مع تصاعد الأحداث الأخيرة في قطاع غزة تداولت التساؤلات حول موقف الأقباط من الأحداث الأخيرة، وحول موقفهم من القضية الفلسطينية بصفة عامة، وهل حدث تغير في موقف الأقباط بين الماضي والحاضر؟ وما موقف الكنيسة القبطية من القضية قبل وبعد رحيل البابا شنودة الثالث؟

وقبل الإجابة على تلك التساؤلات علينا أولاً أن ندرك أن الأقباط ليسوا خليطاً متجانس سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فمنهم الإشتراكي الذي يرفع شعار المقاومة ضد أي تمدد إمبريالي توسعي ويدعم المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها قلباً وقالباً، ومنهم أيضاً الليبرالي الذي يتبنى التوجهات الشخصية في الحكم على الأحداث، وكذلك منهم أنصار التيار القومي الذي يؤيد الموقف الرسمي للدولة المصرية بدون نقاش.

وفي كل ذلك لم يغب الأقباط بمختلف شرائحهم ولم تغب كنيستهم عن دعم القضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني في كفاحه المشروع لتحرير أرضه، ولكن مما لا شك فيه فهناك تغير نسبي في اتجاهاتهم نحو القضية تختلف بتغير الوقت وباختلاف الأحداث وتبدل أبطالها وصناعها، فموقف الأقباط من الأحداث وقت قيادة الراحل ياسر عرفات للمقاومة يختلف بالطبع عن موقفهم إزاء تصدر حركة حماس للمشهد، فضلاً عن التباين الشديد في موقف الشعوب العربية بصفة عامة والشعب المصري على وجه الخصوص ومن بينهم الأقباط، تجاه القضية الفلسطينية قبل وبعد الإنقسام الفلسطيني بعد صعود حركة حماس للمشهد وإعلانها الإنفصال عن السلطة الفلسطينية وتصعيد نفسها حاكماً مطلقاً لقطاع غزة.

ولعل الفارق قياسي بين علاقة الأقباط بأبو عمار الزعيم ياسر عرفات الذي كان يكن كل الحب والتقدير للأقباط، وربطته علاقة قوية وممتدة بقداسة البابا الراحل شنودة الثالث وكان يزوره في كل مرة خلال وجوده في القاهرة، وكذلك علاقته بالمسيحيين في فلسطين القائمة على حفظ حقوق المواطنة الكاملة والحرص على مشاركتهم أعيادهم الدينية، وإلى أي حد كان يقوم بجمع كل شرائح الشعب الفلسطيني بمختلف طوائفه وتوحيد قلوبهم على هدفهم الرئيسي لتحرير الأرض، الأمر الذي لم يوحد فقط الشرائح الفلسطينية على هذا الهدف بل وحد أيضاً الشرائح الاجتماعية بمختلف الدول العربية على نفس الهدف.

وعلى النقيض تماماً تصدرت حركة حماس المشهد بعد وفاة الزعيم ياسر عرفات وبات لها اليد العليا داخل أجنحة المقاومة، ولا يخفى على أحد التقارب الشديد بين حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها امتداد للجماعة داخل العمق الفلسطيني، كما لا يغفل العداء الأيديولوجي بين الجماعة والأقباط منذ نشأتها داخل مصر قبل منتصف القرن الماضي، وفي نفس السياق حملت حركة حماس نفس الإرث الثقافي المعادي للتعددية الدينية، حتى ان الإتهامات قد وجهت لها من كل صوب إزاء الأحداث الأرهابية التي وجهت ضد الأقباط داخل مصر وخصوصاً بعد ثورة 30 يونيو 2013.

وبغض النظر عن صحة الإتهامات أو كفاية الأدلة التي تتهم الحركة بضلوعها في أحداث عنف ضد الأقباط، فيبقى تبعيتها لجماعة الأخوان وتقاربها مع حكم الملالي في إيران كافياً لعدم تعاطف كل الشرائح القبطية مع منهجها في المقاومة، رغم اتفاق الأغلبية منهم على الدعم غير المشروط للقضية الفلسطينية وتضامنهم الكامل مع الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال وخصوصاً في الضفة الغربية.

وفي نفس السياق جاءت مظاهر تديين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من الجانبين وحصره وتصديره باعتباره صراع يهودي إسلامي، من أهم العوامل التي صرفت إهتمام المسيحيين العرب ومن بينهم الأقباط عنه أو على أقل تقدير أدى إلى تثبيط عزيمتهم في التفاعل مع الأحداث، فقد قامت إسرائيل في بادئ الأمر بتحويل الصراع من الصراع على الأرض إلى صراع ديني، وانقاد لهم تيار من العرب فتحولت القضية تدريجياً من قضية إنسانية لشعب يسعى لإسترداد أرضه المنهوبة، لتنطلق من منظور ديني ويتحول الصراع إلى صراع ديني أولاً وإستعادة السيطرة الدينية على الأرض.

ومع أسلمة القضية الفلسطينية بالكامل تبددت معها المشتركات الإنسانية داخل الوجدان العربي المسيحي والإسلامي لتتحول الى قضية فئة دون الأخرى، فخرج النسبة الأكبر من المسيحيون العرب وفي وسطهم الأقباط من المشهد لشعورهم بفقدان الدافع لكونهم ليسوا طرفاً أصيلاً في القضية، ومن تبقى منهم وسط الصراع تبدد وتلاشى خطابه المنطلق من أرضية إنسانية وسط الصخب الإسلامي بقيادة تيارات الإسلام السياسي وخصوصاً داخل الأراضي الفلسطينية نفسها، لتخسر القضية الفلسطينية أصوات ظلت لسنوات طويلة تحاول استنصار ضمير العالم الحر لدعمها ونصرة شعبها.

ولا شك أن للرئاسات الدينية دورها في توجيه إهتمامات الأقباط تجاه القضايا والأحداث بل ولها دور في تحديد اتجاهاتها وتحويل مساراتها، ورغم التحول في موقف الأقباط وكنيستهم تبعاً لمسارات الأحداث وصانعوها، لم يتغير موقفهم الرافض للوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، فكان البابا كيرلس السادس أول من رفض زيارة القدس بعد فرض الإحتلال الإسرائيلي عليها عقب نكسة 1967 ومحاولات تهويد معالمها، وقد كان التيار الاشتراكي متمدد داخل مصر خلال الفترة الناصرية، وكان المثقفين الأقباط جزء من مشروع الحركة الإشتراكية الرافضة للوجود الإسرائيلي آنذاك، وبالطبع كان العداء بين مصر وإسرائيل معلن وصريح وكان الشعب بكل مكوناته جزء من هذا العداء، وبالتبعية كانت القضية الفلسطينية إمتداد لموقف المصريين جميعاً ومن بينهم الأقباط تجاه التواجد الإسرائيلي في المنطقة.

ولا يختلف أحداً على موقف البابا شنودة الثالث الداعم للقضية الفلسطينية حتى أنه لم يرفض زيارة القدس تحت الإحتلال فقط، بل منع الأقباط من زيارتها بقرار من المجمع المقدس عام 1980 وحرم من يخرج على القرار من ممارسة بعض الطقوس الكنسية، ثم جاء الشقاق بينه وبين الرئيس السادات بسبب موقف البابا الرافض لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، لتضع الكنيسة والأقباط في مواجهة مباشرة مع السادات وحكومته.

وللبابا شنودة مواقف عديدة تكشف عن دعم الكنيسة القبطية للقضية الفلسطينية رغم إجراءات التطبيع التي تقوم بها الدولة المصرية مع إسرائيل، فقد ذهب البابا أبعد مما يتوقعه أحداً من رئاسة دينية فلم يكتفي بالبيانات والشجب والاستنكار كما كان يفعل كل الحكام العرب، بل اتخذ قرارات استجاب لها ملايين الأقباط في الداخل والخارج لدعم الشعب الفلسطيني، وعندما قامت إسرائيل بفرض الحصار على الزعيم ياسر عرفات في رام الله، عقد البابا مؤتمراً بالكاتدرائية في ابريل 2002 حضره ألاف من الأقباط والشخصيات السياسية، ونقلته مئات الصحف والقنوات التليفزيونية المحلية والدولية، وحضره شيخ الأزهر الإمام محمد سيد طنطاوي، وتحدث فيه عشرة أفراد من السفراء والسياسيين، وأثناء إنعقاد المؤتمر إتصل الزعيم ياسر عرفات من مقره برام الله وألقى كلمة للحاضرين.

ورغم إنكسار موقف الكنيسة تجاه زيارة القدس من حيث رفع العقوبة الكنسية على الزائرين بعد صعود البابا تواضروس للكرسي المرقسي، إلا أن البابا جدد تأكيده على التزام الكنيسة بمنع زيارة الأقباط للقدس المحتلة باعتبارها مجرد زيارة روحية وليست طقساً كنسياً، كما تجدد الكنيسة موقفها الداعم للشعب الفلسطيني في كل مرة يتعرض لانتهاكات جديدة من الجانب الإسرائيلي من خلال بيانات رسمية.

ومع ذلك فهناك فارق كبير بين البابا تواضروس وسلفه من حيث النشاط السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، وقد يعود الأمر للفارق بين شخصية البابا شنودة الذي انخرط في العمل العام السياسي والصحفي قبل الرهبنة، وبين البابا الجديد خريج كلية الصيدلة الذي يعتمد على موقف الدولة الرسمي في تحديد مواقفه السياسية، لإيمانه بضرورة ابتعاد المؤسسات الدينية عن العمل السياسي وامتناعها عن تعبئة الشعب وتوجيهه لاتخاذ مواقف سياسية دون الأخرى.

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: البابا شنودة الثالث التحول التفاعل الجماعة السلطة الفلسطينية الشعب الفلسطيني الشعب المصرى الصراع الشعوب العربية القضیة الفلسطینیة الشعب الفلسطینی الأقباط من حرکة حماس

إقرأ أيضاً:

الرئيس السيسي: حل القضية الفلسطينية بإقامة دولتهم دون تهجير الشعب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية،  إنه على الرغم من الأحداث المتلاحقة، التي يمر بها العالم ومنطقتنا، والمخاطر والتهديدات التي خلفت واقعا مضطربا، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ومساعي مصر الدائمة، لتقديم رؤى من أجل تحقيق الأمن والسلم للمنطقة، كفاعـل رئيسي في هـذه القضـية، والتي أوضحت فيها مصر منذ بدايتها، موقفا ثابتا راسخا، بأنه لا حل لهذه القضية، إلا من خلال العمل على تحقيق العدل، وإقامة الدولة الفلسطينية، وعدم القبول بتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، تحت أي مسمي.

وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، قد شهد، اليوم الثلاثاء، الندوة التثقيفية الحادية والأربعين، والتي أقامتها القوات المسلحة بمناسبة الاحتفال بيوم الشهيد والمحارب القديم تحت عنوان "شعب أصيل"، وذلك بمركز المنارة الدولي للمؤتمرات بالقاهرة الجديدة، وذلك بحضور كبار رجال الدولة وقادة القوات المسلحة والشرطة، بالإضافة إلى أهالي وأسر شهداء القوات المسلحة والشرطة.

كما شهدت الندوة عرض عدد من الفقرات والأفلام التسجيلية التي تجسد بطولات القوات المسلحة، وقام الرئيس بتكريم عدد من أسر الشهداء ومصابي العمليات الحربية.

مقالات مشابهة

  • مصر القومي: كلمة الرئيس بالندوة التثقيفية أكدت ثبات موقف الدولة تجاه القضية الفلسطينية
  • برلماني: مصر وضعت الخطوط الحمراء من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية
  • برلماني: كلمة الرئيس بالندوة التثقيفية أكدت ثبات موقف مصر تجاه القضية الفلسطينية
  • استئناف إدخال المساعدات ضرورة| وخبير: يجب إعادة القضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية باستمرار
  • الرئيس السيسي: حل القضية الفلسطينية بإقامة دولتهم دون تهجير الشعب
  • برلماني: اعتماد خطة إعمار غزة خطوة جادة لحل القضية الفلسطينية
  • برلماني: خطوات مصرية جديدة لحلحلة القضية الفلسطينية ورفض التهجير
  • محمد فراج: القمة العربية شهدت مخرجات مهمة لصالح القضية الفلسطينية
  • الدراما الرمضانية والقضية الفلسطينية المنسية
  • يوسف زيدان : شايل هم القضية الفلسطينية .. فيديو