لجريدة عمان:
2024-12-23@20:25:39 GMT

نظرية كل شيء (الجزء الأول)

تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT

نظرية كل شيء (الجزء الأول)

هل سنشهد في المستقبل القريب فتحا جديدا في العلوم الطبيعية؟ .. وهل سنحتاج لنظريات جديدة وأطر معرفية أخرى؟

منذ حوالي قرن من الزمن وبعد أن بلغت المعرفة البشرية بعلوم الطبيعة مبلغا ظن العلماء بأنهم توصلوا إلى معرفة عميقة عن الزمان والمكان وما في الكون من قوى ومادة وذلك من خلال نظريتين فيزيائيتين أبدعهما العقل البشري في تلك الفترة الزمنية ويمكن من خلالهما فهم الكون وما فيه، الأولى النظرية النسبية العامة للعبقري الفذ ألبرت آينشتاين والثانية نظرية الكم التي لا يمكن نسبتها لعالم بعينه فلقد ساهم جمع من العلماء في تأسيسها ومنهم آينشتاين صاحب النظرية النسبية.

وما جعل العلماء يثقون بقدرة هاتين النظرتين، لا يقتصر على القدرات المدهشة لهاتين النظريتين في تفسير الظواهر الفيزيائية المختلفة فحسب، بل قدرتهما على التنبؤ بعدد من الظواهر الفيزيائية التي لم تكن مكتشفة بعد، واكتشفت لاحقا بعد البحث والملاحظة الدقيقة وذلك بناء على ما توصلت إليه هاتان النظريتان.

فالنظرية النسبية العامة حققت نجاحا منقطع النظير عندما حاولت التفسير والتنبؤ بحركة الأجسام الضخمة كالأجرام السماوية واستطاعت أن تتنبأ بعدد من الظواهر الفيزيائية التي لم تكن بالحسبان ولا يمكن للعقل البشري أن يصدقها كالثقوب السوداء والأمواج الثقالية وغيرها من الظواهر الكونية والتي تم الكشف عنها لاحقا.

أما نظرية الكم فقد حققت نجاحا كبيرا في تفسير الظواهر الذرية وما دونها، وما زالت تتربع على عرش الفيزياء في هذا المجال، لكن التحدي الكبير الذي واجه العلماء هو محاولة الخروج بصورة متكاملة عن الكون وذلك من خلال دمج النظريتين معا في نظرية واحدة تمكننا من فهم الكون بأسره من خلال منظومة واحدة من القوانين المتكاملة، وهذا ما أطلق عليه بـ نظرية كل شيء.

فلقد أدرك آينشتاين مباشرة وبعد أن تم التوصل إلى نظرية الكم، بأن هذه النظرية تتعارض تماما مع نظريته النسبية، فهي تنظر للكون نظرة مغايرة تماما لتلك التي تنظر إليها النظرية النسبية العامة، بحيث يصبح من الصعوبة بمكان أن يتم دمج النظريتين معا في نظرية واحدة.

ولقد كان الرجل محقا بالفعل فلقد أمضى سني حياته الباقية محاولا الوصول إلى حل لهذه المعضلة ولكنه لم يصل لها

في هذه المقالة المختصرة سنتحدث عن المقصود من هذه النظرية، وما هي الصعوبات التي تمنع من دمج أعظم نظريتين توصل لهما علم الفيزياء للوصول إلى نظرية كل شيء، ثم سنتحدث عن التقدم الحاصل في هذا المجال وفي الخاتمة سنتحدث عن بعض ملاحظاتنا على النظرية ومفهومها وما سينبثق منها من نتائج.

يقصد بنظرية كل شيء الوصول إلى أبسط وصف رياضي ممكن للمكان والزمان وجميع المواد وأصناف القوى في أعمق وأبسط مستويات الكون.

فلقد اتضح لنا ومنذ قوانين نيوتن بأن أفضل وصف للكون إنما يتم من خلال الرياضيات والمعادلات الرياضية، فلقد تبين لنا بأن العالم المادي لا يمكن وصفه كما نصف نحن البشر الأمور من حولنا، فالجمال والحب والقبح هي صفات لا توصلنا إلى واقع العالم المادي، فأفضل وصف للكون إنما يتم بالرياضيات، ولكن في نظرية كل شيء لا نسعى لوصف الكون بمعادلات رياضية فحسب بل بمعادلات رياضية غاية في البساطة، تحوي على أقل قدر من المتغيرات ويمكن حلها بسهولة ويسر نسبيا.

كما أن هذه المعادلة لابد لها أن تصف الكون بقوامه الأربعة وهي الزمان والمكان والمادة والقوى التي تتحكم به، فلقد توصلنا إلى أن الكون المادي برمته يمكن اختصاره بهذه القوام الأربعة.

فالنظرية النسبية كما قلنا تصف لنا المكان والزمان والقوى التي تتحكم بالكواكب والنجوم والمجرات وتصفها وصفا دقيقا بل واستطاعت أن تدمج الزمان في المكان ويصبح بعدا من الأبعاد ويطلق عليهما معا الزمكان، وما يميزها، أن مكتشف النظرية صاغ النظرية ومعادلاتها بناء على ملاحظات وفهم وفلسفة آمن بها، ولذا جاءت مفهومة وواضحة على الرغم من غرابتها ومخالفتها لما تعود عليه الفكر البشري، ولذا يعدها البعض بأنها أجمل نظرية فيزيائية على الإطلاق.

وبالمقابل فإن نظرية الكم أخذت مسارا معاكسا، فلقد صاغ العلماء معادلاتها الرياضية أولا في محاولة لإيجاد طريقة يمكنهم التنبؤ بسلوك الجسيمات دون الذرية، وبعد أن تمت صياغة هذه المعادلات، حاولوا أن يستخلصوا معنى واضحا لها ويبنوا فلسفتهم على ما توصلوا إليه، فكانت النتيجة صادمة، فكل محاولاتهم لتفسير النظرية كانت تتصادم تماما مع الحس العام بل إنها في بعض التفسيرات المطروحة تتصادم حتى مع القواعد الفلسفية الركينة.

ومن هنا أدرك آينشتاين بعقله الفلسفي مشكلة هذه النظرية، ولم يرتح لها طيلة حياته، وسببت له إزعاجا كبيرا، وفوق هذا وذاك وجدها أيضا تتصادم مع النظرية النسبية.

إن النظرية النسبية العامة تنظر إلى المكان والزمان أنهما متصلان، فهما أشبه شيء ببساط ممتد لا ثقوب فيه، وبالمقابل فإن المفهوم الأساسي والمحوري في نظرية الكم قائم على فكرة تقول بأن جميع المفاهيم الفيزيائية التي نعرفها كالطاقة، بل وحتى المكان والزمان ليست متصلة وممتدة كالبساط بل هي كميات حبيبية منفصلة، فالكون بناء على هذه النظرية إنما هو مجموعة من الجسيمات الكمومية، فأصل جميع القوى والمواد إنما هي هذه الجسيمات الكمومية.

حسنا، ولماذا نطلق عليها جسيمات كمومية، وما الفرق بينها وين الجسيمات الصغيرة الأخرى؟

والواقع أن الفارق بينهما شاسع وكبير، فمن أهم صفات الجسيمات الكمومية أنها ليست كرات مصمتة، بل هي جسيمات تمتلك خواص موجية، فلقد لوحظ أن الإلكترون – ويعد من الجسيمات الكمومية- مثلا يتصرف في ظروف معينة كموجة، فيظهر حيودا كحيود الموجات تماما، وهكذا بقية الجسيمات ما دون الذرية، ولكونها تمتلك خواص مزدوجة، فإن هذه الخاصية تدخل نسبة خطأ في قياساتنا عندما نحاول أن نقوم بعملية قياس لمتغيرين معا في آن واحد، فلو أردنا أن نقيس موقع الجسيم الكمومي وسرعته مثلا، فلا يمكن لنا القيام بذلك بدقة متناهية، فكلما قمنا بحساب أحد المتغيرين بدقة زادت نسبة الخطأ في المتغير الثاني، وهذا ما يجعلنا نصل إلى حدود دنيا لكل متغير، فموقع الجسيم لا يمكن تحديد دقته بأقل من ثابت يعرف بثابت بلانك لأن نسبة الخطأ عندها ستكون كبيرة جدا!، والسبب في ذلك بأن الموجة ليس لها موقع معين فهي تنتشر في الفضاء، ولأن هذه الجسيمات الكمومية هي عبارة جسيمات وموجات، فإن نتيجة ذلك هو أننا لا نستطيع تحديد متغيرين مرتبطين معا بدقة متناهية!

ويعرف ذلك في فيزياء الكم بمبدأ الشك والارتياب والذي صاغه هايزنبرغ ويشير إلى أن الطبيعة على المستوى الجسيمات الكمومية تمنعنا من معرفة موقع الجسيم ودقته في آن واحد، فلو قمنا بتحديد سرعة جسيم ما بدقة متناهية بحيث تكون نسبة الخطأ مقاربة للصفر، فإن الجسيم الكمومي يصبح متواجدا في الكون كله ولا يمكنك تحديد موقعه!.

إن مبدأ الشك والارتياب الذي تحدثنا عنه ينطبق على جميع الجسيمات الكمومية.

ومما يزيد الأمر تعقيدا، ما توصل إليه عالم نمساوي يدعى شرودينجر وذلك عبر معادلته التي تسمى باسمه، حيث تصف هذه المعادلة سلوك الجسيم الكمومي مع الوقت بعد أن تتم تحديد طاقة الجسيم وكتلته، لكنها تتعامل مع الجسيم الكمومي على أنه موجة، ونتيجة لذلك فلا يوجد جواب واحد للمعادلة بل مجموعة من الموجات وكل موجة تسلك طريقا مختلفا مع نسبة احتمال سلوكها لذلك الطريق، وقد يكون احتمال سلوك أحد الطرق عاليا جدا إذ قد يصل إلى ٩٩٪ مثلا، ولكن ذلك يعني أن هناك احتمالا بـ ١٪ أن يسلك الجسيم الكمومي طريقا مغايرا!

وبذلك فإننا نقوم في هذه المعادلات بإدخال متغيرات معينة ولكننا لا نحصل على إجابات محددة بل نحصل على احتمالات لإجابات متعددة!

والخلاصة فإننا نلاحظ أن النظرية النسبية لا تخالف نظرية الكم فحسب بل تعاكسها في نظرتها فهي تنظر للقوام الأربع للكون (المادة والطاقة والزمان والمكان) على أنها قوام متصلة بينما نظرية الكم تنظر لهم على أنهم حبيبات منفصلة كمومية (جسيمات غاية في الصغر تحمل صفات موجية)، وهذا التناقض يجعل من الجمع بين النظرتين أمرا في غاية الصعوبة.

وأمام هذا التحدي انقسم العلماء، فقسم يرى أننا سنشهد في المستقبل القريب فتحا جديدا في العلوم الطبيعية وأننا نحتاج إلى نظرية جديدة تماما وإطار معرفي آخر مغاير لما هو مألوف تماما، وينطلق هؤلاء من فكرة أن التطور البشري في علوم الطبيعة عندما تتأزم الأمور فإنه يخرج بإطار معرفي جديد كما حدث في تاريخ العلوم، ومقابل هؤلاء هناك من طرح حلا للتناقض الظاهر بين النسبية ونظرية الكم، وقبل أن أتناول الحلول المطروحة، لابد لنا من وقفة مع تعريف نظرية كل شيء الذي بدأنا به مقالتنا ثم نتعرض إلى أقرب النظريات الحالية لنظرية كل شيء وذلك قبل الحديث عن الحلول المطروحة.

ذكرنا سابقا بأن المقصود من نظرية كل شيء الوصول إلى أبسط وصف رياضي ممكن للمكان والزمان وجميع المواد وأصناف القوى في أعمق وأبسط مستويات الكون.

والسؤال الذي يثيره البعض، كيف لنا أن نعرف بأننا وصلنا إلى أبسط وصف رياضي ممكن؟

فماذا نقصد بذلك، هل هذا يعني أن تحتوي المعادلة على متغير واحد فقط، أم متغيرين، وكيف لنا أن ندرك أن المعادلة غدت أبسط وصف رياضي وما الذي يضمن ألا يُكتشف وصف رياضي أبسط منه في الغد؟! وهكذا الحال مع فكرة «أبسط مستويات الكون»

فلو رجعنا إلى تاريخ العلوم الطبيعية، لوجدنا بأننا في كل مرة نظن أننا وصلنا إلى أبسط صورة ممكنة، وإذا بنا نرى صورة أبسط منها تبرز بعد فترة وجيزة، فلقد تصورنا أن الذرة هي أبسط الصور ثم وجدنا أن الذرة تتكون من نواة وإلكترونات تدور حولها، ثم تبين لنا أن النواة تتكون من بروتونات ونيوترونات، وأخيرا اكتشفنا أن البروتونات والنيوترونات تتكونان من الكوارك، فما الذي يضمن لنا أن الكوارك جسيم أساسي بسيط، وما الذي يضمن بأننا لن نكتشف غدا بأنه ليس كذلك وأنه جسيم معقد مكون من جسيمات عديدة؟! (٣)

والواقع أنه لا توجد ضمانات في علوم الطبيعة، فطبيعة المنهج التجريبي والتي تقوم عليه علوم الطبيعة، منهج استقرائي، وهذا المنهج يمكننا فيه أن نثبت خطأ النتيجة التي توصلنا إليها من خلال إجراء تجربة ما تثبت مثلا أن الكوارك ليس جسيما أساسيا وأنه يتكون من جسيمات أخرى، ولكننا لا نصل من خلال الاستقراء إلى اليقين المطلق، فحتى لو قمنا بإجراء ألف تجربة تثبت أن الكوارك جسيم أساسي، فهناك احتمال بأن يثبت خطأ هذا الاستنتاج في التجربة رقم ألف وواحد، فالمنهج الاستقرائي منهج يقوم على إمكانية إثبات خطأ النتيجة التي توصلنا إليها ولا يمكن من خلاله إثبات صحة النتيجة التي توصلنا إليها بشكل يقيني، ولكن حالة الاطمئنان واحتمال الصحة ترتفع كلما أقدمنا على تجارب نتائجها تتوافق مع النظرية العلمية، وهذا ينطبق أيضا على بساطة المعادلة الرياضية أيضا، فلا يمكن لنا إثبات أن هذه المعادلة أبسط صورة رياضية ممكنة فلربما يأتي غدا أحدهم ويشتق معادلة رياضية أبسط منها، لذا فإننا نرى أن هذين النقدين غير صحيحين فهما نتيجة منهج العلوم الطبيعية وليسا نتيجة مباشرة للتعريف الذي طرح لنظرية كل شيء.

إن سعي علماء الطبيعة للوصول إلى أبسط وأعمق أشكال المادة والقوى أوصلنا اليوم إلى ما يعرف بـالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، والذي يعد أبسط وأعمق صور المادة إلى يومنا هذا.

وهذا ما سنتطرق له في الجزء الثاني من المقالة في العدد القادم.

أ. د. حيدر أحمد اللواتي / كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجسیمات الکمومیة هذه النظریة فی نظریة لا یمکن من خلال أن هذه بعد أن لنا أن

إقرأ أيضاً:

فرضية حديقة الحيوان.. لماذا لم نجد حياة عاقلة في الكون إلى الآن؟

تبدأ الحكاية من جلسة غداء صيفية عادية في مختبر لوس ألاموس الوطني، بولاية نيوميكسيكو الأميركية سنة 1950، دار خلالها نقاش بين مجموعة من 9 فيزيائيين حول خرافات الأطباق الطائرة، وهنا ألقى إنريكو فيرمي، الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، بسؤال بسيط: "أين ذهب الجميع؟"

انفجر الجالسون ضحكا على إثر السؤال، لكن مع قاعدة نظرية مثيرة للانتباه عرضها فيرمي، أصبح الأمر أكبر من مجرد خاطرة أو فرصة للتأمل، بل تساؤلا مهما سمي بعد ذلك "مفارقة فيرمي"

إنريكو فيرمي الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل (غيتي) مفارقة بلا إجابة

وتجري المفارقة كالتالي، نعيش في كون ولد قبل نحو 13.8 مليار سنة بحسب أكثر النظريات قبولا لدى العلماء، به تريليونا مجرة أو أكثر، كل واحدة منها تحتوي على مئات المليارات من النجوم، نعتقد كذلك -بعد حوالي 4 عقود من البحث في نطاق الكواكب التي تدور حول نجوم غير الشمس- أن هناك عددا مماثلا الكواكب، بعضها يمكن له احتضان ظروف تشبه ظروف أرضنا الدافئة.

في كون كهذا، يمكن لحضارة ما تمتلك تكنولوجيا صاروخية متوسطة أن تصل إلى كامل حدود المجرة الخاصة بها خلال 10 ملايين سنة فقط، في تلك النقطة دعنا نفترض أن هناك كوكبا ما، لنسمّه "الكوكب كريبتون"، يشبه الأرض في كل شيء تقريبا، ولد "كريبتون" قبل نحو 6.5 مليارات سنة ضوئية، بينما ولدت الأرض من باطن السحابة الغبارية المحيطة بالشمس قبل 4.5 مليارات سنة ضوئية فقط، هذا يعني أن كريبتون الآن يتقدم عنّا بملياري سنة.

إعلان

هنا سوف نسأل: متى ابتكر الإنسان الكتابة؟ قبل حوالي 5 آلاف و7 آلاف سنة مثلا، إن كل ما نراه من تقدم صناعي كان ابن 200 سنة سابقة، ومنذ 20 سنة فقط لم نكن نتوقع أن 6 مليارات شخص من هذا الكوكب سوف يمتلكون هواتف محمولة، التقدم التقني يتخذ نمط تطور متسارع، بحيث تمثل 100 سنة طفرة كبيرة، لكن في عمر الكون فهذه ليست إلا لحظة.

إن تطور القدرات التقنية للبشرية بتلك السرعة يدفعنا، على الأقل، إلى فهم مدى التقدم المتوقع إذا استمرت الأمور بهذا النمط. وفي دراسة شهيرة صدرت بدورية "نيتشر" في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، لمؤلفين من جامعة كورنل هما جيسيب كوكوني وفيليب موريسون، فإن محاكاة بسيطة لتطور وضعنا كحضارة بشرية، يجعله من المحتمل أيضا لأية حضارة عاقلة أن تتمكن من بث أو استقبال إشارات راديوية بدرجة كبيرة من السهولة، وذلك لأن كل ما تحتاجه الحضارة هو بدايات علم الفلك الراديوي فقط بحيث يمكن استقبال وإرسال إشارات راديوية من الفضاء عن طريق أطباق لاقطة.

في تلك النقطة يقترح الفيزيائي البريطاني فريمان دايسون في ورقة بحثية نشرت بدورية "ساينس" في ستينيات القرن الماضي أن حضارة أخرى متقدمة عنا فقط بفارق قدره عدة آلاف من الأعوام، ستمتلك القدرة على تسخير الطاقة الصادرة من نجم كامل، بحيث يمكن تصميم كرة ضخمة للغاية، أو على الأقل سرب هائل من الأقمار الاصطناعية -في مرحلة ما- لصناعة غلاف حول نجم مجاور واستهلاك كل طاقته.

فرضية حديقة الحيوان

إذا كان التقدم سهلا إلى هذا الحد، فأين ذهبت الكائنات الفضائية إذن؟ خلال نصف قرن مضى قدم العلماء والمفكرون اقتراحات عدة للإجابة عن هذا السؤال، واحدة منها كانت "فرضية حديقة الحيوان"، التي تنص على أن الحياة خارج كوكب الأرض تتجنب عمدا الاتصال بالأرض للسماح بالتطور الطبيعي والتطور الاجتماعي والثقافي، وتجنب التلوث بين الكواكب، على غرار الأشخاص الذين يراقبون الحيوانات في حديقة الحيوان.

إعلان

هذا النمط من السلوك مرصود في البشر، فمثلا تتجنب العديد من الدول التدخل في شؤون مجموعات "الشعوب الأصلية"، حتى لا يؤثر ذلك التدخل على تطورهم الاجتماعي الطبيعي ويتسبب في بلبلة شديدة داخل مجتمعاتهم، هذه الصدمة الحضارية تؤثر سلبا في الثقافات والشعوب، تخيل فقط أننا تمكنا بطريقة ما من السفر في الزمن وإرسال هاتف ذكي إلى مجموعة من جامعي الثمار قبل 10 آلاف سنة.

وقد تختار أشكال الحياة خارج كوكب الأرض، على سبيل المثال، السماح بالاتصال بمجرد أن يجتاز الجنس البشري معايير تكنولوجية وسياسية أو أخلاقية معينة. بدلا من ذلك، قد تمتنع عن الاتصال حتى يفرض البشر الاتصال عليها، ربما عن طريق إرسال مركبة فضائية إلى كوكب تسكنه كائنات فضائية.

في هذا الصدد، قد يعكس الإحجام عن بدء الاتصال رغبة معقولة في تقليل المخاطر. قد يستنتج المجتمع الفضائي الذي يمتلك تقنيات استشعار عن بعد متقدمة أن الاتصال المباشر بالجيران يفرض عليه أخطارا إضافية دون فائدة إضافية، ما الذي تستفيده كائنات متقدمة من كوكب أقل تقدما مثلا؟ لاحظ أن السفر بين النجوم مكلف جدا، حتى على أكثر الحضارات تقدما، بسبب المسافات الشاسعة التي يجب أن تقطعها، خذ أقرب نجم للشمس مثلا، يقع تقريبا على مسافة 40 ترليون كيلومتر من الأرض.

تظل مثل هذه الفرضيات في خانة التخمينات الفكرية (شترستوك) تخمينات فكرية

وتبنى فرضية حديقة الحيوان على عدة أسس، أولاً، أنه كلما كانت الظروف تسمح للحياة بالوجود والتطور، فسوف يحدث ذلك، وثانيا، هناك العديد من الأماكن حيث يمكن للحياة أن توجد وعدد كبير من الثقافات خارج كوكب الأرض، وثالثا، أن هذه الكائنات الفضائية تكن احتراماً كبيراً للتطور والنمو الطبيعي المستقل.

لكن إلى الآن، لا يوجد تأكيد علمي (أو حتى فكري) على صحة هذه القواعد الثلاث، حيث يفترض العلماء أن نشأة وازدهار الحياة على الكواكب البعيدة أمر شديد الندرة، بسبب ضرورة توافق عدد كبير من العوامل لتستمر الحياة على كوكب ما وصولا إلى مستوى الحياة العاقلة، الأمر الذي يتطلب مليارات السنوات.

إعلان

أضف لذلك أن الفرضية ستكون صحيحة إذا كانت هناك سياسة ثقافية أو قانونية كونية متفق عليها بين مجموعة من الحضارات الفضائية التي تستلزم العزلة فيما يتعلق بالحضارات في مراحل تطور شبيهة بالأرض، أما في عالم بلا قوة مهيمنة، فإن الحضارات الفردية العشوائية ذات المبادئ المستقلة سوف تتواصل.

وفي كل الأحوال، تظل مثل هذه الفرضيات في خانة التخمينات الفكرية، بينما تبقى الحقيقة الواحدة التي نعيشها الآن، مع العديد من الأرصاد الفلكية، هي أنه لم يحدث حتى اللحظة أي تواصل مع كائنات فضائية عاقلة على كواكب أخرى، بل لم يتمكن البشر من رصد أي صورة من صور الحياة خارج كوكب الأرض.

مقالات مشابهة

  • «المناظرة الأخيرة».. كواليس تصوير فيلم هيبتا 2
  • في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الأول-
  • ما هي نظرية أثر الفراشة وعلاقتها بالتوحد؟
  • بـ مليون و700 ألف.. فيلم «الحريفة 2» يحقق المركز الأول بدور السينما
  • نماذج امتحان دراسات للصف الرابع الابتدائي الترم الأول 2024: كيفية الحصول عليها والاستعداد للامتحانات
  • قبل أحمد عز نجوم رفضوا تقديم دور رضا في فيلم "ولاد رزق"
  • تخطى 83 مليون جنيه.. فيلم «الحريفة 2» يحقق إيرادات قياسية بدور السينما
  • فرضية حديقة الحيوان.. لماذا لم نجد حياة عاقلة في الكون إلى الآن؟
  • إبراهيم شعبان يكتب: نظرية العصر الإسرائيلي
  • الصحة الفلسطينية: إسرائيل تنتهك أبسط قواعد القانون الدولي والإنساني