لجريدة عمان:
2024-11-08@08:52:52 GMT

الحضارة لا تأتي بالاستعارة

تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT

هذا العنوان هو عبارة شهيرة وحكمة عامة متداولة على مر الزمان، والأهم من منطوق العبارة أن نفهم معناها ونتأمل مغزاها. أول ما يتبادر إلى أذهاننا حينما نتأمل معنى هذه العبارة هو أن الحضارة لا تُستورَد من الخارج؛ لأنها تظل صناعة داخلية تشكلت عبر تاريخ طويل لشعب ما، ومن ثم فإنها تظل مرتبطة بهوية هذا الشعب، أي بما أبدعه في سائر المجالات.

وربما يُقال إن الحضارات على مر التاريخ تستعير تقدمها من خلال استيراد سبل التقدم في حضارات أخرى: فالحضارة اليونانية- على سبيل المثال- قد أخذت عن الحضارة المصرية القديمة في العلم والفكر والفلسفة، إذ درس في الجامعات المصرية وعلى رأسها جامعة «أون» (أو عين شمس) كبار فلاسفة اليونان، واطلعوا على التعاليم السرية التي كانت مقصورة على الكهنة، خاصة بعد غزو الإسكندر الأكبر الذي سمح لأرسطو بنقل أمهات الكتب المصرية من مكتبة الإسكندرية، حتى قيل إن الحضارة اليونانية هي حضارة مصرية مسروقة، وهو ما نوهنا إليه في مقال سابق. وعلى الرغم من أن هذه الوقائع وأشباهها هي حقائق لا يمكن إنكارها، وهناك كتابات غربية تدعمها؛ فإننا لا يمكن أن نختزل الحضارة اليونانية في كونها مسروقة من مصر: فسرقة الأفكار أو استيرادها لا يمكن أن ينشئ بذاته حضارة جديدة. حقًّا إن الحضارات والثقافات تتلاقح، ولكنننا لا ينبغي أن نتناسى أبدًا أن التلاقح يكون بين حضارات قائمة بالفعل أو- على الأقل- ناشئة.

كل حضارة لها سماتها المخصوصة التي تشكل هويتها، ومن هنا نستطيع أن نتحدث عن هوية الحضارات في جنوب شرق آسيا: كالحضارة الهندية والصينية، وكلتاهما حضارة ضاربة في عمق التاريخ ولا تزال حية إلى يومنا هذا، بل إنها الآن حضارة في أوج صحوتها. فالحقيقية أن الحضارات الكبرى قد تمر بحالة خمود أو سكون، ولكنها في لحظة تاريخية ما قد تصحو من جديد: ولقد حدث هذا مع الحضارة الأوروبية نفسها التي مرت في العصر الوسيط بحالة خمود، ولكنها ظلت في حالة كمون إلى أن جاء عصر النهضة الذي بعث فيها الحياة مجددًا من خلال إعادة إحياء بذورها أو أصولها اليونانية والرومانية؛ فلا تزال هذه الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وريثة هذه الأصول القديمة. ولا شك في أن الحضارة الإسلامية قد مرت أيضًا بحالة من الخمود، ولكنها حالة قد طالت قرونًا عديدة زادت على سبعة قرون. ومن الصحيح القول بأن هذه الحضارة مرت بلحظات من اليقظة، وهو ما نجده على سبيل المثال في عصر محمد علي الذي سعى إلى تأسيس نهضة قوية تنطلق من مصر. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحكومة اليابانية كانت منبهرة بهذه الإنجازات، حتى إنها كانت ترسل الوفود للتعرف على سبل المشروع النهضوي الذي انبثق في مصر. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أيضًا أن هذا المشروع النهضوي لم يتواصل سوى قرن ونصف من الزمان، وسرعان ما توارى وتم إجهاضه مرات عديدة، وهو ما ينبغي أن يكون موضع تأملنا الدائم في أسباب نهوض وانكسار الحضارات، وأن نتأمل هذه الأسباب في كل حالة تحديدًا. ولكن المؤكد أن الحضارة الإسلامية لم تمت، وإن كانت في حالة كمون نسبي يتطلب صحوة شاملة تتجمع فيها النقاط المضيئة هنا وهناك.

ولنا في تأمل التجربة اليابانية موعظة وعبرة: دولة فقيرة بلا موارد، أجهضتها الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت تمتلك إرادة النهضة، فانغلقت على نفسها، وراحت تدرس إمكانياتها ومواردها الشحيحة، ومواطن القوة فيها؛ فقامت بمسح ترسانة الغرب التي يقوم عليها تطوره، وقامت بصنع ترسانة مشابهة، سرعان ما تفوقت على ترسانة الغرب نفسه، وكانت ترسانتها هي العلم والصناعة والابتكار على الأصعدة كافة. وهكذا أصبحت اليابان قوة عظمى، ونموذجًا ينبغي أن تتعلم منه الدول الفاشلة التي تعلق فشلها تارةً على ضعف مواردها، وتارة أخرى على زيادة عدد السكان فيها.

كيف نطبق ذلك على وضعنا الراهن اليوم في عالمنا العربي؟ إننا نجد على سبيل المثال منذ عقود عديدة بوادر نهضة فكرية في المغرب العربي، وهي نهضة ناتجة عن الانفتاح على الثقافة الأوروبية (والفرنسية بوجه خاص). لكن ما يعيب هذه النهضة أنها لا تزال أسيرة استيراد أو استعارة الثقافة الأوروبية والترويج لها، باستثناءات قليلة نجدها لدى بعض المفكرين من أمثال عبد الفتاح كليطو وعبد السلام بن عبد العالي من المغرب، وقلائل غيرهم في دول المغرب العربي من المفكرين والباحثين الثقات.

وهناك مثال آخر في عالمنا العربي، وهو حالة المملكة العربية السعودية التي تسعى الآن إلى التحرر من الفكر السلفي المتشدد والانفتاح على الثقافات والفنون لدى الشعوب الأخرى، وهي حالة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا من خلال هضم واستيعاب ثقافة وفنون الآخر في الداخل، وبالتالي القدرة على الإنتاج الذاتي للثقافة والفن. ومن حسن الطالع أن السعودية تسير على الطريق الصحيح الذي يمكن أن يفضي إلى ذلك: فقد لاحظنا في الآونة الأخيرة ظهور فنانين وفنانات سعوديات في احتفاليات الرياض التي تنظمها «هيئة الترفيه»؛ كما لاحظنا أن هناك هيئة تابعة لوزارة الثقافة في طور التأسيس تسمى «هيئة الموسيقى»، وهي هيئة تُعنى بتعليم الموسيقى في المدارس وفي الحياة الثقافية والتعليم الأكاديمي الخاص والحر. وفضلًا عن ذلك، فقد بدأنا نرى مؤتمرات تنعقد حول قضايا فلسفية، ودور نشر (مثل: مؤسسة معنى) تهتم بنشر وترجمة الكتابات الفلسفية. ذلك أمر مدهش بلا شك؛ لأنه أتى بعد أن كانت كلمة «الفلسفة» محظورة في الجامعات السعودية.

كل ما تقدم يعني شيئًا واحدًا هو أن الحضارة لا تأتي بالاستعارة من الخارج، وإنما تأتي بإيقاظ الكامن في الداخل في الوقت نفسه الذي ينفتح فيه الداخل على الخارج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ا ینبغی أن لا یمکن یمکن أن

إقرأ أيضاً:

متحف الحضارة يستقبل وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات

استقبل متحف الحضارة الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات العربية المتحدة والوفد المرافق له والسيدة مريم الكعبي سفيرة دولة الإمارات العربية المتحدة بالقاهرة.

كما استقبل المتحف أيضا عدداً من الوفود المشاركة في الدورة 12 للمنتدى الحضري العالمي والذي تستضيفه مصر حالياً ويعد الحدث الأهم المعني بالقضايا الحضرية والتنمية المستدامة.

ومن بين هذه الوفود السيد نجا كور مينغ وزير تنمية الحكم المحلي بماليزيا ونائبته، والدكتور ريتشارد راسي وزير الاستثمارات والتنمية الإقليمية والمعلوماتية بدولة سلوفاكيا،  والسيدة لينكا ميهاليكوفا سفيرة دولة سلوفاكيا بالقاهرة، والسيد شفر الدين كامبو وزير الإصلاح البيروقراطي وتنمية الموارد البشرية الإندونيسية السابق، ونائب قائد الشرطة الإندونيسية السابق، والوفود المرافقة لهم.

وكان في استقبالهم الدكتور الطيب عباس الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف، والذي رحب بهم وقدم لهم نبذة عن المتحف وتاريخ بنائه والدور الثقافي والمجتمعي الذي يلعبه لرفع الوعي الأثري والعلمي والسياحي للدارسين ولكافة فئات المجتمع، كما قدم الهدايا التذكارية لهم من المتحف.

وقد قامت الوفود بجولة داخل بالمتحف، شملت قاعات العرض المركزي والمومياوات الملكية ، تعرفوا خلالها على ما يضمه المتحف من مقتنيات أثرية فريدة تحكي تاريخ الحضارة المصرية العريقة على مر العصور.

كما استكملوا الزيارة بجولة داخل معامل الترميم والمعامل العلمية البحثية بالمتحف، تعرفوا خلالها على  طريقة عمل كل قسم من أقسام هذه المعامل، 

وفي نهاية الزيارة أعربت الوفود عن إعجابها بالمتحف ورسالته، وانبهارها بالحضارة المصرية العريقة، وأسلوب عرضها المتميز وخاصة قاعة المومياوات، معربين عن امتنانهم لحسن الاستقبال داخل المتحف. 

من جانبه، أشار الدكتور الطيب عباس الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف، إلى حرص المتحف على استقبال زائريه من جميع شعوب العالم على أفضل وجه، وإنجاح زيارتهم بشكل يحقق هدف المتحف كمنارة ثقافية 

مقالات مشابهة

  • «التنمية الحضرية»: العشوائيات غير الآمنة كانت من أبرز التحديات التي واجهت الدولة
  • مستشار لخامنئي: ينبغي لإيران وضع حد لإسرائيل وعدم الانجرار لفخها
  • خبير: الحرب في المنطقة تأتي في سياق الاتجاه الأمريكي للقضاء على أذرع إيران
  • المسيّرات تتساقط على الأردن.. من أين تأتي؟ وكيف يواجهها؟
  • د. محمد سليم شوشة: استخدام الذكاء الاصطناعي في اللغة يُهدد الحضارة العربية
  • الثقافة العربية في مواجهة الذكاء الاصطناعي.. «فخ الحضارة»
  • مجلس ذي قار يرد على السابقة الخطيرة للمحافظ: اتهاماتك تأتي لتغطية فضائحك
  • قضى 40 عاما في كتابة قصة الحضارة.. من هو الفيلسوف والكاتب ويل ديورانت
  • وفود المنتدى الحضري العالمي يزورون متحف الحضارة المصري
  • متحف الحضارة يستقبل وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات