من عدن .. نهاية الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس
تاريخ النشر: 17th, October 2023 GMT
بقلم / علي ناصر محمد
من صيرة دخلت قوات الاحتلال البريطاني بقيادة الضابط هنس في يوم السبت 19 يناير 1839م ويعد (الفتح الأول) للإمبراطورية البريطانية في عهد الملكة فيكتوريا في معركة غير متكافئة بين البحرية البريطانية والمدافعين الأبطال عن عدن. استخدمت بريطانيا ذريعة لذلك حين جنحت السفينة “دوريا دولت” التي تحمل العلم البريطاني وهذا بالرغم من أن شخصية عدنية من آل العيدروس أنقذ ركاب السفينة وانتشلهم في قارب وقدم لهم طعاماً وثياباً، كما هو معروف ومتداول حتى في الوثائق البريطانية.
استمر الاحتلال حتى 30 نوفمبر1967 فالشعب لم يستسلم واستمرت المقاومة في عدن والمحميات ضد الوجود البريطاني عبر الانتفاضات والمظاهرات بالإضافة للدور الهام لرجال الدين وأبرزهم عبد الله حاتم وغيره، والصحافة ومنها الأيام والأمل والمصير وغيرها من الصحف، ولا ننسى دور النقابات والمرأة التي أشرنا إلى دورها في مقالنا “المرأة وثورة 14 أكتوبر ” ، إضافة إلى أهم حدث في تلك الفترة هو تفجير قنبلة المطار التي فجرت مؤتمر لندن الدستوري وذلك من قبل المناضل خليفة عبد الله حسن خليفة، كل ذلك كان مقدمة لقيام الثورة المسلحة في 14 أكتوبر 1963 والتي انطلقت من جبال ردفان الشماء بقيادة الجبهة القومية.
سجلت الثورة في ردفان أروع البطولات ضد قوات الاحتلال البريطاني وعملائهم وسموا حينها بالذئاب الحُمر، ومن أجل تخفيف الضغط على جبهة ردفان واستمرار الثورة عُقد اجتماع في منزل المناضل نور الدين قاسم بالمنصورة، وترأسه فيصل عبد اللطيف وحضره سيف الضالعي وعبد الفتاح اسماعيل وسالم ربيع علي ومحمد علي هيثم وحسين الجابري وعلي عبد العليم وعلي السلامي وعبد الباري قاسم وناصر علي صدح ، وكاتب هذا المقال علي ناصر محمد وآخرون لا أتذكر أسماءهم،
وفي هذا الاجتماع اتّخذ اهم قرار بتاريخ الجنوب بفتح الجبهات في كل من عدن وبقية المحميات كما اتخذ قرار بإرسال الفدائيين من عدن وقد كلفتني القيادة آنذاك بتسهيل و تأمين مرور أول دفعة من الفدائيين عبر لحج إلى تعز وتأهيلهم لفتح الجبهة في قلب مستعمره عدن ومنهم عبد الرب علي (مصطفى) مهيوب علي غالب (عبود) أحمد محمد سعيد، فضل محسن، خالد هندي، علي صالح بيضاني، حسن علي الزغير (بدر)، أحمد العلواني، عبد الله الخامري، عبد الكافي عثمان، صالح الجابري، سالم باجبع ، عوض أحمد سعيدي. علوي سالم المصوعي ، عبد الله علوي ، عبد الله محمد الهيثمي ، واحمد محمد المحوري (الحاج) ، وتم نقلهم بإعتبارهم ذاهبين لقضاء إجازة في تعز بسيارتين يتقدمهم بسيارته عضو الجبهة القومية محمد علي طالب، وقد سهل مهمة سفرهم سالم الحجيري الضابط في شرطة لحج والمتعاطف مع الجبهة القومية والمناصر للثورة. وبعد أن أنجزوا دورتهم في معسكر صاله بتعز عادوا إلى عدن في انتظار التوجيهات والسلاح لإعلان الثورة المسلحة وحرب العصابات في عدن.
وكانت جبهة عدن هي الحاسمة في المعركة مع الاحتلال البريطاني. ومما له دلالته أن الثوار استطاعوا أن يخوضوا حرب عصابات منظمة وناجحة في مدينة صغيرة محاصرة بين الجبال والبحر، وقليلة المنافذ، ومحاطة بالأسلاك الشائكة وبمعسكرات القوات البريطانية والجواسيس، والقيام بالنشاط العسكري في المدن والريف, “واستطاعوا أن ينتصروا في هذه المعركة ويكسروا هيبة الإمبراطورية البريطانية وقواتها وعملائها في عدن والجنوب.
ولم تكن ميزانية جبهة عدن تزيد عن خمسة آلاف ريال يمني حوالي (2000 دولار).. وبهذه الميزانية المتواضعة كانت الجبهة القومية تقاتل الإنجليز وقاعدتهم في عدن التي كانت أكبر قاعدة للبريطانيين في شرقي السويس!، وكانت ميزانية الجبهة القومية لا تزيد عن 25 الف ريال يمني (1 دولار = 3 ريال) التي يقدمها مكتب عملية صلاح الدين إضافة للسلاح والتدريب إضافة إلى الاشتراكات من أعضاء الجبهة القومية والتبرعات من الأصدقاء والأشقاء ولجان مناصرة الثورة في الكويت وغيرها من البلدان العربية والأجنبية.
كان تطور العمل وسط المنظمات الجماهيرية يجد صداه في المطبوعات والنشرات السرية الداخلية الصادرة في جبهة عدن وجبهات القتال الأخرى. وكان للنساء دور مشرف في الثورة، كن يحملن السلاح ويقدن التظاهرات، ويشاركن في الإضرابات وتنظيم المهرجانات والخطابات فيها، ويوزعن المنشورات، ويقمن بإيصال الرسائل، المحررة والشفوية، إلى الأعضاء، ويتولين مسؤولية إخفاء المناضلين المطلوبين، وإطعامهم، واللقاء بالوفود العربية والدولية لشرح قضية الجنوب أمام لجنة تقصي الحقائق التابعة للجنة تصفية الاستعمار.
كانت جبهة عدن هي قلب وروح الثورة في الجنوب وصوتها العالي في الخارج، وأحد مصادر القوة والطاقة التي تمد بقية الجبهات الأخرى بالحيوية والحياة والدماء وبعوامل الصمود والاستمرار. وبعد أن تعود الفدائيون على الكفاح السري، وكسروا حاجز الخوف، وحققوا ذاتهم، والتحموا بالجماهير وعاشوا معها، فوجدوا فيها الحصن المنيع والحضن الدافئ. ووفرت لهم الحماية والدعم والتنقل بسرية.
كانت أبرز قيادات جبهة عدن: فيصل عبد اللطيف، وعلي السلامي، وعبد الفتاح إسماعيل، وأحمد صالح الشاعر، وعلي صالح عباد “مقبل”، نور الدين قاسم، سالم ربيع علي وسواهم من القيادات التي أظهرت مواهب قيادية، وحنكة عالية في إدارة دفة الصراع مع الاحتلال، وفي قيادة الكفاح المسلح في جبهة عدن، وتوجيه العمل السياسي والجماهيري، وخلق جبهة واحدة مُتراصة مع الشعب لإلحاق الهزيمة بقوات الاحتلال.
ومن أبرز المناضلين والفدائيين:
أبو بكر شفيق، فاروق مكاوي ، خالد هندي ، علي صالح البيضاني ، عبدالرحمن فارع ، صلاح الدين ، صالح عبدالكريم ، احمد علي العلواني ، محمد احمد باشماخ ، علوي حسين فرحان ، محمد حسين الذروي ، محمد سعيد عبد الله ، علي الشيخ عمر ، عبد العزيز عبد الولي ، علي عمر الشيخ ، عبد الواسع قاسم ، عبد الرزاق شايف ، عبد الله ابو هاشم ، محمد احمد القباطي ، سالم عبدا لله يافعي ، عبد الكافي ، طه غانم ، محمد صالح عولقي ، محمد صالح مطيع ، توفيق عوبلي ، صالح محمد هيثم ، حسين جاوي ، صالح عبد الرزاق ، منصور سيف ، حسين علي باحبيب وعياله محمد واحمد ، الحاج صالح باقيس ، عبد الله محمد سرحان ، علي عوض امحداد ، ناصر عبد الله الحداد ، فارس سالم ، حسين الجابري ، علي عبد العليم ، عايش عوض سعيد، عبد الله محفوظ ، عبد السلام، احمد سالم (عباس) ، أحمد ناصر امخادم ، قاسم صالح لطفي ، محمد علي مختار ، جميل امشبق ، محمد سالم العسل ، يوسف علي بن علي ، وعبد الله سالم العسل ، عبد الله سالم قردع ، السيد حسن صالح ، صالح الصجر ، احمد مشعر ، محمد هادي الميسري ، حامد مدرم ، صالح حسين احمد زيزيا ، صالح سعيد حكومه ، محمد علوي السقاف ، صالح عبد الحميد ، سعيد فارع ثابت علي، محمد علي الريوي ، محمد علي سعد الساحلي ، فضل عبد الله ( بيرأحمد ) ، احمد ثابت حيدر سعيد ، عبد الله عبد ربه ، صالح فاضل حسين ، فريد عبده صحبي ، الخضر محمد احمد الصالحي ، محمد جابر ثابت سريع، زيد سليمان ، صالح الشعملي ، عوض ناصر النخعي ، سالم خوه ، علي ناصر هادي ، احمد امجعلي.
ومن أبرز الشهداء في عدن: محمد علي (الحبيشي) وهو أول شهيد يسقط في جبهة عدن 1966م بانفجار قنبلة كان يحملها لغرض تفجيرها بأحد الأهداف المرسومة وسمي استاد الحبيشي باسمه في عدن حتى الآن، ومهيوب علي غالب(عبود) ، عبد النبي مدرم ، علي محمد الدلالي ، الشهيد منصور.
ومن أبرز الذين كانوا في السجن: أبو بكر شفيق، سالم سهيم ، عبده علي عبد الرحمن ، راشد محمد ثابت ، علي عبد الله الحداد ، محمد صالح العتيقي، صالح محمد جعفر ، حسن عبد الله ، علي صالح ، عبد اللطيف صالح ، احمد حميد ، محمد علي طالب ، عوض سعيد يافعي ، ناصرعوض السعيدي ، ناصر علي فرحان اسمه عباد من فرقة حسين جاوي ، علي سلام فوز ، عبد الله شبوله ، سالم باصهيب ، سليمان ناصر محمد ،عبد الله الهيثمي ، احمد ناجي ، عبد الله صالح المنصوري ، علي محمد الهمامي ، أحمد ناجي الردفاني. محمد عوض مدرار، امعبد ناصر منصور ، محمد منصور السعدي ، محمد سالم باهديله ، محمود كوكني فرفة حسين جاوي ، جارالله سالم ، صالح علي ناصر جبران ، عمر العلواني ، محمود حزام ، سالم عمر ، علي جاحص ، عوض محمد جعفر ، يوسف علي بن علي ، الشهيد الدوح ، يوسف جبوتي الحسوه ، أحمد فريد البريقة ، احمد عبده الطاهري وغيرهم.
نحن نعتذر اذا لم نذكر بعض الأسماء في هذا المقال من الفدائيين والشهداء.
نحن لم نشير الى القيادات النقابية والعسكرية والأمنية الذين كان سنداً للثورة في كافة المراحل حتى تحقق النصر في 30 نوفمبر 1967.
تأتي هذه المناسبة التي يحتفل فيها الشعب بثورة أكتوبر ضد الاحتلال البريطاني وغزة تحترق وتتعرض للقصف اليومي وتدمير المنازل على رؤوس سكانها وتهجير الملايين الذين أصبحوا بلا مأوى ولا كهرباء ولا ماء ولا دواء ولا غذاء في ظل موقف رسمي عربي دون حجم المأساة التي تتعرض لها فلسطين منذ 100 عام باستثناء موقف الجماهير العربية والإسلامية والمحبة للسلام التي نزلت في مظاهرات الى الشوارع والساحات للتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي.
ونطالب مرة أخرى القادة والرؤساء العرب بضرورة عقد مؤتمر قمة عربية طارئة وعاجلة أو قمة إقليمية ودولية كما سبق أن طالبنا باسم مجموعة السلام العربي بعقدها لوقف الحرب وفك الحصار عن غزة والمدن الفلسطينية.
المجد والخلود لشهداء ثورة 14 أكتوبر وفي مقدمتهم راجح بن غالب لبوزة أول شهيد للثورة
النصر للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني حتى قيام دولته وعاصمتها القدس.
المصدر: موقع حيروت الإخباري
إقرأ أيضاً:
محجوب محمد صالح .. قليلا عرفته
قبل نحو عام ، أو يزيد قليلا ، و أنا في منازحي المختلفة في السودان ، دخلت إحدى مراكز التدريب المهني بمدينة القضارف ، و سألتهم ما إذا كان بإمكاني استخدام شبكة الإنترنت لديهم . فلم يتسن لي متابعة العديد من المسائل منذ شهور حينها . فرحبت بي إدارة المركز و وفرت لي جهاز لابتوب متصل بالإنترنت . و ما أن بدأت تصفحي على الأخبار ، حتى صفعني الخبر: رحيل محجوب محمد صالح . فغم علي غما شديدا . و لبرهة ، جعلت أفكر في لا شيئ . فمحجوب محمد صالح من الناس الذين تتمنى ألا يموتوا ، خصوصا في أوقات الأزمات الوطنية المربكة . فمجرد أن تتذكر أن محجوب محمد صالح موجود ، يغشاك قدر من الطمأنينة أن هناك صوتا و صدى عاقل و موزون في السودان يمكن له يهدئ هذا الفوران المجنون .
كنت في بداية الألفية ، و أنا عائد من الجمهورية اليمنية ، أنشر مقالاتي في صحيفة الأستاذة الشجاعة أمال عباس (كان اسم الصحيفة "الرأي المختلف" أو شيئا يشبه هذا الاسم) ، و لكن توقفت تلك الصحيفة عن الصدور . ثم اتجهت لنشر مقالاتي في صحيفة "الحرية" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ سعد الدين إبراهيم ، و لم تلبث أن تتوقف عن الصدور هي الأخرى . و بالرغم أن صحيفة خرطوم مونتر التي كان يحررها الفريد تعبان كانت تنشر مقالاتي بانتظام ، إلا أن محدودية قرائها دفعني للبحث عن الصحف العربية ، حيث كنت استشعر أهمية ما أطرحه في مضمار المناداة بالتغيير بكلفة محتملة و زمن معقول لإنجاز هذا التغيير .
و جعلت أطوف على الصحف التي تصدر في الخرطوم و كانت كثيرة ، و كنت أقابل رؤساء تحريرها في مكاتبهم الكبيرة ، و أناولهم مقالي الذي كتبته ، و لكنهم كانوا يتحججون بأن هذا المقال فوق مستوى القراء لذلك لا يمكن لهم نشره !! و بالطبع ، أدركت لاحقا أن المقال ليس فوق مستوى القراء إنما فوق مستواهم هم .. و لا عجب أن شهدت تلك الفترة رؤساء تحرير أتت بهم الصدف أو الغفلة أو الإثنين معا .
و في حيرتي تلك ، التقيت مصادفة الأستاذ الفاضل حيدر المكاشفي ، فناولته المقال الذي كنت أود نشره ، فقال لي إن هذا المقال مكانه "الأيام" ، وكلف إحدى الصحفيات بتسليم المقال للأستاذ محجوب محمد صالح . و منذها ظلت "الأيام" تنشر مقالاتي لما يزيد على عشر سنوات .
كنت التقي الأستاذ محجوب لماما عند زيارتي لصحيفته ، فقد كنت اكتفي بتسليم المقال للأستاذ وائل محجوب ، و هو صحفي عميق الانتباه ، يفوق عقله سنوات عمره بكثير . ثم أدلف إلى مكتب الكاتب الكبير الراحل تاج السر مكي و غالبا ما أجد في معيته كاتب العمود الأستاذ محمد موسي حريكة .
كان مكتب الأستاذ محجوب محمد صالح عند المدخل يمينا و على المخرج يسارا . و قليلا ما كنت ألقى عليه التحية عند مغادرتي لمبنى "الأيام" . و كان ينتابني كثير من الضجر المخلوط بالحيرة و أنا أرى شخصا واسع الذهن كمحجوب محمد صالح يجلس في مكتب ضيق ، بينما أتذكر رؤساء تحرير ضيقي الذهن يجلسون في مكاتب واسعة .. شيئ عجيب و رب السماء و الأرض و ما بينهما !!
كان محجوب محمد صالح واسع الذهن حاده ، غزيز المعرفة طيبها ، قاسي العبارات لطيفها . و لعل الصفة الأخيرة هذه ، هي ما تميز بها الأستاذ محجوب محمد صالح عن كل الكتاب في الصحافة السودانية و غير الصحافة السودانية . و هي صفة فريدة تكاد تكون بصمة خاصة بة . فمحجوب محمد صالح يمكنه أن يكتب بأقسى العبارات لكن من دون تجريح ، و أقوى العبارات من دون صراخ !! و هو ما جعل كل الأطراف تصغي له ، بل لعله السبب الذي جعل تحالف المعارضة يرشحه لمنازلة مرشح "المؤتمر الوطني" في انتخابات 2015 ، و ذلك قبل أن تقرر المعارضة التصويت بأرجلها كما جرت العبارة . و أذكر في تلك الأيام أن "الأيام" نشرت خبر الترشيح هذا في ربع عمود ببنط عادي !! و لك أن تتصور ، يا ابن ودي ، لو كان الترشيح لأحد رؤساء التحرير الأجوفين هؤلاء ، إذن لقعقع في صماخك رعد الأنا المتورمة ، و لكن محجوب محمد صالح كان له نصيب وافر من تواضع كبار المثقفين السياسيين .
كان محجوب محمد صالح يدرك أنه ليس صحفيا عاديا و إن كان قديرا كما وصفه الدكتور منصور خالد معلقا على منتقدي اتفاقية نايفاشا الذين أضافوا لها ملاحظات مهمة و بناءة كالدكتور محمود شعراني على حد تعقيبات منصور .. فقد كان محجوب يدرك أنه صاحب رؤية سياسية ناضجة نحو التحول الديمقراطي و إرساء دعائم الحكم الرشيد في السودان و في محيط السودان و امتداداته ، يعبر عنها عبر نشاطه الصحفي ، و يدرك أن السياسية إنما هي علم إدارة شئون الناس . و عبارة ناضجة ، هنا ، تعني واقعية . فقد كان يبني تصوراته على ما هو ممكن و متاح في الفعل السياسي . على سبيل المثال ، إن كنت تعتقد أنك إن تريد مزيدا من الحرية ، عليك أن تملأ ما هو متاح منها ، و هو الحيز الذي أتاحته اللحظة السياسية الحاضرة في إشارة منه إلى اتفاقية نايفاشا ، مصوغا استئهالك المزيد منها . كما أنه لم ييأس من تذكير القوى السياسية بضرورة إصلاح حالها و التحرك في المساحة المتاحة . و أذكر أن أحد القراء أرسل له رسالة ، نشرها الأستاذ محجوب في عمودة "أصوات و أصداء" ، يقول فيها القارئ إنك يا أستاذ محجوب تنفخ في قربة مقدودة ، و رد عليه محجوب بأننا ليس أمامنا إلا أن نظل ننفخ في هذه القربة المقدودة !!
كان محجوب محمد صالح يوظف معارفة الغزيرة لخدمة مشروعه السياسي في التحول الديمقراطي في السودان و في المنطقة . على سبيل المثال ، عندما نشبت أزمة سد النهضة الأثيوبي ، لم يكتف بترديد "علينا تحويل التحديات إلى فرص" بل شرح الأمر بأكمله في مقالات رصينات كان المقال الواحد منها يحتل صفحة كاملة ، لو أستوعبتها إدارات دول حوض النيل لكفتها جهدا كبيرا و وفرت عليها زمنا كثيرا و لاستفادت شعوبها و عاشت في سلام و رفاهية أجمعين . و لو كان هناك جهة مسئولة عن حفظ إرث محجوب لحق عليها جمع هذه المقالات في كتيب و إهدائها لإدارات دول حوض النيل و من ثم نشرها في دوريات الاتحاد الأفريقي و الدوريات المتعلقة بالنزاع حول المياة و على رأسها الدورية الدولية المختصة بمسألة المياه التي كان يرأس تحريرها عالم قانون المياه السوداني الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان .
كان محجوب محمد صالح سخي العطاء في توجيه الكتاب و إرشادهم بالطريقة المثلى لمواجهة تحدياتهم دون إملال . أذكر أنه طلب مقابلتي ، و ذهبت إليه في مكتبه ، و طاف بذهني ذات الطائف: الرجل الكبير في المكتب الصغير . حياني الرجل ، و قال لي بصوت هادئ إن فرع التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة قد حرر بلاغا ضدك بسبب مقالك الأخير . (جرت العادة أن يتم استدعاء كاتب المقال و رئيس تحرير الصحيفة التي نشرته) . و قال لي إن البلاغ حرر تحت بند الجرائم الموجهة ضد الدولة (كان فحوى المقال أنني طالبت بلجم جنرلات المؤسسة العسكرية الذين يتحرشون باتفاقية نايفاشا) . و قدم لي نصائح غالية في التعامل مع موضوع البلاغ ، و زودني بمعرفة قانونية في التاريخ السياسي في السودان كنت أحتاجها كإضراب قوات البوليس من العام 1951، ثم طلب مني لقاءه قبل يوم محاكمتي . كما وفر لي المحامي الكبير عمر شمينا في مرحلة لاحقة من تطور القضية رغم علمه إن لي محاميين كانا يتابعان أمر البلاغ و هما الأستاذ غازي سليمان و الدكتور محمود شعراني . وكانت تقديرات محجوب في مكانها في هذا الصدد . لهم الرحمة و البركة أجمعين .
و لعل محجوب محمد صالح امتلك روح الأستاذية في وقت مبكر من حياته العملية ، و وظفها توظيفا جميلا في تعليم المشتغلين بالصحافة ، و بث فيهم روح المسئولية عند الكتابة و كان يقول كلما زادت ثقافتك زادت معها مسئوليتك تجاه مجتمعك . كما عرفت أنه عمل في التدريس بالفعل في أربعينات القرن الماضي . فقد أخبرني وكيل مكتب بريد و برق مديرية النيل الأبيض السابق ، السيد إسماعيل البشير تناد ، و هو والد الكاتب ، إن محجوبا كان يدرسهم اللغة الإنجليزية في معهد البريد و البرق بالعاصمة الخرطوم . و كانت معروفة أهمية البريد و البرق في ذلك الزمن بالنسبة للحياة السياسية و الاجتماعيه في السودان ، حيث كان ثوار الحركة الوطنية يتواصلون عبرها و ينقلون زخم حركتهم للمدن السودانية عبرها ، كما كان عبقري الفن إبراهيم الكاشف يستوحي اللحن منها من نقرات التليغراف ، حبيبي أكتب لي و أنا أكتب ليك ..
اللهم يا سيد الأكوان و الأبدان ، يا أيها المتناغم الجميل الممتد ، القديم الجديد المتجدد ، الواحد الأحد اللامنقسم ، أرفع محجوبا مقاما فوق مقامه ، إنك أنت الرافع المقيم .
adil.esmail@gmail.com