هل الأخلاق قبل كل شيء؟ (1-2) .. لماذا قلما تتوافق القيم والمصالح الوطنية؟
تاريخ النشر: 17th, October 2023 GMT
ميشائيل لودرز Michael Lüders
تقديم وعرض حامد فضل الله \ برلين
صدر عن دار فيلهم قولدمان الألمانية للنشر هذا العام ــ 2023 ــ كتاب بالعنوان أعلاه للكاتب والباحث الدكتور ميشائيل لودرز. والكتاب من الحجم المتوسط ويضم 254 صفحة ــ ويحتوي بجانب المقدمة والهوامش على ثمانية فصول.
تسبق المقدمة استِشهادات تُدعم آراء وتحليلات الكاتب في المتن نذكر منها:
ــ.
إيجون بار(Egon Bahr)(2015 ــ 1922) أحد قادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وأحد مهندسي ما عرف في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بسياسة الشرق، (Ostpolitik ).
ــ كان نجاحي الخاص هو مساهمتي بإمكانية ذكر وبنفس واحد، اسم بلدنا ومفهوم السلام مرة أخرى.
فيلي براندت، 1988 ــ المستشار الألماني الأسبق
ــ تقول السياسة: كونوا أذكياءً مثل الأفاعي وأما الأخلاق فتزيد بالقول ولكن مثل الحمام مستقيماً".
الفيلسوف الألماني، إيمانويل كًنْت
يقول الكاتب في المقدمة، " الأخلاق هي سيف اللاعقلانية، التي تقسم العالم إلى خير وشر. ــ وهذا الكتاب لا يدور بشكل مباشر حول الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك فأنها تمتد مثل وشيجة أساس عبر جميع الفصول تقريباً ــ ويرجع ذلك أساساً ، إلى تداعيات العقوبات الغربية ضد روسيا، والتي لا تلحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد في ألمانيا فحسب، بل تجلب لهذا البلد خسارة للازدهار لم تشهدها منذ عام 1949، مصحوبة بتراجع سريع للتصنيع، ويكشف علاوة على ذلك، عن الخطوط العريضة الأولى لنظام عالمي جديد ، لم تعد تتحكم به الولايات المتحدة أو الغرب بصورة عامة لوحده. فالرابح الأول لـ "زمن التحول" الذي افترضه، كجيوسياسية، المستشار الألماني شولتز بعد بدء الحرب، هي الصين.
ويواصل "لقد فُرضت العقوبات الغربية على موسكو، مباشرة بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا. فهذا من ناحية، أمر مفهوم – فأن الاخذ علما بالهجوم فقط، الذي انتهك القانون الدولي، ما كان يمكن أن يكون البديل. لكن ما الذي كانت تحاول العقوبات تحقيقه بالضبط؟ وبحسب قول وزيرة الخارجية بربوك، كان الهدف "تدمير روسيا"، كما تسعى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين "إلى هدم القاعدة الصناعية لروسيا تدريجياً"، وتحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن عن "تحطيم الاقتصاد الروسي".
كلمات عظيمة، تصل إلى ما هو أبعد من أوكرانيا، ويشعر بعواقبها منذ زمن طويل كل فرد. والأكثر وضوحاً في شكل تضخم مرتفع ومستمر، الى جانب تفشي الدين العام وهشاشة إمدادات الطاقة.
يجب على الذي يسعى إلى معاقبة روسيا بشكل دائم، أن يطرح سؤالاً بديهياً: هل يمكن أن تركع اقتصادياً أكبر دولة في العالم، وأحد أهم موردي الطاقة ؟ الجواب الموضوعي هو: لا. ليس فقط لأن الجنوب العالمي، باستثناء عدد قليل من الدول الموالية للغرب، لا يشارك في العقوبات، لهذا ليس من المستغرب أن تصيب عواقب إجراءات المقاطعة ألمانيا أكثر من أي دولة غربية أخرى، وكما يبدو، أكثر من روسيا نفسها"
ويواصل "الكل مرتبط ببعضه البعض، وبالتالي، يمتد هذا الكتاب عبر قوس واسع جغرافيا من المانيا إلى تايوان. ويطرح أسئلة ما يتم تجاهلها غالباً: لماذا لا يشارك الجنوب العالمي في العقوبات المفروضة على روسيا؟ وما هي الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة في أوكرانيا نحو روسيا؟ وهل سيستقر العالم في المستقبل، أم أن الصراع الرئيس التالي يلوح في الأفق بالفعل، بين واشنطن وبكين"؟
"وعطفا على كل من يكتسب انطباعاً أثناء القراءة، بأن هناك فجوة كبيرة بين التصوير السياسي ـ الإعلامي للأحداث العالمية وما يحدث بالفعل ــ وغالباً خلف الكواليس ــ فهو ليس مخطئاً".
جاءت كلمة الأخلاق في عنوان الكتاب، والأطروحة الرئيسية للكتاب هي أن الدول الغربية تستخدم الأخلاق كمبدأ للسياسة وكمبرر للقرارات السياسية، وكهدف لشيطنة العدو. ويعود بنا الكاتب في هذه النقطة إلى التاريخ، بقوله:
"كانت السياسة قبل عصر الحداثة، مرتبطة بالدين والأخلاق. ولكن مع بداية العصر الحديث، الذي أسسته الرأسمالية المبكرة، واكتشاف كولومبوس لأمريكا، حدث الفصل التدريجي للسياسة عن الأخلاق في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكان هذا بدوره شرطاً أساسياً لبناء الدولة الحديثة، التي بدأت في تحرير نفسها من الدين، ونبذت الخير والشر، ووضعت بدلاً من ذلك مصلحة الدولة فوق الفضيلة".
وباعث هذا الفكر الجديد السياسي والفيلسوف (1469-1527). Niccolò Machiavelli
ويصف ميكيافلي في كتابه الموسوم "الأمير" الصادر عام 1513 ، وهو أول عمل للفلسفة السياسية في التاريخ، القواعد الأساسية لسياسة الدولة، الخالية من الأفكار الأخلاقية والدينية. ….
ويقدم لودرز بدوره نقداً، للأخلاقيات السائدة اليوم في اتخاذ القرارات السياسية. ويشير إلى التناقضات والمخاطر التي تنطوي على ما يسمى بالسياسة الخارجية القائمة على القيم ويدعو إلى العودة إلى الواقعية السياسية والاِدراك الذاتي للمصالح الوطنية ، مضيفاً، "من وجهة نظر ميكيافلي"، فإن الرد الغربي على "الحرب العدوانية التي تقودها روسيا في أوكرانيا" لن يكون أكثر من مجرد حماقة غير مسؤولة، لأنه يلحق الضرر بأسس الدولة والمصالح العامة.
ويكتب لودرز في هذا السياق:
"نميل نحن في ألمانيا، إلى الاِنبهار ببلاغتنا الذاتية. نحن الأخيار، وننقذ العالم، وننقذ المناخ، وننقذ أوكرانيا. ونقف إلى جانب الولايات المتحدة من أجل حرية تايوان. يستطيع المرء أن يفعل كل شيء. ولكن بدأ الآن الاقتصاد في التراجع. و تسارعت وتيرة تراجع التصنيع، ولا تبدو التوقعات بالنسبة للاقتصاد الألماني في السنوات القليلة المقبلة جيدة."
ويشير الكاتب في هذا السياق إلى الأغنية، في المسرحية الشهيرة "اوبرا البنسات الثلاثة" لبرتولد برشت،
:" يأتي الطعام أولاً ثم الأخلاق". Bertolt Brecht
وعن دور الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية:
"تسعى الولايات المتحدة لتحقيق ثلاثة أهداف في أوكرانيا. 1 ــ إضعاف روسيا اقتصادياً وعسكرياً وجيوستراتيجياً وبشكل شامل ودائم. 2 ــ تأسيس نظام، لحاكم موثوق به في العاصمة الأوكرانية "كييف" يتبع وينفذ التصورات الأمريكية. 3 ــ ربط أوروبا ربطاً وثيقاً، اقتصادياً، من خلال إمدادات الطاقة، وعسكرياً، من خلال الناتو، لتعميق التبعية الحالية وكسب الاتحاد الأوروبي - بالأخص في الصراع المقبل مع الصين. ونشير في هذا الصدد إلى الفقرة التالية من الكتاب، المتعلقة بغزو روسيا لأوكرانيا وعن أهمية شبه جزيرة القرم لموسكو:
"من الناحية الجيوستراتيجية، فإن أوكرانيا، التي مرت عبر أراضيها قوات نابليون وقوات هتلر، ذات أهمية قصوى بسبب موقعِها الحساس. وإذا أصبحت جزءاً من حلف شمال الأطلسي، فإن الغرب سيحكم السيطرة عليها، وبهذا تقع الحدود الجنوبية الغربية لروسيا، التي يبلغ طولها حوالي 2000 كيلومتر تحت رحمة الولايات المتحدة، وعند اذن سيكون من الصعوبة على موسكو الدفاع عنها، وستتاح الفرصة للدول الغربية لاستخدام القواعد العسكرية المتقدمة لتحجيم النفوذ الروسي في منطقة البحر الأسود حتى آسيا الوسطى، لهذا تمثل الأهمية الاستراتيجية لشبه جزيرة القرم، الدافع الحقيقي لاحتلالها من قبل موسكو، والتي كانت هذه حتى عام 1954 تابعة لروسيا. ويتمركز في شبه جزيرة القرم، في Sewastopol ، أسطول البحر الأسود الروسي، على أساس اتفاق خاص أبرم مع أوكرانيا في عام 1997، والذي كان سوف ينتهى في عام 2017، ومن المؤكد تقريباً أنه ما كان سيتم تمديده من قبل أي حكومة موالية للغرب في كييف. فأن من يسيطر على شبه جزيرة القرم يسيطر على البحر الأسود ويسيطر بشكل غير مباشر على مداخل البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور".
"إن الحرب التي تخوضها روسيا منذ فبراير/ شباط 2022 تضع سيادة أوكرانيا موضع شك. تم احتلال أو ضم الأجزاء الشرقية من البلاد، وفرار الملايين من الأوكرانيين. لقد اتحدت قطاعات كبيرة من السكان، وليس فقط في ألمانيا، في إدانتها لهذه الإمبريالية الروسية الجديدة. لقد وجد أكثر من مليون لاجئ أوكراني ملجأ في هذا البلد، والتضامن الذي أظهروه كان ولا يزال كبيراً".
فكيف نتعامل مع هذه الاستباحة من جانب موسكو، التي تنتهك القانون الدولي؟ جاء الجواب في العواصم الغربية بأغلبية ساحقة: الانفصال الكامل عن روسيا على جميع المستويات، السياسية والاقتصادية والثقافية أيضاً.
دفعت القناعات الأخلاقية إلى جانب سياسات القوة، واشنطن وبروكسل وكذلك برلين، إلى فرض عقوبات شاملة على روسيا، كما هو مذكور سابقاً، وتزويد أوكرانيا بالمزيد والمزيد من أسلحة الدفاع لاستعادة الأراضي المحتلة أو التي تم ضمها. قد تكون هناك أسباب وجيهة لذلك، ولكن هناك فرق بين التضامن وتدمير الذات. أن العقوبات المفروضة على روسيا تهدد بدون "إنهاء الحرب"، الازدهار، ليس فقط في أوروبا. ولن يغير من ذلك إمداد الأسلحة الثقيلة، طالما أنها ليست مصحوبة بوقف إطلاق النار أو مفاوضات السلام، وأيضاً من عدم الدعوة بصوت عالٍ لتغيير النظام في موسكو.
"إن غزو أوكرانيا ليس غير واقعي ومثير للشكوك فحسب، بل إنه مثقل بالرمزية أيضاً. يسعى الخير المطلق، الذي يجسده الغرب، إلى تحرير نفسه من الشر المطلق: أولاً من روسيا، ثم من الصين".
"يسير لسوء الحظ، في معظم الحالات، تعظيم الذات الأخلاقية جنباً إلى جنب مع إنكار الواقع والنفاق، وانتقائية مفرطة للعدالة، وهذا ما تؤكده الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا.
وهذا هو بالضبط السبب الذي يجعل تسيس الأخلاق وإضفاء الطابع الأخلاقي على السياسة موضع شك كبير".
"ومع ذلك، يجب على أي شخص يدعو إلى فرض عقوبات على روسيا أن يسأل نفسه بصدق لماذا لم يتم فرض إجراءات مقاطعة مماثلة على الولايات المتحدة. وكان من الممكن أن يكون ذلك منطقياً، على سبيل المثال في حرب فيتنام أو العراق. ولم يكن كلاهما اكثر شرعية و أقل انعدام ضمير من الوضع الحالي في أوكرانيا. وهناك بطبيعة الحال، العديد من الأسباب الوجيهة لإدانة الرئيس الروسي. ولكن لماذا تنطبق عليه معايير مختلفة عن تلك التي تنطبق على الممثلين الغربيين؟ لماذا يسعى صناع القرار في الغرب إلى توجيه الاتهام إلى فلاديمير بوتن أمام محكمة جنائية دولية، ولكن ليس جورج دبليو بوش أو توني بلير، العقلين المدبرين وراء حرب العراق، التي قامت على الأكاذيب والتلاعب"؟
hamidfadlalla1936@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی أوکرانیا جزیرة القرم الکاتب فی على روسیا أکثر من فی هذا
إقرأ أيضاً:
حرب المعادن الأوكرانية مستمرة.. بعد توتر العلاقة بين ترامب وزيلينسكى.. السؤال الذى يشغل العالم لماذا تجعل واشنطن اتفاقية التعدين عنصرًا حاسمًا فى عملية السلام مع روسيا؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بينما كان العالم ينتظر حفل توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف، تحول لقاء الرئيسين ألأمريكى دونالد ترامب والأوكرانى فولوديمير زيلينسكي، يوم الجمعة، فى البيت الأبيض إلى مشادة نارية شاهدها الملايين على الهواء مباشرةً، وغادر بعدها زيلينسكى البيت الأبيض، فيما ترددت أنباء بأن ترامب طرده بحسب "فوكس نيوز" نقلاً عن مسؤولين في البيت الأبيض.. وبذلك، لم يتم التوقيع على اتفاق المعادن النادرة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ويرى ترامب أن اتفاق المعادن النادرة أمر ضرورى كخطوة نحو التوسط في اتفاق لوقف الحرب مع روسيا والسير فى طريق السلام والاستقرار، وأيضاً ليسترد ما تحملته واشنطن من مليارات الدولارات دعماً لكييف.. ورغم توتر الأجواء وإنهاء الزيارة، فإن زيلينسكى قال عن الصفقة: "يمكننا أن نمضي قدماً بها، لكن هذا ليس كافياً"، وكتب على "منصة أكس": "شكراً أمريكا.. شكراً لدعمكم، شكراً لكم على هذه الزيارة". وأضاف: "إن أوكرانيا تحتاج إلى السلام العادل والدائم، وهو ما نحن نعمل على تحقيقه". ويرى محللون أن هذه الرسالة بمثابة محاولة من الرئيس الأوكراني لتصحيح مسار المفاوضات بعد تعثرها، كما يؤكدون على أن الرئيس الأمريكى لن يتنازل عن مطلبه بتوقيع اتفاق المعادن باعتبار ذلك حرباً لا بد أن تُحسم لصالحه..
فى محاولة لفك طلاسم هذه الصفقة وفهم أبعادها وأهميتها فى ظل حاجة الولايات المتحدة لتلك المعادن النادرة، نطرح سؤالاً محورياً: ما هو السر وراء إصرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على إبرام صفقة الحصول على المعادن النادرة من أوكرانيا؟.. المعلن أنه يريد أن يسترد المليارات التى أنفقتها واشنطن على دعم أوكرانيا فى حربها مع روسيا.. لكن الواقع يقول إن هناك أسباباً أخرى تتعلق بالأساس بحاجة الولايات المتحدة لهذه المعادن لاستخدامها فى الكثير من منتجاتها.
يوضح جيوم بيترون، الباحث المشارك في معهد إيريس، أن اعتماد الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، على المعادن الهامة التي تنتجها الصين هو جوهر اتفاقية التعدين المحتملة مع أوكرانيا.
ما هي بالضبط مصالح الولايات المتحدة وأوكرانيا في هذا العقد؟ لماذا أصبحت هذه الموارد المعدنية ثمينة واستراتيجية إلى هذا الحد؟ تحليل يقدمه جيوم بيترون، الباحث المشارك في إيريس، ومؤلف كتاب "حرب المعادن النادرة. الوجه الخفي للتحول في مجال الطاقة والرقمنة".
تحفظات مهمة
يقول جيوم بيترون إن أوكرانيا تمثل ٠.٤٪ من كتلة اليابسة على الكوكب، ولكنها تحتوي على ٥٪ من ما يسمى بالمعادن الحرجة.. وتعتبر هذه الموارد مهمة للغاية لأن الإنتاج فيها يقتصر على عدد قليل من البلدان. ومن ثم هناك خطر حدوث نقص في العرض. ومع ذلك، فإن هذه المواد الخام ضرورية للتكنولوجيات الجديدة، والطاقات الخضراء، وكذلك لتكنولوجيات الدفاع.
يختلف عدد المعادن حسب الدولة.. وقد أدرج الاتحاد الأوروبي ٣٤ عنصرًا، بينما أدرجت الولايات المتحدة ٥٠ عنصرًا. وقد يشمل ذلك المعادن الشائعة، مثل الحديد والألومنيوم والنحاس والزنك، وما إلى ذلك.. بالإضافة إلى المعادن التي تعتبر نادرة لأنها أقل وفرة في قشرة الأرض، مثل الكوبالت أو التنجستن.
ومن ثم فإن هذا التفاوت بين حجم الأراضي الأوكرانية وإمكاناتها مثير للاهتمام للغاية. كما نجد في باطن الأرض، سواء قيد الاستغلال أو للاستغلال، كل أنواع المعادن التي ذكرناها: اليورانيوم، والجرافيت، والحديد، والنيوبيوم، والليثيوم، وربما المعادن النادرة، وهي عائلة أخرى من خمسة عشر معدنًا، حيث نجد من بين أمور أخرى السكانديوم أو الإيتريوم.
عنصر حاسم
ويضيف جيوم بيترون أن هناك منطقا انتهازيا من جانب دونالد ترامب. يعتقد الرئيس الأمريكي، وهو رجل أعمال سابق، أنه قادر على إعادة التوازن المالي، بالنظر إلى ما تمكن الأمريكيون من إنفاقه في عهد سلفه من أجل أمن أوكرانيا. لكن شبح الصين، منافستها، هو الذي يلقي بظله على هذا الاتفاق. ولكي نفهم هذا، علينا أن نعود إلى الوراء قليلًا. الولايات المتحدة دولة منتجة للتعدين، ولكنها تستخرج اليوم عدداً قليلاً نسبياً من المعادن الحيوية لأن مناجمها أُغلقت، ولم يتم فتح مناجم جديدة لأسباب بيئية. وفي الوقت نفسه، سمح الأمريكيون لدول الجنوب العالمي بإنتاج هذه المعادن لصالحهم منذ ثمانينيات القرن العشرين.. وهذه الملاحظة تنطبق أيضاً على الفرنسيين والأوروبيين بشكل عام. وهذا أمر غير مريح لأنه يخلق اعتماداً على الصين.
وقد اكتسب العملاق الآسيوي الزعامة والنفوذ الكبير فيما يتصل باستخراج وتكرير هذه الموارد. ولقد هددت الصين لسنوات بالتوقف عن تصديرها، وهو ما تفعله، على سبيل المثال، مع الغاليوم والجرمانيوم، بينما تشدد الولايات المتحدة سيطرتها على تكنولوجيات تصنيع الرقائق. وعلى مدى السنوات العشر الماضية أو نحو ذلك، شهدنا صحوة أمريكية، في سياق التوترات الجيوسياسية والتجارية المتنامية مع الصين. وقد تم اتخاذ إجراءات على أعلى مستوى في الدولة لتحديث قائمة المعادن الحرجة، وتحديد الاختناقات في سلسلة القيمة الخاصة بها، وإعادة إطلاق الإنتاج على أراضيها، وتوقيع شراكات دبلوماسية مع دول أخرى من أجل تنويع إمداداتها.. وعلاوة على ذلك، قد يجد ترامب هذه المعادن في أماكن أخرى غير أوكرانيا، على سبيل المثال على أراضيه، أو بين جيرانه في كندا، أو في أمريكا اللاتينية. وببساطة، هناك فرصة فورية هنا والآن في أوكرانيا لتبادل الأمن بهذه الموارد تحت مبدأ "السلام مقابل المعادن".
مصالح أوكرانيا
ولا تزال تفاصيل كثيرة حول هذه الصفقة (التى لم يتم التوقيع عليها) غير معروفة، لكنها قد تكون مفيدة لفولوديمير زيلينسكي. لأن المشاركة في المناجم تعني الاستثمار في الطرق، وفي الموانئ التي تسمح بتصدير الخام، وفي البنية التحتية للطاقة التي تسمح بإنتاج الطاقة اللازمة لتشغيل المناجم.. وهو أيضًا استثمار في الموارد البشرية التي تسمح بخلق فرص عمل في أوكرانيا. السؤال هو من سيتحمل هذا الجهد ومن سيحصد الثمار وبأي نسبة؟ وهنا يتعين على فولوديمير زيلينسكي أن يقف بحزم لضمان أن تكون الصفقة عادلة ومنصفة.
المعيار الثاني المثير للاهتمام بالنسبة لأوكرانيا هو أنه لا ينبغي لأي معادن أن تخرج من البلاد للذهاب إلى الولايات المتحدة بموجب تفويض ترامب.. وقت التعدين طويل جدًا. لقد مرت بالفعل ما بين ١٠ إلى ١٥ سنة بين وصول الأمريكيين وإنشاء نموذج اقتصادي قابل للتطبيق واستخراج المعادن. ومن ثم يجب إضافة نفس المدة لاستغلال المنجم. وهذا يبشر بوجود تواجد أمريكي في هذه المنطقة الاستراتيجية على مدى العقود الثلاثة المقبلة على الأقل. وأخيراً، فإن تركيب أداة التعدين الروبوتية المتطورة والمعقدة من الجيل الأحدث، مع كل البنية التحتية اللازمة، يكلف عشرات أو مئات المليارات من الدولارات. ولن تستثمر الولايات المتحدة هذا المبلغ في سياق سياسي غير مستقر، حيث تقاتل القوات الروسية في كل زاوية فى شارع.. كل هذا يعني ضرورة الاستقرار الجيوسياسي. ولا يمكن أن يأتي الاستقرار بدون السلام. وسيتعين على الأمريكيين ضمان ذلك على المدى الطويل. إن زيلينسكي يربط مصيره بمصير الأمريكيين.
استراتيجية أوروبية
وحول الموقف الأوروبى، يقول جيوم بيترون: لقد كان الأوروبيون يدركون دائمًا أن هناك احتياطيات محتملة متاحة في أوكرانيا. علاوة على ذلك، جرت مناقشات بشأن اتفاقيات التعاون في مجال الليثيوم. لكن زيلينسكي يدرك أن الأوروبيين مترددون في التنقيب عن المعادن في القارة بسبب قضايا اجتماعية وبيئية، حيث يتطلب التنقيب حفر حفرة كبيرة في الأرض، مما يؤثر دائمًا على التنوع البيولوجي، وعلى التربة. ومن ثم، تتطلب عملية التكرير استخدام المواد الكيميائية والمذيبات.. ومع ذلك، يرى زيلينسكي أنها بمثابة رافعة لإعادة إعمار بلاده.
أما بالنسبة لأوروبا، فإن لديها استراتيجية. في عام ٢٠٢٤، قدم الاتحاد الأوروبي قانون المواد الخام الحرجة، والذي ينص على قائمة تضم ٣٤ معدنًا حرجًا، وأهدافًا كمية غير ملزمة لعام ٢٠٣٠. ووفقًا لها، يجب أن يأتي ١٠٪ من احتياجاتها من الموارد المستخرجة من باطن الأرض، في ٢٧ دولة في الاتحاد. وسيتم إنتاج نحو ٤٠٪ من هذه المادة من مواد خام يتم تكريرها في نفس المنطقة. الهدف الثالث هو أن ٢٥٪ من احتياجات المعادن الأساسية تأتي من إعادة التدوير.
باختصار، يتعلق الأمر بإعادة فتح المناجم في أوروبا، ثم الذهاب للحصول على المعادن من الآخرين لتنقيتها فى أوروبا، وذلك بفضل الدبلوماسية المعدنية النشطة. ويتضمن ذلك إبرام اتفاقيات مع أستراليا وكندا وتشيلي ومنغوليا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها من الدول، من أجل تأمين الإمدادات الحالية والمستقبلية من المعادن. وهكذا، وكما فعلت الولايات المتحدة، ينبغي تنويع الإمدادات بدلاً من الاعتماد على الصين.
وأصبحت أوروبا على علم بهذه القضية. ولكن، كما ذكرنا سابقًا، فإن وقت التعدين طويل. إن التحرر من هذا الأمر أمر صعب، وخاصة عندما يتوجب عليك التفكير في فتح مناجم على أراضيك الخاصة. ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر، مشروع إيميلي (إيمريس) في ألييه الذي يثير قدراً كبيراً من التوتر في فرنسا. هل يقبل السكان المحليون رؤية منجم مفتوح في أسفل حدائقهم حتى نتمكن من تصنيع سيارات كهربائية تسير في مناطق منخفضة الانبعاثات في باريس؟.
ومن المفهوم أن إنتاج المعادن النادرة سوف يصبح أكثر تكلفةً.. لا نريد أن نكون مثل الديوك الرومية في مهزلة التحول في مجال الطاقة، ضحايا الاستعمار الأخضر الجديد. التحدي الآن هو معرفة في أي مرحلة من معالجة الخام سيتم تصديره. وهذه هي المناقشات التي تدور حاليا.
ازدياد التوتر
ونبه جيوم بيترون إلى أن هناك معادن معينة قد يخلق الطلب عليها توتراً كبيراً، قائلاً: سوف تكون هناك حاجة كبيرة إلى الليثيوم ولجميع المعادن التي تدخل في صناعة البطاريات. الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنجنيز هي العناصر الأساسية. والجرافيت أيضًا، وهو معدن مهم جدًا لهذه الأدوات نفسها. ويمكننا أيضًا أن نذكر المعادن الموجودة في محركات السيارات الكهربائية والتي تحتوي على معادن نادرة. والشيء نفسه ينطبق على توربينات الرياح ذات الطاقة العالية. وأخيرا، أصبح النحاس عنصراً بالغ الأهمية، فهو معدن موصل للكهرباء يستخدم في بناء أميال من خطوط الجهد العالي وخطوط الطاقة. ونستطيع أن نرى بالفعل سيناريو نقص محتمل، لأن الإنتاج غير قادر على مواكبة الزيادة في الطلب. لكن السؤال يظل معقدا. لأنه حتى لو عرفنا احتياجاتنا للغد، فكيف ستتطور المواد الكيميائية، خاصةً أن بدائل المعادن النادرة، وهي عائلة من المعادن المحددة للغاية، لا تزال غير متوفرة؟.