هذا العنوان هو عبارة شهيرة وحكمة عامة متداولة على مر الزمان، والأهم من منطوق العبارة أن نفهم معناها ونتأمل مغزاها. أول ما يتبادر إلى أذهاننا حينما نتأمل معنى هذه العبارة هو أن الحضارة لا تُستورَد من الخارج؛ لأنها تظل صناعة داخلية تشكلت عبر تاريخ طويل لشعب ما، ومن ثم فإنها تظل مرتبطة بهوية هذا الشعب، أي بما أبدعه في سائر المجالات.
وربما يُقال إن الحضارات على مر التاريخ تستعير تقدمها من خلال استيراد سبل التقدم في حضارات أخرى: فالحضارة اليونانية- على سبيل المثال- قد أخذت عن الحضارة المصرية القديمة في العلم والفكر والفلسفة، إذ درس في الجامعات المصرية وعلى رأسها جامعة «أون» (أو عين شمس) كبار فلاسفة اليونان، واطلعوا على التعاليم السرية التي كانت مقصورة على الكهنة، خاصة بعد غزو الإسكندر الأكبر الذي سمح لأرسطو بنقل أمهات الكتب المصرية من مكتبة الإسكندرية، حتى قيل إن الحضارة اليونانية هي حضارة مصرية مسروقة، وهو ما نوهنا إليه في مقال سابق. وعلى الرغم من أن هذه الوقائع وأشباهها هي حقائق لا يمكن إنكارها، وهناك كتابات غربية تدعمها؛ فإننا لا يمكن أن نختزل الحضارة اليونانية في كونها مسروقة من مصر: فسرقة الأفكار أو استيرادها لا يمكن أن ينشئ بذاته حضارة جديدة. حقًّا إن الحضارات والثقافات تتلاقح، ولكنننا لا ينبغي أن نتناسى أبدًا أن التلاقح يكون بين حضارات قائمة بالفعل أو- على الأقل- ناشئة.
كل حضارة لها سماتها المخصوصة التي تشكل هويتها، ومن هنا نستطيع أن نتحدث عن هوية الحضارات في جنوب شرق آسيا: كالحضارة الهندية والصينية، وكلتاهما حضارة ضاربة في عمق التاريخ ولا تزال حية إلى يومنا هذا، بل إنها الآن حضارة في أوج صحوتها. فالحقيقية أن الحضارات الكبرى قد تمر بحالة خمود أو سكون، ولكنها في لحظة تاريخية ما قد تصحو من جديد: ولقد حدث هذا مع الحضارة الأوروبية نفسها التي مرت في العصر الوسيط بحالة خمود، ولكنها ظلت في حالة كمون إلى أن جاء عصر النهضة الذي بعث فيها الحياة مجددًا من خلال إعادة إحياء بذورها أو أصولها اليونانية والرومانية؛ فلا تزال هذه الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وريثة هذه الأصول القديمة. ولا شك في أن الحضارة الإسلامية قد مرت أيضًا بحالة من الخمود، ولكنها حالة قد طالت قرونًا عديدة زادت على سبعة قرون. ومن الصحيح القول بأن هذه الحضارة مرت بلحظات من اليقظة، وهو ما نجده على سبيل المثال في عصر محمد علي الذي سعى إلى تأسيس نهضة قوية تنطلق من مصر. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحكومة اليابانية كانت منبهرة بهذه الإنجازات، حتى إنها كانت ترسل الوفود للتعرف على سبل المشروع النهضوي الذي انبثق في مصر. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أيضًا أن هذا المشروع النهضوي لم يتواصل سوى قرن ونصف من الزمان، وسرعان ما توارى وتم إجهاضه مرات عديدة، وهو ما ينبغي أن يكون موضع تأملنا الدائم في أسباب نهوض وانكسار الحضارات، وأن نتأمل هذه الأسباب في كل حالة تحديدًا. ولكن المؤكد أن الحضارة الإسلامية لم تمت، وإن كانت في حالة كمون نسبي يتطلب صحوة شاملة تتجمع فيها النقاط المضيئة هنا وهناك.
ولنا في تأمل التجربة اليابانية موعظة وعبرة: دولة فقيرة بلا موارد، أجهضتها الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت تمتلك إرادة النهضة، فانغلقت على نفسها، وراحت تدرس إمكانياتها ومواردها الشحيحة، ومواطن القوة فيها؛ فقامت بمسح ترسانة الغرب التي يقوم عليها تطوره، وقامت بصنع ترسانة مشابهة، سرعان ما تفوقت على ترسانة الغرب نفسه، وكانت ترسانتها هي العلم والصناعة والابتكار على الأصعدة كافة. وهكذا أصبحت اليابان قوة عظمى، ونموذجًا ينبغي أن تتعلم منه الدول الفاشلة التي تعلق فشلها تارةً على ضعف مواردها، وتارة أخرى على زيادة عدد السكان فيها.
كيف نطبق ذلك على وضعنا الراهن اليوم في عالمنا العربي؟ إننا نجد على سبيل المثال منذ عقود عديدة بوادر نهضة فكرية في المغرب العربي، وهي نهضة ناتجة عن الانفتاح على الثقافة الأوروبية (والفرنسية بوجه خاص). لكن ما يعيب هذه النهضة أنها لا تزال أسيرة استيراد أو استعارة الثقافة الأوروبية والترويج لها، باستثناءات قليلة نجدها لدى بعض المفكرين من أمثال عبد الفتاح كليطو وعبد السلام بن عبد العالي من المغرب، وقلائل غيرهم في دول المغرب العربي من المفكرين والباحثين الثقات.
وهناك مثال آخر في عالمنا العربي، وهو حالة المملكة العربية السعودية التي تسعى الآن إلى التحرر من الفكر السلفي المتشدد والانفتاح على الثقافات والفنون لدى الشعوب الأخرى، وهي حالة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا من خلال هضم واستيعاب ثقافة وفنون الآخر في الداخل، وبالتالي القدرة على الإنتاج الذاتي للثقافة والفن. ومن حسن الطالع أن السعودية تسير على الطريق الصحيح الذي يمكن أن يفضي إلى ذلك: فقد لاحظنا في الآونة الأخيرة ظهور فنانين وفنانات سعوديات في احتفاليات الرياض التي تنظمها «هيئة الترفيه»؛ كما لاحظنا أن هناك هيئة تابعة لوزارة الثقافة في طور التأسيس تسمى «هيئة الموسيقى»، وهي هيئة تُعنى بتعليم الموسيقى في المدارس وفي الحياة الثقافية والتعليم الأكاديمي الخاص والحر. وفضلًا عن ذلك، فقد بدأنا نرى مؤتمرات تنعقد حول قضايا فلسفية، ودور نشر (مثل: مؤسسة معنى) تهتم بنشر وترجمة الكتابات الفلسفية. ذلك أمر مدهش بلا شك؛ لأنه أتى بعد أن كانت كلمة «الفلسفة» محظورة في الجامعات السعودية.
كل ما تقدم يعني شيئًا واحدًا هو أن الحضارة لا تأتي بالاستعارة من الخارج، وإنما تأتي بإيقاظ الكامن في الداخل في الوقت نفسه الذي ينفتح فيه الداخل على الخارج.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ا ینبغی أن لا یمکن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
الحبس سنتين عقوبة انتحال الصفة إذا كانت لوظيفة عسكرية بالقانون
حدد قانون العقوبات عقوبة لجريمة انتحال الصفة إذا كانت لوظيفة عسكرية ، ويستعرض “صدى البلد” من خلال هذا التقرير هذه العقوبة.
عقوبة انتحال الصفةتنص المادة رقم 155 من قانون العقوبات المصرى على أنه: "كل من تدخل في وظيفة من الوظائف العمومية، ملكية كانت أو عسكرية، من غير أن تكون له صفة رسمية من الحكومة أو إذن منها بذلك، أو أجرى عملًا من مقتضيات إحدى هذه الوظائف، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين".
كما تنص المادة رقم 156 من قانون العقوبات على أن: "كل من لبس علانية كسوة غير رسمية بغير أن يكون حائزا للرتبة التى تخوله، أو حمل علانية العلامة المميزة لعمل أو وظيفة من غير حق، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين، مع عدم الإخلال بأى عقوبة أشد منصوص عليها في قانون آخر تكون العقوبة السجن المشدد لمدة سبع سنوات، إذا وقعت الجريمة لغرض إرهابى أو أثناء حالة الحرب أو إعلان حالة الطوارئ أو اشترك فى تظاهرة".
وأيضا تضمنت المادة رقم 157 من قانون العقوبات أنه: "يعاقب بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه كل من تقلد علانية نشانا لم يمنحه أو لقب نفسه كذلك بلقب من ألقاب الشرف أو برتبة أو بوظيفة أو بصفة نيابية عامة من غير حق".
وكان قد وافق مجلس النواب، برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي، على قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 33 لسنة 2025 بشأن الموافقة على الخطابات المتبادلة الخاصة بمنحة مشروع تحسين المعدات للمركز الثقافي القومي (دار الأوبرا) بين حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة اليابان.
واستعرضت الدكتورة درية شرف الدين، رئيس لجنة الثقافة والإعلام، تقرير اللجنة المشتركة من لجنة الإعلام والثقافة والآثار ومكاتب لجان الشئون الاقتصادية، الخطة والموازنة، والعلاقات الخارجية عن قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 33 لسنة 2025 بشأن الموافقة على الخطابات المتبادلة الخاصة بمنحة مشروع تحسين المعدات للمركز الثقافي القومي (دار الأوبرا) بين حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة اليابان.
وأوضحت أن المشروع يهدف إلى تحسين البنية التحتية للمركز الثقافى القومى وذلك من خلال تحديث واستبدال بعض الأجهزة والمعدات، بهدف تحسين خدمات المركز الثقافي وزيادة رضا الزوار بالخدمات المقدمة والجودة الفنية، وسيتم التنفيذ بجهود مشتركة بين المركز الثقافي القومي ووزارة الثقافة المصرية بالتعاون مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA)، وتبلغ قيمة المنحة 180 مليون ين ياباني.