على وقع التوتر المستمرّ على الحدود الجنوبية، في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة للسيادة اللبنانية، والعمليات التي ينفذها "حزب الله" في إطار "حقّ الرد"، وبالتوازي مع معركة "طوفان الأقصى" المتواصلة في الأراضي الفلسطينية، ومجزرة غزة المستجدة، ينشط الحراك الدبلوماسي في بيروت، على أكثر من مستوى، وعنوانه الدعوة لعدم انجرار لبنان إلى الحرب الدائرة في المنطقة، من بوابة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.


 
ومع أنّ اللبنانيين "يتقاطعون ضمنًا" مع العدو الإسرائيلي على "غياب المصلحة" من الذهاب إلى الحرب الواسعة والمواجهة المفتوحة في ظلّ الظروف الموضوعية الحاليّة، فإنّ ما يثير الانتباه بالتوازي مع الحراك الدبلوماسي يتمثّل في "تحذيرات الرعايا" التي بدأت بعض السفارات تصدرها، بالتوازي أيضًا مع تعليق بعض شركات الطيران لرحلاتها إلى بيروت، كما فعلت الخطوط الجوية السويسرية.
 
يتزامن كلّ ذلك مع كمية من الإشاعات التي تتّسع رقعتها يومًا بعد يوم، حول آفاق التوتر الحدوديّ المتصاعد، لدرجة أنّ هناك من يلمّح إلى إمكانية أن تكون بيانات التحذير للرعايا "استباقية" للحرب الآتية "لا محالة" وفق هؤلاء، ما يدفع للتساؤل: هل من داعٍ للهلع؟ وهل يكون الحراك الدبلوماسي النشط مجرّد محاولة لتفادي سيناريو بات محتّمًا، أو ربما للقول إنّ الدول حاولت ثني الأطراف عن الذهاب إلى "الهاوية" لكنّها فشلت في ذلك؟!
 
"تحسّبًا للتصعيد"
 
يقلّل العارفون من شأن الاستنتاجات السريعة التي خرج بها البعض، أو التفسيرات والتأويلات التي تلت صدور بعض تحذيرات الرعايا من السفر إلى لبنان، أو الطلب منهم مغادرته، طالما أنّ ذلك لا يزال مُتاحًا إلى حدّ بعيد، وأنّ حركة المطار نَشِطة، معتبرين أنّ بعض هذه التفسيرات جاءت "مضخّمة"، بل إنّ البعض ذهب "بخياله بعيدًا" لحدّ نسج سيناريوهات قد لا تكون خطرت على بال الدول المعنيّة بهذه التحذيرات والتوصيات.
 
 يشدّد هؤلاء على أنّ التوصيات الصادرة في هذا السياق جاءت على طريقة "تحسّب التصعيد"، وليس "التحضير له"، أو حتى "التنبؤ به"، فهي تندرج في إطار الخطوات "الوقائية الاستباقية"، علمًا أنّ بعض دول العالم كانت تتحرّك لدعوة رعاياها إلى الحذر في ظلّ أوضاع أقلّ توترًا بكثير ممّا يحصل اليوم، بل إنّ هناك من كان يتحرّك بمجرّد أن يتوتر الوضع في المنطقة، باعتبار أن لبنان ليس جزيرة معزولة، فكيف بالحريّ في ظلّ التوتر على حدوده.
 
انطلاقًا ممّا سبق، يؤكد العارفون أنّ التحذيرات التي تصدر عن بعض السفارات لرعاياها والتي قد تتولى في القادم من الأيام، في ظلّ استمرار العمليات والعمليات المضادة على الحدود الجنوبية، لا تعني أبدًا أنّ هذه الدول "تمتلك معلومات" عن أنّ الحرب باتت "حتمية"، أو أنها "مسألة وقت"، ولا أنّ سيناريو "حرب تموز" مثلاً يقترب، وأنّ حركة الطائرات ستتوقف، وسيصبح لبنان معزولاً عن دول العالم، بفعل المواجهات العسكرية.
 
"لا داعٍ للهلع"
 
لعلّ ما يعزّز هذه القناعة بأنّ التحذيرات للرعايا تأتي بالتوازي مع حراك دبلوماسيّ لافت على أكثر من صعيد، وفي ظلّ حركة موفدين دوليين توحي بعض المعطيات بأنّها ستزداد في الأيام القليلة المقبلة، وهو ما يدلّ على أنّ لبنان "ليس متروكًا"، وأنّ الدول الغربية، ولا سيما الصديقة منها، لا تريد أن تنتقل "كرة النار" إلى هذا البلد، وهي لذلك تسعى لإقناع جميع الأطراف بـ"ضبط النفس" قدر الإمكان، تفاديًا لأيّ "مغامرات غير محسوبة".
 
وفي هذا السياق، يقول العارفون إنّ أحدًا لا يرى مصلحة في "توسيع" الحرب الدائرة في قطاع غزة إلى "الجبهة اللبنانية"، ولذلك فإنّ الدول الغربية تسعى للحصول على "ضمانات" بعدم الانزلاق إلى مثل هذا "السيناريو"، وهو ما تتقاطع عليه أصلاً جميع الأطراف المعنيّة، فالغرب يخشى من تداعيات أيّ مواجهة عسكرية في لبنان، خصوصًا في ظلّ "ورقة النازحين"، تمامًا كما أن إسرائيل لا ترغب بفتح "الجبهة"، وهو ما يقوله مسؤولوها جهارًا.
 
انطلاقًا من كلّ ذلك، يعتقد العارفون أنّ "لا داعي للهلع"، للعديد من الأسباب، فإذا كانت تحذيرات السفر للرعايا تندرج في خانة "التحسّب من التصعيد"، ووضع "خطة" التعاطي مع الأمور في حال خروجها عن السيطرة في أي وقت، يبقى الأكيد أنّ مجرّد رصد حراك دبلوماسي يعكس الرغبة الكامنة لدى هذه الدول بـ"تفادي الحرب"، وليس "استدراجها"، وبالتالي يُبعِد احتمالات "الحرب" أكثر فأكثر، خلافًا لما قد يعتقده البعض.
 
قد لا تكون عبارة "لا داعي للهلع" محبّبة للكثير من اللبنانيين، لكنها قد تكون في موقعها المناسب هنا، في ظلّ الإشاعات التي كثرت في الأيام الماضية عن "حرب وشيكة" تكاد تصبح "حتميّة"، ليس على الحدود فحسب، ولكن في كلّ البلاد. لا يعني ما تقدّم أنّ مثل هذا السيناريو قد لا يحصل في لحظةٍ ما، إن فرضته ظروف معيّنة، لكنّه يعني أنّ "تقاطع المصالح" يجعله أبعد بكثير ممّا يظنّ أقصى المتشائمين، أقلّه بناء على الوقائع الميدانية! المصدر: خاص "لبنان 24"

المصدر: لبنان ٢٤

إقرأ أيضاً:

هل باتت القدس أبعد؟

 

– مع كل احتفال سنوي لإحياء يوم القدس كنا نقيس المدى الذي يفصلنا عن القدس ونقول إنها باتت أقرب، ونحن نشهد تنامي قوة المقاومة في لبنان وفلسطين، خصوصاً بعد ظهور محور المقاومة إلى حيّز الوجود، وتحوله إلى محور حقيقي، ظهرت ملامح تبلوره كجبهة مقاتلة موحّدة بعد طوفان الأقصى. وها نحن اليوم مع الإحياء السنوي ليوم القدس نجد السؤال يطرق أبوابنا، وقد حوصرت المقاومة في العراق حتى أقفلت الإسناد واضطرت للبحث عن كيفية حماية حضورها من الحصار، بينما المقاومة في لبنان قد أصيبت بجراحات بالغة خسرت معها كثيراً من كبار قادتها، وعلى رأسهم قائد محور المقاومة السيد حسن نصرالله، الذي أتاح اغتياله لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أن يقول إن المحور انتهى باغتيال السيد نصرالله، وصولاً إلى سقوط سورية من موقعها في محور المقاومة وخياراتها، وإقفالها كقاعدة لقوى المقاومة وإغلاق مسارات الإمداد التي كانت تمثلها لهذه القوى، فهل يجب أن نستنتج أن القدس باتت أبعد ونحن نرى غزة تواجه حرب الإبادة منفردة، لولا يمن عزيز بقي وحيداً يساندها؟

– بالعودة الى عناصر قرب القدس وبُعدها ثمة معياران يشكل اجتماعهما مصدر الجواب، الأول هو درجة حضورها كقضية ساخنة تُلهب المشاعر وتستنهض الهمم في وجدان شعوب الأمتين العربية والإسلامية، والثاني هو درجة تأثير كل عناصر القوة التي تمثلها المقاومة في بنية كيان الاحتلال وجيشه وجبهته الداخليّة، ودرجة بلوغ هذا التأثير الحد الذي يجعل المأزق الوجودي أشدّ عمقاً وحضوراً. وكي نستطيع فهم المشهد بعقل بارد، لأن المشاعر الحارة تفسد هنا القدرة على الملاحظة والاستنتاج، بحجم الخسائر التي لحقت بقوى المقاومة ودرجة حرارتها الحارقة للقلوب والمشاعر، لأن هذه الحرب بما تمثل من تصادم وارتطام كبير لقوّتين متعاكستي الاتجاه بكل القوة والسرعة، تركت خراباً على ضفتي التصادم، وإذا كنا نلاحظ ونستشعر ما حلّ بالضفة التي نقف عليها، فما يهمّ هو رؤية ما لحق بالضفة المقابلة؟

– إذا كانت القدس ترمز في ما ترمز للقضية الفلسطينية، فإن الأعداء أنفسهم لا ينكرون أن ما جرى خلال عام ونصف نقل القضية الفلسطينية إلى مرتبة ومكانة ما كانتا لها في يوم من الأيام، وقد صارت استحقاقاً سياسياً وأخلاقياً ودبلوماسياً واستراتيجياً لا مفرّ منه بالنسبة لكل دول العالم وشعوبه وحكومات المنطقة وشعوبها. وبالتوازي فإن شعور شعوب العرب والمسلمين بالتقصير والخزي بسببه مع فقدان الثقة بأن تفعل الحكومات شيئاً زاد من تطلّع الشعوب نحو قوى المقاومة، ولعل أبرز مثال على ذلك هو مقارنة مكانة اليمن في عيون العرب قبل الطوفان وجبهات الإسناد وبعدهما، وقد صار اليمن قدوة الجميع في الحديث عن الشرف والنخوة والشهامة ومقياس العروبة والتقيّد بأحكام الإسلام. وفي الجواب على السؤال من هذه الزاوية، فإن القدس باتت أقرب بكثير مما كانت عليه من قبل، وأن يوم القدس صاحب أفضل في مراكمة الوعي وشحن الذاكرة لإبقاء القدس حاضرة عصيّة على النسيان.

– في حال كيان الاحتلال، رغم صخب الحرب ومظاهر القوة التي يُبديها قادة الكيان إلى حد التوحّش، ومن خلفهم كل القدرات الأميركية العسكرية والسياسية والمالية والدبلوماسية، فإن النظر إلى المشهد داخل الكيان، ومتابعة خطابات قادته، يكشف لنا بوضوح أن الحديث يجري عن كيفية تفادي خطر الحرب الأهلية، وعن وجود أكثر من “إسرائيل” يجب أن تضمحل إحداهما كي تبقى الأخرى على قيد الحياة، وأن الفشل في التخلص من حركات المقاومة، يجعل المأزق الوجودي حاضراً بقوة، بدليل رفض نازحي مستوطنات الشمال والجنوب العودة إلى مستوطناتهم، بينما رفض الانضمام إلى الخدمة العسكرية يتسع بصورة تصيب القادة بالذهول، والهجرة المعاكسة من الكيان بلغت أرقاماً قياسية مع التحفظ على العودة، ولا أحد يجرؤ من القادة العسكريين على التحدث عن كفاءة القوات البرّية للفوز في جبهات لبنان وغزة، ولا عن كفاءة القبّة الحديدية أمام صواريخ اليمن وطائراته المسيّرة، وأمام أي احتمال للعودة إلى المنازلة مع المقاومة في لبنان، وفرضيّة الحرب مع إيران.

– تستمرّ الحرب أساساً لأن إقفالها يعني تكريس الفشل الاستراتيجي لمشروع اسمه “إسرائيل”، ولذلك يجهد قادة الكيان ومن خلفهم الغرب كله كي تنتهي بصورة تتيح للكيان الاحتفال بصورة نصر يتفادى بها كتعويذة بقاء خطر التفكك، لكن الحرب لم تنته بعد ولا يبدو في الأفق أن الكيان يستطيع الحصول على التعويذة المنشودة لإنهائها، وعندما يضطر لإنهاء الحرب بغير شروط تتيح الحصول على تعويذة البقاء بمزاعم النصر، سوف نكتشف كم جعلتنا هذه المتغيّرات، رغم الجراحات وآلامها، أقرب إلى القدس.

* رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية

 

 

مقالات مشابهة

  • تصعيد إسرائيلي في لبنان والجيش يدعوه للانسحاب من المناطق التي يحتلّها
  • بول كاغامي: فلتذهب إلى الجحيم الدول التي تفرض علينا عقوبات
  • استجابةً للتحديات التي تواجه صناعتها... إطلاق تجمّع منتجي الدراما في لبنان
  • مجدي مرشد : زيارة ماكرون لمصر عبقرية وتعادل سنوات من العمل الدبلوماسي والدعائي
  • هل باتت القدس أبعد؟
  • الجبهة الشعبية: الحراك العالمي يجب أن يستمر حتى وقف الإبادة الصهيونية على غزة
  • هل يؤثر عودة الحراك الجماهيري على واقع حرب الإبادة بغزة؟
  • الذهب والفضة ينخفضان مع تصاعد الحرب التجارية التي أعلنها ترامب
  • القوى العظمى تتسابق في حيازة القوة الفتاكة
  • الكشف عن الدولة العربية التي قدمت دعما لحملة القصف على اليمن