لعل أبرز الإيجابيات التي خلفتها عملية "طوفان الأقصى"، التاريخية وغير المسبوقة، هي أنها كشفت بوضوح لا غبار عليه، أنّ قوة إسرائيل، من قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنّ هذه الدولة "العظمى" في العالم، لا تدعم إسرائيل وتساندها فحسب، إنما هي حديقتها الخلفية، وسبب وجودها واستمرارها أصلا..

لقد كشف الرئيس الأمريكي الديمقراطي، جو بايدن، عن مستوى من الدعم والإسناد والحضانة "لإسرائيل"، لم يتوقعه أحد من المراقبين، لا في الداخل الأمريكي، ولا في عواصم أوروبية، ولا حتى في العواصم العربية، الحليفة أو الصديقة للولايات المتحدة، أو تلك المطبّعة مع الكيان الصهيوني، إلى درجة أنّ بعض المعلقين السياسيين الأمريكان، وصفوا رئيس بلادهم، بكونه "ناطقا رسميا باسم الحكومة الإسرائيلية" المتطرفة، بسبب مواقفه وتصريحاته المنحازة كليا لتلّ أبيب، والتي قدمت خطابا أمريكيا منتجا للعنف ضدّ الفلسطينيين، ومشرعا له، في الوقت الذي بدأت تخرج مظاهرات في الولايات المتحدة، منددة بالموقف الأمريكي، ومطالبة بإنهاء الحرب على غزّة.



وهكذا من منطق تبرير القصف الوحشي والبربري لإسرائيل على قطاع غزة، إلى إرسال وزيري الخارجية والدفاع إلى تل أبيب، بتلك الصورة والتصريحات المهينة للغلاف السياسي والدبلوماسي لأكبر دولة في العالم، وصولا عند تصريحات بايدن (الإثنين) لإحدى القنوات الأمريكية، بأنّ الهجوم البري "ضرورة لقطع دابر السرطان في غزة"، في إشارة إلى حركة حماس، وفصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة.. بين هذا وذاك، كانت واشنطن، الدافع للعنف، والمحرض عليه، والحامي للكيان الإسرائيلي المحتلّ.

كانت الولايات المتحدة، على مرّ السبعين عاما الماضية أو تزيد، منذ "النكبة"، تراوح بين دعم إسرائيل "المحسوب"، وقدر من "الحياد"، يمكّنها من فتحة في مستوى الجدار الدبلوماسي، بحثا عن حلول ومخارج لتداعيات العنف الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، لكنها هذه المرة، أطلقت العنان للآلة الحربية الأمريكية، المهداة لإسرائيل، لكي تفتك بغزة، شعبا ومباني ومؤسسات، في سياق "عقاب جماعي"، كما وصفته الصين ومصر وإيران وتركيا..

المقاومة الفلسطينية، أدخلت ضمن سردية الصراع مع إسرائيل، فكرة "الصدمة"، التي باتت جزءا من التكتيك العسكري، وليست عملية خاضعة للصدفة..بل الأدهى من ذلك، أنّ دبلوماسيتها (بلينكن ووزير الدفاع)، كانت في مفارقة تامة مع خطاب بايدن.. ففي الوقت الذي كان الرجل يدعو إلى القضاء على "حماس"، كان بلينكن يجري المفاوضات لإيجاد منفذ للمساعدات الإنسانية لبضع ساعات، وهو ما رفضه نتنياهو، رئيس الحكومة الصهيونية، لأنّ القناة الإسرائيلية الأساسية، هي البيت الأبيض تحديدا، أما البقية، فهم جزء من الديكور الأمريكي الباهت، لا غير..

نعم، المقاومة لا تواجه إسرائيل بصورة منفردة، إنما تواجه آلة عسكرية أمريكية، عتادا وعدّة وإمكانات لوجستية، وضباطا مدربين على أشدّ وأعنف أنواع القتال على الصعيد الدولي.. إنّ المقاومة في حرب (وليست مجرد هجمات، أو منطق الفعل وردّ الفعل، كما يحاول أن يصوّر لنا البعض)، مع أعتى الجيوش في العالم، وأكثرها تدريبا وتمكنا وقدرات..

وهنا يجدر بنا التوقف عند جملة من الأمور اللافتة، أهمها:

1 ـ إن، المقاومة الفلسطينية، أدخلت ضمن سردية الصراع مع إسرائيل، فكرة "الصدمة"، التي باتت جزءا من التكتيك العسكري، وليست عملية خاضعة للصدفة..

ليست الصدمة مجرد مباغتة ـ كما يحاول البعض أن يفسّر ـ بقدر ما هي خيار تكتيكي عسكري، لم يفاجئ العدو فحسب، بقدر ما هزّ كيانه، وكشف عن عوراته الأمنية المختلفة، التي سرعان ما سقطت مثل أوراق الخريف، على غرار القبة الحديدية، وقوة الاستخبارات، والجيش الذي لا يقهر، والبلد الآمن بفعل الأسوار والمستوطنات والأسيجة الإسمنتية والحديدية، والمراقبة العسكرية والأمنية، برا وجوّا وبحرا..

لذلك، ردّت إسرائيل الفعل، كما لو كانت قد طعنت في "شرفها العسكري"، ومصدر قوتها المزعومة، ومضمون وجودها..

2 ـ إنّ المقاومة، لم تراهن على حاضنة فعلية على المستوى الإقليمي والدولي، إذا استثنينا إيران وجنوب لبنان وسوريا، وروسيا المتأرجحة بين مصالحها وحساباتها وعلاقاتها وتحالفاتها.. لذلك عندما خططت المقاومة ونفّذت، لم تجد مسندا حقيقيا، عدا التحركات الشعبية المتضامنة، والحراك الإيراني اللافت في المنطقة، وبعض من الضمير العالمي، الإعلامي والحقوقي والسياسي، الذي ما يزال خافتا، وربما شهد عنفوانه خلال الأيام والأسابيع القادمة.

صحيح أنّ المقاومة، كشفت وهن البيت الإسرائيلي "الأوهن من بيت العنكبوت"، ولكنّها كشفت كذلك، ضعف النظام العربي الرسمي، الذي استعاد "سيستام" ما قبل ثورات الربيع العربي، في ردّة باتجاه ردّ الفعل القديم الخانع للبيت الأبيض، حيث بات ـ كما كان سابقا ـ جزءا من المنظومة الأمريكية، بل وأحد أدواتها الفاعلة، في منع نهوض الشعوب العربية والإسلامية، وتحقيق تطلعاتها في الحرية والسيادة والديمقراطية، وفكّ الارتباط مع الأجندات اللوبية الدولية، وامتداداتها في المنطقة.

3 ـ أن ثمّة ضعفا دوليا ملحوظا، ما يفسّر عجز القوى الدولية (الصين ــ روسيا ــ ألمانيا ــ الهند ــ اليابان..)، عن جرّ الولايات المتحدة، إلى مربع "التشاركية الدولية"، وإيقاف غطرستها، وانفرادها بالقرار الدولي، بلا أي منازع..

إننا ـ وبرغم كل الخطابات الزائفة التي تتحدث عن "بديل عالمي"، وعن قوة عالمية ناشئة لمنافسة أمريكا، وعن تشكل تجمعات سياسية واقتصادية (البريكس..)، وعن نهاية العهد الأمريكي المتفرّد بالشأن، الدولي ـ ما زلنا نعيش في إطار القطبية الواحدة، في ظل فراغ دولي كبير ورهيب، جعل من واشنطن، الخصم والحكم في آن معا، سيما في ضوء ترهل المنظمة الأممية (منظمة الأمم المتحدة)، التي تحولت إلى غرفة أمريكية خلفية، باعتبارها غير قادرة على أن تكون قوة التوازن والعقلانية والهدوء المطلوب، زمن العواصف، وذلك بسبب ميثاقها وقوانينها وتقاليدها و"الماكينة" التي تكبّلها، وهو ما توقف عنده أمينها العام الأسبق، المصري، بطرس غالي، الذي حاول القيام بإصلاحات نوعية صلب المنظمة، لكنّ "فيتو" الولايات المتحدة، منعه من ذلك..

هل تؤدي الحرب على غزة، إلى إعادة النظر في المنظومة الدولية برمتها، وفي دور الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مسألة التوازن على الصعيد العالمي؟

المقاومة، كشفت وهن البيت الإسرائيلي "الأوهن من بيت العنكبوت"، ولكنّها كشفت كذلك، ضعف النظام العربي الرسمي، الذي استعاد "سيستام" ما قبل ثورات الربيع العربي، في ردّة باتجاه ردّ الفعل القديم الخانع للبيت الأبيضوهل تنجح غزة المنكوبة والمدمّرة، بفعل القصف والحرب والحصار، في أن تكون الدافع والمحرّك لتحالفات جديدة، ومراجعات ضرورية للسياسات العالمية، أم ستكون البداية لغطرسة أمريكية طويلة المدى، بحسب منطق الغالب، الذي حدثنا عنه ابن خلدون، والذي لا يفتأ يجعل المغلوب تحت إمرته وسطوته بكل دم بارد ممكن؟

لقد استنفذت المنظومة العلائقية الدولية والإقليمية، الخارجة من أشلاء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا من الحرب الباردة، أغراضها، وباتت اليوم تحتاج إلى رؤية جديدة، بعيدا عن منطق الاستعمار والاحتلال، ولغة الغالب والمغلوب..

ولعلّ الحرب اليوم على غزّة، بما تكشفه من إخلالات في العلاقات والتحالفات والسياسات والأفكار والحقوق والحريات، تحملنا إلى أفق جديد، يفترض أن يشرع التفكير فيه بالعمق اللازم، من قبل جميع المكونات في العالم، حتى لا يولد "نظام دولي جديد"، نسخة شبيهة بما نحن فيه الآن، وهذا يحتاج إلى الكثير من الجهود والأفكار والمقاربات والتنازلات، خصوصا مع "غول" تغيّر المناخ"، واستتباعاته الاقتصادية والديمغرافية والجيو سياسية، التي لا يمكن مواجهتها، إلا بتضامن دولي، واستراتيجيات مشتركة..

فهل يرتفع المثقفون وصناع القرار في العالم العربي والإسلامي أولا، وعلى الصعيد الدولي ثانيا، إلى مستوى هذه التحديات الرئيسية، أم يتم إنهاء الحرب ـ ولو بعد حين ـ ويجري الحفاظ على ذات القوى والتوازنات والعلاقات والتحالفات ؟؟

كل المؤشرات تفيد بأنّ الماء يتحرك في الوادي، وإن بشكل بطيء..

ـ فالمقاومة، ليست مجرد آلية عسكرية نضالية، إنما هي فكرة ومشروع تحرير، وديناميكية نضالية، من الصعب إنهاؤها، أو وأدها أو حتى تعطيلها..

ـ إنّ حديث إيران عن فتح الجبهات، سيدفع الآلة العسكرية الأمريكية والإسرائيلية، إلى التردد ألف مرة، قبل المغامرة بالتوغل البرّي، بما يجعل فرص الدبلوماسية، أنشط وأوسع، وتغيير بوصلة الصراع من السياق العسكري إلى الجانب السياسي، أمرا ضروريا وعاجلا..

لقد استنفذت المنظومة العلائقية الدولية والإقليمية، الخارجة من أشلاء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا من الحرب الباردة، أغراضها، وباتت اليوم تحتاج إلى رؤية جديدة، بعيدا عن منطق الاستعمار والاحتلال، ولغة الغالب والمغلوب..ـ إنّ تصريحات الرئيس الأمريكي، بايدن، برفضه القطعي فكرة احتلال غزة، يشير إلى خشيته من تأليب الخصوم الدوليين، على غرار الصين وروسيا، وانتقاداتهما التي ستطال المواقف الأمريكية، من قضيتي  "تايوان" وأوكرانيا، بما يجعل صورته مهتزة في نظر الرأي العام العالمي، وهو الذي أقام سردية خطابه الانتخابي الذي جاء به إلى البيت الأبيض، على قاعدة حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والمساواة بين الشعوب والدول..

ـ فكرة إنشاء "الدولة الفلسطينية"، التي نشط الحديث عنها، كخيار ضروري لإنهاء العنف والحرب، وهو ما جاء على لسان القيادة السعودية والتركية والقطرية، وما أعلنه الرئيس الأمريكي في مقابلته التلفزيونية الاثنين المنقضي.. وهذا التخبط الأمريكي الرسمي، بين التحريض على دحر حماس، ومنع التوغل البري، والحديث عن "الدولة الفلسطينية"، يشير إلى أنّ مخاض الوضع الراهن، لن ينتهي وفقا للرغبات الإسرائيلية، حيث تتعالى في قلب تل أبيب، أصوات تقر بفشل إسرائيل خلال السبعين عاما الماضية، وتطالب بوضع جديد، بل ثمّة من يتحدث عن نهاية إسرائيل، في قلب هذه الحرب..
وعندما يدبّ اليأس في شعب ونخب، أقاما وجودهم على مغالطات تاريخية، وادعاءات دينية فضفاضة، فذاك مؤشر على بداية النهاية لوضع ومرحلة، لا يمكن أن يستمر أكثر مما هو عليه الآن.. 

*كاتب وإعلامي من تونس

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الفلسطينيين الحرب غزة احتلال احتلال فلسطين غزة حرب تداعيات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة فی العالم

إقرأ أيضاً:

لماذا ستخسر إسرائيل حروبها مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية؟

لا شك أن الحركة الصهيونية العالمية منذ تأسيسها، ومن يدعمها في الصراع العربي/ الإسرائيلي، تراهن على الضعف العربي القائم، وعلى الخلافات البينية بينها، لشقّ صف الوحدة بما هو قائم في ميثاق الجامعة العربية، ومنها ما تم الاتفاق عليه في المؤتمرات العربية، تجاه الصراع مع إسرائيل، وفي مسألة الحق العربي الفلسطيني، واستغلال هذه التباينات السياسية لمرامٍ وأهداف مغايرة ومعاكسة للتضامن العربي، إما لجعلهم دولا محايدة تماما عن دعم هذا الحق العربي الفلسطيني، أو تشجيعهم على التطبيع معها، بحُجج ما تسميه تشجيع السلام مع هذا الكيان المحتل. ولكن الهدف الأساسي هو تنفيذ مشروعها القديم الجديد؛ لتهويد كل الأرض الفلسطينية والسيطرة عليها، والتي اعتُبرت بعد حرب 1967 أراضي فلسطينية محتلة بالقرار الأممي المعروف، لكنها الآن ترفض هذا القرار بحُجة الحق التاريخي والديني لإسرائيل! خاصة التحركات الراهنة من اليمين الصهيوني الذي يدير الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يترأسها نتنياهو، وما سبق من خطط للحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر عندما تم التخطيط للاستيلاء على فلسطين لإقامة ما سُمّي بالوطن البديل للصهيونية!

ولا شك أن الشعب الفلسطيني، يرفض بإصرار هذا المحتل الغاشم، ولا يعترف بكل ما وضعه من سياجات وقوانين السيطرة والتحكم، ومن مخططات أخرى في بقية الأرض الفلسطينية المحتلة، لذلك لا يزال يقاوم بالقدر المتاح له من القدرات والإمكانيات العسكرية، لطرد الاحتلال من أرضه المحتلة، خاصة في مدينة غزة الباسلة، التي دخلت في حروب عديدة منذ العقد الماضي، لمواجهة هذا الاحتلال وتوجيه الضربات إليه للانسحاب من غلاف غزة المحاذية للقطاع، وهي ضمن أراضي غزة تم اقتطاعها بعد حرب 1967، والتأكيد أنهم لا يمكن أن يهدأ لهم بال وهم تحت هذا لاحتلال والحصار والهجمات بين الحين والآخر لغزة، لكن اليمين الصهيوني أيضا من جانبه لا يزال يخطط -وهذا ليس جديدا- على احتلاله فلسطين كلها، بل تتجاوزها في سعيه لاحتلال بعض المناطق من الدول العربية المجاورة، بحُجج تاريخية ملفقة على الأقل للاستفراد بكل الأراضي الفلسطينية، وقالها صراحة بعض المتدينين الصهاينة في أحاديث متلفزة منذ عدة أسابيع، ومن أكثر من واحد منهم، وبعض هؤلاء أعضاء في حزب الليكود والحكومة الحالية!

لا شك أن طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر العام المنصرم، وجَّه ضربة استباقية للفكر الصهيوني، وهي رسالة بأن الوضع لم يعد يمكن السكوت عنه، مع أن الصهاينة باتوا يعتقدون أن الأمر سيستمر معهم وفق مخططاتهم السياسية والاستراتيجية، والرهان -كما يخططون له- هو على الوضع العربي القائم وضعفه، وعلى التطبيع الذي يسعون إليه؛ وهو بأن الأمة العربية منشغلة راهنا في مشاكلها الداخلية وقضاياها الخاصة وغيرها من القضايا، لذلك قامت إسرائيل بحربها الانتقامية في غزة بعد طوفان الأقصى مذعورة مما جرى على غير المتوقع، وشملت حربها بالإبادة الجماعية سكان القطاع من المدنيين وتدمير البنية الأساسية للحياة المدنية وتهجير السكان وقتل عشرات الآلاف منهم، وتدمير المدارس والمستشفيات على رؤوس الطلاب والمرضى، وشملت أيضا قصف حتى مؤسسات الإيواء التابعة للأمم المتحدة! لكن هذا الشعب المقاوم والصابر ثابت ومتمسك بالأرض ولن يفرط فيها، ولن يهاجر منها مهما كانت التحديات، وهذه الإرادة من هذا الشعب الذي صمد صمودا يفوق كل التوقعات بمقاييس عصرنا الراهن من خلال غياب الكهرباء والمياه الصحية النقية وغيرها من الاحتياجات الأساسية، وهذا فوق طاقة البشر عندما يبقون في مثل هذه الظروف القاسية، مع الحرب التي اعتادوا عليها في مرات سابقة، لكنها زادت قسوة أضعاف الأضعاف، إلى جانب ما يعانونه من تشريد مرات ومرات من مكان إلى آخر، وتجويع وحصار وغياب الأدوية وغيرها من الممارسات اللاإنسانية.

لكن هذه الحرب الانتقامية ضد الشعب الفلسطيني، لم تكن مبررة أبدًا، ولن تحقق هدفها في كسر إرادة شعب يطلب تحرير أرضه، وذلك الصمود الكبير الذي استمر أكثر من عام ولا يزال صامدا، والمقاومة كل يوم تقدم الدليل على قدرتها على استمرار المقاومة، بالرغم من الضربات والقصف المتواصل والحصار، وهذا يبرز أن هذا الشعب حيّ، ولن يستكين أو يستسلم، على الرغم مما أصابه من تنكيل وتدمير، وهذه هي إرادة الحياة الحرة وطلب الاستقلال، لذلك جاء السابع من أكتوبر ليعزز روح المقاومة مرة أخرى، وأن الحق الذي أريد له أن يلغى من الذاكرة، لا يزال متوقدا وعازما على إحياء روح مقاومة العدو بالجهاد المستمر، وفق ما يملك، مع كل وسائل الحصار الذي استمر منذ عقود، ولا يزال قائما، لذلك هذه الروح الوقادة لمواجهة المحتل الذي يراد له إنهاء ذاكرته لحق الشعب العربي الفلسطيني، لم تعد قادرة أبدا على تحقيق هذا الهدف، وهذه هي المطالب الأساسية لطرد المحتل وخسارته في المواجهة، وهذا ما عبَّر عنه الكثير من القيادات العسكرية والاستخباراتية الصهيونية، عن الفشل في القضاء على حركة حماس أو استسلامها، مع بقية الحركات المقاومة في غزة، وفي بقية أراضي الضفة الغربية والقدس، والاستهداف المتعمد للمدنيين المستمر حتى الآن، وهذا الحقد الصهيوني يبرز جانبا مهما من عقلية ساسة إسرائيل الحاليين والسابقين، من أنه لا حل لاستمرار الاحتلال إلا بإبادة الشعب الفلسطيني، أو على الأقل تدجينه أو إخضاعه للقبول بالأمر الواقع الإسرائيلي الذي يسيطر على العقلية الصهيونية. فإسرائيل منذ احتلالها لفلسطين في عام 1948، وهي ماضية في خططها وأهدافها -كما أشرنا آنفا- في استمرارية المذابح والاغتيالات والاستباحات والاعتقالات، وذلك لإبقاء هذا الاحتلال قائما وجاثما على الأرض الفلسطينية، لكنها تحاول من خلال بعض أبناء جلدتنا الادعاء لتصديقها بأنها تريد السلام، وأنها تحارب دعاة الإرهاب والعنف الذين يمارسونه!! ولا يريدون السلام الذي تريده إسرائيل وكما تفهمه!

ثم توقع قادة الكيان الصهيوني بعد عام على حرب غزة، أنهم نجحوا في القضاء على المقاومة في غزة، بعدما دخلوا شمال وجنوب القطاع، والذهاب حتى إلى حدود معبر رفح وفيلادلفيا ومعبر كرم أبو سالم، وكلها بهدف تصفية المقاومة، فبحسب اعتقادهم أنهم يحاصرون كل الأماكن في طول غزة وعرضها، ومع ذلك حدث العكس، واستمرت المقاومة، لكن المفاجأة الكبيرة أنه في يوم ذكرى مرور عام على طوفان الأقصى، وجّهت حركة حماس صواريخها لعمق تل أبيب مع ذهول المراقبين والمتابعين للحرب في غزة، التي اعتبرت القيادات الإسرائيلية، أنها أنهت قوة المقاومة والدور أتى على ضرب حزب الله. فقامت إسرائيل بمخطط للهجوم على المقاومة الإسلامية في لبنان، وبالتحديد حزب الله، تحت ذريعة إعادة سكان شمال إسرائيل إلى مناطقهم، لكن الهدف هو ضرب المقاومة، لكنها الخطة منذ سنوات، وأن تبدأ بضرب القيادات أولا، قبل التوسع في الهجوم البري والجوي، وفعلا تم استهداف أغلب قيادات حزب الله السياسية والعسكرية، إما بتفجير من الهواتف، وإما بضرب اجتماع القيادات بقنابل أمريكية تدميرية، ويعتقد نتنياهو وقيادات حربه، أن اغتيال القيادات كفيل بانهيار قوة الحزب وارتباكه وخلخلة قدراته العسكرية، لكن هذه أوهام وغرور وهي أيضا غير أخلاقية في كل الحروب قديما وحديثا، لكن العقلية الصهيونية لا تأبه بشيء لا أخلاقي ولا قانوني، وإلا لماذا ضربت المدارس والمستشفيات ومؤسسات الإغاثة الأممية في مناطق مدنية؟ من هنا فإن قوة المقاومة الإسلامية، عندها تراتبية في القيادات العسكرية والسياسية، ولديها الكوادر المنظمة والمعدة، لكل الاحتمالات السياسية والعسكرية، من هنا واجهت إسرائيل بمقاومة شديدة في جنوب لبنان، لم تكن تتوقعها من حزب الله على الحدود وفي قوة الردع والضرب الصاروخي الموجه للمدن والقواعد العسكرية والاستخبارية ومناطق الصناعات العسكرية، لذلك التوهم الذي توقعه قادة الحرب الصهاينة كان أقرب للسذاجة التي ليس لها نظرة عسكرية دقيقة، وهي الهزيمة نفسها التي وقعت لهم في السابع من أكتوبر العام الماضي من حماس وهي ضربة قاسية وهزيمة لهم.

الخلاصة أن الحرب الإسرائيلية التي شنّت على غزة بعد طوفان الأقصى، ودخلت عامها الثاني ولا تزال، لم تستطع -كما تقول إسرائيل- أن تقضي على حماس وبقية المقاومة، لكن كما يبدو هدف هذه الحرب هو الانتقام من الأبرياء الذين واجهوا حربا بربرية ظالمة، لمجرد أنهم لم يخرجوا من أرضهم ورفضوا التهجير، مع أن نتنياهو ادعى أن هدف الحرب هو القضاء على المقاومة، وتحرير الرهائن المحتجزين، لكن هذا الرهان فشل تماما حتى الآن، وبقي التركيز على قتل المدنيين وتدمير المدارس والمستشفيات وأماكن الإيواء، وغيرها من الأماكن الآمنة للمدنيين، وفي الحرب على لبنان، فإن الخسارة كانت كبيرة خلال شهر، وأصبحت صواريخ المقاومة تضرب القواعد العسكرية والصناعات والموانئ وغيرها، ووصلت هذه الصواريخ حتى غرفة نوم نتنياهو!! إلى جانب الفشل العسكري لاختراق الحدود اللبنانية، مع الخسائر البشرية الكبيرة في عدد القتلى والمصابين يوميا في غزة وفي لبنان، لذلك أصبح الطلب الملحّ الإسراع في عملية التبادل مع وقف إطلاق النار في غزة من قادة الصهاينة، ووقف الحرب في لبنان بشروط متكافئة، وهذا يعني فشل ما كان يقوله قادة إسرائيل من أنهم سيرجعون لبنان للقرون الوسطى لو دخلوا الحرب معها! لكن الأمور خالفت توقعاتهم وتهديداتهم فأصحاب الحق هم المنتصرون دائما.

مقالات مشابهة

  • الأورومتوسطي .. المنظومة الدولية فشلت فشلًا مشينًا في وقف الإبادة في غزة
  • كيف ستحدد الانتخابات الأمريكية مستقبل حروب إسرائيل؟
  • بغض النظر عن الفائز.. حلفاء أمريكا الأوروبيون يواجهون أوقاتاً صعبة
  • البصرة تؤشر زيادة الظواهر والسلوكيات المنحرفة التي تؤدي لانتحار الشباب
  • مصير أوكرانيا في يد الناخب الأمريكي
  • عاجل - الأونروا تتصدر التريند.. معلومات عن هيئة الأمم المتحدة التي تحاربها إسرائيل
  • لماذا ستخسر إسرائيل حروبها مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية؟
  • الشيخ قاسم: مساندة غزة واجبة ومستمرون في تنفيذ خطة الحرب التي وضعها السيد نصرالله
  • أمريكا “تسعى” لإنهاء الحرب بين إسرائيل وحزب الله اللبناني
  • نعيم قاسم: سأسير على نهج حسن نصر الله وسأنفذ خطة الحرب التي وضعها