لم يكن اجتياح المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري غلاف غزة ومستوطناتها على امتداد 45 كيلومترا ومشاهد الهلع والفرار الجماعي للمستوطنين وعجز الجيش الإسرائيلي مجرد معركة عسكرية رابحة فقط، فمفاعيل تلك المعركة تشير إلى تآكل بنية وجود إسرائيل من خلال هروب الإسرائيليين الكثيف إلى الخارج تحت وطأة المشاكل الداخلية العويصة أيضا ونبوءات متوارثة ومخيفة عن زوال قريب.

"لقد هربنا إلى قبرص مباشرة بعد انطلاق صفارة الإنذار الأولى يوم السبت، أخبرني حدسي أن هذه لم تكن مجرد جولة أخرى، وكانت أعصابي متوترة لمدة 10 أشهر بسبب هذا البلد الذي جن جنونه علينا" هذا ما جاء في شهادة أحد الفارين في تحقيق لصحيفة هآرتس بعنوان "قاتل حماس أو اهرب".

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4إسرائيل تستعد لإخلاء المستوطنات القريبة من غزة ولبنانlist 2 of 48 أيام على "طوفان الأقصى".. إسرائيليون: لن نعود إلى غلاف غزةlist 3 of 4الاحتلال يخلي سديروت من كافة المستوطنينlist 4 of 4سديروت "مدينة أشباح".. ما دلالات إخلائها؟end of list

لم يتعود الإسرائيليون على "النزوح" كان هذا مصطلحا لصيقا بالفلسطينيين والعرب في الأماكن التي تطالها الاعتداءات الإسرائيلية، وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بات الإسرائيليون ينزحون أيضا، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي أن 500 ألف نزحوا داخل إسرائيل، وهم مستوطنون مهاجرون في الأصل، فيما أخليت مدينة سديروت بالكامل، وهي تضم نحو 20 ألف مستوطن، كما يتم إخلاء المستوطنات القريبة من الحدود الشمالية مع لبنان.

ويشير دخول الإسرائيليين إلى دائرة النزوح وسقوط صواريخ المقاومة في تل أبيب وجنوب القدس وتعطيل جلسات أعضاء الكنيست وهروبهم إلى الملاجئ بالصورة القاتمة إلى زيف مقولة الأمن والاستقرار، ويعطي انطباعا للإسرائيليين عما قد يحصل مستقبلا، فباتوا يتفقدون جوازاتهم البديلة المكتسبة بحكم جنسياتهم الأصلية القديمة أو تلك التي حصلوا عليها لاحقا لاستخدامها عند الضرورة.

وكانت مشاهد الازدحام غير المسبوق في مطار تل أبيب -الذي تعطل بعد قصف المقاومة في ذلك اليوم- والمطارات الأخرى أكبر من أن تفسر بسياقات السفر العادية، فمعظم من يخرجون باتوا لا يعودون، ويضرب كل ذلك عمق العقيدة الصهيونية التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى "أرض الميعاد"، والذي كان هاجس الوكالة اليهودية منذ تأسيسها عام 1922.

رد فعل لمسافرين في مطار بن غوريون بعد إطلاق صفارات إنذار أثناء قصف المقاومة (غيتي) لا استقرار على الأرض

استنادا إلى طروحات دينية وقومية وجغرافية وتاريخية للحركة الصهيونية اعتمدت العقيدة الأمنية الإسرائيلية على معطى أساسي، وهو تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار لشعب قليل العدد يواجه أغلبية مناهضة لوجوده.

وتشير ظاهرة الهجرة العكسية المتزايدة إلى انكسار أسباب الاستقرار المبنية على الأمن، فبالنسبة للكثيرين لم تعد إسرائيل دولة آمنة ولا يتوفر فيها عنصر الاستقرار الأمن ومبررات البقاء والمستقبل الذي ينشدونه مع التآكل المتسارع لنظريتها الأمنية، وذلك تبعا لما يلي:

– لم تعد المواجهات العسكرية محدودة، بل أصبحت ضربات المقاومة تستهدف كل إسرائيل وبشكل موجع.
– أصبحت المواجهات متواترة، والخسائر الإسرائيلية في ارتفاع تدريجي.
– عدد القتلى والجرحى في ازدياد متواصل، ولم يعد أحد بمنأى عن ذلك.
– لم تعد القوة العسكرية أو الاستخباراتية الإسرائيلية قادرة على تجنيب الإسرائيليين الموت.
– فقد الجيش الإسرائيلي قدرة الردع، وظهرت حقيقة ضعفه.
– قتلت إسرائيل آفاق السلام الذي كان مشجعا للبعض على البقاء أو القدوم.
– زيادة قوة "الحزام المعادي لإسرائيل"، حيث أصبح يشكل تهديدا وجوديا لها.
– تفاقم المشاكل الداخلية الإسرائيلية سياسيا وانعكاسها على الوضع الاقتصادي والأمني.
– سيطرة اليمين على مفاصل السلطة واعتماد سياسة عنصرية متطرفة مثّلا عنصرا طاردا.
-أدت الأوضاع الداخلية والخارجية إلى زيادة منسوب التشاؤم والإحباط لدى الإسرائيليين.

واستنادا إلى ذلك لم يعد "المشروع الإسرائيلي" حتى بأبعاده الدينية التاريخية مغريا وعنصر جذب لليهود للبقاء، كما أن عنصر استقرار السكان على الأرض باعتباره من عناصر تكوين الدولة لم يعد قائما بحكم الضغوط الأمنية والعسكرية الخارجية وعدم اليقين في مستقبل الدولة ذاتها، وبالتالي فإن فكرة الرحيل أو الهجرة العكسية كانت البديل بالنسبة للكثير من السكان.

مستوطنون يغادرون مدينة سديروت بعد صدور أمر من الجيش الإسرائيلي بإخلائها (رويترز) لنغادر البلاد معا

لا يعد رحيل المهاجرين اليهود من إسرائيل ظاهرة جديدة، ولكنها أصبحت لافتة في السنوات الأخيرة وتعرف باسم "يورديم"، وهو مصطلح عبري يستخدم لوصف اليهود الذين يغادرون إسرائيل.

وتشير الإحصائيات إلى أنه بين عامي 1948 و1950 غادر 10% من المهاجرين اليهود الدولة الناشئة حديثا آنذاك، وحتى عام 1967 هاجر أكثر من 180 ألف إسرائيلي رغم الإجراءات التي سعت إلى الحد من الهجرة العكسية.

وحسب بيانات وزارة الهجرة واستيعاب القادمين الجدد الإسرائيلية والوكالة اليهودية، فقد انخفضت وتيرة الهجرة إلى فلسطين بشكل حاد في النصف الأول من عام 2022، وتراجعت نسبة استقدام اليهود بنحو 20% من أميركا وأوروبا، وإذا كانت سنة 2022 قد شهدت زيادة في معدل قدوم اليهود الأوكرانيين والروس فإن ذلك يعود إلى ظروف تتعلق بالحرب هناك.

وتشير إحصائيات إلى نحو 1800 يهودي روسي من أصل 5600 ممن استفادوا من "قانون العودة" الإسرائيلي قد رجعوا إلى روسيا بجوازات سفرهم الإسرائيلية بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

كما أشار استطلاع للرأي إلى أن 33% من سكان إسرائيل يفكرون فعليا بالهجرة والانتقال للعيش في أوروبا وأميركا بسبب حكومة نتنياهو المتطرفة وسياساتها التي لا تحظى بالدعم الشعبي، وبما أن نصف سكان إسرائيل تقريبا ما زالوا يحملون عمليا جوازات سفر بلدانهم الأصلية (الأشكناز) فإنهم جاهزون لاستخدامها في حال اقتضى الأمر الهرب.

ونشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بيانات صادرة عن مركز الإحصاء الإسرائيلي يشير إلى أن عدد اليهود الذين غادروا إسرائيل عام 2015 -أي بعد معركة العصف المأكول- بلغ 16 ألفا و700 شخص عاد منهم 8500 فقط.

كما ذكرت تقديرات إحصائية إسرائيلية أن نحو 800 ألف مستوطن ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية يقيمون بصورة دائمة تقريبا في دول عدة ولا يرغبون بالعودة إلى إسرائيل.

وفي أعقاب انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وتشكيل الحكومة التي وصفت بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل وضمت عتاة المتطرفين مثل بتسلئيل سموتريتش (حزب الصهيونية الدينية) وإيتمار بن غفير (حزب القوة اليهودية) ارتفع عدد المواطنين الإسرائيليين الذين يسعون للحصول على الجنسيات الأوروبية بشكل ملحوظ.

وأشارت تقارير إلى ارتفاع الإقبال على نيل الجنسية الفرنسية بنسبة 13%، وسجلت السلطات البرتغالية زيادة بنسبة 68% في طلبات الحصول على الجنسية من الإسرائيليين، كما سجلت السلطات البولندية والألمانية زيادة بنسبة 10% في نفس الطلبات خلال الشهرين الماضيين.

وبحسب صحيفة معاريف الإسرائيلية، فإنه حتى عام 2020 غادر أكثر من 756 ألف يهودي إسرائيل للعيش في بلدان أخرى، ويعود ذلك إلى تدهور الوضع الاقتصادي وعدم المساواة والإحباط بسبب تعثر مسار السلام، بالإضافة إلى تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية.


نبوءة الزوال

في رد فعلها الهستيري على خسائر اليومين الأولين من حرب أكتوبر 1973 عبرت رئيسة الوزراء غولدا مائير عن خوفها بالقول "هذا خراب الهيكل الثالث"، مستحضرة نبوءة قديمة عن زوال الممالك اليهودية.

وتؤمن أغلبية القيادات الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلي بلعنة عقد الثمانين، حيث تشير الروايات الإسرائيلية إلى أن أغلبية ممالك بني إسرائيل بعد النبي سليمان انهارت خلال العقد الثامن، فيما سيحل هذا العقد الثامن سنة 2027، أي أن عمر إسرائيل لن يدوم أكثر من 80 عاما وسيكون قبل 14 مايو/أيار 2028، إذ تأسست إسرائيل يوم 14 مايو/أيار 1948.

ويشير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك نفسه إلى ذلك بقوله في مقال بصحيفة يديعوت أحرونوت "على مر التاريخ اليهودي لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن، ويتوجب استخلاص العبر من التشرذم والانقسام اللذين عصفا بممالك اليهود السابقة، والتي بدأت بالاندثار على أعتاب العقد الثامن".

وإذا كانت هذه النبوءة تعيد الانهيار إلى أسباب داخلية فإن الأزمة غير المسبوقة التي تشهدها المؤسسات الإسرائيلية في ظل حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة والانقسام غير المسبوق في المجتمع الإسرائيلي وحالة التوتر والإحباط والخشية من "تفكك الهوية" والقلق الوجودي، إضافة إلى الحرب بمفاعيلها غير المسبوقة تدفع الإسرائيليين إلى البحث عن ملاذات أخرى آمنة، ومن المرجح أن ترتفع موجات الهجرات العكسية بوتيرة غير مسبوقة بناء على تلك النبوءات التي تثير رعب الإسرائيليين والتي يعززها الواقع.

ويشير الباحث الفلسطيني جورج كرزم في كتابه "الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين" الصادر عام 2018 إلى أن "أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين قد أعلنوا في ظروف سلمية أنهم يفكرون بترك إسرائيل، وأن نحو 70% من الإسرائيليين يتوجهون للحصول على جنسية أخرى أو فكروا في ذلك".

أما في ظروف الحرب -مثل التي تجري حاليا- أو في ظروف مواجهة طويلة الأمد مع إسرائيل وفقدان أسباب البقاء فإن هذا العدد سيتضاعف، وفي حال نفّذ نصف العدد المذكور فكرتهم في الهجرة العكسية فإن إسرائيل ستفقد عمليا ربع سكانها على الأقل، مما يعني تآكل إسرائيل وتفوق عدد السكان العرب تدريجيا بفعل الزيادة السكانية المرتفعة لديهم.

وقد نجحت عملية "طوفان الأقصى" -كما كل الحروب السابقة- في كشف عوامل القصور والضعف في بنية إسرائيل بتهشيم الواجهة الهشة التي كانت تعتمد عليها، وبفعل صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري العسكرية وتفاقم المشاكل الداخلية ونزيف الهجرة العكسية تذهب إسرائيل إلى الفراغ، فلا استقرار ولا أمن ولا ازدهار يدعو للبقاء، وفي ذلك زيادة لعوامل الانهيار الداخلي لبنية وجودها الأساسية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الجیش الإسرائیلی أکثر من إلى أن

إقرأ أيضاً:

كيف تعادي إسرائيل السامية ولماذا تهاجم اليهود؟

لقد رويت قصة الأسس المعادية للسامية في الأيديولوجيا الصهيونية مرارا وتكرارا، وقد كتبت عنها في هذا الموقع عدة مرات. وهذا يشمل علاقة القربى الأيديولوجية بين الأفكار المؤسسة للحركة الصهيونية وأيديولوجيا معاداة السامية، حيث يؤمن كل منهما بأن اليهود الأوروبيين ليسوا أوروبيين، بل شعب شرقي منفصل، وأن اليهود لا ينبغي أن يعيشوا بين المسيحيين الأوروبيين، وأنهم في الواقع عرق منفصل وأمة منفصلة، أو كما وصفهم الأصولي البروتستانتي المعادي للسامية ووزير الخارجية البريطاني الصهيوني آرثر بلفور: "شعب ليس منّا". أما التحالفات التي أبرمتها الحركة الصهيونية منذ نشأتها مع الساسة والأنظمة الأوروبية المعادية للسامية لتعزيز مطالبها فتشكل جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحركة.

لكن هذا الإرث الذي خلفته الحركة الصهيونية لم ينته مع تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. بل على النقيض من ذلك، عملت المستعمرة-الاستيطانية الصهيونية الجديدة على ترسيخ الأسس المعادية للسامية للحركة، وأصرت على أن أولئك الذين يعارضون معاداة السامية الصهيونية والإسرائيلية، سواء أكانوا يهودا أم غير يهود، هم المعادون للسامية بالفعل، وهو اتهام كان من الصعب استخدامه قبل عام 1948، حيث كان أغلبية اليهود معادين للصهيونية أو على الأقل غير صهاينة.

أولا، قرر الصهاينة تسمية مستعمرتهم الاستيطانية الجديدة "إسرائيل". وبما أن "إسرائيل" تشير في التقليد التوراتي إلى أحفاد يعقوب الذي سمّته التوراة بـ"إسرائيل"، أو إلى "الشعب اليهودي"، فإن تسمية البلاد "إسرائيل" كانت تهدف إلى دمج جميع اليهود في دولة إسرائيل، بحيث عندما يقوم أي شخص بانتقاد إسرائيل، يُتهم مباشرة بمهاجمة وانتقاد جميع اليهود، في مجملهم، وليس الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها العنصرية.

تجعل إسرائيل قسرا كل اليهود الذين لا تمثلهم أصلا على أنهم متواطئون معها في إقامة مستعمرتها الاستيطانية على أرض الفلسطينيين. وعلى هذا، فإن من يعارض هذا "الحق الطبيعي للشعب اليهودي" المزعوم لن يكون أقل من معادٍ صريح للسامية
ثانيا، لقد كان رفض إسرائيل إصدار "إعلان الاستقلال" رسميا في عام 1948 (على الرغم من أن الدعاية الإسرائيلية تشير إلى "إعلان تأسيس دولة إسرائيل" الرسمي على أنه "إعلان الاستقلال")، بمثابة إشارة أخرى. إذ تمت تسمية "إعلان تأسيس الدولة اليهودية" بهذا الاسم بعد رفض القيادة الصهيونية مقترحات لتسميته "إعلان الاستقلال". وقد اقترح مندوب "الحزب الشيوعي الفلسطيني" الصهيوني مائير ويلنر إعلان الدولة على أنها دولة "مستقلة ذات سيادة"، لكن تعديله رُفض. وقد تم رفض هذه المقترحات بشكل قاطع لصالح إعلان الدولة على أنها "يهودية" دون إضافة أي وصف آخر غير ذلك. كان لهذا الرفض العنيد علاقة بالهدف الرئيس للحركة الصهيونية، المتمثل في أن الدولة التي تسعى الحركة إلى إقامتها ستكون دولة "الشعب اليهودي" أينما وجد في جميع أنحاء العالم، وليس فقط للمستعمرين اليهود في فلسطين.

 إن إعلان الدولة "مستقلة" كان ليعني ضمنا أنها مستقلة عن يهود العالم وبالتالي فهي دولة "إسرائيلية" وليست "يهودية"، ونظرا لإصرار زعماء إسرائيل على أن الحركة الصهيونية لابد وأن تستمر في أنشطتها الاستعمارية الاستيطانية حتى بعد إنشاء الدولة اليهودية، لا سيما أن أغلبية اليهود استمروا في العيش خارج إسرائيل كما هو حالهم حتى اليوم، فإن مسألة "الاستقلال" ربما كانت لتمنعها من القيام بذلك. وقد تم توضيح مثل هذه الأسباب بشكل صريح في المناقشات اللاحقة حول رفض تسمية الدولة "مستقلة" رسميا.

ثالثا، أكدت إسرائيل في الإعلان وبعده على أن قيامها كدولة لم يكن ممثلا لأهداف الحركة الصهيونية، التي لطالما واجهت معارضة من أعداد كبيرة من اليهود، بل ادعت أن "هذا الحق [في إقامة دولة يهودية] هو الحق الطبيعي للشعب اليهودي في أن يكون سيد مصيره، مثل جميع الأمم الأخرى، في دولته ذات السيادة". ومن خلال هذا الإعلان تجعل إسرائيل قسرا كل اليهود الذين لا تمثلهم أصلا على أنهم متواطئون معها في إقامة مستعمرتها الاستيطانية على أرض الفلسطينيين. وعلى هذا، فإن من يعارض هذا "الحق الطبيعي للشعب اليهودي" المزعوم لن يكون أقل من معادٍ صريح للسامية.

وعلى هذا الأساس، انتحلت إسرائيل صفة الممثل لجميع يهود العالم، على الرغم من أنهم لم يمنحوها مثل هذا التفويض قط. فقد سارعت كل القوى الأوروبية والولايات المتحدة، التي سبق أن رفضت منح اللجوء لليهود الفارين من النازيين، إلى الاعتراف بهذا الادعاء، مما أتاح لهذه الدول التملص من مسؤولية استقبال مئات الآلاف من اللاجئين اليهود بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أدى هذا الادعاء بالتحدث باسم وتمثيل كل اليهود إلى إثارة استياء اليهود غير الصهاينة والمعارضين للصهيونية، بل وحتى اليهود المؤيدين للصهيونية، في أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث رأوا أن الحركة الصهيونية وإسرائيل وفرتا الذخيرة اللازمة لمعادي السامية الذين اتهموا اليهود بالولاء المزدوج نتيجة لهذا الزعم الإسرائيلي. كما أعرب زعماء اليهود الأمريكيين عن قلقهم الشديد إزاء هذا الادعاء، معتبرين إياه خطوة خطيرة تعزز معاداة السامية.

في عام 1950، أبرم رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية، جاكوب بلاوستين، اتفاقا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون لتحديد طبيعة العلاقة بين إسرائيل واليهود الأمريكيين، حيث أكد بلاوستين على أن الولايات المتحدة ليست "منفى" لليهود، بل "شتات"، مشددا على أن دولة إسرائيل لا تمثل رسميا يهود الشتات أمام بقية العالم، كما أوضح أن إسرائيل لا ولن تكون ملاذا لليهود الأمريكيين. وأشار إلى أنه، حتى لو فقدت الولايات المتحدة طابعها الديمقراطي وعاش اليهود الأمريكيون "في عالم يمكن أن يدفعهم فيه الاضطهاد للهجرة من أمريكا"، فإن مثل هذا العالم، بخلاف مزاعم إسرائيل، "لن يكون عالما آمنا لإسرائيل أيضا".

وتحت ضغط من زعماء اليهود الأمريكيين، أعلن بن غوريون من جانبه أن اليهود الأمريكيين هم مواطنون كاملون في الولايات المتحدة، وأن ولاءهم ينبغي أن يكون حصرا لها، مؤكدا على "أنهم لا يدينون بالولاء السياسي لإسرائيل". ونص الاتفاق بين إسرائيل واللجنة اليهودية الأمريكية على أن "إسرائيل، من جانبها، تعترف بولاء اليهود الأمريكيين للولايات المتحدة، ولن تتدخل في الشؤون الداخلية ليهود الشتات، كما لن يتم التقليل من شأن من يبقى منهم في أمريكا على أنهم "منفيون"، بل سيتم احترام خياراتهم، أما من يختار منهم الهجرة إلى إسرائيل فسوف يتم الترحيب بهم بحرارة، ولن يدّعي أي من اليهود الأمريكيين أو الإسرائيليين تمثيل الآخر".

لم يدم موقف بن غوريون طويلا كسياسة معتمدة من قبل الحكومة الإسرائيلية. فبعد حرب حزيران/ يونيو 1967 واحتلال إسرائيل لأراضٍ من ثلاث دول عربية مجاورة، بدأت إسرائيل تطالب يهود العالم كافة بدعم سياساتها بشكل مطلق، ومن يخفق في ذلك، وُصم بأنه ليس يهوديا حقيقيا وفقا لخطابها. وقد عبّر عن هذا النهج بوضوح وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان، المولود في جنوب أفريقيا، الذي جسّد في تصريحاته هذا التوجه.

ففي مؤتمر سنوي عقد في إسرائيل عام 1972 برعاية المؤتمر اليهودي الأمريكي، وضع إيبان الاستراتيجية الجديدة لإسرائيل في مواجهة النقد الدولي، مؤكدا على أنه: "لا ينبغي أن يكون هنالك أي سوء فهم: اليسار الجديد هو مؤلف ومنشئ معاداة السامية الجديدة.. إن التمييز بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية ليس تمييزا على الإطلاق، معاداة الصهيونية هي مجرد معاداة السامية الجديدة". استغرق الأمر بضعة عقود قبل أن تصبح هذه الصيغة التي صاغها إيبان سياسة رسمية ليس فقط في إسرائيل، ولكن في جميع أنحاء العالم الغربي.

إذا كان كل من ينتقد إسرائيل من غير اليهود قد وُصِم بمعاداة السامية، فإن أبا إيبان تجاوز هذا الخطاب ليهاجم في مؤتمر عام 1972 اثنين من أبرز النقاد اليهود الأمريكيين لإسرائيل، وهما نعوم تشومسكي وآي. إف. ستون، واصفا إياهما بأنهما يعانيان من "عقدة الذنب نتيجة استمرار وجود اليهود [بعد المحرقة]". وأشار إلى أن قيمهما وأيديولوجيتهما، المتمثلة في معاداة الاستعمار والعنصرية، "تتعارض مع عالمنا الخاص من القيم اليهودية".

النقد اليهودي لإسرائيل، سواء من المناهضين للصهيونية أم من غير الصهاينة، يُواجَه بوصمهم بصفة "يهود يكرهون أنفسهم" أو حتى معادين للسامية، مما يعكس تصعيدا خطيرا في الخطاب الإقصائي
كان تعريف إيبان للسياسات الاستعمارية والعنصرية الإسرائيلية باعتبارها جزءا من "التقاليد والقيم اليهودية" بمثابة محاولة صهيونية لإشراك جميع اليهود، عنوة، في تبرير ممارسات إسرائيل وفي اعتناق مُثُلها العليا. ومع ذلك، فحتى طرد إيبان لتشومسكي وستون من "المجتمع اليهودي" يبدو الآن معتدلا بالمقارنة مع العدوانية المتزايدة التي تبنتها السلطات الإسرائيلية والمؤيدون لها في السنوات اللاحقة. فقد أصبح النقد اليهودي لإسرائيل، سواء من المناهضين للصهيونية أم من غير الصهاينة، يُواجَه بوصمهم بصفة "يهود يكرهون أنفسهم" أو حتى معادين للسامية، مما يعكس تصعيدا خطيرا في الخطاب الإقصائي.

ومن الأمثلة على هذه السياسة خلال العقدين الماضيين، تعرض الطلاب والأساتذة اليهود في الجامعات لهجمات متكررة من قِبَل أنصار إسرائيل، سواء أكانوا من اليهود أم من غير اليهود، حيث وُصفوا بأنهم "يهود يكرهون أنفسهم" أو يهود "يساعدون معادي السامية"، فقط لأنهم انتقدوا إسرائيل أو دعموا حقوق الفلسطينيين. وقد هاجم أنصار إسرائيل بلا هوادة الأساتذة اليهود (ناهيك عن غير اليهود) الذين ينتقدون إسرائيل باعتبارهم "يكرهون أنفسهم". ويشعر بعض الصهاينة بالفزع من وجود "عدد أكبر من اليهود الذين يكرهون أنفسهم" بين أولئك الذين يتهمونهم بمعاداة السامية لأنهم يدعمون حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. ولم يسلم الحاخامات الصهاينة الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية من هذه الاتهامات، بل وُصِفوا أيضا بأنهم "يكرهون أنفسهم"، كما وُصِف كبار مساعدي البيت الأبيض الذين يدعمون إسرائيل بقوة بأنهم "يكرهون أنفسهم"، وهو الوصف الذي أسبغه عليهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه عندما دعوا إسرائيل إلى "تجميد" بناء المستوطنات الاستعمارية في الأراضي المحتلة.

ومع ذلك، يزعم أنصار إسرائيل، مثل الأكاديمي الأمريكي دانيال ج. إليعازار، أن إسرائيل "تأسست على القيم اليهودية"، وهو ادعاء يساوي بين المبادئ الاستعمارية للدولة الإسرائيلية والديانة اليهودية والهوية اليهودية، وهي معادلة معادية للسامية تماما. إن تعريف قيم إسرائيل وسياساتها باعتبارها "يهودية" أو أن هذه الأخيرة يتم تنفيذها دفاعا عن الشعب اليهودي ليس مقتصرا على مؤيديها اليهود الأمريكيي، فالعديد من الأصوليين المسيحيين الأمريكيين يدعمون إسرائيل على وجه التحديد لأنها يهودية.

وقد تبنت المؤسسة السياسية الأمريكية الآن هذه الادعاءات الإسرائيلية والمؤيدة لإسرائيل على أنها حقيقة غير قابلة للنقاش، وهو ما سمح للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كانون الأول/ ديسمبر 2018 بالتصريح لليهود الأمريكيين في حفل عيد الحانوكا في البيت الأبيض بأن نائبه يكن مودة كبيرة تجاه "بلدكم". ولم تعترض إسرائيل، ولم تعترض حكومتها عندما صرّح ترامب لمجموعة من اليهود الأمريكيين في نيسان/ أبريل 2019 بأن نتنياهو هو "رئيس وزرائكم".

لكن ترامب ليس وحده من يتبنى هذه السياسة، فاستراتيجية جو بايدن لمكافحة معاداة السامية تتضمن "الالتزام الأمريكي الذي لا يتزعزع بحق دولة إسرائيل في الوجود وشرعيتها وأمنها. بالإضافة إلى ذلك، ندرك ونحتفل بالروابط التاريخية والدينية والثقافية العميقة وغيرها التي تربط العديد من اليهود الأمريكيين وغيرهم من الأمريكيين بإسرائيل". إن مثل هذه التصريحات تضع جميع اليهود الأمريكيين في سلة واحدة، متجاهلة أولئك الذين لا يملكون روابط "عميقة" أو حتى سطحية مع إسرائيل، أو أولئك الذين تجبرهم علاقاتهم على عدم دعم مزاعم إسرائيل بشأن اليهود أو سياساتها تجاه الفلسطينيين. إن هذا الربط بين اليهود الأمريكيين وإسرائيل لا يساعد في مكافحة معاداة السامية، بل إنه يعمل على تكرار وجهات النظر الصهيونية والإسرائيلية والمسيحية الإنجيلية الأمريكية تجاه اليهود، والتي يعترض عليها العديد من اليهود الأمريكيين.

إن منتقدي إسرائيل، سواء كانوا من اليهود ام من غير اليهود، يرفضون الانصياع لهذه الضغوط ويقفون بحزم ضدها، مؤكدين على التمييز الصريح بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية
إن الادعاء بأن جميع اليهود الأمريكيين يدعمون إسرائيل دون نقد وأن مثل هذا الدعم متأصل في الهوية اليهودية، هو في حقيقته تعميم معادٍ للسامية. فالهوية اليهودية، شأنها شأن جميع الهويات، هي هوية متعددة ومتنوعة دينيا وإثنيا، ناهيك عن جغرافيا وثقافيا واقتصاديا.

وفي الوقت الراهن، تتزايد أعداد اليهود الأمريكيين الذين يفصلون أنفسهم عن إسرائيل ونظامها العنصري اليهودي وجرائمها الاستعمارية. وهم مستهدفون بسبب مواقفهم السياسية من قبل جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، ويتعرضون لتشويه سمعتهم بوصمهم "كارهين لأنفسهم". ومع ذلك فإن هؤلاء المنتقدين لإسرائيل، من اليهود أو من غير اليهود، لا يخلطون البتة بين اليهودية والصهيونية، بل إنهم على النقيض من ذلك، يؤكدون بقوة على ضرورة الفصل بينهما.

أما الحملة اليمينية المؤيدة لإسرائيل في الجامعات الأمريكية والأوروبية، فقد حددت هدفا رئيسا واحدا لملاحقاتها المستمرة لمنتقدي إسرائيل، وهو ما تتشارك فيه مع الحكومة الإسرائيلية، والمتمثل برفض أي تمييز بين اليهودية والشعب اليهودي والصهيونية والحكومة الإسرائيلية واعتبارها مترادفات تعني الشيء نفسه– وهي ذات الأهداف التي أصر عليها مؤسسو إسرائيل وخططوا لها عندما أطلقوا على مستعمرتهم الاستيطانية اسم "إسرائيل".

أما المسار التاريخي الذي بدأ من اعتراف بن غوريون القسري في عام 1950 بأن اليهود الأمريكيين لا يدينون لإسرائيل بأي ولاء، وصولا إلى الإجماع الإسرائيلي الرسمي بعد عام 1967 والإصرار المعادي للسامية لنظام نتنياهو على أن "معاداة الصهيونية هي معاداة السامية"، فقد اكتمل الآن. وقد تبنى المسؤولون الأمريكيون (بما في ذلك الكونغرس ودونالد ترامب) والقادة البريطانيون والأوروبيون هذه الصيغة المعادية للسامية كسياسة رسمية لبلادهم. والهدف الحالي لهذه الحملة الشرسة هو إجبار الجامعات والحركة الطلابية والمؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام في الغرب ككل، لكن خاصة في الولايات المتحدة، على تبني هذه الصيغة المعادية للسامية، وإلا..

ومع ذلك، فإن منتقدي إسرائيل، سواء كانوا من اليهود ام من غير اليهود، يرفضون الانصياع لهذه الضغوط ويقفون بحزم ضدها، مؤكدين على التمييز الصريح بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.

مقالات مشابهة

  • وزارة الخارجية: المملكة تدين وتستنكر استمرار الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي لباحة المسجد الأقصى وتوغل قواتها في الجنوب السوري
  • وزير الأمن القومي الإسرائيلي يتقدم اقتحامات المستوطنين الإسرائيليين للمسجد الأقصى
  • بن جفير يتقدم اقتحامات المستوطنين الإسرائيليين للمسجد الأقصى
  • كيف تعادي إسرائيل السامية ولماذا تهاجم اليهود؟
  • وقفة ومسير لخريجي دورات “طوفان الأقصى” في الصلو بتعز تضامناً مع غزة
  • كل ساعة يُستشهد طفل.. 45338 شهيدا فلسطينيا في غزة منذ "طوفان الأقصى"
  • كل ساعة يستشهد طفل.. 45338 شهيدا فلسطينيا في غزة منذ "طوفان الأقصى"
  • بالصور: تطبيقاً عسكرياً لخريجي “دورات طوفان الأقصى” من قوات التعبئة العامة من أبناء بني معاذ بسحار صعدة
  • مسير لثلاثة آلاف من خريجي دورات طوفان الأقصى في جبل راس بالحديدة
  • الشيخ صبري: أعياد اليهود تُظهر أطماعهم الخفيّة تجاه الأقصى