الفاهم محمد
يعتبر زغمونت باومان (Zygmunt Bauman) 1917-1925 أحد ألمع علماء الاجتماع والفلاسفة المعاصرين. فهذا المفكر استطاع وصف وفهم العديد من التغيرات الاجتماعية والقيمية، التي تميز عالمنا المعاصر. وإليه يعود الفضل في تأطير هذه التغيرات، ضمن مفهوم يرتبط خصيصاً باسمه، هو «السيولة» The Liquid والمقصود بها التفكك والذوبان، الذي يطال معظم الأنظمة الفكرية والاجتماعية التي عرفناها سابقاً، والتي ربما أصبحنا نتذكرها اليوم بنوع من الحنين الرومانسي، نظراً لكوننا لم نعد قادرين، أحياناً، على الثقة في المستقبل.

وباومان مفكر بولوني من أصول يهودية، وقد هاجر خلال صغره إلى الاتحاد السوفييتي هرباً من الاضطهاد النازي، ثم انضم بعد ذلك خلال شبابه إلى الجيش البولندي، كما شارك في عملية تحرير برلين خلال الحرب العالمية الثانية. وأصبح فيما بعد متخصصاً في الدراسات الاجتماعية، حيث قدم دروساً في السوسيولوجيا في جامعة وارسو. وبعد طرده من الحزب الشيوعي، سافر بداية إلى تل أبيب لتدريس الفلسفة وعلم الاجتماع، قبل أن يستقر به المقام في بريطانيا كأستاذ في جامعة ليدز.
كتب وأعمال
ألف زيغمونت باومان العديد من الكتب نذكر منها: الحداثة السائلة 2000، والحداثة والهولوكوست 2002، والحب السائل 2003، والحياة السائلة 2006، والخوف السائل 2006، والمراقبة السائلة 2013، والشر السائل.. العيش مع اللابديل... وعن طريق هذه الأعمال تمكن باومان من تجاوز علم الاجتماع التقليدي، ووصف حالة عدم الأمان واللايقين التي قد تحول بيننا وبين التحكم والتنبؤ بسلوك المجتمع، كما هو الأمر عند أوجست كومت ودوركهايم.
وقد فاز باومان بعدة جوائز عالمية أبرزها جائزة أمالفي الأوروبية سنة 1992، ثم جائزة تيودور أدورنو سنة 1998، وجائزة أمير استورياس مناصفة مع الفرنسي ألان تورين سنة 2010.
من الحداثة الصلبة إلى الناعمة
لا يمكن أن نفهم المقصود بحالة السيولة التي نعيشها اليوم في رأي باومان، إلا من خلال مقارنتها بمرحلة الحداثة الظافرة، التي تأسست ما بين القرنين 16 و18. فقد قدمت هذه الحداثة نفسها باعتبارها مشروعاً حضارياً كبيراً، يغطي جميع المجالات الفكرية والعلمية والاجتماعية. مبنية على أسس ومبادئ متينة، بحيث تمنح للإنسان كامل الثقة في التحكم في حاضره ومستقبله.
غير أن هذا الزخم الذي عاشته الحداثة الكلاسيكية، باعتبارها تمثل حالة الكمال للوضع البشري سرعان ما سيتحطم على أرض الواقع خلال بداية القرن 19. وبومان يصف المرحلة الجديدة بالحداثة السائلة بدل مفهوم ما بعد الحداثة الشائع، حيث يجعل من هذا المفهوم، أي السيولة، إطاراً لفهم الواقع المتغير الذي نعيشه. إنها مرحلة على العكس من سابقتها، تمثل حالة من الحيرة والتيه واللايقين، إذ كل شيء يتغير من حولنا باستمرار إلى درجة أضحى معها: «التغيير هو الثبات الوحيد» (الحداثة السائلة - ص 27). 
البصيرة الكلية
لقد ذابت وتفككت، في رأي باومان، كل النظم الصلبة، فلا السياسة قادرة على التحكم في قراراتها، حيث تم إفراغها في بعض الحالات من مضمونها السياسي الحقيقي، كي تتحول إلى مجرد جهاز إداري. ولا المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية تتمكن بدورها من الحفاظ على استقرار الحياة وتوازنها. كما غاب التخطيط الاستراتيجي للمستقبل، كي يحل محله نوع من الأفعال المحدودة في الزمان، والتي قد تفتقد إلى البصيرة الكلية لما يتجه إليه المجتمع. بل إن باومان يذهب إلى حد اعتبار أن الهولوكوست الذي وقع إبان فترة النازية كان نتيجة طبيعية لسيرورة الحداثة، وللبحث عن الحلول النهائية، كشكل من أشكال عمل البيروقراطية. وقد تنبأ باومان بإمكانية تكرار الابادة الجماعية للبشر وهو ما تحقق بالفعل في العديد من مناطق العالم ما دام أن هذا الفعل الإجرامي لم يكن استثناء، بل صدر عن أناس ينتمون لمؤسسات سياسية واجتماعية معروفة.

أخبار ذات صلة تدريس الفلسفة.. وترسيخ القيَم الشعر بين الفلسفة والأسطورة!

العولمة المتوحشة
في نظر زيجمونت باومان ساعدت ظاهرة العولمة التي نعيشها حالياً على المزيد من استفحال هذا الوضع. فالمجتمع المفتوح الذي نظّر له كارل بوبر تجاوز كل التوقعات. إن كل سعادة أو شقاء يعيشه أناس في أقصى بقاع الأرض، يمكن أن نطلع عليه عبر القنوات الفضائية، أو عبر الوسائط الاجتماعية. وهذا معناه أننا أصبحنا نعيش حالة من التأثير والتأثر المتبادل فـ«ما من سعادة في مكان ما، بريئة من شقاء في مكان آخر» (الأزمنة السائلة - ص 30). 
وهكذا عندما نتحدث عن العولمة فنحن نتحدث عن زوال الحدود، وتقلص حدود السيادة الوطنية أحياناً، وانتشار العنف والإرهاب، والتعصب الديني، والتجارة في الأسلحة، وتعزيز التبعية، حيث قد يصبح المجتمع في نهاية المطاف، في مواجهة قوى غامضة غير قادر على مواجهتها أو التحكم فيها. وباختصار يطلب منا باومان ضرورة تجاوز هذه العولمة السلبية، عبر العمل على ترشيدها، ومواجهة هذا الإضعاف الذي تمارسه قوة الرأسمال، في تفكيك وحل جميع الروابط الاجتماعية.
نتائج فريدة
وكما هو الوضع الذي نعيشه نوعي وخاص، فإن النتائج المترتبة عليه تظل أيضاً فريدة وغير مسبوقة كذلك. لقد وصلنا إلى وضع بشري مدهش ومستفز للفكر. فالعالم الذي نعيش فيه يتغير بشكل سريع، بحيث لا نستطيع لا اللحاق به، ولا امتلاك القدرة على فهم متغيراته. إن ميزة السيولة تشمل جميع مظاهر الحياة. إذ لا شيء يمكن الحفاظ عليه باعتباره مبدأ ثابتاً، بما في ذلك هويتنا وأخلاقنا ومشاعرنا. ويؤكد باومان أننا اليوم نعيش تحت ضغط هائل لسلطة التغيير والانحلال الكلي، وهذا ما ينعكس حتماً على وعينا وهويتنا الشخصية، وإنه بسبب هذا التغيير نعيش حالة من: «عدم الاكتمال غير القابل للشفاء لمهمة تعريف الذات مما يسبب الكثير من التوتر والقلق، وليس ثمة علاج لذلك النوع من القلق» (الأخلاق في عصر الحداثة - ص 31).
أزمة الهوية
لقد كانت لأزمةِ الهوية الشخصية هذه انعكاسات خطيرة على المشاعر الإنسانية. ففي عالم أضحى كل شيء فيه عابراً وآيلاً للزوال، حيث فقَدَ الحب بدوره أحياناً ديمومته كتجربة إنسانية عميقة، لم يعد الإنسان المعاصر مستعداً للدخول في هكذا مشاعر، ذلك أن الحب يخفي وراءه الكثير من الفضائل الأخلاقية، مثل الإخلاص والاستمرارية والتضحية، في حين قد لا يملك الإنسان اليوم في الغرب أياً من هذه الفضائل، ولذلك فهو قد يفضل التجارب العابرة، واغتنام الفرص المتاحة الآن وهنا، من دون تحمل أي مسؤولية أو تبعات.
ويسمي زيغمونت باومان الشخص الذي يعيش مثل هذا الانجراف وراء العلاقات المتقلبة والعابرة بـ«الإنسان بلا روابط»، أي ذلك الإنسان الذي يدخل في علاقة، دون أن يكون مرتبطاً بها في الآن ذاته. يقول باومان: «إذا أردت الاستمتاع بالحياة المشتركة، فلا تقطع على نفسك عهداً ولا تطلبه، بل اجعل الأبواب كافة مفتوحة على الدوام» (الحب السائل - ص 30).
عالم التوجس
يرى باومان أن الإنسان أصبح يعيش في قلق دائم، ذلك القلق والتوجس الذي اعتقدت الحداثة الصلبة، أنها تمكنت من القضاء عليه عن طريق التقدم العلمي والحضاري. وعلى العكس من ذلك تماماً فعالمنا هو عالم التوجس والقلق والأرق، فنحن نكاد نعيش في حالة دائمة لترقب وقوع حدث غامض ومخيف!
وباختصار لا يسع المرء إلا أن يثني على زيغمونت باومان، الذي أنجز تشخيصاً دقيقاً لبعض اختلالات الحاضر، من دون أن يدفعنا للسقوط في الحنين إلى الماضي، أو كما يحمل عنوان أحد كتبه «الريتروتوبيا»، إذ ظل دائماً يؤكد أن مثل هذا الانكفاء الحنيني للماضي قد تكون له هو أيضاً بدوره نتائج كارثية.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الثقافة الملحق الثقافي

إقرأ أيضاً:

البيئة تعقد اجتماعا لمتابعة تنفيذ أول محطة لتحويل المخلفات البلدية الصلبة إلى طاقة كهربائية

فى إطار توجيهات الدكتورة ياسمين فؤاد وزير البيئة ببذل كافة الجهود لتهيئة المناخ لتشجيع الاستثمار البيئي وإشراك القطاع الخاص في كافة المجالات البيئية، ومنها المشروعات الخاصة بالإدارة المتكاملة للمخلفات .

تعديلات هدنة غزة تعيد الأمل للتفاوض

  وفى هذا الصدد استقبل الاستاذ ياسر عبد الله، مساعد الوزيرة لشئون المخلفات والرئيس التنفيذى لجهاز تنظيم إدارة المخلفات ،  السيد على الظاهرى رئيس مجلس إدارة شركة " تدوير الإماراتية " وهى إحدى شركات ( ADQ  ) القابضة الإماراتية ، والسيد روبرت فالك رئيس مجلس إدارة شركة "جرين تك إيجيبت"   والسيد اسلام رمضان المدير التنفيذي للشركة ، وذلك بهدف متابعة آخر المستجدات الخاصة بتنفيذ مشروع إقامة أول محطة بمصر لمعالجة المخلفات البلدية الصلبة وتحويلهـا إلى طاقة كهربائية، بابو رواش بالجيزة من خلال تحالف "رينيرجي جروب بارتنرز" المكون من (الإنتاج الحربي، وشركة جرين تك إيجيبت، وشركة أوك القابضة).

وخلال الاجتماع استعرض السيد روبرت فالك، مستجدات الموقف التنفيذي لإجراءات تنفيذ مشروع محطة تحويل المخلفات إلى طاقة كهربائية بأبو رواش، مشيدا بالتنسيق المستمر بين مختلف الجهات المعنية لتنفيذ هذا المشروع الذي سيكون له  مردود إيجابي كبير على البيئة والاقتصاد القومي المصري،  وأعرب عن تقديره لجهود كافة الشركاء القائمين على تنفيذ المشروع.

واوضح ياسر عبدالله ان  الاجتماع يأتى استكمالا لسلسلة الجهود المبذولة لدمج القطاع الخاص وتعزيز دوره في منظومة إدارة المخلفات ، حيث ناقش الاجتماع أيضا امكانية مشاركة شركة "تدوير الاماراتية"  أبوظبى، فى الدخول للاستثمار فى مصر فى كافة انواع المخلفات سواء مخلفات بلدية او هدم وبناء او مخلفات طبية او مخلفات زراعية.

الجدير بالذكر أن شركة "تدوير الاماراتية" هى المستثمر المالى والجهه الممولة والشريك الاستراتيجى لمشروع تحويل المخلفات الى طاقة كهربائية بأبو رواش بالجيزة، والذي كان قد تم توقيع العقد الخاص بتنفيذه بين محافظة الجيزة وتحالف الهيئة القومية للإنتاج الحربي وشركة Renergy Group Partners.

وعلى جانب اخر وفى إطار توجيهات  الدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة البيئة بأهمية تهيئة المناخ الداعم لتطبيق نظام المسئولية الممتدة للمنتج ،  عقد الاستاذ ياسر عبد الله احتماعا، مع الدكتور حسام علام المدير الإقليمي لبرنامج النمو المستدام بمركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا (سيدارى) لمناقشة أدوات وآليات تطبيق نظام المسئولية الممتدة للمنتج EPR ، فيما يخص المخلفات الالكترونية والتأكيد على أدوار ومسئوليات المنتجين والمستوردين والمسئولية المالية للآثار البيئية السلبية لمنتجاتهم أو بقايا منتجاتهم، و مرحلة ما بعد الاستهلاك والمتضمنه عمليات الجمع والتدوير والتخلص النهائي من المنتج وفقا لقانون المخلفات رقم 202 لسنة 2020.

كما تم مناقشة مقترح تنفيذ برنامج تدريبى للعاملين بجهاز تنظيم إدارة المخلفات ، ووزارة الصناعة والجامعات ،  والقطاع الخاص ، بهدف اعداد كوادر متخصصين فى تقييم وضع المصانع و الشركات العاملة فى مجال المخلفات الالكترونية.

مقالات مشابهة

  • حالة إنسداد!!
  • أسهم أوروبا تتراجع وسط استمرار الغموض حول الانتخابات الفرنسية
  • اكتشاف جديد.. تكنولوجيا البلازما البيئية لتحويل النفايات الصلبة إلى طاقة نظيفة
  • بعد 12 عاما بدون انتخابات.. قانون المجالس المحلية على طاولة الوزيرة الجديدة
  • شيخ الأزهر: القرآن نقل الأمة من حالة الضعف والبساطة إلى العالميَّةِ
  • البيئة تعقد اجتماعا لمتابعة تنفيذ أول محطة لتحويل المخلفات البلدية الصلبة إلى طاقة كهربائية
  • حكومة نبض وإغاثة.. والرئيس يراقب
  • تحذير من ارتفاع نسب انبعاثات الكربون في غزة جراء القصف والانفجارات
  • باحث سياسي: إسرائيل في حالة فوضى تزداد بمرور الوقت
  • دراسة: إطعام الرضع بالملعقة يمكن أن يكون سيئًا لنموهم!