حماية الصناعات الوطنية قبل فوات الآوان
تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT
د. أحمد بن خلفان البدوي
يرى الاقتصاديون حتمية قيام الدول الناشئة والصاعدة صناعيًا نحو إيجاد آليات تحمي صناعاتها الوطنية من الممارسات السعرية غير العادلة التي تقوم بها الواردات الأجنبية في الأسواق المحلية للدول التي ترغب في بناء اقتصاد صناعي، وهذه الممارسات بلا شك تضر بالصناعات الوطنية للدول الناشئة والمتعارف عليه وفقاً لاتفاقية منظمة التجارة العالمية بمصطلح "الإغراق"، وعلى واضعي السياسة الاقتصادية بالدول التي ترغب بناء وتعزيز إنتاجها الصناعي أن يعتمدوا آلية حماية الصناعة المحلية ضمن الممكنات الضرورية عند بناء الاستراتيجيات الصناعية؛ والتأخر في إصدار هذه الآليات سيزيد من مخاطر فشل نجاح هذه السياسات والاستراتيجيات لبناء اقتصاد صناعي.
دعونا نَصف ممارسة الإغراق التي تضر وتهدد وجود الصناعة الوطنية، وفقاً لاتفاقية منظمة التجارة العالمية المتعلقة بمكافحة الإغراق، فالإغراق وفق مصطلحه التجاري يحدث عند دخول سلعة ما لبلد الاستيراد بسعر أقل من قيمتها العادية أي يتم تصدير السلعة بسعر أقل من قيمتها في السوق المحلية لبلد التصدير، مما يعني في هذه الحالة أن نظام البيع يقابله سعران الأول مرتفع بـ(السوق الداخلي) والثاني منخفض بـ(السوق الخارجي).
نستذكر حُقب وتعاظم النشاط التجاري مع الدول الشقيقة والصديقة وبين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إبان الثورة الصناعية؛ حيث كانت ذروته آنذاك مثلت طرفًا واحدًا من وجهة نظري قد يرجع السبب في ذلك لتأخر التكنولوجيا وعدم وجود القوانين والتشريعات التنظيمية اللازمة باعتبارهما مُجتمعين يُمثلان نقطة الانطلاقة الحقيقية لدخول عالم الصناعة، مما صاحب تلك الحِقب كذلك وجود المنظمات الدولية تمثلت في بناء الاتفاقيات الاطارية بين دول العالم التجاري الأمر الذي أصبح أكثر تنظيمًا يتعايش من خلاله الواقع التجاري لتأمين احتياجات الأسواق المحلية لدولنا من مختلف المنتجات والتي أسهمت بلا شك بدور إيجابي في توطيد العلاقات التجارية التي تمت عبر مذكرات التبادل التجاري كتوجهات دولية مُصانة؛ يقابل ذلك فأن العديد من الدول أصبحا أكثر حرصا في التوجه بتنويع المصادر الاقتصادية لأمنها الوطني وهذا التوجه بطبيعة الحال يتم بمراجعة إحصائيات الميزان التجاري للصادرات والواردات باعتبارها ذات علاقة مباشرة للتجارة البينية بين الدول.
في ذات السياق، ومع توجه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تعزيز الاستراتيجيات الصناعية الخاصة بها كمنظومة خليجية مشتركة أو بشكل منفرد يضمن التوطين وباعتبار أن الصناعات الوطنية لدولة ما تعتبر مصدر سامِ للتنويع الاقتصادي لانسجامها مع الرؤى المستلقة لدول مجلس التعاون الخليجي التي هي حيز التنفيذ. وباعتبار أيضا أن الصناعات الوطنية في المقام الأول تعتبر الهدف الاستراتيجي المُصان في حالة وجود تقلبات وتكتلات قد تحدث أو تنشأ لأية صراعات جيوسياسية اقتصادية، وبلا شك فان منتجات ذات المنشأ الخليجي مع بداية العقد الثاني من هذا القرن مثلت حراكا تجاريا في الأسواق الخليجية ومع اتساع حجم الصادرات مع دول العالم التجاري ساهم ذلك بدوره في زيادة الناتج المحلي الإجمالي والذى بلغ العام 2022 ما نسبته 7.3%، إلا أن هناك ثمة أثار تمثل خطورة وتواجه تمكين الصناعات الخليجية الوطنية تُنتهج من قبل بعض من دول الجوار باعتبار نتشارك ضمن محيطها التجاري نظير حركة التبادل التجاري المتزايدة؛ حيث ما زالت تسيطر الكثير من المنتجات حضوريا من خلال تدفقها الى أسواقنا الخليجية؛ مما أصبح المستثمرين في القطاع الصناعي يعانون الى حد كبير من وجود منتجات تنافس منتجاتهم الوطنية بأسعار أقل.
وبطبيعة الحال نتفق على أن هذا الاتجاه قد بات يحكمه رغبة المستهلك ونظرته لسعر المنتج أكان رديفاً أو بديلا بعيدا عن معايير الجودة، أيضا هناك توجه هو الأخر ما زال يمثل تحديا كبيرا من قبل الدول الصناعية التي ما زالت تعيش النزعة الاستعمارية ولكن هنا قد يختلف الامر؛ حيث أصبح هذا التوجه يُدار من منظور اقتصادي وأن جاز التعبير نطلق عليه "الاستعمار الاقتصادي"؛ باعتبار أن واردات تلك الدول تعبر خطوط التجارة الدولية أو ارتكزت صناعيا في تلك الحُقب الاستعمارية وتوسعت في المنطقة وغطت الأسواق الناشئة من دولنا يعود السبب نقص وتأخر التكنولوجيا أو الإمدادات اللوجستية، هذا ومن خلال ما أسلفناه يتبين أن هناك تنافسا غير متوازن بين المنتجات الخليجية/ الوطنية الناشئة والمستوردة، وتسبب ذلك في وجود ممارسات ضارة بأشكال عديدة ومختلفة، ومثالا على ذلك إغراق الأسواق الخليجية بمنتجات السيراميك والبطاريات والألمنيوم وورق الكرتون وغيرها تلك القادمة من بعض الدول الصديقة؛ الأمر في هذا الجانب تم فيه إجراءات واتخاذ قرار قام به المكتب الأمانة الفنية لمكافحة الممارسات الضارة الذى يتخذ من الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مقرا له.
إنَّ تدني الواقع الصناعي لبعض المنتجات الوطنية للقطاعات الناشئة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أثر ذلك من وجود ممارسات ضارة مع أنها تمتلك المقومات الجغرافية الكافية وسلاسل الإمداد من المواد الخام والكثافة السكانية ويرجع السبب في ذلك بوجود عاملين الأول: ضعف يقين صناع القرار من فعالية الية مكافحة الإغراق كآلية فعالة لحماية الصناعة الوطنية، والثاني: ضعف وعي الصناعة الوطنية بآلية مكافحة الاغراق؛ مما أدى الضعف في هذا الإطار أن تلك الدول ما زالت تسيطر وتمارس وجدانية قصوى في السوق المحلي وقد باتت تتحكم وارداتها اقتصاديا على الرغم من وجود صناعات وطنية مماثلة وأفضل جودة مما قد يتعجب الكثير منا! السؤال هنا هل السوق المحلي بحاجة فعليا لتغطية قلة العرض أم ماذا؟
هنا يجب أن يَعي واضعو السياسة الاقتصادية أن يكون تدفق المنتجات المستوردة ليس على حساب الصناعات الخليجية الوطنية المتداولة أكانت لمنتجات رديفة أو مماثلة، باعتبار أن المحيط الاستثماري عند بناءه أو المضي في توطين الصناعة قد كلف أو يكلف الدولة البنى التحتية ممثلة بتهيئة المناخ الاستثماري الآمن وسن التشريعات اللازمة أكان ذلك التوطين في المناطق الصناعية أو الاقتصادية الخاصة أو الحرة، ومن جانب مماثل وهو الذى لا يقل أهمية مراعاة وفهم مسار المستثمرين الذين تقوم استثماراتهم على البرامج التحفيزية تلك المنبثقة من الفرص الاستثمارية ففي هذا الجانب يجب أن تنتهج الدول مسارا تصحيحيا لما بعد التوطين الحقيقي للصناعات الوطنية كبُعد استراتيجي ومنحة الغطاء والأرضية كنظرة مستقبلية مستدامة، وبلا شك فإن هذه النظرة أصبح واضعي السياسة الاقتصادية يدركونها تماما فحريا أن تتم من خلال أجهزة تشاركية تنظيمية وفنية عند وضع وتنفيذ الاستراتيجيات والخطط.
وللحديث بقية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الصناعة في عُمان.. ركيزة للتنويع الاقتصادي
د. هلال بن عبدالله الهنائي **
يشهد القطاع الصناعي في سلطنة عُمان تطورًا مُتسارعًا في ظل الجهود الحكومية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على النفط، انسجامًا مع رؤية "عُمان 2040". وتلعب الصناعة دورًا محوريًا في تحقيق هذه الرؤية من خلال توفير فرص عمل، وتعزيز القيمة المضافة، ودعم الصادرات العُمانية.
وتعمل الهيئة العامة للمناطق الصناعية على توفير بيئة استثمارية جاذبة عبر تطوير المناطق الصناعية والمناطق الحرة، مثل مدائن، خزائن، والمناطق الحرة في صلالة وصحار والمزيونة. وتُوفر هذه المناطق بنية تحتية حديثة، وخدمات لوجستية متقدمة، ومزايا استثمارية تنافسية، مما يجعلها محركًا رئيسيًا لنمو القطاع الصناعي في السلطنة.
موقع استراتيجي يعزز الاستثمار
تمتلك عُمان موقعًا جغرافيًا فريدًا يربط بين الأسواق الآسيوية والإفريقية والأوروبية، مما يمنحها ميزة تنافسية في مجالي التصنيع والخدمات اللوجستية. ويعزز هذا الموقع من دور السلطنة كمركز تجاري إقليمي، خصوصًا مع وجود موانئ بحرية عالمية مثل ميناء صحار، ميناء الدقم، وميناء صلالة.
وتدعم شبكة الموانئ هذه الصناعات التحويلية والصناعات الثقيلة، حيث يتم استيراد المواد الخام بسهولة، وتصنيعها، ثم إعادة تصديرها للأسواق العالمية. ومن خلال مبادرات تطوير البنية التحتية، تسعى الحكومة إلى تحسين الربط بين المناطق الصناعية والموانئ، مما يسهم في خفض تكاليف الإنتاج وتعزيز تنافسية الصناعات العُمانية.
المناطق الصناعية في عُمان: محركات التنمية الاقتصادية
تُشرف الهيئة العامة للمناطق الصناعية على عدد من المناطق الصناعية والمناطق الحرة، والتي تتميز بتخصصها في قطاعات صناعية محددة وفقًا لمزايا كل منطقة.
• مدينة خزائن الاقتصادية: تُعد واحدة من أهم المشاريع المستقبلية في السلطنة، حيث توفر بنية تحتية متكاملة للصناعات الخفيفة والمتوسطة، بالإضافة إلى منطقة لوجستية متطورة تدعم حركة التجارة الداخلية والخارجية.
• المنطقة الحرة في صحار: تُركز على الصناعات الثقيلة مثل الصناعات المعدنية والبتروكيماوية، مستفيدةً من قربها من ميناء صحار الصناعي.
• المنطقة الحرة في صلالة: تشتهر بصناعات التعبئة والتغليف والصناعات الغذائية، إضافة إلى استثمارات في قطاعات الطاقة المتجددة.
• مدائن: تضم العديد من المناطق الصناعية مثل الرسيل، صحار، ريسوت، نزوى، وسمائل، وتدعم الصناعات التحويلية، والتقنية، والغذائية، إضافةً إلى الصناعات الصغيرة والمتوسطة.
دور الصناعة في تعزيز الاقتصاد الوطني
شهد القطاع الصناعي نموًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، إذ ارتفع الناتج الإجمالي للصناعات التحويلية بنسبة 10.1% في النصف الأول من عام 2024، ليصل إلى 1.868 مليار ريال عُماني.
ومن أبرز القطاعات الصناعية التي حققت تقدمًا كبيرًا:
• الصناعات البتروكيماوية والمعدنية: شهدت زيادة في الإنتاج نتيجة ارتفاع الطلب العالمي على المعادن والمواد الخام المكررة.
• الصناعات الغذائية والدوائية: توسعت بشكل ملحوظ لتلبية الطلب المحلي والعالمي، خصوصًا بعد الجائحة التي سلطت الضوء على أهمية تحقيق الأمن الغذائي والدوائي.
• الصناعات التقنية والإلكترونية: بدأت بعض الشركات العُمانية بالدخول في مجال تصنيع الإلكترونيات والمعدات الذكية، وهو توجه جديد يعزز من مكانة السلطنة في الاقتصاد الرقمي.
التحديات التي تواجه الصناعة العُمانية
على الرغم من التطورات الكبيرة التي يشهدها القطاع الصناعي، إلا أن هناك تحديات لا تزال بحاجة إلى حلول لضمان تحقيق نمو مستدام وزيادة القدرة التنافسية، ومن أبرزها:
1. ارتفاع تكاليف الإنتاج: تحتاج السلطنة إلى زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتقليل تكلفة الطاقة المستخدمة في المصانع.
2. التكامل بين الصناعات المحلية وسلاسل التوريد العالمية: حيث لا تزال بعض المصانع تعتمد على استيراد المواد الخام، مما يزيد من تكاليف التشغيل.
3. الحاجة إلى المزيد من الابتكار والتكنولوجيا: تعزيز الاستثمار في البحث والتطوير، واستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات في عمليات التصنيع، سيعزز من تنافسية القطاع.
4. تطوير القدرات البشرية: على الرغم من وجود كوادر عمانية مؤهلة، إلا أن الحاجة إلى مزيد من التدريب والتأهيل المتخصص لا تزال قائمة لمواكبة التطورات الصناعية.
الحلول والمبادرات الحكومية لدعم القطاع الصناعي
تعمل الحكومة العُمانية على تنفيذ مجموعة من المبادرات لتحفيز القطاع الصناعي، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي. ومن بين هذه المبادرات:
• الإعفاءات الضريبية والحوافز الاستثمارية: تقدم الحكومة مزايا مثل إعفاءات ضريبية على الشركات الصناعية لفترات تصل إلى 10 سنوات، وتسهيلات تمويلية لدعم المشاريع الناشئة.
• التحول نحو التصنيع الذكي: يتم تشجيع المصانع على تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة مثل إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والطباعة ثلاثية الأبعاد.
• برنامج "صُنع في عُمان": الذي يهدف إلى تعزيز الوعي بأهمية دعم المنتجات الوطنية، والترويج لها في الأسواق المحلية والعالمية.
• الاستثمار في الطاقة المتجددة: تعمل الحكومة على إطلاق مشاريع جديدة للطاقة النظيفة، بهدف تزويد المصانع بالكهرباء بأسعار تنافسية، وتقليل الانبعاثات الكربونية.
دور الهيئة العامة للمناطق الصناعية في تعزيز النمو الصناعي
تضطلع الهيئة العامة للمناطق الصناعية بدور حيوي في دعم الصناعات العُمانية، من خلال توفير بيئة استثمارية متكاملة للمصانع، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتسهيل عمليات الإنتاج والتصدير. ومن بين إنجازاتها:
• إطلاق مبادرات لدعم رواد الأعمال: تقديم حوافز مالية وإدارية لرواد الأعمال والشركات الناشئة في القطاع الصناعي.
• تطوير البنية التحتية الصناعية: من خلال إنشاء مجمعات صناعية حديثة، وتحسين شبكات النقل والاتصالات داخل المناطق الصناعية.
• تعزيز الاستدامة البيئية: عبر تشجيع المصانع على استخدام مصادر الطاقة النظيفة، وتحفيز الشركات على تبني ممارسات صديقة للبيئة.
نحو مستقبل صناعي أكثر تنافسية
تمثل المناطق الصناعية والموقع الاستراتيجي لعُمان عاملين أساسيين في تعزيز مكانتها كوجهة استثمارية إقليمية، لكن هناك حاجة إلى مزيد من التطوير في مجالات البنية التحتية، والاستدامة، والتكنولوجيا، لضمان تحقيق أقصى استفادة من هذه المزايا التنافسية.
ومع تنفيذ رؤية “عُمان 2040”، يُتوقع أن يشهد القطاع الصناعي نموًا متسارعًا، مدعومًا بالإصلاحات الاقتصادية، والاستثمارات الأجنبية، والتوجه نحو الصناعات المتقدمة، مما سيُسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني، وتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير فرص عمل جديدة للعُمانيين.
** رئيس مجلس إدارة جمعية الصناعيين العُمانية