تطـور جديـد خـارج عـن السيطـرة
تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
ثمة مأزق نمر به حاليا نحن معشر البشر. فقد أطلقنا العنان لعملية تطورية جديدة لا نفهمها وليست لنا سيطرة عليها.
فالوثبات الأخيرة إلى الأمام في مجال الذكاء الاصطناعي، بنماذجه اللغوية الضخمة وقدرته على التزييف العميق، تثير قلقا حقيقيا. ومع ذلك، يكتفي الناس برد فعل عادي، وكأن الذكاء الاصطناعي لا يعدو تقنية جديدة مخيفة أخرى، شأنه اليوم شأن الكهرباء أو السيارات من قبل.
يبدأ تفكيري من فرضية مفادها أن كل تصميم في أي مكان في الكون إنما تنشئه الخوارزمية التطورية. وهذه هي العملية البسيطة ثلاثية الخطوات التي يتم فيها نسخ نوع ما من المعلومات عدة مرات، فتختلف النسخ اختلافات طفيفة، وينتخب منها بعضها فقط لينسخ تارة أخرى. ويطلق على المعلومات اسم الناسخ replicator، وأشهر الأمثلة على ذلك لدينا هو الجين.
لكن الجينات ليست النواسخ الوحيدة، كما أكد ريتشارد دوكينز في كتابه «الجين الأناني». فالبشر ينسخون العادات والقصص والكلمات والتقنيات والأغاني، ونحن نغيرها ونتلاعب بها ونعيد تجميعها ونمررها عبر المزيد والمزيد من التنويعات. وهذا الناسخ الثاني، الذي يتطور بشكل أسرع بكثير مما يمكن أن تبلغه الجينات، هو الذي أطلق عليه دوكينز اسم «الميمات» [memes] وهي أنانية أيضا.
ما كدت أستوعب تماما فكرة الميمات الأنانية، حتى أدركت بأي مدى من العمق تغير مفاهيمنا عن العقول والثقافات البشرية. فكان رد فعلي على ذلك أني كتبت «آلة الميم». ووفقا لهذه الرؤية الجديدة، نحن آلات الميم، وتتنافس الميمات على استعمالنا في تكثير أنفسها، فلا تنشئ فقط فيديوهات سخيفة وإعلانات مثيرة للجنون، ولكنها تنشئ أيضا جميع ثقافاتنا الثرية المتطورة. وبطبيعة الحال، نحاول نحن البشر أن نقصر اختيارنا على الميمات التي تجعلنا سعداء أو أصحاء، لكن الميمات لا تبالي لأنها لا تستطيع أن تبالي.
وفي حين نواجه الانفجار الأخير في الذكاء الاصطناعي، تظهر أسئلة جديدة تفتنني وتثير قلقي. هل يمكن لناسخ ثالث أن يعتلي الأولين؟ وماذا سيحدث لو حدث ذلك؟
على مدار مليارات السنين، كانت جميع الكائنات الحية على وجه الأرض عبارة عن آلات جينية، إلى أن حدث قبل قرابة مليوني سنة أن بدأت سلالة واحدة فقط – هي سلالة أسلافنا - في محاكاة الأصوات أو الإيماءات أو طرق معالجة الطعام أو إشعال النار. قد لا يبدو هذا بالغ الأهمية، لكنه كان كذلك. فلقد أطلق عن غير قصد ناسخا ثانيا وحولنا إلى آلات الميم، مع تأثيرات دراماتيكية على جميع الحياة على الأرض. واتباعا للمبدأ نفسه، هل يمكن أن يظهر ناسخ ثالث إذا بدأ شيء من صنعنا في النسخ والتغيير والانتخاب لنوع جديد من المعلومات؟
يمكن ذلك، بل أعتقد أن ذلك قد حدث.
فبوسع تقنيتنا الرقمية أن تنسخ وتخزن وتنشر كميات هائلة من المعلومات بدقة شبه تامة. وفي حين أننا كنا في الغالب من نختار ما نريد نسخه ونشره، فإن هذا يتغير الآن، إذ تختار الخوارزميات الطائشة الإعلانات التي نراها والقصص الإخبارية التي «تعتقد» أنها سوف تروق لنا. لقد أصبح من الصعب للغاية الآن تمييز الذكاء الاصطناعي المجهز بمعالجة اللغة و»الشخصيات» عن الأشخاص الحقيقيين، حيث تنافس أشكال الذكاء الاصطناعي نفسها وتنافسنا على جذب انتباهنا – ولا يفوز بالمنافسة بالضرورة أحسنها نوايا. وبرغم أننا أقمنا هذا العالم الرقمي المذهل لأغراضنا الخاصة، ففور أن ينطلق ناسخ رقمي، فسوف تتطور منتجاته حتما لمصلحته الخاصة، لا لمصلحتنا.
غير أننا لم تخسر كل شيء. فنحن نتعامل بالفعل مع الطفيليات سريعة التطور من قبيل الفيروسات باستعمال ما لدينا من أجهزة مناعية وأدوية ولقاحات. ونحن الآن بحاجة إلى إقامة مناعتنا العقلية الجمعية، وتفكيرنا النقدي وقدرتنا على حماية انتباهنا من كل تلك المعلومات الأنانية التي تحاول استغلالنا. وإذا ما استخلصنا دروس التطور، يمكننا أن نتوقف عن تخيل أننا المتحكمون في نسلنا الخطير وليد الصدفة، ونبدأ في تعلم كيفية التعايش معه.
خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
كيف يواجه الذكاء الاصطناعي أزمة نقص الكوادر في الأمن السيبراني؟
سلط خبراء الضوء على التحديات المرتبطة بنقص الكوادر في مجال الأمن السيبراني عالميًا، مؤكدين ضرورة الاستثمار في التقنيات الحديثة وتطوير القدرات البشرية لمواجهة التحديات المتزايدة في هذا المجال.
وأكدوا خلال جلسة "الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني: كيف يسير العالم اليوم وما هو الغد؟" أن الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا محوريًا في سد هذه الفجوة من خلال دعم المحللين وتعزيز إنتاجيتهم، لافتين إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو ركيزة أساسية لمستقبل الأمن السيبراني.
من جانبه، استعرض رامي كالاش، رئيس قطاع الأمن السيبراني في شركة مايكروسوفت، تطورات التهديدات الإلكترونية وكيفية تعامل المؤسسات معها في ظل تغير طبيعة الهجمات السيبرانية واعتماد المهاجمين على تقنيات أكثر تطورًا.
وأشار كالاش إلى التحول الجذري في مشهد الأمن السيبراني، حيث لم تعد الهجمات تقتصر على أفراد مستقلين يسعون لإثبات مهاراتهم التقنية، بل أصبحت منظمات متكاملة تعتمد على أدوات متطورة. وأضاف أن الأدوات الحديثة أصبحت تتيح تنفيذ هجمات دون الحاجة إلى مهارات تقنية متقدمة، مما يزيد من تعقيد مهمة التصدي لها.
وأوضح كالاش أن المهاجمين أصبحوا قادرين على توليد أكواد خبيثة وتطويرها بسرعة، ما يجعل أساليب الحماية التقليدية مثل برامج مكافحة الفيروسات أقل فعالية. وتحدث عن قدرة المهاجمين على استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد محتوى يحاكي الرسائل الرسمية للشركات أو تطوير أساليب لاستهداف الأفراد بناءً على معلومات شخصية مستخلصة من وسائل التواصل الاجتماعي.
وأشار إلى أن المهاجمين لم يعودوا بحاجة إلى اختراق كلمات المرور المعقدة بشكل مباشر، بل يعتمدون على جمع معلومات شخصية مثل تواريخ الميلاد والهوايات لتضييق نطاق المحاولات، مما يقلل من الزمن والجهد اللازمين للوصول إلى الأنظمة المستهدفة.
وأكد كالاش أن استخدام الصوت والفيديو المزيف أصبح أحد التهديدات الجديدة، حيث يمكن استغلال هذه التقنية لإرسال طلبات تبدو وكأنها صادرة من المديرين أو الشخصيات الموثوقة داخل الشركات، مما يجعل التمييز بين الحقيقي والمزيف تحديًا كبيرًا.
وسلط الضوء على أهمية تبني المؤسسات لأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والأدوات الأمنية المتطورة لمواجهة هذه التحديات المتنامية، مشددًا على ضرورة رفع الوعي السيبراني لدى الأفراد والمؤسسات على حد سواء.
وأوضح أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا لا غنى عنه في نظم الدفاع الحديثة، مشيرًا إلى أن التحدي ليس في استخدام الذكاء الاصطناعي فحسب، بل في كيفية استغلال إمكاناته إلى أقصى حد.
وأكد أنه يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوكيات المهاجمين بدلًا من الاكتفاء بتتبع التوقيعات التقليدية للهجمات، ما يتيح اكتشاف التهديدات الجديدة بشكل أسرع. ونوه إلى أهمية تقليل الإجهاد الناتج عن التنبيهات، حيث تُعد كثرة التنبيهات الأمنية أحد أكبر التحديات التي تواجه المحللين، لافتًا إلى دور الذكاء الاصطناعي في تصفية التنبيهات غير الضرورية وتركيز المحللين على الأولويات الحقيقية.
وأضاف أن حلول مايكروسوفت مثل Co-Pilot for Security تعزز من فعالية فرق الدفاع من خلال تحليل الأحداث الأمنية وتقديم التوصيات المناسبة، بالإضافة إلى إنشاء تقارير تلقائية تساعد في توفير الوقت وتحسين الكفاءة، فضلًا عن توفير قاعدة بيانات معرفية للمحللين، خاصة الجدد منهم، لفهم تكتيكات المهاجمين بشكل أعمق.
من جانبه، أشار المهندس إيهاب حسين، كبير مهندسي الذكاء الاصطناعي في شركة IOActive، إلى أن الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي قد حققت تقدمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، مؤكدًا قدرة هذه الأنظمة على تنفيذ مهام معقدة مثل اختبارات الاختراق (Penetration Tests)، تحليل مراكز البيانات، وتقييم أكواد البرمجيات بسرعة ودقة فائقة.
وأكد حسين أن هذه التقنيات لا تحل محل العامل البشري بالكامل، لكنها تغير الأدوار وتعيد توجيه التركيز نحو المهام الاستراتيجية. وأوضح أن الذكاء الاصطناعي يوفر للشركات أدوات قوية لأتمتة المهام الروتينية، مما يتيح للمتخصصين التركيز على أعمال أكثر تقدمًا مثل الهندسة العكسية (Reverse Engineering) وتطوير الهجمات السيبرانية المضادة.
وأضاف أن من المتوقع أن يصبح تعلم البرمجة مهارة أساسية للعاملين في مجال الأمن السيبراني، حيث ستكون الأنظمة الآلية جزءًا لا يتجزأ من هذا القطاع.
ولفت حسين إلى أهمية فهم بنية الأنظمة القائمة على تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل النماذج التحويلية (Transformers) لتطوير أدوات تتكامل بشكل فعال مع الأنظمة التشغيلية. وأكد على ضرورة استغلال المتخصصين لهذه الأدوات لبناء حلول جديدة تلبي احتياجات السوق المتنامية.
وطالب بضرورة مواكبة تطورات الذكاء الاصطناعي والعمل على تطوير المهارات التقنية لضمان القدرة على المنافسة في ظل بيئة تقنية متغيرة، مشددًا على أن الشركات التي تستثمر في الأتمتة والذكاء الاصطناعي ستكون أكثر قدرة على الاستجابة لتحديات الأمن السيبراني المستقبلية.
من جانبه، أكد الخبير الأمني محمد سامي على أهمية اعتماد نماذج ذكاء اصطناعي محلية تلبي الاحتياجات الخاصة للدول والمؤسسات، مع الحفاظ على أمن البيانات والخصوصية. وأشار إلى أن العمل مع المستخدمين وفهم احتياجاتهم يعد الركيزة الأساسية لتطوير أنظمة متقدمة قادرة على التكيف مع بيئات العمل المختلفة، موضحًا: "لا يمكننا الاعتماد فقط على منصات عالمية مثل OpenAI أو Google دون النظر إلى احتياجاتنا المحلية وتطوير حلول مخصصة لهذه التحديات."
وأوضح سامي أن الشركات الكبرى مثل OpenAI وMeta تضع حدودًا لإمكانيات النماذج التي تتيحها للعامة، حيث تظل "القدرات الحقيقية" لهذه النماذج داخلية وغير متاحة للاستخدام العام، مما يُضعف فرص استفادة الدول النامية من هذه التقنيات. وأضاف قائلًا: "النماذج المتاحة حاليًا للعامة هي ما قررت هذه الشركات مشاركته فقط، بينما تبقى القدرات الكاملة حكرًا على الاستخدام الداخلي."
وشدد على ضرورة تجاوز هذا التحدي عبر بناء نماذج محلية ذات كفاءة عالية، قائلًا: "الاعتماد على النماذج المفتوحة قد يكون خطوة آمنة مؤقتًا، لكن الحل الأمثل هو الاستثمار في بناء نماذج محلية تتيح للدول التحكم الكامل في البيانات والمخرجات."
وفيما يتعلق بالتحديات المستقبلية، أكد سامي على أهمية التعاون بين الدول لتطوير تقنيات ذكاء اصطناعي تتماشى مع قواعد الأمن السيبراني العالمية. وأوضح أن تطوير نماذج محلية يتطلب تعزيز استثمارات كبيرة في تدريب البيانات وإنشاء أنظمة متقدمة تتماشى مع احتياجات السوق المحلي.
وأكد على أن تطوير الذكاء الاصطناعي المحلي ليس مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية لضمان السيادة الرقمية للدول. وقال: "علينا التفكير في بناء نماذج تتماشى مع متطلباتنا وتُظهر قدرتنا على المنافسة عالميًا مع الحفاظ على خصوصية بياناتنا."
جاء ذلك خلال فعاليات النسخة الثامنة والعشرين من معرض ومؤتمر Cairo ICT’24، المنعقدة تحت رعاية فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، خلال الفترة من 17 إلى 20 نوفمبر 2024، بمركز مصر للمعارض الدولية. يأتي المعرض هذا العام تحت إشراف الدكتور عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
تنظم فعاليات المعرض شركة تريد فيرز إنترناشيونال بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، تحت شعار "The Next Wave"، حيث يسلط الضوء على أحدث التقنيات والاتجاهات المستقبلية التي ستعيد تشكيل الصناعات والاقتصادات والمجتمعات. ويشهد الحدث مشاركة كبرى المؤسسات العالمية وقادة التكنولوجيا.
يأتي المعرض برعاية عدد من الشركات والمؤسسات الكبرى، منها: دل تكنولوجيز، مجموعة إي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية، البنك التجاري الدولي (CIB)، هواوي، أورنج مصر، مصر للطيران، المصرية للاتصالات، ماستركارد، وهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا). كما تضم قائمة الرعاة شركات مثل: إي آند إنتربرايز، مجموعة بنية، خزنة، وسايشيلد.
يمثل معرض ومؤتمر Cairo ICT’24 منصة مهمة لاكتشاف الموجة التالية من التطور التكنولوجي، وإبراز الفرص المستقبلية التي تساهم في إعادة تشكيل الاقتصاد المصري والعالمي.