من أجل مناسبات عددٍ، وحوادث مختلفة، بعضها مبهج وأغلبها محزن قاتمٌ شافّ عن لا نهائية العنف الإنسانيّ، اخترتُ أن أقطع الحديث عن موضوع النقد البيئي للأدب وأن أتحدّث اليوم عن الرواية والحرب، وإن كانت الحرب من العوامل الأشدّ والأقوى المحوّلة للبيئة التي هيّأها اللّه فضاء رائعا ومُعجزا للإنسان ليطيب له العيش فيها، فأحسن الإنسان بما كسبت يده تخريبها وتحويلها إلى فضاءٍ قاتم، قاتل، قافر مقفر.
ما يُسعدُ ويبهج أنّ رواية محمّد اليحيائيّ القصّاص الخبير، صاحبُ الذكاء السرديّ المميّز قد تُوّجت بجائزة كتارا للرواية العربيّة -ولن أفصّل الحديث في الرواية فلي عودة إليها- وهو مسارٌ مؤكِّد يقينا لمنزلةٍ أصبحت فيها الرواية العُمانيّة، وجب ألاّ تتهاوى منها، وألا تفقدها، وأما المُحزن، فهو ما يعيشه العالم اليوم من همجيّة وغطرسة ورغبة في القتل والدمار وإثارة حروب متفرّقة في العالم، لعالمنا العربيّ الإسلاميّ نصيب الضحيّة فيه، فلم نغسل بعدُ رؤوسَنا من حرب العراق، ولم تجفّ بعد دماء إخواننا في سوريا، ولم ننهض بعد من أصوات الدمار في ليبيا، حتّى تأتينا حرب فلسطين التي يشنّ فيها الكيان الإسرائيليّ رغبة في إفناء الفلسطينيين وتحصيل الأرض مقابل الكفّ عن دفن الفلسطينيين تحت ركام بيوتهم، حربٌ لا ضمير فيها، ولا إنسانيّة، يُجيز فيها العالم تخريب شعب وتدميره وتجويعه، ويُجيز للكيان المزروع في خاصرتنا كلّ صنوف التقتيل، وينهض نفس هذا العالم مدافعا عن الإنسانيّة دفاعا عن أوكرانيا إن قُطِع عنها كهرباء أو ماء، أو مسّها ضرر لا يمثّل عُشر ما يصيب الفلسطينيين في حالهم اليوميّة.
هذا العالم المجنون السافر عن وجه من القبح لا مثيل له، له وقعٌ في الأدب، وكانت الرواية دوما فضاء للحرب بطرق شتّى ووسائط عددٍ، فتاريخ الرواية كونيًّا ومحليًّا أنتج أعمالًا روائيّةً رائدةً وقائدة وفاعلة في تاريخيّة قراءة الرواية، فممّا بقي في ذاكرتي القرائيّة ما كتبه إرنست همينغواي من أعمال روائيّة كانت الحرب حاضرة فيها بطرق شتّى، وعلى رأسها الرواية العظيمة، الباقية على مرّ الأزمان «وداعا للسلاح»، وأذكر جيّدا أنّي في سنوات الشباب الأولى أمسكت «لمن تقرع الأجراس» ولم أستطع الفكاك منها إلاّ عندما أنهيتها، وما زال طعمها في قلبي لحدّ الساعة، وقليلة هي الروايات التي تبقى ساكنة في القارئ لا تبرحه، تُلازمه حاملة معها مرارة العالم الذي تُعبّر عنه.
لقد عانى الفكرُ والوعي الإنسانيّ بعد حربين مدمّرتين الألم واليأس والبؤس والكآبة، بفعل عدم قُدرة الإنسان السويّ على تحمّل مشاهد الحرب الصادمة، وكذا عاش عالمُنا العربيّ وقائع حربيّة لم تقدر الرواية أن تغضّ عنها القلم، الحروب تحمل معها حكايات وآلام، قصصا وروايات، يلتقطها الروائيّ بوعي الفنّان وقدرته على التخييل، وإن كان واقع الحرب التي نشهدها يفوق قدرة الروائي على التخييل، فحروب اليوم بعد تطوّر الوسائط الإعلاميّة، ونقل أحداثها نقلا مباشرا ومفصّلا، تُشْهدنا على أنّ واقع الفجيعة أقوى من ممكن التخييل، فماذا على الروائيّ أن يفعل، والعالم يُشاهد القصص كلّ يوم، وتُنقَل له مختلف الروايات صورا وحركة تُذْهِبُ التخييل إلى العدم وتُعيد الواقع إلى السطح، وتشفّ عن قُدرة الحرب على الخلق التدميري وعلى تركيم قصص قد يسكت الروائيّ أمامها؟ لقد كانت القضيّة الفلسطينيّة وتراكم الحروب الناتجة عنها، وتراكم الهزائم أيضا، سببا في إنتاج عدد مهمّ من الروايات، فالرواية العربية تحديدا يعسر أن تنفصل عن عاملين محدّدين لمجالها الحدثي، الواقع والتاريخ، وعلى ذلك نجد أصداء هذه الحروب حاضرة في أدبنا الحديث، ولعلّ الرواية التي فتّحت الأعين على هذا الصراع، هي رواية إميل حبيبي «المتشائل» التي شكّلت الصورة النموذجيّة لوضع من التأزم الإنسانيّ صار دائما في الحال العربيّة، إذ لا نكاد نجفّف أعيننا من دموع حرب تحلّ بنا حتّى تنهمر أنهارٌ من الدموع وسيول من الدماء، وكأنّ قدر هذه الأجيال أن تعيش حربا دائمة لا تنتهي، رواية «المتشائل» كانت أثرا أدبيّا مركزيّا في رواية تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيليّ. ويصعب أن نعدّد الروايات التي خاضت موضوع الحرب وكشفت وجهها القبيح، ولكن نشير أيضا إلى روايةٍ علامةٍ كانت شاهدة على الحرب الأهليّة في لبنان، وهي رواية إلياس خوري الخالدة «الوجوه البيضاء»، ولا يُمكن أن نغضّ الطرف أيضا عن روايةٍ بامتياز، كانت مستشرفة لحرب العراق، متنبّئة بحدوثها وبوقائعها، وهي «مدن الملح» للروائيّ العربي المؤّسس عبدالرحمن منيف.
وقس على ذلك ممّا نتج عن عديد الحروب، وممّا استرجعه الروائيّون من صُور الحروب، وممّا استدعاه الروائيّون من مشاهد الحروب، وهو مجالٌ مفتوحٌ لبحثِ الباحثين الجامعيين يُمكن أن يخوضوا فيه وأن يعالجوه، وهم واجدون فيه الخير العميم والعلم الجميم، خاصّة إذا ما توسّلوا بنهجِ «أدب الشهادة». كيف للروائيّ اليوم أن يقدّ ويصنع رواية سليلة هذا الواقع الذي يؤلم كلّ عربي خالص؟ من أين له أن يُخيَّل عوالم غير قابلة للتخييل؟ من أين له أن يتخيّل قصّة حبّ في خضمّ حرب تفصل المُحبّ عن محبوبته، والعالم يرى رؤوس أطفال مُقَطّعة، وأوصالا ممزّقة وديارا مهدّمة بقنابل صُنعت لدمار البلدان؟ يهتزّ العالمُ ولا يغفو له جفنٌ، ويُصبح إنسانيّا، رؤوفا رحيما إذا سال دمٌ من بني جنس أصحاب الرأي والقرار، الذين يُصنّفون من يجوز له أن يكون حرًّا ومن يجوز له أن يكون مُقيّدا، ولا تتحرّك لهذا العالم الغربي المستنير شعرة بتدمير غزّة وتقتيل أطفالها وذبح نسائها والاعتداء على مقدّساتها، ماذا سيكتب الروائيّ، وماذا سيتخيّل؟ كتابة حرب غزّة تحتاج روائيّا عبقريًّا حقًّا ليجد القصّة التي لم تُروَ. الحربُ حاملة قصصا وحكايات، صارت بيّنة مكشوفة، وإلى أن تهدأ فورتها وتحطّ الطائرات القاذفات قنابلها أوزارها، ويَستر الكيان الغاشم أسلحته وثاراته وحبّه لدمائنا، ليلبس قناع الحمل الوديع الراغب في السلم والسلام، ويعود إلى مُساكنة العرب، يبقى الروائيّ في حال من الذهول وتعطُّل الخيال، يبقى في حالٍ من الاحتباس الروائي والعيّ الإبداعي والشلل القصصيّ لعلّه بعد ذلك يجد ممكن قصّة يأنسُ بها القُرّاء وتستميل أهواءهم التي صارت صعبة الإرضاء.
وعودا على بدء هنالك خبر عن كتابة الحرب سعيدٌ في ظلّ حربٍ هزّت مضاجع العرب، وأعادتهم إلى أنّ العدوّ يبقى عدوّا، وتحرّكت حاملات الطائرات وانسكبت الأموال والأغطية والمساعدات لشدّ أزر الإسرائيليين «المساكين» «الضعفاء» «المسالمين»، «الذين اهتزّت عروشهم وتشرّدوا بما فعله فيهم الغُزاة»، وانقسم العالم إلى شقّين، شقٌّ يُندّد بما فعله أبناء الكيان وشقّ يُحرّك جيوشه وأمواله وإعلامه لنُصرَة الكيان وإلقاء شعب فلسطين في غيابات جِبَاب الموت والمَحق والسحق. فلماذا يعيشون وقد قرّر الغرب ألاّ وجوب لبقائهم في هذه الدنيا؟ روايةٌ عن «الحرب» بقلم وعين ولسان الكاتب العُمانيّ محمّد اليحيائيّ، وهو صاحبُ الإعلام وصاحبُ التاريخ الشفويّ والرسميّ، يحكي عن حربٍ كانت في التاريخ العماني الحديث تركت آثارا في الذاكرة العُمانيّة، ذاكرةٌ يستعيدها الروائيّ تتويجا لجهودٍ سابقة، كان على رأسها الروائيّ العُمانيّ الذي تخصّص في رواية حرب الجبهة أحمد الزبيدي صاحب «امرأة من ظفار» و«سنوات النار». محمّد اليحيائيّ يفوز بجائزة «الحرب» أيّام الحرب، فهنيئا له هذا التتويج باسترجاع تاريخ حرب يستثمرها المؤرّخ روائيّا، فهل استطاع محمّد اليحيائيّ المؤرّخ أن يخلع عنه جُبّة المؤرّخ الرسميّ وأن يخلع على نفسه جبّة «مزوّر التاريخ»، تخييلا وميلا إلى الرواية الشعبيّة، وانتصارا للحكاية؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع مانی له أن ی
إقرأ أيضاً:
بوتين: لا نعرف ما الأهداف التي تريد إسرائيل تحقيقها في غزة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اليوم الخميس، لا نعرف ما الأهداف التي تريد إسرائيل تحقيقها في غزة، وذلك وفقًا لما أفادت به قناة "القاهرة الإخبارية".
وفي وقت سابق، ووفقًا لتصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، لا ترغب إسرائيل في تحمل مسؤولية إدارة سكان قطاع غزة مدنيًا بعد انتهاء الحرب المستمرة لأكثر من 14 شهرًا، لكنها حددت هدفًا آخر.
وقال كاتس، "إن إسرائيل ستبقي على سيطرتها الأمنية في قطاع غزة، مع الاحتفاظ بحرية العمل العسكري، على غرار الوضع في الضفة الغربية، وذلك عقب انتهاء الحرب"، مضيفًا "أن إسرائيل ليست معنية بإدارة شؤون السكان المدنيين في غزة".
وذكرت القناة الإخبارية الإسرائيلية "12" أن كاتس التقى مع مسؤول أمريكي رفيع المستوى وأبلغه رسالة غير معتادة عادة ما تُناقش في الغرف المغلقة، مضمونها أن "إسرائيل لا تسعى إلى السيطرة على قطاع غزة عسكريًا أو مدنيًا بعد انتهاء الحرب".
وأشار كاتس أيضًا إلى أنه "لا توجد قرارات بشأن الاستيطان في غزة"، مؤكدًا أن إسرائيل لا تهدف إلى بسط سيطرتها الكاملة على القطاع.
فيما يتعلق بالسلطة الفلسطينية، أكد كاتس أن "إسرائيل تسعى لحمايتها من التهديدات الإيرانية ومن حماس، وتحرص على تعزيز دورها باعتبارها جزءًا من المعسكر المعتدل".
وأضافت القناة أن "إسرائيل تبدو مهتمة حاليًا بالحفاظ على استقرار السلطة الفلسطينية، رغم تصريحات مختلفة من سياسيين إسرائيليين".
وفي تغريدة على منصة "إكس"، أوضح كاتس موقفه قائلًا: "بعد تحييد القدرات العسكرية والحكومية لحماس، ستتولى إسرائيل مسؤولية الأمن في غزة مع حرية العمل الكامل، كما هو الحال في الضفة الغربية.
وأضاف، أننا لن نسمح لأي تنظيم بالعمل انطلاقًا من غزة ضد المواطنين الإسرائيليين، ولن نعود إلى الأوضاع التي كانت سائدة قبل 7 أكتوبر.