الجزيرة:
2024-11-24@00:29:12 GMT

خط كارمان.. حيث تنتهي حدود الأرض وتبدأ حدود الفضاء

تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT

خط كارمان.. حيث تنتهي حدود الأرض وتبدأ حدود الفضاء

خط كارمان هو الخط الفاصل بين الغلاف الجوي للأرض وبداية الفضاء الخارجي، ويقع على بعد 100 كيلومتر من سطح الأرض.

ورغم أن مسافة 100 كيلومتر قريبة جدا من الأرض فهي لا تزال تقع ضمن الجاذبية الأرضية والغلاف الجوي الممتد، إلا أنه تم قبول هذا الموقع القريب نسبيا باعتباره الخط الفاصل بين الأرض والفضاء، ولكن لماذا؟

يعتمد تحديد خط كارمان على الواقع المادي، فهو يشير إلى الارتفاع الذي لم تعد الطائرات التقليدية قادرة على الطيران فيه بشكل فعال، وذلك بسبب تغير القوانين الفيزيائية التي تحكم قدرة المركبة على الطيران.

ورغم امتداد الغلاف الجوي فوق خط كارمان فإن الهواء يصبح رقيقا للغاية في تلك الأماكن المرتفعة. وبالتالي فإن أي شيء يسافر فوق خط كارمان يحتاج إلى نظام دفع لا يعتمد على قوة الرفع الناتجة عن الغلاف الجوي للأرض.

المهندس وعالم الفيزياء ورائد الفضاء تيودور فون كارمان كان هو من اقترح تحديد خط كارمان على ارتفاع 100 كيلومتر (غيتي) تحديد خط كارمان

إن تحديد المكان الذي يبدأ فيه الفضاء بالضبط يمكن أن يكون أمرا صعبا إلى حد ما، لأن الغلاف الجوي للأرض لا ينتهي فجأة، بل يصبح أرق على ارتفاعات أعلى، مما يعني عدم وجود حدود عليا محددة.

ووفقا لموقع "أسترونومي"، كان المهندس وعالم الفيزياء ورائد الفضاء تيودور فون كارمان، قد اقترح أن الحافة الأكثر منطقية للفضاء ستكون قرب المكان الذي تتجاوز فيه القوى المدارية القوى الديناميكية الهوائية، مقررا أن 100 كيلومتر كانت حدودا جيدة.

وقد حصل خط كارمان على اسمه من هذا العالم المجري المولود عام 1881، لأنه كان من بين الأوائل الذين حسبوا الارتفاع الذي لم يعد الرفع الديناميكي الهوائي فوقه قادرا على إبقاء الطائرة عاليا. بعدما عمل في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى على التصميمات المبكرة للطائرات المروحية.

ورغم أن اسمه مرتبط الآن بحدود الفضاء، فإن فون كارمان نفسه لم ينشر هذه الفكرة أبدا. فقد جاء طرح عمله الأصلي نتيجة نقاش في مؤتمر.

وقد قام أندرو غالاغر هالي، أول ممارس لقانون الفضاء في العالم، بنشر أول بحث كامل حول حدود الفضاء في أوائل الستينيات. وذلك بعدما طبق معايير فون كارمان بشكل أكثر تحديدا، وحدد الحدود الفعلية للفضاء بحوالي 84 كيلومترا فوق سطح الأرض، وهو أيضا الارتفاع الذي استخدمته القوات الجوية الأميركية في الخمسينيات من القرن الماضي عندما وزعت تصاريح رواد الفضاء لاختبار الطيارين الذين طاروا على ارتفاع يزيد على 80 كيلومترا.

ويعتبر المجتمع الدولي، بما في ذلك الاتحاد الدولي للطيران، أن الفضاء يبدأ عند خط كارمان، أي عند 100 كيلومتر. أما وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" والجيش الأميركي فيبدأ الفضاء لديهم على ارتفاع حوالي 80 كيلومترا.

لماذا لا تستطيع الطائرات الطيران فوق خط كارمان؟

يعتبر خط كارمان هو المكان الذي تتغير فيه القوانين الفيزيائية التي تحكم قدرة المركبة على الطيران. فهو يصف تأثير خصائص الغلاف الجوي للأرض على ارتفاعات مختلفة على قدرة الطائرة على الطيران.

تتحرك الطائرات عادة بواسطة توليد قوة رفع إلى حد كبير بواسطة أجنحة الطائرة أثناء طيرانها في الهواء، مما يخلق قوة تعاكس وزن الطائرة فتبقيها محمولة في الهواء. ولكن مع ارتفاع غلافنا الجوي فإنه يصبح أقل سمكا.

وعند نقطة معينة يكون الهواء رقيقا جدا بالنسبة للطائرات التقليدية، وبدون وجود ما يكفي من الهواء لن يكون هناك قوة رفع، وأي طائرة فوق هذا الارتفاع تتطلب نظام دفع، مثل الصاروخ، لتبقى محلقة. ولهذا السبب لا تشبه السفن الفضائية الطائرات في الشكل عادة.

لماذا من المهم معرفة حدود الأرض والفضاء؟

وفقا للقانون الدولي، تنص معاهدة المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في مجال استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي على أن "الفضاء الخارجي يجب أن يكون متاحا للجميع للاستكشاف والاستخدام". ونظرا لوجود تعريفات مختلفة للمكان الذي يبدأ فيه الفضاء فعليا، فقد يؤدي ذلك إلى عدد من العواقب القانونية.

يتم تنظيم الحركة الجوية عادة على المستوى الدولي، حيث تسيطر الدول على المجال الجوي فوق أراضيها. وتجاوز ذلك قد يؤدي عن غير قصد إلى التسبب في صراعات دولية. لذا أصبح تحديد التمييز بين المجال الجوي للأرض والفضاء الخارجي ذا أهمية كبيرة، فالفضاء ملك للجميع بينما المجال الجوي هو ملك للدول المختلفة.

وقد كتب فون كارمان نفسه عن الحدود بين الأرض والفضاء، في سيرته الذاتية المنشورة بعد وفاته بعنوان "الريح وما بعدها"، قائلا "إن هذه حدود مادية بالتأكيد، حيث تتوقف الديناميكا الهوائية وتبدأ الملاحة الفضائية، ولذا فكرت لماذا لا ينبغي أن تكون أيضا حدودا فضائية؟ تحت هذا الخط المساحة ملك لكل دولة. وفوق هذا المستوى، سيكون هناك مساحة حرة".

ويذكر موقع "إنترستينغ إنجنيرنغ"، أنه رغم تعريف خط كارمان كحدود، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه يعمل كخط حدودي متين حيث يكون أحد الجانبين عبارة عن فضاء والجانب الآخر يمثل الغلاف الجوي بالكامل. وذلك لأن الغلاف الجوي للأرض لا يختفي فجأة، بل يصبح أقل سمكا مع ارتفاعه ويمتزج في الفضاء في النهاية.

إن تعريف خط كارمان باعتباره الحدود غير المرئية حيث يبدأ الفضاء هو بالفعل جانب مهم فيما يتعلق بالسفر في الفضاء. حتى لو كان الارتفاع حيث يبدأ الفضاء محل جدل، فإن الفكرة التي يقدمها تحديد ارتفاع هذا الخط مفيدة في تعريف ما إذا كان شيئا ما موجودا في الفضاء أم في الغلاف الجوي للأرض، وينطبق الأمر على تعريف من هو رائد الفضاء فالشخص لا يحصل على رخصة رائد الفضاء إلا إذا مارس الطيران فوق هذا الخط.

صورة تظهر طبقات الغلاف الجوي للأرض التقطها رائد فضاء على متن محطة الفضاء الدولية 2011 (ناسا) لماذا لا يبدأ الفضاء عند انتهاء الغلاف الجوي؟

ووفقا لموقع "سبيس" يتساءل بعض الناس عما إذا كان من الأسهل تعريف الفضاء على أنه النقطة المطلقة التي ينتهي عندها الغلاف الجوي للأرض. ولكن هذا التعريف من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدا.

إن السفر إلى ما وراء الغلاف الجوي للأرض سيأخذنا إلى ارتفاع حوالي 10 آلاف كيلومتر فوق سطح الأرض إلى أعلى طبقة في الغلاف الجوي للأرض وهي الغلاف الخارجي.

حيث تدور محطة الفضاء الدولية حول الأرض على ارتفاع متوسط يبلغ 400 كيلومتر وتدور الأقمار الصناعية حول الأرض على ارتفاعات أقل من 1000 كيلومتر. مع حدود الفضاء عند هذا الارتفاع الجديد البالغ 10 آلاف كيلومتر، لم تعد معظم المركبات الفضائية والأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض "مركبة فضائية" ولن يُطلق على أي زائر لمحطة الفضاء الدولية، على سبيل المثال، رائد فضاء. لذا فإن أفضل الخيارات لبداية الفضاء هي 80 كيلومتر أو 100 كيلومتر عند خط كارمان.

هل خط كارمان هو الحافة الوحيدة الممكنة للفضاء؟

يقول جوناثان ماكدويل، عالم الفيزياء الفلكية في مركز الفيزياء الفلكية بهارفارد، وسميثسونيان، لموقع "بوبيلار ساينس"، إن بعض العلماء اقترحوا خصائص أخرى لتحديد الحدود بين الأرض والفضاء، مثل المنطقة الموجودة في مدار كوكبنا التي ينكسر فيها القمر الصناعي عند عودته، والتي تبين أنها تقع على علو الثمانينيات إلى التسعينيات من الكيلومترات من سطح الأرض.

ويتخذ مركز التحكم في مهمة ناسا نهجا مختلفا لتحديد بداية الفضاء. بدلا من التركيز على الرفع الديناميكي الهوائي، تحدد وكالة الفضاء نقطة العودة إلى المجال الجوي للأرض من الفضاء الخارجي على أنها المكان الذي يصبح فيه السحب الجوي ملحوظا، على بعد حوالي 122 كيلومترا.

ويقترح ماكدويل أن هناك حدودا أخرى قد يأخذها البعض بعين الاعتبار لحافة الفضاء. أحدها هو حد أرمسترونغ، الذي سمي على اسم هاري جي أرمسترونغ، وهو طبيب أميركي في طب الفضاء الجوي، وهو الارتفاع الذي يغلي عنده دم الإنسان إذا لم يكن محميا من الضغط الجوي المنخفض ببدلة فضائية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الغلاف الجوی للأرض الفضاء الخارجی الأرض والفضاء الارتفاع الذی المجال الجوی رائد الفضاء على الطیران المکان الذی یبدأ الفضاء على ارتفاع سطح الأرض

إقرأ أيضاً:

حدود واقعية الائتمانية ومحدودية النقد للفاعل الديني عند طه عبد الرحمان

يصنف كثير من الباحثين كتاب "روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية" للدكتور طه عبد الرحمان ضمن الكتابات العربية التي اضطلعت بنقد جذري لأسس الفلسفة العلمانية، ويعتبرون أن جهد الكتاب انصرف بالأساس إلى مهمتين: النقد والتجاوز، إذ كان هم المؤلف في الأصل أن يؤسس لأطروحته "الائتمانية" على نقيض العلمانية، فلم يكتف بذكر أسس هذه الأطروحة، والأجوبة التي قدمتها سواء لرؤيتها للعالم، أم تفصليها لحقيقة الإنسان ودوره في الوجود، وإنما حاول أن يجيب عن سؤال التحقق في خاتمة الكتاب، وذلك حينما اضطر إلى مساجلة جزء من الباحثين الذين طالما طرحوا سؤال واقعية الأطروحة الائتمانية ومدى قدرتها على الانسحاب على أرض الواقع.

لكن هؤلاء جميعا، سايروا عنوان الكتاب، الذي أظهر التقابل بين الأطروحتين العلمانية والائتمانية، وأوحى بجدل النقد والتجاوز في المنهج المعتمد، ولم ينتبهوا  في المقابل لموضوع مهم في متن الكتاب، لم يشر إليه في العنوان، مع أنه كان أيضا موضوع النقد والتجاوز، فالكتاب في جوهره، كما تظهر ذلك  مختلف فصوله، يباشر نقدين متوازيين، نقد لأسس العلمانية، ونقد آخر، موجه لأسس أطروحة "الديانية"، والتي رمز فيها طه عبد الرحمان إلى أطروحات الفاعل الديني (الإسلاميون) للعلاقة بين الدين والدولة، وحاول تعديدها إلى ثلاث أطروحات، تنتظمها صيغتان، صيغة التماثل بين الدين والدولة، وصيغة التداخل، قاصدا أن يتناول مختلف الطيف المذهبي الحركي، السني والشيعي.

يحاول هذا المقال، أن يقترب من هذا الموضوع الذي غيبه الباحثون في تعاطيهم مع كتاب "روح الدين"، ويشتبك نقديا مع التأسيسات التي طرحها طه عبد الرحمان بهذا الخصوص، ويضع في الآن ذاته، معارف طه بإزاء أدبيات الإسلاميين بخصوص العلاقة بين الدين والدولة على المحك، على اعتبار أن ممارسة النقد على أطروحة معينة، تقتضي استيعابا واسعا لأدبياتها، وفهما دقيقا للفروق التي تخترقها، فضلا عن قدرة على صياغة النسق التصنيفي الذي ينتظم شكل تعاطيها مع العلاقة بين الدين والدولة.

في سياق تأليف الكتاب

لا شيء في مقدمة الكتاب يوحي بوجود سياق مرتبط بالواقع برر تأليف طه عبد الرحمان لهذا الكتاب، فعادة الرجل أن يشتبك مع الواقع بشكل فلسفي نظري مجرد دون أن يكشف نوع العلاقة معه، لكن، زمن تأليف الكتاب، فضلا عن موضوعاته، يكشف عن هذا السياق، فالتاريخ المثبت في مقدمة الكتاب يشير إلى أجواء الربيع العربي، وخلافات ترتيب الانتقال الديمقراطي في كل من تونس ومصر، والاحتقان الذي ساد بين الإسلاميين والعلمانيين على خلفية صياغة الدستور في هذين البلدين بالإضافة إلى المغرب.

ومن ثمة، يمكن أن تنهض هذه المؤشرات السياقية دليلا على أن كتاب طه عبد الرحمان "روح الدين" لم يكن مجرد نقد نظري للعلمانية وجهد تأسيسي لأطروحته الائتمانية، بل كان في الجوهر اشتباكا مع سياق واقعي، كان محكوما بالصراع بين تيارين رئيسين داخل الأمة حول علاقة الدين بالدولة: العلمانيين والإسلاميين، لاسيما على مستوى صياغة الوثيقة الدستورية، وتأطير دور الدين في الفضاء العام. وما يفسر ذلك، كما سبقت الإشارة، أن الكتاب لم يوجه فقط إلى نقد العلمانية، كما يظهر في عنوانه، وإنما هو أيضا موجه لنقد أطروحة الفاعل الديني، الذي ذكره طه عبد الرحمان بهذا الاسم والتوصيف مترادفا مع توصيف "الدياني" أو "التدبير الديني" أو "التدبير الدعوي".

في نقد الأطروحة العلمانية

يصعب أن نستقصي كل أسس العلمانية التي وجه طه عبد الرحمان نقده لها، لكن في المجمل، يمكن أن نحصر هذه الأسس في الطرح الوجودي للعلمانية، والذي يقوم على مبدأ وجود عالم واحد، هو العالم المحسوس، ثم "تسيد" الإنسان في هذا الموجود المرئي، بما ترمز له على القدرة ليس فقط على إدراك القوانين التي تحكم هذا الوجود المحسوس، بل وأيضا التحكم فيها، وتوجيهها لخدمة الإنسان، وانتقال هذا "التسيد" من إدارة العالم المرئي، إلى محاولة تغييبه، أي إضفاء طابع القداسة (الألوهية) على إنجازات الإنسان.

يصعب أن نستقصي كل أسس العلمانية التي وجه طه عبد الرحمان نقده لها، لكن في المجمل، يمكن أن نحصر هذه الأسس في الطرح الوجودي للعلمانية، والذي يقوم على مبدأ وجود عالم واحد، هو العالم المحسوس، ثم "تسيد" الإنسان في هذا الموجود المرئيفي الفصل الأول، قدم طه عبد الرحمان نقدا تأسيسيا لفكرة وجود عالم واحد هو الوجود المرئي، أتى على جميع مسلماته، محاولا إبطالها واحدة تلو الأخرى، مستندا في ذلك إلى مبدأ اختلاف الجسمية في مبدأ الاتصال بالعالم المرئي، بين مراتب الكثافة والنعومة، مؤكدا بهذا الخصوص، بأن الإنسان، هو ألطف المخلوقات في علاقته بالوجود المرئي، وأنه كلما قلت الكثاف في العلاقة بهذا العالم، صار بالإمكان تصور  وجود عالم مقابل لعالم الشهادة (عالم الغيب)  تؤكده القدرات والاستعدادات المودعة في كينونة الإنسان، فالعقل، والذاكرة، والشعور، والتخيل، وما تختزنه من طاقات، تنبئ بأن قصر العالم فقط على الوجود المرئي، فيه تجن على فعالية هذه القدرات، ومحاولة تبخيس لوظائفها، وسوء تصنيف لمجال حركتها، كما يؤكد طموح الإنسان لطلب أفضل العوالم،  نزوعا لصورة مثالية معيارية تنتمي لعالم آخر غير عالم الشهادة، فيما تعكس الازدواجية في تكوين الإنسان (الروح والجسد) خصوصية الروح في تجاوز العالم المرئي وارتياد مساحات داخل عالم الغيب.

المفهوم المقابل الذي بنى عليه طه عبد الرحمان نقده للرؤية العلمانية الأحادية للعالم، هو مفهوم تعدية الإنسان، بما تتسم به هذه التعدية من انفتاح، وبما تعنيه من تشكل الوجود الإنساني من ازدواجية العالم المرئي والعالم الغيبي، وتفاوت الناس بإزاء هذا التشكل.

في نقده لمفهوم التسيد، أبحر طه عبد الرحمان عميقا في أبعاد هذا التسيد، وقاعدته الفلسفية (سيادة الإنسان واستقلاله بوضع القوانين وتدبير الحياة العامة) والمآلات التي انتهى إليها، والأشكال التي تمظهر عليها هذا المفهوم، لاسيما عند مقاربته لشكل سيادة الإنسان على تدبير الحياة العامة، وكيف تبددت الصورة الوردية عن التمثيلية الشعبية الديمقراطية، لتنتهي في واقع الأمر إلى تسيد الفرد (المستبد) أو تسيد الدولة (الشمولية) أو تسيد المال (سيطرة لوبيات رجال الأعمال على القرار السياسي) أو تسيد الإعلام.

في الواقع، لم يقدم طه عبد الرحمان جديدا كبيرا في هذا الموضوع سوى ما كان من التأسيس النقدي في بعده النظري، أما أشكال "التسيد" وصورها، فقد تواترت الكتابات النقدية بالتدقيق فيها عند نقدها لأعطاب الديمقراطية في التجربة الغربية، وكتب نعوم تشومسكي كتابات كثيرة في تشريح هذه الأعطاب، ليبقى البعد الأهم في نقد طع عبد الرحمان هو البعد النسقي في صياغة مقولات العلمانية وأسسها، والتدليل على فعالية البعد التزكوي في معالجة داء "التسيد" من خلال تفصيل الأسس التصورية والفلسفية التي يقوم عليها، لاسيما مبدأ الأمانة، والحرية والاختيار.

في نقد أطروحات الفاعل الديني

يضع طه عبد الرحمان أطروحة الفاعل الديني في مقابل الأطروحة العلمانية، فإذا كان العلماني، ينطلق من العالم المرئي وينتهي إلى عالم الغيب، من خلال محاولة إضفاء طابع القداسة على إنجازاته في واقع السياسة، فإن الفاعل الديني ينطلق على العكس من ذلك، من واقع الغيب ليصل إلى عالم الشهادة، فهو ينطلق من مبادئه الدينية (مبدأ الفطرة والقدرة على التشهيد، ومبدا التفاضل وكمال التشهيد، ومبدأ التكامل وشمول التشهيد)، ويسعى لكسب رهان تحقيقها على واقع الأرض (الشهادة)، فتكون بذلك أطروحة العلمانية تمارس "التغييب"، في مقال "التشهيد" الذي يمارسه الفاعل الديني.

ينتقد طه عبد الرحمان المقولات الأساسية الثلاث التي انطلق منها الفاعل الديني في تأسيس تصوره للعلاقة بين الدين والدولة (مقولة الإسلام دين ودولة، ومقولة الإسلام دين ودنيا، ومقولة مدنية الدولة في الإسلام) ويعدد ثلاثة نماذج للفاعل الديني في إدارته للعلاقة بين الدين والدولة، تنتظمهم جميعا صيغتان هما التداخل والتماثل، فيتحصل من أطروحة التداخل صيغتان، صيغة يعتبر فيها بعض الفاعلين الدينيين أن "الدين هو جزء من السياسة"، وصيغة مقابلة، يرى فيها فاعلون دينين آخرون أن "السياسة هي جزء من الدين". في النموذج الآخر، أي التماثل، تبرز صيغة أن "الدين هي عين السياسة"، وأن "السياسة هي عين الدين".

ضمن هذين النموذجين (التداخل والتماثل) ناقش طه عبد الرحمان أطروحتين أساسيتين، أطروحة الحاكمية وحاول التمييز بين الحاكمية والآمرين، بالاستناد إلى مفهوم "الشاهدية"،  وأطروحة ولاية الفقيه من خلال بيان العلاقة بين  الفقه والأخلاق، ونقد مفهوم تفقيه السياسة، ليجمع بذلك في نقده بين فاعلين دينيين مختلفين في مرجعيتها المذهبية: السني والشيعي، أو بالأحرى المدرسة الإخوانية في تشكيلها العام (مفهوم التداخل) وفي تشكيها الخاص القطبي(الحاكمية)، ثم المدرسة الشيعية التي تلتزم كبرى مدارسها بأطروحة ولاية الفقيه في إدارة العلاقة بين الدين والسياسة.

في الواقع، ثمة أهمية كبيرة في تتبع نقد طه عبد الرحمان لمقولات كل أطروحة على حدة ضمن نموذجي التداخل والتماثل، وثمة جهد مهم في استقراء مقولات أطروحة الحاكمية وأطروحة ولاية الفقيه، وثمة إضافة إلى ذلك جهد مواز في نقد مقولات هاتين الأطروحتين، لا يسع المجال كثيرا للتفصيل فيه، لكن، ما يهم في هذا المقال بالأساس، هو التركيز على البعد الفلسفي التأسيسي في هذا النقد، والفروق التي أقامها طه عبد الرحمان  بين أسس أطروحة الفاعل الديني وأسس الأطروحة الائتمانية التزكوية،  وهل نجح في هذه المهمة أم أنه أبقى على مساحات رمادية كثيرة تفترض التجسير لفهم النموذج الذي يروم طه عبد الرحمان تأسيسه على أنقاض طرحين متقابلين في إدارتهما للعلاقة بين الدين والدولة: الطرح العلماني وطرح الفاعل الديني.

في تنقيبه عن العطب في نظرة الفاعل الديني للعلاقة بين الدين والسياسية (أطروحة التشهيد) توقف طه عبد الرحمان على ثلاثة أسس فلسفية: أولها النسبة أو التملك، وثانيها التحقق، وثالثها التكيف.

يتمثل عطب "النسبة" أو "التملك" في رؤية الفاعل الديني، في تصوره للوظيفية "التشهيدية"، بنقل الغيب إلى واقع الشهادة من خلال تنزيل المبادئ الغيبية على واقع الأرض (الوظيفة الاستخلافية في تصور الفاعل الديني) إذ تحضر في هذه الرؤية نسبة الأعمال إلى الفاعل الديني (مبدأ النسبة).

ويتمثل عطب "التحقق" في رؤية الفاعل الديني، بمراهنته على تحقق مشروعه "التشهيدي" على واقع الأرض، واعتقاده بأن الإنجاز على أرض الواقع مرتبط بكسبه في الواقع.

ويتمثل عطب "التكيف" في رؤية الفاعل الديني، في اضطراره خلال تجربة الاندماج الاجتماعي والسياسي إلى التكيف مع الآليات والتدابير التي أنتجها الطرح العلماني، ومحاولة إضفاء الطابع لديني والشرعي عليها.

ملاحظات نقدية على تعاطي طه عبد الرحمان مع أطروحة الفاعل الديني

لا يسع هذا المقال إلا الإشارة إلى مآخذ مجملة تلخص جوهر الملاحظات التي ستأتي دراسة مفصلة على ذكرها، ولذلك سنقتصر  بهذا الخصوص على رؤوس هذه الملاحظات التالية:

المأخذ الأول، ويتعلق بالمصادر المرجعية المعتمدة في استقصاء متن أو أدبيات الفاعل الديني، فالمفترض بالباحث الذي يستقضي النماذج الممثلة للطيف الديني في تعاطيه مع موضوع علاقة الدين بالدولة، أن يستقصي مختلف ألأدبيات التي تعبر عن تشكيلاته الأساسية، في حين تظهر لائحة المراجع التي اعتمدها طه عبد الرحمان قصورا كبيرا على مستوى هذه المهمة الاستقصائية، إذ اكتفى ضمن الطيف السني على الإفادة من بعض كتابات الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي، ومحمد عمارة. ومع أهمية هذه المراجع، خاصة كتابات القرضاوي ومحمد عمارة التي خصصت حيزا مهما للمساجلة مع العلمانيين، ضمن كتب مستقلة، فإن هذه الكتابات لا تمثل إلا مقاربة واحدة ضمن مقاربات الفاعل الديني، أو هي بالأحرى تعكس التيار الديني ألأكبر في العالم العربي والذي يرمز إليه بالتيار أو الوسطي، في حين، بقيت مقاربات عدة، خارج التغطية المرجعية، علما أنها تمثل وجهة نظر مختلفة عما قدمته أدبيات التيار الإخواني.

في الطرح الصوفي الذي ينتظم فيه الدكتور طه عبد الرحمان، هناك تجربة الشيخ، أو تجربة الزاوية التي كان لها أدوار سياسية، أحيانا إصلاحية، وأحيانا أخرى ثورية، وأحيانا كثيرة محافظة وتقليدية، لكن، في "روح الدين" ليس هناك أي صورة لهذا المقترحالمأخذ الثاني: وقد ترتب عن ضعف الاستقصاء أثر كبير على مستوى التصنيف، إذ جمعت مقاربات الفاعل الديني ضمن أطروحة الوصل: وصل الدين بالسياسة (التداخل أو التماثل)، في مقابل أطروحة الفصل العلمانية (فصل الدين عن الدولة) وتم إهمال مقاربة أخرى مهمة نضجت لدى طيف من الفاعل الديني، تقترح صيغة  التمييز  بين وظائف الدين ووظائف السياسة، وهي الأطروحة التي تبلورت بشكل أكثر نضجا  مع تداعيات الربيع العربي، واضحت تعتبر مقولة أن السياسة هي جزء من الدين،  أو مقولة أن من مهام الدعوة الاشتغال بالسياسة وتأطيرها وترشيدها، مقولات الفترة التأسيسية أو التبشيرية، فيما أضحت مقولة التمييز بين الوظائف والأدوات والخطاب هي المقولة المركزية التي أطرت أدبيات جزء مهم من  أطياف الفاعل الديني.

المأخذ الثالث: وتتعلق بوظيفة التشهيد، والنقد الموجه للفاعل الديني بإزائها، إذ اعتبر طه عبد الرحمان مفاهيم الاستخلاف في الأرض أو عمارة الأرض التي اشتغل الفاعل الديني على مد مفاهيمها إلى عالم السياسة، أنها ساهمت في تثبيت مبدا النسبة والتحقق في سلوك الفاعل الديني، وأنه أضحى يراهن على تحويل مبادئه الغيبية إلى كسب سياسي وتحقق واقعي يبرهن من خلاله على صدق مرجعيته، وصوابية اختياره، والجدوى من انتظامه فيه، في حين جعل من خواص المقاربة الائتمانية، الانطلاق من مفهوم الأمانة بأبعاده المبدئية الثلاثة (الاختيار، الحرية، المسؤولية)  بما يعنيه ذلك من أداء الواجب، دون انتظار التحققات، لأن  ترتيب ذلك يعتبر من خواص الألوهية.

واضح من هذا النقد أنه نقد جزئي، ولا يمتلك صفة التعدية، فأدبيات الفاعل الديني، وبالأخص، التيار الوسطي الذي  استقرأ جزءا من نصوصه، لا تساير هذا الطرح، فلا الشيخ يوسف القرضاوي، ولا الغزالي، ولا حتى سيد قطب،  يدعمون فكرة النسبة والتحقق، التي انتقدها طه عبد الرحمان، بل أدبيات هؤلاء وغيرهم خصوصا منها التربوية،  تؤكد على مفهوم بذل  الأسباب، وترك النتائج لرب الأسباب، ونصوص في ظلال القرآن كلها خاصة تلك المتعلقة  بتفسير معارك بدر وأحد وغيرها، تؤكد على هذه المعاني، التي نسبها طه عبد الرحمان للأطروحة الائتمانية وسحبها عن أطروحة الفاعل الديني.

قد يكون قصد طه عبد الرحمان من هذا النقد الإحالة إلى الفعل السياسي للفاعل الديني، لا مرجعياته وأدبياته، وذلك من قبيل ما حصل من التماهي مع سلوك غيرهم في التنافس على المنجز وعلاقة المرجعية به، وهو التقابل الذي حصل حتى في تجربة الصحابة الكرام، حينما كانوا يعرضون كسب الكفار ومصيرهم في مقابل كسبهم مصيرهم، بل عن النص الديني الذي يعتمد مرجعية طه عبد الرحمان في التأصيل للطرح الائتماني، يقوم على فكرة التقابل بين كسب أهل الإيمان وكسب  أهل الكفر، بل كسب  أهل الطاعة في مقابل كسب أهل المعصية، بما في ذلك  آثار تتعلق بالدنيا والمعاش.

فالحاصل أنه لا مرجعية الفاعل الديني وأدبياته، تثبت مبدأ النسبة والتحقق للذات، ولا سلوكه داخل الحقل السياسي تنسبه للذات، وأقصى ما في الأمر أن الفاعل الديني يربط التحقق أو المنجز بالمرجعية أو المبادئ الغيبية التي يؤمن بها، وهو أمر مسوغ بمقتضى النص الشرعي الذي يؤسس بناء عليه أطروحته الإئتمانية.

المأخذ الرابع: ويتعلق بحدود التباين بين أطروحة الفاعل الديني والأطروحة الائتمانية التي خصها طه عبد الرحمان بالتأصيل باعتبارها أطروحة نقدية تجاوزية، فكل الجهد الذي بذله في التأسيس لمقولات الأطروحة الائتمانية بالارتكاز على مفهوم الأمانة، وابعادها المبدئية الثلاثة (الاختيار والحرية والمسؤولية) هي قضايا مسبوق إليها في كتابات الفاعل الديني، وليس ثمة أدنى إضافة كبيرة بهذا الخصوص إلا ما كان من جهد الصياغة والتركيب، وبالناء النسقي المنطقي. ولذلك، لم أفهم كيف يتم بناء نسق على أنقاض نسق آخر، دون أن يتم توضيح أشكال "الاحتواء"، أي عملية أصحاب ما هو صالح في الأطروحات المتجاوزة، مع الإشارة لذلك، لا توصيفها باعتبارها أمور جديدة، لم تكن واردة في السابق.

المأخذ الخامس: ويتعلق بمنهجية التغيير، إذ ينتقد طه عبد الرحمان منهجين التزم بهما الفاعل الديني، هما منهج الاحتجاج في صوره المختلفة (الثورة، والتمر والانقلاب) ومنهج الانتخاب (التغيير من خلال لآلية الانتخابية) ويعتبر أنه كليهما  يزكي منطق التسيد، بتغيير تسيد بمثله سواء  بأداة القوة والتخويف (بالسلطان) أو الانتخاب (بالبرهان)،  ويقترح منهجا آخر، سماه بمنهج الزعج والإزعاج، والذي يقوم أساسا على الفعل التزكوي وصناعة الإنسان من وحيه، دون أن يبين الكيفية الي تتم بها هذه الصناعة، ولا الجسر العابر بين تغيير داخل الإنسان وتغيير الواقع السياسي.

في الواقع، ليست هناك صورة واقعية ولا متخيلة عن منهجه المقترح، إذ يمكن أن نتصور دولة يجري داخلها التغيير من خلال العملية السياسية الانتخابية، ويمكن أن نتصور تغييرا بالانقلاب أو الثورة أو التمرد، لكننا ابدا لا نملك تصورا عن إمكانية تغيير يمس بنيات الدولة، من خلال تغيير داخل الإنسان، من غير أن تتبين صورة هذا التغيير وكيفياته، والعنصر الموجه فيه، والأداة التي تديره.

في الطرح الصوفي الذي ينتظم فيه الدكتور طه عبد الرحمان، هناك تجربة الشيخ، أو تجربة الزاوية التي كان لها أدوار سياسية، أحيانا إصلاحية، وأحيانا أخرى ثورية، وأحيانا كثيرة محافظة وتقليدية، لكن، في "روح الدين" ليس هناك أي صورة لهذا المقترح، ولا كيف نستبدل المناهج الثورة والإصلاحية (المراهنة على العملية السياسية السلمية من خلال الانتخاب) بمنهاج يراهن على الفعل التزكوي، دون أن  نتعرف على قضية القيادة في سواء في بعدها الروحي أو السياسي.

المأخذ السادس: ومع أن الدكتور طه عبد الرحمان اجتهد في خاتمة كتابه أن يبعد طابع الوهم عن أطروحته الائتمانية، ويبين واقعيتها وإمكان تحققها، إلا أن سؤال القيادة،  وسؤال منهج صناعة الإنسان، والمنهاج التربوي التغيير، وغيرها  من الأسئلة المتعلقة بتنهيج الفعل التغييري لم يقدم بشأنها طه عبد الرحمان أي سؤال، وهو ما يبقي غموضا كثيفا حول إمكان تحقق المقاربة الائتمانية في صورة حركة تغيير شاملة، تنطلق من الدين، وتمس الدولة وبيناتها، ومختلف السياسات العمومية.

مقالات مشابهة

  • «العلامات الحيوية» للأرض مقلقة وتدق ناقوس الخطر
  • «OL-1» عينٌ من الفضاء على سلطنة عُمان
  • «OL-1» عينٌ من الفضاء على سلطنة عمان
  • تهديدات من الفضاء تقلق الأرض!
  • ‏الجيش الإسرائيلي: اعتراض صاروخين أطلقا من غزة نحو الغلاف
  • صرف مرتبات نوفمبر غدا.. تعرف على حالات الجمع بين الدخل والمعاش بالقانون
  • 3 ملايين دولار مكافأة.. ناسا تعلن استقبال اقتراحات لحل مشكلة على القمر
  • حدود واقعية الائتمانية ومحدودية النقد للفاعل الديني عند طه عبد الرحمان
  • ما بعد الفيتو الروسي
  • ستيني يقطع 20 ألف كيلومتر بالدراجة إلى أفريقيا من أجل المناخ