لجريدة عمان:
2025-04-26@04:51:23 GMT

الحضارة لا تأتي بالاستعارة

تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT

هذا العنوان هو عبارة شهيرة وحكمة عامة متداولة على مر الزمان، والأهم من منطوق العبارة أن نفهم معناها ونتأمل مغزاها. أول ما يتبادر إلى أذهاننا حينما نتأمل معنى هذه العبارة هو أن الحضارة لا تُستورَد من الخارج؛ لأنها تظل صناعة داخلية تشكلت عبر تاريخ طويل لشعب ما، ومن ثم فإنها تظل مرتبطة بهوية هذا الشعب، أي بما أبدعه في سائر المجالات.

وربما يُقال إن الحضارات على مر التاريخ تستعير تقدمها من خلال استيراد سبل التقدم في حضارات أخرى: فالحضارة اليونانية- على سبيل المثال- قد أخذت عن الحضارة المصرية القديمة في العلم والفكر والفلسفة، إذ درس في الجامعات المصرية وعلى رأسها جامعة «أون» (أو عين شمس) كبار فلاسفة اليونان، واطلعوا على التعاليم السرية التي كانت مقصورة على الكهنة، خاصة بعد غزو الإسكندر الأكبر الذي سمح لأرسطو بنقل أمهات الكتب المصرية من مكتبة الإسكندرية، حتى قيل إن الحضارة اليونانية هي حضارة مصرية مسروقة، وهو ما نوهنا إليه في مقال سابق. وعلى الرغم من أن هذه الوقائع وأشباهها هي حقائق لا يمكن إنكارها، وهناك كتابات غربية تدعمها؛ فإننا لا يمكن أن نختزل الحضارة اليونانية في كونها مسروقة من مصر: فسرقة الأفكار أو استيرادها لا يمكن أن ينشئ بذاته حضارة جديدة. حقًّا إن الحضارات والثقافات تتلاقح، ولكنننا لا ينبغي أن نتناسى أبدًا أن التلاقح يكون بين حضارات قائمة بالفعل أو- على الأقل- ناشئة.

كل حضارة لها سماتها المخصوصة التي تشكل هويتها، ومن هنا نستطيع أن نتحدث عن هوية الحضارات في جنوب شرق آسيا: كالحضارة الهندية والصينية، وكلتاهما حضارة ضاربة في عمق التاريخ ولا تزال حية إلى يومنا هذا، بل إنها الآن حضارة في أوج صحوتها. فالحقيقية أن الحضارات الكبرى قد تمر بحالة خمود أو سكون، ولكنها في لحظة تاريخية ما قد تصحو من جديد: ولقد حدث هذا مع الحضارة الأوروبية نفسها التي مرت في العصر الوسيط بحالة خمود، ولكنها ظلت في حالة كمون إلى أن جاء عصر النهضة الذي بعث فيها الحياة مجددًا من خلال إعادة إحياء بذورها أو أصولها اليونانية والرومانية؛ فلا تزال هذه الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وريثة هذه الأصول القديمة. ولا شك في أن الحضارة الإسلامية قد مرت أيضًا بحالة من الخمود، ولكنها حالة قد طالت قرونًا عديدة زادت على سبعة قرون. ومن الصحيح القول بأن هذه الحضارة مرت بلحظات من اليقظة، وهو ما نجده على سبيل المثال في عصر محمد علي الذي سعى إلى تأسيس نهضة قوية تنطلق من مصر. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحكومة اليابانية كانت منبهرة بهذه الإنجازات، حتى إنها كانت ترسل الوفود للتعرف على سبل المشروع النهضوي الذي انبثق في مصر. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أيضًا أن هذا المشروع النهضوي لم يتواصل سوى قرن ونصف من الزمان، وسرعان ما توارى وتم إجهاضه مرات عديدة، وهو ما ينبغي أن يكون موضع تأملنا الدائم في أسباب نهوض وانكسار الحضارات، وأن نتأمل هذه الأسباب في كل حالة تحديدًا. ولكن المؤكد أن الحضارة الإسلامية لم تمت، وإن كانت في حالة كمون نسبي يتطلب صحوة شاملة تتجمع فيها النقاط المضيئة هنا وهناك.

ولنا في تأمل التجربة اليابانية موعظة وعبرة: دولة فقيرة بلا موارد، أجهضتها الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت تمتلك إرادة النهضة، فانغلقت على نفسها، وراحت تدرس إمكانياتها ومواردها الشحيحة، ومواطن القوة فيها؛ فقامت بمسح ترسانة الغرب التي يقوم عليها تطوره، وقامت بصنع ترسانة مشابهة، سرعان ما تفوقت على ترسانة الغرب نفسه، وكانت ترسانتها هي العلم والصناعة والابتكار على الأصعدة كافة. وهكذا أصبحت اليابان قوة عظمى، ونموذجًا ينبغي أن تتعلم منه الدول الفاشلة التي تعلق فشلها تارةً على ضعف مواردها، وتارة أخرى على زيادة عدد السكان فيها.

كيف نطبق ذلك على وضعنا الراهن اليوم في عالمنا العربي؟ إننا نجد على سبيل المثال منذ عقود عديدة بوادر نهضة فكرية في المغرب العربي، وهي نهضة ناتجة عن الانفتاح على الثقافة الأوروبية (والفرنسية بوجه خاص). لكن ما يعيب هذه النهضة أنها لا تزال أسيرة استيراد أو استعارة الثقافة الأوروبية والترويج لها، باستثناءات قليلة نجدها لدى بعض المفكرين من أمثال عبد الفتاح كليطو وعبد السلام بن عبد العالي من المغرب، وقلائل غيرهم في دول المغرب العربي من المفكرين والباحثين الثقات.

وهناك مثال آخر في عالمنا العربي، وهو حالة المملكة العربية السعودية التي تسعى الآن إلى التحرر من الفكر السلفي المتشدد والانفتاح على الثقافات والفنون لدى الشعوب الأخرى، وهي حالة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا من خلال هضم واستيعاب ثقافة وفنون الآخر في الداخل، وبالتالي القدرة على الإنتاج الذاتي للثقافة والفن. ومن حسن الطالع أن السعودية تسير على الطريق الصحيح الذي يمكن أن يفضي إلى ذلك: فقد لاحظنا في الآونة الأخيرة ظهور فنانين وفنانات سعوديات في احتفاليات الرياض التي تنظمها «هيئة الترفيه»؛ كما لاحظنا أن هناك هيئة تابعة لوزارة الثقافة في طور التأسيس تسمى «هيئة الموسيقى»، وهي هيئة تُعنى بتعليم الموسيقى في المدارس وفي الحياة الثقافية والتعليم الأكاديمي الخاص والحر. وفضلًا عن ذلك، فقد بدأنا نرى مؤتمرات تنعقد حول قضايا فلسفية، ودور نشر (مثل: مؤسسة معنى) تهتم بنشر وترجمة الكتابات الفلسفية. ذلك أمر مدهش بلا شك؛ لأنه أتى بعد أن كانت كلمة «الفلسفة» محظورة في الجامعات السعودية.

كل ما تقدم يعني شيئًا واحدًا هو أن الحضارة لا تأتي بالاستعارة من الخارج، وإنما تأتي بإيقاظ الكامن في الداخل في الوقت نفسه الذي ينفتح فيه الداخل على الخارج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ا ینبغی أن لا یمکن یمکن أن

إقرأ أيضاً:

علماء: الغالبية العظمى من سكان قرطاجة لم يكونوا من أصول فينيقية

تونس – لم يعثر علماء الوراثة على آثار جينية مباشرة كثيرة للفينيقيين من الشرق الأوسط في التركيبة الجينية لسكان المناطق الغربية والوسطى من إمبراطورية قرطاجة المتوسطية.

قام علماء الآثار القديمة بفك شفرة الجينومات لنحو مئتي فرد من ممثلي حضارتي قرطاج وفينيقيا، فاكتشفوا أدلة أولية تشير إلى أن معظم سكان قرطاج القدماء لم يكونوا مرتبطين جينيا بسكان صيدا وغيرها من المدن الفينيقية. هذه النتائج توحي بأن انتشار هذه الحضارة تم من خلال الاستيعاب الثقافي أكثر من الانتقال الجيني، وفق ما أفادت به الخدمة الصحفية لمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية.”

قال الباحث هارالد رينغباور من المعهد: “لقد اكتشفنا آثارا جينية ضئيلة للفينيقيين الشرقيين في التركيب الجيني لسكان غرب ووسط المتوسط التابعين للإمبراطورية القرطاجية. هذه النتائج تستدعي إعادة تقييم آليات انتشار الحضارة الفينيقية، والتي يبدو أنها انتشرت عبر نقل التقاليد الحضارية والاستيعاب الثقافي، وليس عبر هجرات جماعية لناقليها.”

وتوصل الباحثون إلى هذا الاستنتاج  في إطار مشروع واسع النطاق مخصص لدراسة الإرث الجيني لفينيقيا وقرطاجة والمناطق المرتبطة بهما في الشرق الأوسط ومنطقة البحر المتوسط. وكان ممثلو المدن الفينيقية ومستعمراتها السابقة من بين أكثر البحارة والتجار نشاطا في العصر القديم، مما أدى إلى انتشار ممتلكاتهم ومستعمراتهم من سواحل لبنان المعاصر إلى السواحل الجنوبية لإسبانيا.

للكشف عن تاريخ انتشار هذه الحضارة، قام رينغباور وفريقه البحثي بتحليل بقايا 210 فردا من الفينيقيين والقرطاجيين القدامى، الذين دُفنوا في 14 موقعاً أثرياً موزعاً على مناطق نفوذ هذه الحضارة، تشمل بلاد الشام وشمال أفريقيا وإيبيريا وصقلية وسردينيا ومناطق ساحلية أخرى في حوض المتوسط. واستطاع العلماء استخلاص وتحليل الجينومات الكاملة لهؤلاء الأفراد الذين عاشوا بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد، ثم أجروا مقارنات جينية بينها.

أظهرت المقارنة بين مجموعات من 1.2 مليون طفرة نقطية في جينومات القرطاجيين والفينيقيين القدماء أن معظمهم لم يكونوا مرتبطين ببعضهم البعض. ومن الناحية الجينية كان القرطاجيون أكثر تشابها مع القادمين من بحر إيجه والسكان المحليين الذين عاشوا في جنوب إسبانيا المعاصرة وشمال أفريقيا، مقارنة بمواطني صيدا وبيروت (بيريتوس) وأخزيب وغيرها من المدن الفينيقية في الشرق الأوسط.

ومع ذلك سجل العلماء مستوى عال من التنوع الجيني وأصولا متنوعة لسكان كل مستوطنة قرطاجية على حدة، مما يشير إلى وجود اتصالات نشطة بين مناطق قرطاجة المختلفة وهجرات متكررة لسكانها. وعلى سبيل المثال، اكتشف علماء الوراثة زوجا من الأقارب المقربين، عاش أحدهما في صقلية والآخر في شمال إفريقيا. وهذا يؤكد الدور المهم للتبادل الثقافي والبشري في تشكيل ملامح القرطاجيين القدماء وتركيبتهم الجينية.

المصدر: تاس

مقالات مشابهة

  • بدر: تيته بدأت من حيث انتهى سابقوها ولن تأتي بجديد
  • ما هي الإمتيازات التي كانت تدافع عنها د. هنادي شهيدة معسكر زمزم
  • الإعلام السوداني والتحديات التي تواجهه في ظل النزاع .. خسائر المؤسسات الاعلامية البشرية والمادية
  • علماء: الغالبية العظمى من سكان قرطاجة لم يكونوا من أصول فينيقية
  • السيسي: السلام العادل الخيار الذي ينبغي أن يسعى إليه الجميع
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • "لنا 5 مطالب" العاملون في المجلس الأعلى للآثار يستغيثون برئيس الجمهورية
  • المسلح “الحكار” الذي شرمل عامل نظافة بفاس يسقط في قبضة الأمن
  • زاهي حواس: الحضارة والمتاحف المصرية لا يوجد مثيل لها عالميا
  • المشاط: سيارات المراكز التكنولوجية المتنقلة تأتي في إطار جهود الوزارة لتقديم خدمة حكومية أفضل للمواطن