الحوسبة الكوانتمية ومســتقبل الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT
أرغب بالإشارة إلى الشق اللغوي لكلمة «كوانتم»، وجدل تعريبها قبل البدء في الجانب العلمي لما يُعرف بالحوسبة الكوانتمية. وجدت عدة استعمالات -تعريبات- لكلمة كوانتم في اللغة العربية؛ فهناك من يشير إليها بـ«الكَميّة»، وهناك من يستعمل كلمة «الكمومية»، إلا أنني أذهب مع الرأي الذي يُرجّح استعمال كلمة «كوانتم» دون الحاجة لتكلّف تعريبي؛ حيث يُعنى بكلمة «كوانتم» في الجانب العلمي الظواهر الفيزيائية تحت الذرية، ونجد محاولات التعريب عبر استعمال كلمات -يُراد بواسطتها التعريب- مثل «كميّة» و«كمومية» إلا أن مثل هذه التعريبات لا تحقق التعريب العلمي الدقيق للمعنى الذي تحمله الكلمة الأصلية «كوانتم»، وهناك آراء لبعض المختصّين في العلوم والفلسفة -بعضهم ممن ترجم بعض الكتب العلمية من لغات أجنبية إلى العربية- تؤيد هذا التوجه في اعتماد الكلمة الأصلية «كوانتم» مثل رأي الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا والأستاذة الدكتورة يمنى طريف الخولي، ومما أفصحا عنه -فيما يخص كلمة «كوانتم» وجدل تعريبها- في مقدمة ترجمتهم (تصدير المترجمين) لكتاب «فلسفة الكوانتم» لرولان أومنيس -المترجم عن سلسة عالم المعرفة-: « وقد تفكرنا مليا في ترجمة مصطلح «الكوانتم».
إن ما تعانيه الثقافة العربية من الافتقار إلى وحدة المصطلح في مواطن عديدة ذات أهمية وخطورة يجعلنا نجد هذا المصطلح في المؤلفات العربية بصور شتى، فيقال عن فيزياء الكوانتم: فيزياء الكم، الفيزياء الكمية، الفيزياء الكوانتية، فيزياء الكمومية. وقد آثرنا تعريبه، بمعنى الإبقاء عليه في العربية بصيغته الأصلية «الكوانتم» التي ليست إنجليزية بل كلمة لاتينية تعني «مقدار». وأبسط ما يقال في هذا أن الإبقاء على المصطلح «كوانتم» سوف يتفادى اللبس مع كلمة «كمية quantity» ومشتقاتها». من المؤيدين كذلك على الإبقاء على الكلمة الأصلية «الكوانتم» المفكر وعالم الفيزياء الأردني الدكتور هشام غصيب، والدكتور هشام من علماء العلوم الطبيعية العرب القلّة الذين يتقنون تقديم العلم -في محاضراته- بلغة عربية فصيحة يكاد لا يلحن فيها، وأشار في ذلك في إحدى محاضراته التي لا أذكر عنوانها. أكتفي بهذا التعليل في إبقائي للكلمة الأصلية «كوانتم» بدل تعريبها غير الدقيق وغير المتفق عليه؛ لأعود إلى الشق الأهم «العلمي» للحوسبة الكوانتمية، وكشف كيانه الرقمي وتطبيقاته ومستقبله مع الذكاء الاصطناعي.
ظهور لا بد منه
لم يكن ظهور الحوسبة الكوانتمية مجرد اكتشاف علمي مفاجئ، بل جاء نتيجة تطويرات وترابطات فيزيائية ورقمية بدءًا بالحاجة إلى تطوير أنظمة الحاسوب الكلاسيكية التي تعتمد على دماغها الرقمي والإلكتروني المعروف بوحدة المعالجة المركزية «Central Processing Unit» الذي يعتمد على «الترانزستور» بأعداده الكبيرة وأحجامه متناهية الصغر -تصل الأعداد إلى المليارات، والأحجام تقاس بوحدة دقيقة جدا مثل النانومتر-، ويكمن دور «الترانزستور» في كونه البوابة المفتوحة أو المغلقة للتيار الذي يمكن تمثيله عبر اللغة الرقمية بـ«1 و0» ؛ فالرقم 1 يشير إلى مرور التيار، والرقم 0 إلى منع مرور التيار أو ضعفه، ويُستعمل نظام الأرقام الثنائي «البت Bit» ليكون وحدة تخزين البيانات؛ حيث إن نظام «البت» يعمل على رقم واحد فقط إما 1 وإما 0. جاءت كذلك ثورة فيزياء الكوانتم بتطبيقاتها العملية منها ما أمكن إحداثه في أنظمة الحاسوب؛ لينقلنا من النظام التقليدي للحوسبة إلى ما نطلق عليه بالحوسبة الكوانتمية، وقبل أن نشرح مبادئ آلية عمل الحوسبة الكوانتمية وتطبيقاتها نأتي إلى شرح مبسّط مختصر لفيزياء الكوانتم.
احتمالات مفتوحة
تبحث فيزياء الكوانتم في الجسيمات متناهية الصغر وظواهرها مثل تلك التي تُعرف بتحت الذرية مثل فوتونات الضوء، والإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات، وتعتمد فيزياء الكوانتم مبدأ الاحتمالات المفتوحة التي تخالف مبدأ الفيزياء الكلاسيكية ذي القوانين الثابتة؛ فهناك ظاهرة «التراكب الكوانتمي» «Superposition» التي تعتبر أهم أسس آلية عمل الحوسبة الكوانتمية، وتنشأ ظاهرة التراكب الكوانتمي نتيجة وجود احتمالات كثيرة لحالة الإلكترون، ويمكن شرح هذه الظاهرة تحت الذرية عبر تجربة الشق المزدوج «Double-Slit» عبر إطلاق جسيمات تحت ذرية مثل الإلكترونات باتجاه شقين -عبارة عن فتحتين تخرج منهما الجسيمات-، وتوجد خلف الشقين شاشة «لوحة» لرصد وصول الإلكترونات وتسجيل حالتها. تُظهِر هذه الجسيمات وفقا للرصد والقياس أنماطا مزدوجة؛ فيتصرف الإلكترون تارة
بأنه جُسيم «Particle»، وتارة أنه موجة «Wave» دون القدرة على تحديد أدنى مستوى للاحتمالات في هذه الظاهرة التي تعبّر عن التراكب الكوانتمي الذي يُشير إلى مفهوم مبدأ الانصهار المتعدد «Wave-Particle Duality»، وهو أن يُوصف الإلكترون بأنه جُسيم وموجة في آن واحد.
تأتي كذلك ظاهرة التشابك الكوانتمي «Quantum Entanglement» لتصف حالة الجسيم تحت الذري -مثل الإلكترون- عند انطلاق إلكترونين بسرعة عالية جدا في اتجاهين مختلفين؛ فإن هناك ظاهرة تشابك كوانتمي تحدث لهذين الإلكترونين؛ بحيث يتأثر أحدهما بالآخر ولو على بعد مسافات ضوئية بين كل منهما بآلية يمكن أن نصفها «مجازًا» بالتخاطر؛ فكانت ظواهر مثل التراكب والتشابك الكوانتمي -التي لم يتفق العلماء بشكل قطعي فيما يخص تفسيرهما- انطلاقة إلى فكرة بناء الحاسوب الكوانتمي الذي كان عالم الفيزياء الأمريكي «ريتشارد فاينمان» أبرز من اقترحها في ثمانينيَّات القرن الماضي.
اقتصاد متسارع
تتسابق شركات التقنية في صناعة الحاسوب الكوانتمي وتتنافس فيما بينها، وتتلقى الدعم المباشر من حكومات الدول الكبرى التي وجدت في الحوسبة الكوانتمية مشروعًا يقودها إلى فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية في العالم بجانب سباقها في القطاعات الرقمية الأخرى وأبرزها الذكاء الاصطناعي. تبرز أهمية الحوسبة الكوانتمية في أنها تتجاوز قدرات الحوسبة التقليدية بأضعاف كثيرة؛ إذ تتضاعف أعداد «الترانزستورات»، ويقّل حجمها؛ لتصل إلى أحجام تحت الذرية؛ مما يسمح لوجود الظواهر الكوانتمية للجسيمات دون الذرية مثل الإلكترون؛ فوفقًا لظاهرة التراكب الكوانتمي تُظهر الإلكترونات سلوكًا مفتوح الاحتمالات؛ فيعمل النظام الكوانتمي على احتمال وجود الرقم 1 و0 معا مستعملا وحدة يُطلق عليها «كيوبت Qubit» - اختصارا لكوانتم بت-، على عكس ما يحدث في الحوسبة التقليدية التي تعمل على وجود 1 أو 0 في اللحظة الواحدة، وبوجود ظاهرة التراكب الكوانتمي في الحوسبة الكوانتمية المبنية على عدم وجود احتمال لمعرفة وجود أيّ من الرقمين، وإن وجودهما معا في آن واحد يكون مقبولا وفقا للسلوك الكوانتمي للجسيمات تحت الذرية، وهذا ما يجعل من النظام الكوانتمي أسرع بأضعاف كثيرة عن نظام الحوسبة العادي، وأكثر قدرة وجودة في المعالجة والتخزين؛ وبالتالي يكون قادرا على فكّ التشفيرات الحاسوبية بسرعة ودقة عالية، وهذا ما يدعو إلى التوجس من مخاطر الحوسبة الكوانتمية التي يمكن أن تتحول إلى سلاح ذي حدين كما رأينا مع الذكاء الاصطناعي واستعمالاته الخطرة، ومخاطر الحوسبة الكوانتمية تتضاعف مع اندماجها بأنظمة الذكاء الاصطناعي الذي بدوره -هذا الاندماج بين الحوسبة الكوانتمية والذكاء الاصطناعي- يقود إلى ظهور الذكاء الاصطناعي العام «الخارق».
اهتمام بالغ
بدأ الحديث عن الحوسبة الكوانتمية أنه يأخذ حيزًا بارزا منذ عام 2022، خصوصا بعد إعلان عدة شركات إطلاقها لحواسيب كوانتمية مثل: IBM›s Osprey quantum computer الذي يحتوي على 433 كيوبت «Qubits»، وGoogle Sycamore ب53 كيوبت، وIonQ Forte ويملك 32 كيوبت، وIQM مع 11 كيوبت، وM Squared Laser Maxwell بوجود 16 كيوبت، وOxford Quantum Circuits Lucy ويملك 32 كيوبت. لا تزال تطويرات الحوسبة الكوانتمية مستمرة عبر مضاعفة عدد وحدات التخزين «الكيوبت»؛ فشركات مثل جوجل تعمل على تطوير حاسوب كوانتمي بعدد أكبر من الكيوبت يصل إلى مليون كيوبت الذي يعد رقما كبيرا يساهم في منح الحاسوب قدرات فائقة تتجاوز التوقعات. لا تزال الحوسبة الكوانتمية في بدايتها؛ إذ ما يتوفر من أنظمة الحوسبة الكوانتمية الحالية في حدود الاستعمالات التجارية والبحثية، وللأغراض الأمنية والعسكرية عند بعض الدول الكبرى. تتعلق الاستعمالات الحالية للحواسيب الكوانتمية المذكورة التابعة لمثل هذه الشركات بالتطويرات الدوائية، وبناء خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتطورة، والأمن السيبراني، وللتحليلات الاقتصادية والمالية والتنبؤ بمسارها، وهناك أيضا استعمالات تثير القلق مثل قدرة هذه الحواسيب على فك التشفير الرقمي بسرعة وسهولة؛ مما يُهدد النظام الاقتصادي والسياسي العالمي. يتطلب العمل مع مثل هذه الاستعمالات الخاصة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي خوارزميات معقّدة تتعامل مع بيانات كبيرة تحتاج إلى سعة تخزينية كبيرة لا يمكن تحقيق سرعة عالية في معالجتها والتعامل معها عبر الحواسيب التقليدية، ولكن بوساطة الحواسيب الكوانتمية؛ فتكون العمليات الحسابية والتحليلية عالية وسريعة خصوصا مع اندماج هذه الحواسيب الكوانتمية مع أنظمة الذكاء الاصطناعي كما سنرى في الفقرة الآتية.
إمكانيات غير محدودة .. ولكن؟
أحد أبرز التحديات التي تواجه قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي في التعامل مع البيانات الكبيرة والتدرب عليها وقدراتها في تحليل هذه البيانات والوصول إلى التنبؤات الدقيقة هو وجود القدرات الحاسوبية العالية، ويشمل سرعة المعالجة والسعة التخزينية الكبيرة، إلا أنه يمكن تخطّي هذا التحدي بوجود الحوسبة الكوانتمية التي توفّر لنماذج الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة المستعملة بيئة رقمية واسعة وقوية. في المقابل، يعمل الذكاء الاصطناعي حال تشغيله بواسطة الحاسوب الكوانتمي على تطوير سريع لخوارزميات أكثر ذكاء؛ تساهم في تسريع تطويرات الحوسبة الكوانتمية، وهذا بدوره يساعد في مضاعفة قدرات الذكاء الاصطناعي في عمليات تحليل البيانات المعقّدة مثل التي تدخل في القطاعات الطبية؛ فمثلا يمكن للذكاء الاصطناعي الذي يعمل بواسطة الحوسبة الكوانتمية أن يفهم المادة الوراثية للفيروسات المهاجمة، ويفك شفراتها بسرعة؛ مما يساعد في تحديد الدواء المناسب، وكذلك كشف أسرار بعض الأمراض المستعصية على الطب -في وقتنا-، والبحث عن أفضل العلاجات الشافية، وكذلك في مجالات الطقس والتغيّر المناخي؛ فيمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تعمل بواسطة الحوسبة الكوانتمية أن تحلل بيانات الطقس والمناخ بسرعة ودقة عالية؛ فتعطي توقعات «تنبؤات» دقيقة، وكذلك في الكشف المبكّر عن الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل. في الجانب الآخر، هناك مخاوف تُثيرها القدرات الفائقة لهذه الأنظمة الكوانتمية والذكية تتمركز في سرعة بلوغ الذكاء الاصطناعي المرحلة العامة أو الخارقة التي -كما شرحتها في مقالات سابقة- تُنبئ بمستقبل يهدد الوجود البشري وحضارته إن لم تكن هناك إرادة دولية شاملة تتمثل في وضع حوكمة صارمة للذكاء الاصطناعي والحوسبة الكوانتمية واستعمالاتها، وأحد هذه المخاطر التي يمكن أن تنشأ نتيجة اندماج الحوسبة الكوانتمية والذكاء الاصطناعي هو التصنيع العسكري الخارق الذي لا يقف عند أي خطوط أخلاقية وإنسانية، والذي بتسارع وتيرة تطويراته سيقود إلى تدمير المجتمعات الإنسانية وحضاراتها، ويشمل هذا الخطر العسكري الأسلحة البيولوجية بجانب بقية أنواع الأسلحة التي لا نعرفها حتى وقتنا، وكذلك يمكن لهذه الأنظمة الكوانتمية الذكية أن تُستعمل في فك أية شفرات حاسوبية مهما كانت معقّدة؛ مما يقود إلى اضطرابات اقتصادية وصناعية وسياسية في العالم؛ تتصاعد بسببها التنافسات الهادفة إلى فرض الهيمنة والسيطرة العالمية؛ مما يقود إلى انتكاسة إنسانية غير مرغوبة. رغم ذلك فإننا نعوّل على بناء الوعي العام داخل المجتمعات الإنسانية في معرفة هذه التطويرات الرقمية المتسارعة، والقضاء على أيّ وسيلة لسوء استعمالها، وتوجيهها إلى مسارها النافع والمفيد للإنسانية وحضارتها.
د. معمر بن علي التوبي - أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی الذی ی
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.
كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟
لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.
كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.
ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.
المنافع المتوقعة
إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،
ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.
الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية
عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.
عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.
نظرة مستقبلية مشرقة
تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.
كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني