تدريس الفلسفة.. وترسيخ القيَم
تاريخ النشر: 19th, October 2023 GMT
إيهاب الملاح
1- لعل من أهم وأجلِّ فوائد الفلسفة منذ انتبه الإنسان إلى ذاته، وإلى قدرته على التفكر والتأمل والسؤال، اكتشاف قيمَتين أساسيتين أصبحتا من أهم سمات التفلسف أو التفكير الفلسفي بالجملة، وهما ما يمكن أن نطلق عليه في تكونه الأخير «النزعة الإنسانية»، و«العقل النقدي» الذي ينتصر للقيمة عبر فحص نموذجها النظري.
وعند فحص وقراءة تاريخنا الحديث والقريب سنجد أن نجيب محفوظ (1911-2006)، وهو أحد أكبر المبدعين الذين عرفتهم الثقافة العربية، وعرفهم الأدب العربي منذ مطالع النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، قد درس الفلسفة في الجامعة المصرية، وتخرج في قسم الفلسفة عام 1934. صحيح أنه كان ينطوي على مواهب أدبية فطرية عظيمة، وصحيح أيضاً أنه كان لديه إخلاص شبه صوفي للكتابة ونزوع أدبي منذ النشأة، ولكنه في المقابل كان ذا مزاج فلسفي تأملي عميق مثَّل الأساس المكين أو البطانة الكثيفة التي شكلت أفكاره وتصوراته وتأملاته حول الوجود والمجتمع والإنسان، وتجسد ذلك كله في إبداعه الروائي والقصصي الذي خوله في النهاية التتويج بأرفع جوائز الأدب العالمية واحتلال القمة الأدبية التي تربع عليها بلا منافس.
- 2 - ومن يراجع مسارات تاريخ الفلسفة وتدريسها في الثقافة العربية فلن يجدها تسير في مسار خطي تطوري منتظم، بل سيجد منعرجات والتفافات ومراجعات وتحديات جمة في القبول بها تارة والاعتراف بتدريسها في بنية النظم التعليمية العربية خلال القرن العشرين، أو العكس تارة أخرى.
ذلك أن قضية تدريس الفلسفة في العالم العربي (وخاصة في بعض دول الخليج، وبعض دول المغرب العربي) هي في الحقيقة مسألة متشعبة المشارب ومتعددة المناحي إذ يمكن عدَّها، بحسب عديد من الخبراء والمختصين، من أصعب العقبات التي تواجه تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي والجامعي، فالواقع التعليمي للفلسفة يكشف عن عوائق عديدة تحول دون تحقيق الأهداف المرجوة من ورائها، وتظهر الفلسفة العربية وكأنها منعزلة عن المشروع الفلسفي العالمي.
وبالتأكيد فتدريس الفلسفة في العالم العربي، منذ بدايات العصر الحديث، يتفاوت تفاوتاً كبيراً وبيّناً في مدى قبوله، وأشكال التدريس والمناهج والموضوعات والقضايا والاشتباك الفكري والثقافي بين أعباء الماضي وتحديات الحاضر ومتطلبات المستقبل.
إن أية محاولة لتشخيص واقع تدريس الفلسفة في العالم العربي، لن تجد صعوبة في رصد بعض المشكلات والأزمات منها ما يمكن أن نصفه بالأزمة بمعناها المعرفي، وهي أزمة يسعى المعنيون والمختصون للتفكير فيها من منطلق الاهتمام اللازم والضروري بدرس الفلسفة وتدريسها وقضاياها، وذلك بالاستعانة بمصادر حاولت أن تبتكر طرقاً مبدعة لتدريس الفلسفة، من منطلق أن المهمة الرئيسة للفلسفة ليست الاكتفاء بفهم أفكار الفلاسفة ونصوصهم، وإنما هي بالأحرى أسلوب للحياة، ومدخل للعيش المشترك، فضلاً عن كونها مقاومة عقلية منهجية لواحدية الرأي والانفراد به، وتدعيم التعددية والتنوع والاختلاف، واحترام القيم الثقافية لجميع الشعوب والمجتمعات، وكذلك الخصوصيات والهويات الثقافية دون الانغلاق على الذات والالتفاف حولها، ودون الوقوع في شرك الانغلاق أو التماهي الممسوخ على السواء.
وتدريس الفلسفة يختلف من دولة إلى أخرى، إذ إنها مادة إجبارية في دول، واختيارية في دول غيرها، وربما مرفوضة في دول أخرى، ثم إن طبيعة الامتحان فيها تتراوح بين الامتحانات الكتابية أو الشفوية، مثلما أن هناك أيضاً اختلافاً في عدد الساعات المخصصة لتدريسها.
وعلى رغم هذا الاختلاف، فإن هناك إجماعاً على أن الفلسفة مدخل للتربية على قيم المواطنة والحقوق والواجبات، والتفكير النقدي، من خلال تسليطها الضوء على قضايا وجودية ومعرفية وأخلاقية وقيمية.. إلخ.
- 3 - وقد أدركت بعض الدول العربية أهمية تدريس الفلسفة، وفي مقدمتها الإمارات، حيث كانت الأكثر إدراكاً ووعياً بقيمة الفلسفة وضرورتها في تقدم الأمم، القيمة العظمى للفلسفة وضرورتها وارتباطها بتكوين الفكر وتحفيز الإبداع وتربية الملَكات التي تقود في النهاية إلى قبول قيم التفكير النقدي، وقبول الآخر والتسامح والنزعة الإنسانية. كما أدركت أن الفلسفة مدخل للتربية على قيم المواطنة، والتفكير المستقبلي، من خلال تسليطها الضوء على قضايا وجودية ومعرفية وأخلاقية، وهذا ما جعل منظمة اليونسكو، على سبيل المثال، تضع الفلسفة في صميم اهتمامها وصلب عنايتها، من خلال دعم تدريسها، وتشجيع الباحثين فيها، بل وتخصيص يوم عالمي للاحتفاء بها.
وهذه المنظومة المتكاملة من القيم المعرفية والمبادئ والتصورات المستنيرة تبنتها دولة الإمارات منذ تأسيسها على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. وفي سعيها، منذ تأسيسها لترسيخ هذه القيم في مجتمعها ومؤسساتها الناهضة ومشروعاتها التنموية المبهرة، سارت في طريق النهوض المعرفي الذي اتبعته الخبرات البشرية والإنسانية عبر تاريخها المديد، من خلال الأخذ بأسباب التطور والتقدم والتمدن كافة.
وفي هذا المقام تحضر المقولة الخالدة لأحد أعلام بواكير عصر النهضة العربية الحديثة، الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر حين قال: «إن بلادنا لابد أن تتغيرَ أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها». وهذا ما طبقته الإمارات عملياً منذ أولت التعليم والثقافة وتوطين المعرفة والعلوم المتقدمة كل اهتمامها، حيث صارت رافعة من روافع المشروع النهضوي. ومن هنا توسعت في إنشاء الجامعات والشراكات مع مؤسسات التعليم المتقدم والمعرفة الكبرى في العالم كله.
- 4 - ومن هنا أيضاً كانت الثمرة المرجوة لذلك كله، ومنها إدخال الفلسفة في مناهج التعليم في مراحل الدراسة قبل الجامعية فضلاً على الدراسة الجامعية، وحتى مرحلة الدراسات العليا، وهو ما سيكون له مردود إيجابي وكبير على مسيرة التقدم والانفتاح المعرفي والإنساني على خبرات البشرية كلها.
وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم في الإمارات في يوليو من عام 2020 أن «الفلسفة ستنضم إلى حزمة المواد الدراسية بداية من العام الدراسي 2020/ 2021، وقد سبق هذا الإعلان تنظيم برنامج للمعلمين يتصل بتمكينهم من تدريس الفلسفة»، وقالت الوزارة: «إن تدريس الفلسفة حدث ثقافي فكري يُعبّر عن تحوّل في الرؤية الاستراتيجية الرسمية لاستكمال بناء المواطن الإماراتي، المستقل في تفكيره والمتوازن في شخصيته».
- 5 - وبذلك، وبحسب ما كتب الشاعر يوسف أبولوز في مقالٍ تعليقاً على هذا الحدث المعرفي الكبير، تكون الإمارات سبّاقة في تدريس الفلسفة في مناهجها التعليمية، وعلى أية حال فهي ليست المرة الأولى التي تعرف فيها المؤسسات التعليمية الإماراتية مادة أو ثقافة الفلسفة، فقبل سنوات كانت الفلسفة مقرّرة في مساقات جامعية في الإمارات. أما على مستوى ثقافي نخبوي أو لنقل متخصص، فإن العشرات من كُتّاب الرواية والشعر والقصة القصيرة في الإمارات تشرّبوا الفلسفة، وتشبّعوا بها من خلال قراءات مكثفة للفلسفات المعاصرة بشكلٍ خاص، لا بل إن كثيراً من النصوص الأدبية الشعرية تحديداً تقوم على رؤى فلسفية أساسها سؤال الحياة والوجود والحب والمعرفة والإنسان بكل تفاعله الخلاق مع قضايا جوهرية مثل الحاضر والماضي والمستقبل، والتراث، والحداثة، والمعرفة، والعقل، والمنطق، والجمال.
إن هذا الموضوع يستدعي اهتماماً كبيراً ومزيداً من القراءات والمعالجات لدعمه أولاً، وتأصيله ثانياً، والتأكد من سبل غرسه عميقاً في بنية النظام التعليمي الإماراتي (والعربي عموماً)، وبحث سبل ربط تدريس الفلسفة بقضايا العصر وتحديات الحاضر واستشراف المستقبل، ومحاولة الإجابة عن أسئلة عديدة متصلة بهذا الموضوع منها على سبيل المثال حضور المواد الفلسفية في الجامعات، ومدى التطور في الإتاحة والإعداد والتأهيل للقائمين على تدريسها ودرسها وتهيئة السبل أمام طلابها لمزيد من المعرفة والتخصص
والارتقاء، وإجراءات توطين الفكر الفلسفي والنقدي والمعرفي في بيئات التعليم والعمل.. وغيرها من مجالات الثقافة والحياة.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الفلسفة الثقافة فی العالم من خلال
إقرأ أيضاً:
القصة وما فيها
القصة وما فيها
١. ما كان يُسمى بقوات الدعم السريع قوات تمردت على الدولة وأشعلت حربا شاملة على الشعب السوداني انتهكت فيه منه كل شيء (الارواح والاموال والممتلكات الخاصة والعامة والأعراض..الخ). وكانت تفتخر أنها بحربها كانت تسيطر بالفعل على أغلب ولاية الخرطوم وكامل ولايات الجزيرة وسنار وأجزاء من ولايات نهرالنيل وكردفان ودارفور.. ذلك بقوة صلبة مدربة قوامها عشرات الآلاف من الجنود والآلاف من سيارات الدفع الرباعي وآلاف الأطنان من العتاد الحربي.. كل ذلك كان يتوزع منذ قبيل الحرب في أكثر الأماكن استراتيجية وحساسية داخل وخارج العاصمة الخرطوم حيث كانت بالفعل قبيل الحرب متواجدة ومحتلة لأغلب المراكز الإستراتيجية على مختلف رقعة الوطن.
٢. انتهت هذه المغامرة بفضل الله تعالى أولا.. وبوقفة الشعب السوداني القوية وصمود جنود القوات المسلحة والقوات المساندة لها إلى حقائق مجردة وأرقام لا تكذب.. تتمثل في التدمير الكبير والحاسم للقوة البشرية الصلبة لنخبة هذه المليشيا المتمردة، والتدمير الكبير والحاسم لإمكاناتها من سيارات الدفع الرباعي والعتاد الحربي، ونصر عسكري حاسم وطرد من كامل ولايات الجزيرة وسنار ونهر النيل وأجزاء واسعة من ولايات الخرطوم وكردفان ودارفور والنيل الابيض.
٣. المهزلة والملهاة المسرحية التي شهدناها في نيروبي من (حشر) لعملاء الدويلة من بعض ملاقيط السياسيين والناشطين والعطالى من نشطاء الميديا وغيرهم من حثالة المجتمع لمحاولة نفخ الروح في المليشيا المنهزمة ما هي بالمناسبة إلا إعلان صريح بهزيمة الخطة (ب) والتي كانت تهدف إلى السيطرة على السلطة في البلاد عن طريق القوة بعد ما فشلت الخطة (أ) التي كانت تهدف للسيطرة على السلطة عبر فرض ميثاق سياسي بدفع من ذات الراعي الإقليمي والدولي وتحالف داخلي بين المليشيا والحثالة من المدنيين. الآن جاء الدور للبحث عن خطة (ج) عبر محاولة تقسيم البلاد. هذه الخطة ستفشل بأكثر مما فشلت فيه سابقاتها وذلك لأسباب موضوعية جدا لا علاقة لها بالأماني والرغبات.
٤. فالمليشيا التي فشلت في خططها السابقة كان أقوى من ناحية القوة المادية والبشرية والقيادات مما هي عليه الآن بما يقارب العشرين مرة. وظهيرها المدني المزعوم الحالي هو حثالة من حثالة وصل مرحلة من الوهن والضعف أضعاف ما كان عليه وقت التحالف لتنفيذ سابق الخطط. والشعب السوداني الآن أكثر توحدا واكثر وعيا بالتحدي أضعاف ما كان عليه قبل عامين وقبل أربعة أعوام. والواقع الإقليمي والدولي الحالي أقل احتمالا من حيث العزم والجد في دعم مخططات المليشيا المتهالكة وظهيرها الخارجي بكثير مما كان عليه في السابق.
٥. ملهاة اعتزام تشكيل حكومة ظهيرة للدعم السريع لن تغير من واقع الحال شيئا. فالحقيقة التي ينبغي ان تكون واضحة كالشمس.. والتي حسم السودانيون أمرهم فيها بما نراه كل يوم من تفاعلات أحداث الداخل هي أن كل قطعة ارض تتواجد فيها المليشيا هي قطعة محتلة من مليشيا متمردة يجب كنسهم منها بالقوة. وأي حكومة مزعومة تتواجد في اي منطقة تحت حماية جنود هذه المليشيا لن تكون شيئا أكثر جدية أو عبطا سياسيا أو جلبا للسخرية من حكومة المدعو صديق في أرض الجزيرة او المدعو (الفريق بقال سراج) في الخرطوم. بل لن تكون أكثر من حكومة الحلو في كاودا. كلها يجب ان تلقى نفس مصير حكومات صديق وبقال. وستكون الجنينة ونيالا وكاودا هدفا للتحرير وكنس الحثالة منها تماما كما تم كنسهم من سنار والجزيرة والخرطوم ونهر النيل وشمال كردفان..
ذلك لن يكون إلا كذلك وإن تأخر أعواما وأعواما. ولن يكون مصير الحثالة إلا ما يليق بهم من مصير.
Mohammed Abdulrahim
إنضم لقناة النيلين على واتساب