هل يستعيد بوتين هيبة روسيا من بوابة الأقصى؟
تاريخ النشر: 17th, October 2023 GMT
في العام 1983 أصدرت دائرة البريد السوفيتية طابعا يحمل علم فلسطين مع عبارة" النصر لقضية الشعب الفلسطيني العادلة".
لم يكن ذلك الإصدار البريدي حدثا فريدا أو نادرا في الحياة السوفيتية بعد أن فتح الكرملين أبوابه أمام ياسر عرفات مطلع سبعينات القرن الماضي وأخذت الوفود الفلسطينية تتقاطر على موسكو من مختلف المنظمات.
يخلص سيرغي خروشوف نجل الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف(1894-1971) الذي أمضى عشر سنوات في رئاسة الحزب الشيوعي والدولة السوفيتية؛ إلى أن ثلاثة أحداث ثبتت وضع الاتحاد السوفيتي دولة عظمى وقطبا معادلا للولايات المتحدة وحليفاتها:
إنذار الكرملين الشهير باسم إنذار بولغانين عام 1956 وساعد في وقف العدوان الثلاثي على مصر.دعم حركة الضباط الأحرار بعد ساعات من إسقاط النظام الملكي في العراق عام 1958 إسناد نظام فيديل كاسترو في كوبا، ثلاث خطوات تأريخية جعلت من الاتحاد السوفيتي قوة عظمى.
يؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة توماس واطسون الأميركية في ثلاثيته (نيكيتا خروشوف: ولادة الدولة العظمى) أن الاتحاد السوفيتي خرج من الحرب العالمية الثانية منتصرا بثمن هائل من الخسائر البشرية والمادية واضطر الى قبول المساعدات من دول التحالف المعادي لهتلر( انكلترا والولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي) ولم يتعامل الحلفاء مع موسكو على أنها شريك متكافئ إلا بعد ان ظهرت أنياب خروشوف النووية في وقف العدوان الثلاثي على مصر ودعم الثورة المناوئة لبريطانيا في العراق وحماية الثورة الكوبية.
يشير سيرغي خروشوف الى أن سياسة موسكو السوفيتية في تلك الحقبة اتسمت بدعم حركات التحرر الوطني وبالدفاع عن حقوق المستعمرات السابقة في تقرير المصير والاستقلال والسيادة، وأن الصراع في الشرق الاوسط بين العرب والاسرائيليين كان عنوانا رئيسا لسياسة الكرملين الشرقية.
يسجل نجل الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف أن والده لم يكن معاديا لليهود ولم يتاثر بملاحقة أجهزة ستالين لنشاط المنظمة الصهيونية في الاتحاد السوفيتي.
ويشير الى أن خروشوف اختار الوقوف مع العرب لأنهم الأغلبية في إقليم الشرق الأوسط الغني الاستراتيجي، ولأن الدولة التي لعب الاتحاد السوفيتي حقبة ستالين دورا حاسما في قيامها؛ تحولت الى قاعدة أميركية مثل حاملة طائرات لا تغرق.
بعد حرب عام 1967 قطع الاتحاد السوفيتي العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عقابا على عدوانها واحتلالها الأراضي العربية وجندت موسكو ثقلها الدولي ومكانتها في العالم وقوتها العسكرية بما فِي ذلك الجهد النووي لانتزاع قرارات أممية تخدم الطموحات الفلسطينية والعربية.
لم تضع موسكو آنذاك أهدافا نفعية في التحالف مع عدد من الأنظمة العربية التي صنفت على أنها ثورية، رغم المكاسب المالية من صفقات الأسلحة الضخمة مع العراق مثلا. فقد أسدى الاتحاد السوفيتي معونات غير محدودة لمصر وسوريا واليمن والجزائر وغيرها وساهم في تشييد البنى التحتية لهذه الدول، ولعل سد أسوان على نيل مصر أحد اعظم الشواهد الخالدة على المعونة السوفيتية المنزهة عن الأغراض لشعب مصر بقيادة جمال عيد الناصر.
لم تستأنف العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وتل أبيب آلا آواخر ثمانينات القرن الماضي بعد وصول ميخائيل غورباتشوف الى قيادة الحزب والدولة على وقع شعار "القيم الإنسانية العامة"، وكان يعني إنهاء الحرب الباردة، والتفاهم مع الغرب وزعيمته الولايات المتحدة، وإنهاء احتكار الحزب الشيوعي السوفيتي للسلطة، وفتح السفر والسماح ليهود الاتحاد السوفيتي بالهجرة الى إسرائيل دون شروط أو قيود، الـمر الذي رفد الكيان الإسرائيلي بمهاجرين يتمتعون بخبرات نادرة وتعليم عال وإمكانيات لا تقارن بالمهاجرين من الشتات اليهودي في العالم.
في تلك الحقبة، تعززت تدريجيا هيمنة اليهود الروس على مفاصل الدولة السوفيتية التي باتت تحتضر بفعل إصلاحات غورباتشوف وتفككت تماما ‘ثر وصول بوريس يلتسين بداية تسعينات القرن الماضي ‘لى رئاسة روسيا مع حفنة من المساعدين غالبتهم يرون في الشراكة مع العرب، خسارة وابتعادا عن "القيم الإنسانية المشتركة"، وصارت إسرائيل "الديمقراطية " أيقونة الإعلام في روسيا. وانتهت بشكل شبه كامل علاقات التعاون العسكري والتقني مع البلدان العربية الحليفة تقليديا لموسكو السوفيتية.
بيد ان وصول فلاديمير بوتين إلى سدة الرئاسة مطلع الألفية الثالثة، عدل إلى حد ما بوصلة السياسة الخارجية الروسية وصولا الى استعادة بعض أشكال التعاون السابق مع الحلفاء القدامى، وخلافا للمتوقع، لم يوجه بوتين ضربة قوية منتظرة للمراكز المالية في روسيا التي تتحكم بها حفنة من الأولغارشيين غالبيتهم يحملون الجنسية المزدوجة، أنعشوا اقتصاد إسرائيل بالأموال الروسية.
ومع أن بوتين حد من نفوذ بعض جماعات النفوذ لكنه في نفس الوقت دعم أولغارشيين آخرين من نفس القبيلة طمعا في أن يلعب هؤلاء دورا فاعلا لدرء شرور الولايات المتحدة والتحالف الانغلوسكسوني على روسيا، بعد عودة رياح الحرب الباردة وتوسع حلف الناتو وصولا الى إسقاط حليف موسكو في كييف فيكتور يانوكوفيتش عام 2014 وقرار بوتين ضم شبه جزيرة القرم الى الأراضي الروسية.
لم تكن رهانات بوتين ناجحة على تلك المراكز المالية الطامعة في الأرباح على حساب الدولة ولم تجد نفعا العلاقات الحميمة مع " بيبي" نتنياهو وعقيلته سارة في تخفيف شرور الغرب ضد روسيا البوتينية؛ فالمصالح مع الغرب أقوى من التحالفات القائمة على حسابات عاطفية أو أوهام إيديولوجية.
ومع تصاعد المواجهة الروسية مع حلف الناتو في أوكرانيا ظهر جليا اصطفاف" بيبي" مع المعسكر الغربي، وتلاشت الأوهام بان اللوبيات التي راهنت عليها موسكو بوتين في الولايات المتحدة وفي الغرب لم تكن مستعدة للوقوف مع روسيا على حساب الزواج الكاثوليكي مع واشنطن.
حافظت موسكو طوال السنوات الماضية على علاقة متوازنة مع الفلسطينيين والاسرائيليين. بل إن روسيا هي الدولة الوحيدة من بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي واصلت بانتظام استقبال وفود حماس التي أدرجتها واشنطن في قائمة المنظمات الإرهابية، وأجبرت الحلفاء على حذوها.
لم تفلح جهود بوتين في جمع نتنياهو ومحمود عباس الى طاولة واحدة لإحياء عملية السلام آلتي أجهز عليها نتنياهو بالكامل، كما لم تمنع العلاقة الحميمة بين "بيبي" والرئيس الروسي الذي قال عنه كبير حاخامات روسيا بن لازر إن اليهود في عهده تمتعوا بحرية غير مسبوقة على مدى قرون في روسيا، لم تمنع نتنياهو من تسديد ضربات شبه يومية لأهداف في سوريا بذريعة انها لإيران، الحليف الرئيس لروسيا في المنطقة الى جانب نظام الرئيس بشار الأسد.
ومع إلحاح الخارجية الروسية على حل الدولتين، إلا أن موسكو الروسية وخلافا لموسكو السوفيتية لم تلق بثقلها الدولي، حتى قبل تردي العلاقات مع الغرب، للضغط من أجل تحقيق التسوية العادلة، ولاح أن الكرملين أذعن للأمر الواقع بأن الشرق الاوسط ساحة نفوذ أميركية ومن العبث الدخول في تنافس معها الى أن بات واضحا مدى خطورة الاستراتيجية الأميركية على الأمن القومي الروسي بمحاصرة ومنع تمدد موسكو لاستعادة موقعها كقطب مكافئ لواشنطن في الساحة الدولية.
استهان صناع السياسة الروسية على مدى سنوات ما بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي لأسباب مختلفة بأهمية منطقة الشرق الأوسط في تثبيت موقع الدولة الروسية العظمى على الساحة الدولية متجاهلين دروس تلك الحقبة حين فرضت موسكو وزنها الثقيل في ساحة الصراع مع التحالف الغربي من عبر الوجود المؤثر للاتحاد السوفيتي في الشرق الاوسط والتحكم الى حد بعيد بعتلات السياسة في المنطقة.
يمكن لروسيا استعادة الدور على قاعدة التحالف من خلال منظمة "بريكس" الآخذة بالتوسع، ولأن أوهام الشراكة مع الغرب وقاعدته في المنطقة إسرائيل، رهان خاسر كما أثبتت أحداث العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة، وأن وقوف موسكو الى جانب حق شعب فلسطين في بناء دولته المستقلة، كما يؤكد بوتين منذ إيغال إسرائيل في تدمير غزة وقتل آلاف المدنيين بشكل متعمد كعقاب جماعي، يعيد روسيا الى موقع مطلوب عالميا وإقليميا ويبعث الروح في السياسة الشرقية الحازمة للكرملين لعقود خلت.
سلام مسافر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: الكرملين سلام مسافر فلاديمير بوتين موسكو الاتحاد السوفیتی مع الغرب
إقرأ أيضاً:
روسيا تزيد من الإنفاق العسكري 30% خلال العام 2025
قرر مجلس الاتحاد الروسي زيادة الإنفاق العسكري خلال ميزانية العام المقبل بنسبة 30 بالمئة، وذلك في خضم تصاعد النزاع في أوكرانيا.
ومن المقرر أن يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالموافقة على مشروع قانون ميزانية 2025-2027 واعتماده، والذي يقر زيادة الإنفاق العسكري في 2025، بعد موافقة مجلس الاتحاد الروسي عليه، الأربعاء.
وذكر نص الميزانية أن الإنفاق الدفاعي سيبلغ حوالى 13500 مليار روبل في العام 2025 (نحو 133.5 مليار دولار)، ما يمثل أكثر من 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.
وفي المجموع، سيتم تخصيص 40 بالمئة على الأقل من الموازنة الفدرالية لعام 2025 للدفاع والأمن القومي.
وارتفعت الموازنة العسكرية الوطنية على مدار عام بنسبة 70 بالمئة تقريبا في 2024، لتمثل في العام الحالي مع الاستثمارات الأمنية 8.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وفقا للرئيس بوتين، للمرة الأولى في روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من 30 عاما.
ومنذ عام 2022، أعاد الكرملين توجيه اقتصاده نحو المجهود الحربي على نطاق واسع، مطوّرا بسرعة كبيرة صناعاته العسكرية، وبشكل خاص من خلال توظيف مئات آلاف العمّال الجدد، في استراتيجية أدت إلى زيادة التضخم.
وعلى الرغم من رفع البنك المركزي الروسي لأسعار الفائدة إلى 21 بالمئة في نهاية أكتوبر، لكن التضخم لا يزال يناهز 8.5 بالمئة، أي ضعف الهدف المنشود والبالغ 4 بالمئة، مما تسبب في تقليص القدرة الشرائية للروس الذين تضرروا بالفعل من تداعيات العقوبات الاقتصادية.
وفي إشارة إلى أن الإنفاق العسكري لن ينخفض في الأشهر المقبلة، وقع فلاديمير بوتين مؤخرا مرسوما لزيادة عدد الجنود بنسبة 15 بالمئة تقريبا ليصل إلى 1.5 مليون جندي.