّ جنابك؟!

مقالات مشابهة

  • غزة بين أفران الطين ورفوف الكتب.. قصة الروائي محمد عساف
  • مؤمن الجندي يكتب: صلاح والحمار
  • د.حماد عبدالله يكتب: " مطبلاتية " حول المسئول !!
  • عرض فيلم" العام الجديد الذي لم يأت أبدًا" في مهرجان القاهرة 45.. اليوم
  • اليوم.. عرض فيلم "العام الجديد الذي لم يأت أبدا" بمهرجان القاهرة
  • د.حماد عبدالله يكتب: القاهرة "المختنقة" !!
  •  أشرف غريب يكتب: «عاش هنا» ذاكرة البشر والأثر
  • اليوم.. عرض فيلم "العام الجديد الذي لم يأت أبدا" ضمن المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة
  • لايف يوتيوب.. بث مباشر مشاهدة مباراة العربي والشمال يلا شوت اليوم في كأس نجوم قطر
  • د. عبيديات يكتب .. مناهجنا: بين نارين!!