«الحقيقة خطيرة. إنها تطيح بالقصور وتقتل الملوك. وتحثّ الرجال اللطفاء ليغضبوا وتدفعهم لحمل السلاح، إنها توقظ المظالم القديمة وتفتح الجروح المنسية. إنها أُمٌّ لليلِ الأرق ونهارات التّعب. ومع ذلك هناك شيء أكثر خطورةً من الحقيقة؛ إنهم أولئك المستعدون لكتم صوت الحقيقة، أولئك أكثر تدميرا إلى حد بعيد. من الخطر للغاية أن يكون المرء مناصرًا للحقيقة.
في عصر الظلمات السابق، كان الجهل والفقر والمرض والحروب العشوائية في كل بقاع الأرض ويمكن معرفة الظالم من المظلوم ببساطة ووضوح لا لبس فيهما؛ أما عصر الظلمات الحالي فأشد ضراوة وشراسة. لم يعد الظالم والدكتاتور والمجرم كما تصوِّره الأفلام بوحشيته وفجاجته، بل صار شخصا مهندما ووسيما يعتلي منابر التعليم والبرلمانات وكرسي الرئاسة في الوقت الذي يقتل ويظلم ويسرق مصوِّرا نفسه على أنه الضحية لا القاتل! تهدر المؤسسات الثقافية بالحديث عن الحرية والديمقراطية التي يتمتع بها الغرب، وفي المقابل تُحشد الدعاية الإعلامية للمستبدين؛ كي يبينوا مثالب ما يهدد كراسيهم؛ ويحصل الشطط الناتج من هذين الفعلين في كونهما يُحاكمان النتيجة لا الأصل والسبب. فليس العيب في الديمقراطية أن يصل إلى رأس السياسة رجل مجنون، وليس العيب في الديمقراطية أن تصادر الحريات؛ إنما العيب فينا نحن بصمتنا عن تبيان الحقيقة وتحمُّل تبعاتها. فمصيبة الإنسان الذي لا يرى الجذع في عينه، ويتتبع القذى في عيون الآخرين، إنه يتمرّغ في البحث عما يؤيد حجته ويقوّي مسلكه في تبرير ما يرتكبه بعد ذلك.
تعود للمرء تساؤلاته التي تخرج للعلن كلما نبش الجراح شيء، وتظل خبيئة صدره ما لم يحركها محرك، بل وينسى وجودها رأسا وهو يخوض معترك الحياة، هكذا نتعامل مع فلسطين كعرب، في حين أن الطرف الآخر المناصر للمحتل، يحشد كل أسلحته لتبييض موقفه وموقف العدو، ونزع الإنسانية عن الشعب الرازح تحت رسن الاحتلال، وليتها تلك الأسلحة التي تقتل الأبدان فحسب، وتنتهي بانتهاء الذخيرة؛ بل هي ثقافية إعلامية تربوية موجَّهة. فيظل تأثيرها متعاقبا على مدى أجيال ويصعب تغييرها، حتى وإن شاهد المرء الحقيقة عَيانا، فسيظل متمسكا بما ترسخ في ذهنه على مدى أجيال وأصبح -في عقيدته- حقيقةً لا تقبل الشك.
هل نحن مذنبون؟ بينما يحشد الغرب وسائل إعلامه لغسل أدمغة المشاهدين، تظل فضائياتنا وأقلامنا ساكنة لا تتحرك أمام هذا التسونامي الكاذب والمكرر للعدو، حتى أصبح القاتل مقتولا، والضحية جلّادا بفعل البراعة والتكرار الكاذبَين.
«إن الحقيقة مهمة بما يكفي بحيث تستحق التكرار» كما يقول طبيب النفس الكندي جوردان بيترسون، ومن السخرية والتفاهة بمكان أن صاحب هذه المقولة الرائعة واقع تحت وَهْم الدعاية الصهيونية، بل كشَّر عما يكنُّه صدره أو العقل الباطن بعبارة علم النفس الذي هو من علمائه والعاملين في حقله؛ فهو صاحب التغريدة «امنحهم الجحيم» في ردّه على تغريدة لرأس الاحتلال الصهيوني نتانياهو. الحقيقة مهمة، والكلمة مهمة، وهما لا يقلان تأثيرا وأهمية عن السلاح الذي يحمله المظلومون الرازحون تحت الاحتلال؛ فالدعاية الصهيونية الحاشدة التي يمارسها الغرب على العالم بمن فيهم اليهود -الصهيونية لا علاقة لها باليهودية- لأكاذيب الأرض التي بلا شعب، والصحراء القاحلة التي أزهرت بالصهاينة المستوطنين وغيرها من الأكاذيب الفجة، تستدعي أن يكون لها نظير ومقابل من كل غيور على مبادئه الدينية والإنسانية. فالعدالة مبدأ إنساني متى ما غاب، ذابت إنسانية مدنّسها وأصبح خطرا على المجتمع والعالم.
يعتقد كثير من الناس أن الفرد الغربي مدرك لحقيقة ما يحدث في فلسطين، ولكن الحقيقة أنهم مغسولو الأدمغة، مغيبون عن الواقع تماما. فما إن تسقط قنبلة على مستشفى مثلما حدث مساء الثلاثاء، حتى تحتشد البروباغاندا الصهيونية في إلصاق التُّهمة بالمقاومة الفلسطينية بأنها مَن قصفت مستشفاها وقتلت أهلها بيدها، فينساق الغربي البسيط لتجريم الفلسطيني -الإرهابي كما يسميه إعلامهم- وشيطنته، وينصر المستوطن المحتل -المسكين- الذي لا يهنأ له بال في أرضه! في مشهد كوميدي يبعث على البكاء والشفقة من هذه الحقيقة المعكوسة.
إن تبرير المجرم إجرامه يثير اشمئزازا حادا، ولكن التبرير للمجرم الثابت الجرم من طرف آخر مدرك لهوية الضحية والجلاد يثير اشمئزازا أعظم أثرا. نجحت الدعاية الصهيونية في شيطنة الفلسطينيين ثم المسلمين ثم العرب ككل، رغم أن العرب متعددو الأديان! ومن الغرابة بمكان أن يردد هذه الدعاية أبناء جلدتنا ويبررون للمحتل احتلاله وإجرامه ووحشيته.
يجب أن ندرك أن خطر الدعاية الصهيونية يتعدى حدود فلسطين وينذرنا بمصائب على الباب، فمَن يبرر احتلال دولة بعيدة عن بيته لا يؤمَن شره على وطنه. ومن يقول بأن الحل في إعطاء المحتل شطرا من الأرض التي احتلها كي لا يحتلها كلها، كمن يقول: إن على الضحية أن تسلّم سكين ذبحها إلى الجزّار كي لا يطعنها في أماكن عدة ويكتفي بأن تمر الشفرة مرة واحدة على جسده! أما الحجاج اللفظي الذي يبرر به قائلو حل التقسيم فلا يقلّ سذاجة وخطرا على الفرد والمجتمع ككل؛ فأنْ يحاجج شخص يجلس في بيته المكيَّف الدافئ بأن على المقاوم أن لا يدافع عن نفسه وأرضه وعرضه، كمن يطلب من الغريق أن لا يمد يده ولا يقاوم الموج بل يغرق بهدوء وصمت. إن خطر هذه الفكرة يستدعي أن تحلل وتعالج من الجذور، فمَن يقبل أن يأخذ المحتل أرضا مجاورة، لا يُؤمَن أن يعاون المحتل نفسه على احتلال وطنه غدا طمعا في المكاسب الذاتية.
أتذكر مقطعا شاهدته مصادفة لأستاذ جامعي ينهر طالبا ويأمره بالانصراف من القاعة -رغم أن الطالب لم يرتكب أي ذنب- إلا أنه خرج من القاعة ولم ينبس بقية الطلاب ببنت شفة. ليلتفت الأستاذ إلى تلاميذه مخاطبا إياهم بأن من يسكت عن الظلم اليوم، سيأتي عليه يوم لن يسانده أحد حينما يتعرّض للظلم هو نفسه، وأنه كان ينبغي منهم أن يوقفوا الظلم الحاصل بحق زميلهم من قبله، في تطبيق عملي على معنى العدل والظلم. يشعر المرء بالحزن والحسرة وهو يشاهد هذا الصمت المطبق أمام الوحشية الهمجية المسعورة في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، يشعر المرء بالحسرة وهو يرى الأبرياء يُقتَلون هدرا بلا ذنب بينما يتراقص الآخرون على وقع المحاججات اللفظية والسياسية الفارغة، يشعر المرء بالغضب والخوف في آن؛ فالعدو الذي كان يوما في القفار البعيدة، قد يصبح يوما على سور الحديقة والمنزل والغرفة غدا، فهل ينفع حينها البكاء على ما كان إصلاحه ممكنا؟ أم أننا سنستدعي الأمثال ونقول «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: منكرو السنة يسعون في الحقيقة لهدم الدين
عقد جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56،اليوم الجمعة، ندوة بعنوان "القرآنيون.. لماذا أنكروا السنة؟"، شارك فيها الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف، الدكتور محمد عبد الدايم الجندي، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، وأدارها الإذاعي القدير سعد المطعني.
وقال الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، إن الندوات الحوارية الأزهرية "سنة حميدة" سنها فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي يعد أكبر المعارض في العالم العربي والإسلامي، مؤكدًا أن مصر لها القيادة والريادة في العلوم بأزهرها وعلومها وشيوخها وتراثها.
وأوضح عضو "كبار العلماء"، أن إنكار السنة بدأ بطرق ومراحل مختلفة منذ عصر الخوارج، وهم من نسميهم «النابتة»، مبينا أنهم لم ينكروا السنة بالكيفية التي ينكرها بها القرآنيون الآن، حيث إنهم مع إنكارهم للسنة تمسكوا بالإجماع وتشددوا في الدين، ثم بعد ذلك تم القضاء على الخوارج سنة ٨٢ ه، وظللنا لا نسمع عنهم حتى القرن الرابع الهجري، حين ظهرت نابتة منهم في المغرب وقُضي عليها، ثم خرجت منهم بوادر أخرى في القرن الثالث عشر الهجري، لكنهم أيضا لم يكونوا على حد أولئك الموجودين الآن.
وأضاف جمعة أن القرآنيين يمكن تقسيمهم من ناحية إنكارهم للسنة إلى طائفتين، «طائفة مع إنكارها لم تخرج عن الإسلام»، وذلك لعدم إنكارهم للإجماع، و«طائفة أخرى خرجت عن الإسلام»، لأنهم أنكروا السنة بالإضافة إلى جميع المصادر، موضحًا أن إنكار السنة بدأ في العصر الحديث منذ الاحتكاك بالاحتلال الانجليزي في الهند.
وبيّن الدكتور علي جمعة، أن من أبرز أسباب إنكار السنة، هي الصدام عند عدم التهيؤ، وعدم القدرة على الرد على الشبهات، والخلل العقلي والنفسي، والهوى، والجهل بصحيح الدين وبما فعله المسلمون الأوائل للحفاظ على السنة النبوية المشرفة، مؤكدًا أن هؤلاء المنكرون هم في الحقيقة يريدون هدم الدين وليس إنكار السنة، لكنهم لو صرحوا بذلك سرعان ما يفشلون فشلاً تامًا، مشددًا على أنه من الواجب علينا أن ندرب أبناءنا على التوثيق ونمكنهم من اللغة ونربيهم على الأخلاق حتى نستطيع تحصينهم من الانسياق خلف تلك الدعاوي الهدامة.
وخلال مشاركته بالندوة، وجه الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف رسالة طمأنينة للشباب حول العالم، بأن الأزهر الشريف هو الحارس الأمين للسنة النبوية المطهرة ويقف بالمرصاد لمن يحاولون هدم صحيح الدين الإسلامي، مؤكدًا أن رسالة الأزهر الشريف تقوم على الاهتمام بكتاب الله وسنة رسوله الكريم دون تفريط أو إقصاء، ويفد إلى الأزهر الآلاف لينهلوا من علم الأزهر ورسالته التي تخدم الشريعة الإسلامية؛ وهناك علماء بالأزهر الشريف يدَّرسون علمه النافع في أروقة الأزهر وكلياته النظرية والعلمية، ويوثقون العلم وينقلونه من جيل إلى جيل ليحصنوا علومه الأصيلة من عبث العابثين وإنكار المنكرين، وهناك استنباط وتحصين مستمر للأحكام الشرعية وعلوم القرآن في كليات الشريعة والقانون، بهدف نشر الوعي التام بكتاب الله تعالى وهدى النبي الكريم.
وأكد أن الأزهر الشريف سيظل منبعًا للعلم والعطاء يحمي السنة ويدافع عنها ويحصن عقول الأمة من الانحرافات الفكرية وعبث المنكرين.
من جانبه أكد الدكتور محمد الجندي، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، أن القرآنيون تركوا السنة واخترعوا إطروحات مضللة ومزيفة تحاول إسقاط دور السنة في الحياة والإنسانية كلها، مطالبًا بضرورة حماية الشباب من المخاطر الفكرية من خلال تعزيز الوعي وتوطيد الصلة بين العلم والتلقي الصحيح وصحة السند، موضحًا أن الأزهر الشريف يُحصّن الشباب فكريًا من خلال تقديم علم وسطي نافع بأسانيد صحيحة، ويركز على ضرورة تحصين عقولهم ضد الغزو الفكري باستخدام برامج فكرية تحميهم من التلوث الفكري، كما شدد أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، على أهمية التعليم والتدبر في حماية الوعي من الفيروسات الفكرية في عصر التكنولوجيا، مؤكدًا أن القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هما المصدران الرئيسيان للعلم والتوجيه، ولا يجب إنكار أحدهما.
وأضاف الجندي أن القرآن الكريم لا يحتوي على أي تفريط، وجاء مؤكدًا على أهمية السنة النبوية وعدم إنكارها، لأن إنكار السنة يعني إنكار القرآن، واتباع السنة هو اتباع للقرآن الكريم وأحكامه، فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وقد عمل أهل السنة على تحصين العقول من خلال اتباع هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث تعلمنا السنة مناسك الدين وتفصل القرآن الكريم، ويجب على الجميع محاربة التيارات الحداثية التي تسعى لتطبيق أفكار غريبة تهدف إلى هدم الدين، وتقديم تفسيرات مغلوطة للعلماء، في حين أن السنة تفسر وتوضح القرآن بإجماع العلماء، وتفصل أحكامه، مؤكدًا أن الابتعاد عن السنة يؤدي إلى التخبط الفكري والضلال وهدم المجتمعات.
ويشارك الأزهر الشريف - للعام التاسع على التوالي- بجناحٍ خاص في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56 وذلك انطلاقًا من مسؤولية الأزهر التعليمية والدعوية في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير الذي تبنَّاه طيلة أكثر من ألف عام، ويقع جناح الأزهر بالمعرض في قاعة التراث رقم "4"، ويمتد على مساحة نحو ألف متر، تشمل عدة أركان، مثل قاعة الندوات، وركن للفتوى، وركن الخط العربي، فضلًا عن ركن للأطفال والمخطوطات.