ماذا يمكن لأيّ روائي معاصر، فيما لو أراد، أن يكتب عن الحروب «العصرية والمعاصرة» الدائرة عندنا، لكن من خلال استعادته لأسلوب الملاحم اليونانية القديمة؟ وهي حروب ليست بالقليلة طبعا، بل على قدر كبير من التنوع والحداثة، أي تحمل في طيّاتها كلّ آفاق الكتابة الممكنة.
لو عدنا إلى الماضي، لوجدنا أن الفرق الكبير بين هوميروس (الذي عاش في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد) وبين أي روائي آخر معاصر (يعيش في العقدية الثالثة من القرن الواحد والعشرين)، يكمن في أن «أحداثا» تجري في «الالياذة»، بينما في الروايات المعاصرة هناك «أمور طارئة».
كانت حربا على الطريق القديمة وهي ذات حجج خاطئة تبرّر كلّ شيء: حربا بربرية، قاسية، غير عادلة. لم تكن حربا تمّت بصلة إلى هذه الحروب «اللذيذة» المعاصرة التي تذكرنا بالألعاب النارية أو بألعاب الفيديو، أو حتى بالحملات الانتخابية التي نشهدها اليوم مثلا عند المدافعين عن البيئة، أو حتى جمعية الرفق بالحيوان. أبدًا، لا شيء من ذلك كلّه. كانت حربا قبيحة، لا حربا افتراضية. تنبجس الرؤوس من تحت الأسوار، والجنود يتعاركون بالأيدي والسيوف، يقطع بعضهم أطراف بعضهم الآخر؛ يغتصبون باسم العنف وإذلال الخصم حين يأخذون زوجته وبناته وباقي نساء المدينة، في حين أن مقاتلي اليوم، يغتصبون باسم «جهاد النكاح»، فالبُعد الديني، لا بدّ وأن يفرض احترامه علينا، بالأحرى لا بدّ أن يزيد من حصته في القداسة. إذ أنه بُعد مستمدّ من العلي القدير بينما، في ذلك الزمن الغابر، كانت هناك آلهة... كانوا يشوهون بعضهم بعضا بسعادة، من دون خوف من التقارير التي قد تُرفع إلى الأمم المتحدة، ليبدي أمينها العام قلقه الدائم. في حين أن ثوار اليوم ينزعون قلب خصومهم ويتباهون به من على الشاشة، وهم مدركون سلفا أن التقارير ــ التلفزيونية أو تقارير لجان التقصي ــ لن تلحظ ذلك كلّه، وإن حدث الأمر سهوا، من أحد المتكلمين، فلا بدّ أن حق النقض، لا يزال ساري المفعول، لأن ما جرى إشكال فردي، ولا يعبر فعلا عن «شرف» هذه الحروب ومصداقيتها. أليس هذا ما يحاوله الكيان الصهيوني ــ راهنا ــ حين يغير التاريخ والمواثيق الدولية وما من أحد ليس ليحاسبه، بل ليوجه إليه ولو ملاحظة؟
ما جرى قبل آلاف الأعوام، في ذاكرة الملحمتين، كان فعلا حربا مرعبة، قبيحة، شنيعة. لقد حدث ذلك كله قبل أن يعلّمنا الأميركيون ــ الذين يريدون تعليمنا كلّ شيء اليوم ــ كيف هي الحرب النظيفة التي تُدار بالأقمار الصناعية والبوصلة، والمسطرة، وحتى بالنقطة. أما فيما يتعلق بالخسائر الجانبية، فإن حرب طروادة لم تبخل علينا بشيء. فكم من الأبرياء سقطوا. وكلّ هذا الدم، بسبب شابة جميلة وصغيرة، متقبلة، كما بسبب «هواء كسول»؛ بينما حروبنا اليوم «نظيفة» إلى أقصى الدرجات المتخيلة.
من دون أدنى شك، يرفض العالم المعاصر، الإنسانوي، المتحضر، حيلة حصان طروادة، التي تخيلها عوليس، وبخاصة أنها مرفوضة من مجلس الأمن ومن قبل «معاهدات جنيف» والمواثيق الدولية لأنها مناورة «أقبح» من القنابل المضادة للبشر، من القنابل الفوسفورية، من غاز الخردل، والأسلحة الكيميائية. من هنا، ينبغي علينا أن نقبل بهذا التقدم الحضاري، فمعارك «إيليون» أوقعت عشرين ألف قتيل. أما حروبنا المعاصرة كالحرب العالمية الثانية مثلاً، فقد أوقعت 20 مليون قتيل فقط.
لذلك نسأل: كيف يجب تدريس هوميروس في بعض الجامعات اليوم، هذا إذا استطاع الشاعر الإغريقي أن يصل إلى هذه المعاهد بسبب الانتقادات الكثيرة التي يوجهها إليه المعاصرون: إذ أن أدبه يقف على تضاد مع الحركات النسوية على سبيل المثال، فـــ بينيلوبي مثلا، امرأة تقبع في منزلها منتظرة عودة زوجها، وهي تحيك شراعا كبيرا، لتطرد عنها عشاقها الراغبين في الزواج منها. لم تتظاهر مثلا على رصيف إيثاكا، ولم تحمل يافطة تطالب بالحرية والديمقراطية. كانت الديمقراطية لأثينا وما إيثاكا إلا هذه الجزيرة الصغيرة في البحر الإيوني ... وما عوليس إلا ذاك الدون جوان الذي يتحين كلّ فرصة، كي يخون زوجته مع الآلهات والحوريات. أما أخيل وأغامنون، فكانا يتعاركان بسبب امرأة أسيرة، جميلة، تدعى بريزييس، لأن كل واحد منهما أراد أن يضعها في سريره.
لكن بالرغم من ذلك، نقع على جانب من سحر الإلياذة، رؤية هذا البطل الكبير، المحارب الخارج على المألوف، أي أخيل الذي يمضي ثلاثة أرباع عمره تحت خيمة، مغتمًّا، بينما يتقاتل رفاقه لأنهم سرقوا له بريزييس. بكى ونادى أمه، الحورية التي ركضت من صخرتها المائية كي تغريه.
لا أعتقد أن الجنرال «فلان» أو الماريشال «علان»، يبكي اليوم أو ينادي أمه وهو في قلب المعركة. فأخيل لم يكن يملك سوى عقبيه المنكوبين، وذلك القلب العادي، الذي لم يعرف، حتى اليونانيون، كيف يجدون له علاجاً ليحصن هذا العضو الهش.
رائعة هي الإلياذة، عظيمة هي الأوديسيه، إذ من غير الممكن أن تكون هذه المغامرات كتبت قبل 3000 سنة. بالطبع، إن هوميروس كان «شيئا» خياليا، غير موجود، لأن ما من شخص يستطيع أن يترك وراءه عملاً لا يموت؛ بينما بعض روائيي العصر الحديث، حقيقيين وخالدين، يملكون الحقيقة، ويريدون أن يعلموننا إيّاها، أكثر من تلميذهم الإغريقي، أو ربما أكثر من هذا السيد الأميركي الجديد، الذي يريد أن يصوغ العالم على هواه.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أبو الغيط : حروب إسرائيل تقلل من فرص الشعوب في التنمية وتحقيق الاستدامة
أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أن الحروب الغاشمة التي يخوضها كيان الاحتلال في المنطقة تقلل من فرص الشعوب في التنمية وتحقيق الاستدامة.
جاء ذلك في كلمة الأمين العام لدى الجامعة في الجلسة الافتتاحية للأسبوع العربي للتنمية المستدامة في نسخته الخامسة اليوم بمقر الجامعة العربية.
وقال أبو الغيط: إن المشروع الإسرائيلي هو – في جوهره – مشروع تخريب وإضعاف، بهدف تحقيق هيمنة إسرائيلية مزعومة لا وجود لها سوى في أذهان قادة الاحتلال، مضيفًا: “إننا نحتاج بالتأكيد إلى تسريع وتيرة العمل وتعزيز القدرة على التكيف على واقع يناقض – في الكثير من جوانبه – أهداف الاستدامة وشروط تحققها”.
وأوضح أنه لا يخفى على أحد أن ما فعله ويفعله الاحتلال الإسرائيلي في غزة، تجاوز حتى مفهوم الانتقام والعقاب الجماعي، إلى الإبادة، بل وتدمير المجتمع الفلسطيني كليًا، بشرًا وحجرًا، حاضرًا ومستقبلًا، بحيث تستحيل الحياةُ الطبيعية ويصبح التهجير – الذي تدفع إليه إسرائيل – مخرجًا وحيدًا.
وشدد أبو الغيط على أنه لا ينبغي أن نغفل أبدًا بؤرًا أخرى وجراحًا مفتوحة في منطقتنا أعادت معدلات التنمية وآفاقها سنين إلى الوراء.
وأضاف أن هذه الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة العربية تترافق مع رياح عالمية غير مواتية، المناخ الجيوبوليتيكي ملبد بغيوم الحروب، والصراعات المحتملة بين القوى الكبرى، وأحداث الحمائية الاقتصادية ترتفع بقوة، والتضخم والديون تطحن اقتصادات، بعضها متقدم وبعضها الآخر ينتمي لبلدان الجنوب.
وأردف ” وإذا أضفنا إلى هذه المخاطر المتعددة التغير المناخي.. وما يرتبط به من تصاعد لظواهر الهجرة والصراعات على الموارد الطبيعية، نجد أنفسنا أمام مزيج مزعج من التحديات والمخاطر”.
وأضاف ” وليس اليأس خيارًا.. ولا النكوص عن المواجهة بديلًا مطروحًا.. فهذه التحديات تدفعنا دفعًا لارتياد سبل غير مطروقة.. والتفكير في بدائل مبتكرة وغير مألوفة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.. ويقتضي ذلك التكيف المستمر مع المتغيرات.. والمرونة اللازمة في تعديل الخطط والأولويات من دون أن نحيد عن الأهداف الأساسية والغايات الرئيسية للتنمية.. بما في ذلك السعي بجرأة إلى تقديم رؤى ذاتية وحلول مبتكرة نابعة من واقعنا، وما نواجهه من مشكلات.
واختتم أبو الغيط كلمته بالإعراب عن تفاؤله، قائلًا: ” إننا لن نفقد الأمل أبدًا، مهما عظُمت التحديات أو تعقدت المشكلات ولن نفقد روح الإصرار لتغيير واقعنا إلى الأفضل”.