خرجت من فوهة التاريخ لتأخذ جيل الحاضر إلى جذور الأجداد، تنفست بقربها رائحة الطيب الذي أخفته جدران الطين، وأعادتني إلى سنوات عاش فيها جدها ووالدها وأعمامها في البيت الغربي، هنا رسمت لي زكية اللمكية صور طفولتها، ولونتْها بحبها للمكان، حتى عندما أتعبها المرض كانت رائحة الطين طبيبها والدواء، وأخذها صوت والدها في المنام لسماع صوت الشغف في قلبها، وما كان الشغف إلا إعادة إحياء البيت الغربي قبيل اندثاره، والانخراط في العمل التطوعي؛ ليكون معجزة للنجاة من أمراض خطيرة.

لم أتخيل أن تكون زكية اللمكية صاحبة متحف البيت الغربي بالرستاق بتلك الهيئة، راودتني الكثير من الخيالات وأنا في طريقي للقائها، لم يستطع صوتها أن يصورها لي، وجدتها امرأة ممتلئة بالحياة، جمعت بين الماضي في ذاكرتها، والحاضر في حديثها ونمط حياتها، قالت لي: «كثرة الأحداث والوقائع التي مرت بي في حياتي أشعر بأني عشت 100 عام»، ولكنها -رغم أن لها أحفادا- تبدو وكأن العمر قد توقف بها في مرحلة من مراحل الشباب، وفي حديثها تستشف كم هي امرأة مرحة، والطفولة التي لم تكمل عيش تفاصيلها كاملة، فقد تزوجت وهي في الثانية عشرة من العمر، إلا أنها استمرت تعيش بروح الطفولة، ورغم السنوات الطويلة التي أخذتها لعالم مختلف عاشته في تربية الأبناء، والانشغال بوضعها الصحي الذي تدهور شيئا فشيئا، فكان أن بعثت لها المعجزة.

قصة البيت الغربي تشبه الخيال، فالمكان كان مهد طفولة «زكية اللمكية» عاشت فيه حتى زواجها، وغادرته سنوات طويلة، وهجر المكان بعد وفاة والدها، وترك للاندثار، تقول اللمكية: إن المكان لم يهتم لأمره أحد بتاتا، حتى مضت سنوات العمر سريعا.

عادت اللمكية إلى بيت الوالد بعد 28 عاما، عادت والحنين هو الذي قادها، تقول: إنها رأت اندثار البيت وحالته التي يرثى لها، فتبادر لذهنها العديد من الخطط التي صوّرها لها خيالها، وفي الليلة ذاتها رأت والدها في المنام، تقول: رأيته حلما أثناء نومي وهو واقف عند بوابة قصرى -مدخل الحارة القديمة-، يسأله من حوله «ماذا جاء بك إلى هنا؟ بعد أن رحلت لمكان بعيد، فقال: «أتيت لمساعدة ابنتي».

أخذها والدها في المنام وفتح لها باب البيت، وبدأ يفتح الغرف واحدة تلو الأخرى، تقول زكية: «والدي كان يفتح لي غرفا جديدة لم نكن نراها حين كنا صغارا، ربما لأنها غرف يخزن فيها والدي الكتب والمعونات للفقراء، والبيت في الحلم كأنه كقصر كبير».

وتضيف: «شعرت بأنها وصية والدي، وربما هي وصية تاريخية، ولا بد أن أستجيب لها».

«لم يكن البيت الغربي مجرد بيت للسكن، بل كان مدرسة لتعليم الفقه والعقيدة والسيرة النبوية في مجلس العلم».. سردت زكية قصة المكان فترة ازدهاره، فقالت: «كان جدي العلامة راشد بن سيف اللمكي يدرس الأئمة في البيت ذاته، وتمسك والدي بالنهج ذاته، ليصبح البيت الغربي منهلًا للعلم، ومكانًا لتخريج الأئمة وأصحاب العلم».

رائحة الطين تعيد الذاكرة ..

زكية اللمكية بدأت بتنفيذ خططها، فقد كانت تريد أن تعيد فتح أبواب «البيت الغربي» وتحوله لمتحف يستقطب الزوار لمعرفة التراث العريق للمكان، ويبحروا عبره في أعماق قصص من تخرجوا منه، تقول زكية: «بعد الحلم هممت بتنظيف البيت وإعادته لهيئته القديمة.. وبالفعل تم ذلك بمساعدة الجيران، لأدخل البيت بعد تنظيفه فأشم فيه رائحة المطر، اختلاط الماء بالطين أعطاني إحساسا بأن مطرا قد بلل جدران البيت، بدأت أتمشى في أروقة البيت لأشعر برائحة كل نساء هذا البيت تنبثق من الجدران، كأني ألتقي بكل امرأة من خلال روائحهن وطيبهن الذي كن يتطيبن به من الصندل والعنبر والزعفران قد التصقت بالمكان، أعادني الحنين لتلك الأيام».

لم تكن في البيت أي مقتنيات، فقد نهبت كلها خلال الفترة التي هجر فيها البيت، لم يتسلل اليأس إلى قلب زكية بل بدأت تفكر: «كيف يمكن أن أبدأ!» تقول: «تذكرت أن أهلي أهدوني هدية الزواج واحتفظت بها لمدة 30 سنة، البعض يقول لي ارميها، ولكني احتفظت بها كونها هدية من الأهل وهي الذكرى الوحيدة لديّ منهم، كانت الهدية عبارة عن حقيبة وفيها بعض الأغراض، من ضمنها مصحف ومرفع وسجادات، أحضرتها للبيت ووضعتها في مجلس العلم، وبعضها وضعته في غرفة جدتي»، وتستطرد زكية بأسلوب يمتلئ بالتشويق: «بعد أن أفرغت الحقيبة من أغراضها كلها، اكتشفت أن فيها جيبا داخليا مغلق وفتحته لأول مرة بعد مضي كل هذه السنوات، وإذا بقطع ذهب موجودة في الداخل، شعرت بأن تلك القطع قد تركت كل هذه الأعوام خصيصا لأجل هذا البيت».

استطاعت زكية اللمكية أن تؤسس متحفًا للزوار، يقصده الكثر من مختلف المناطق والولايات، ويأتي له السياح، رغم ضعف الإمكانات وقلة الموارد، وكثرة العراقيل إلا أنها أبت إلا الحفاظ على التراث، وهي تفتح باب بيت والدها للجميع دون أي رسوم للدخول والاستكشاف والتعرف على مكنونات العلم والتراث والأجيال التي خلّفت بقاياهم تلك الجدران الطينية والقصص التي تحكيها اللمكية بكل حب.

عمل تطوعي ..

تقول زكية: إن بركة المكان كانت بفعل دعوات من حولها، وأن قلبها الشغوف بالبحث عن المقتنيات هو دافعها لتعمير المكان بصورة مليئة بالجمال، ورغم نظرات المجتمع التي قد لا ترحم أحيانا، والوقوف في طريق تحقيقها لهذا الحلم، إلا أنها أبت إلا الاستمرار، فكان عملها الخالص بالنية الصادقة هو ما جعلها تتوج بالمركز الثاني في جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي.

تقول زكية: «رغم أني لا أعمل ولا أملك مصدرا ماليا، ولكن ببركة زوار المكان وحبهم للمكان ودعواتهم الصادقة استطعت أن أجعل البيت من أفضل المتاحف التي يقصدها الزوار، ووهبته وقتي وجهدي واهتمامي، أما المقتنيات فكان من الصعب الحصول عليها، فشراء المقتنيات كان سعرها مرتفعا، لذا لجأت للحصول على المقتنيات من البيوت المهجورة، بعضها كان أصحابها يرافقوني، والبعض الآخر يعطيني المفتاح ويترك لي حرية أخذ المقتنيات منها، ورغم أني واجهت مصاعب عدة في دخول تلك الأماكن، وتعرضت لأكثر من حادثة، وسقطت وأصبت، إضافة إلى أن بعض الأدوات القديمة التي كنت أحصل عليها تسببت في ظهور حبوب في يدي أخذت وقتًا لعلاجها، ولكن كانت هناك قوة تدفعني، وشغف يقودني، والحمد لله الاهتمام بالمتحف حوّل صحتي خلال 10 سنوات وقد تحولت لأفضل حال، إضافة إلى أن المتحف قادني للعمل التطوعي».

وفي حديث ودي مع صاحبة المتحف عن ذكريات طفولتها قالت: «كنا 10 إخوة، لا نعود للبيت إلا بعد غروب الشمس، كنا صغارا مشاكسين، نحب الكتابة والرسم على الجدران، وفترة النهار نقضيها باللعب في الحارة والذهاب إلى المزارع وقطف الثمار، وأما عن دراستي فقد درست للصف الثاني الإعدادي، وتزوجت بعدها، كان عمري 12 سنة، وبعدها أكملت بالدراسة الحرة، حتى حصلت على شهادة الثانوية، لكن الحياة علّمتني، والتجارب المختلفة هي التي صنعت مني هذه الإنسانة التي ترونها أمامكم».

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

1.82 مليون زائر في ختام معرض الشارقة الدولي للكتاب.. ومصر تتصدر عدد الزوار

أسدل معرض الشارقة الدولي للكتاب الستار على فعاليات دورته الـ43 بعد 12 يوماً حافلة بالأنشطة الثقافية والفكرية، استقطب خلالها 1.82 مليون زائر من أكثر من 200 جنسية من مختلف أنحاء العالم، بمشاركة أكثر من 2,500 ناشر وعارض من 108 دول.
كما حقق المعرض إنجازاً جديداً يُضاف إلى سجل الإمارات وإمارة الشارقة، بإعلانه للعام الرابع على التوالي أكبر معرض للكتاب في العالم من حيث بيع وشراء حقوق النشر، حيث شهد خلال 48 ساعة فقط 3,000 اجتماع لبيع وشراء حقوق النشر؛ مما يعكس مكانته الريادية في دعم صناعة النشر العالمية. 
وتصدرت الإمارات والهند وسوريا ومصر والأردن قائمة الجنسيات الأكثر حضوراً في المعرض، أما من حيث الفئات العمرية، شكل الزوار - من غير الطلاب - الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عاماً النسبة الأكبر بـ32.18%، تلاهم الفئة العمرية بين 25 و34 عاماً بنسبة 31.67%، ثم الشباب من 18 إلى 24 عاماً بنسبة 13.7%.. كما استقبل المعرض 135 ألف طالب وطالبة من مختلف مدارس الدولة، مما يعكس الاهتمام المتزايد بنشر ثقافة القراءة بين الأجيال الصاعدة. 
وبلغت نسبة الرجال من زوار المعرض 53.66%، بينما شكّلت النساء 46.36% من إجمالي الزوار، مما يعكس تنوعاً واسعاً في قاعدة الحضور واهتماماً مشتركاً بين الجنسين بالمحتوى الثقافي والفكري الذي يقدمه المعرض، وخلال أيام المعرض، تم إطلاق أكثر من 1000 كتاب جديد. 
ووجه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، خلال المعرض، بتخصيص مبلغ 4.5 مليون درهم لدعم مكتبات الشارقة العامة والحكومية بجديد إصدارات الناشرين المشاركين في الدورة الـ43، وتشمل هذه المنحة كتباً عربية وأجنبية، بما يعزز من دور المكتبات في توفير مصادر معرفية متنوعة ومحدثة.
وفي تعليقه على ختام الدورة الـ43 من المعرض، قال أحمد العامري الرئيس التنفيذي لهيئة الشارقة للكتاب، في تصريحات له اليوم /الاثنين/، "تمثل الأرقام التي حققها معرض الشارقة للكتاب في دورته الحالية إنجازاً جديداً يضاف إلى سجل الشارقة الحضاري، فاستقبال مليون وثمانمائة ألف زائر، واستضافة أكثر من ألفين وخمسمائة ناشر وعارض من مختلف أنحاء العالم، حوَّل الحدث من "معرض كتاب" إلى "مجتمع كتاب" يمثل مشروعاً ثقافياً شاملاً وبيئة متكاملة تجمع صناع الكتاب والقراء وتربط كافة الأطراف الفاعلة في هذا القطاع". 
وأضاف: "هذا الإنجاز يُبرز القيمة العالمية للمشروع الثقافي الذي أرسى دعائمه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة؛ فمن خلال جهود الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، أصبح المعرض نموذجاً ملهماً لمجتمع يُعنى بالكتاب وكل ما يرتبط بصناعته، بما يسهم في تعزيز ثقافة القراءة ودعم قطاع النشر على الصعيدين المحلي والعالمي".
وكرّمت الدورة الـ43 من معرض الشارقة الدولي للكتاب الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي بلقب "شخصية العام الثقافية" تقديراً لإسهاماتها الأدبية المتميزة، كما شهد الحفل تكريم رؤساء المجامع اللغوية العربية لدورهم البارز في إنجاز مشروع المعجم التاريخي للغة العربية، الذي يمثل علامة فارقة في حفظ وتوثيق إرث اللغة العربية. 
واحتفل المعرض بمملكة المغرب ضيف شرف على دورة هذا العام، حيث أضاء جناحها على كنوز الثقافة والتراث المغربي، مستعرضاً مقتنيات نادرة ومشاركات أدبية وفكرية، كما استضاف الجناح نخبة من المفكرين والعلماء في جلسات حوارية، إلى جانب مشاركة أكثر من 22 دار نشر مغربية عرضت 4000 إصدار من أبرز الإصدارات الأدبية والمعرفية.
وشهد المعرض حضوراً مميزاً لشخصيات عربية وعالمية في مختلف المجالات الأدبية والفنية، من أبرزهم الموسيقار المصري عمر خيرت، والنجم الرياضي العالمي محمد صلاح، والممثل أحمد عز، والشاعر هشام الجخ، كما استضافت الفعاليات حواراً مع النجم حمزة علي عباسي، إضافة إلى جلسة حوارية مع الكاتب العالمي ستيفن بارليت، واختتمت الفعاليات بحفل غنائي قدمه النجم الكويتي حمود الخضر، الذي أضفى أجواءً فنية احتفالية على نهاية الدورة الـ43. 
وشارك في المعرض أكثر من 85 أديباً إماراتياً وعربياً من روائيين وشعراء ومسرحيين حصدوا جوائز مرموقة، كما استضاف الحدث 49 ضيفاً دولياً من كبار الكُتّاب والشخصيات الثقافية من 14 دولة، من بينهم حائزون على جوائز عالمية ومؤلفو أعمال حققت شهرة واسعة. 
 

مقالات مشابهة

  • إقبال على الخدمات الإسلامية المصرفية خلال معرض الاتصالات
  • ألمانيا تقول إن أعمال تخريبية وراء قطع كابلات الاتصالات في بحر البلطيق
  • "يتنقلون بين عواصم مختلفة".. الخارجية القطرية تقول إن قادة حماس ليسوا في الدوحة الآن
  • مجمع فادركو يوقّع اتفاقية مع جامعة باب الزوار
  • أكشن مع وليد : هل المعطيات تقول أن الحمدان أفضل من البريكان
  • 1.82 مليون زائر في ختام معرض الشارقة الدولي للكتاب.. ومصر تتصدر عدد الزوار
  • عاجل: جماعة الحوثي تقول إنها قصفت أهداف عسكرية في ”تل أبيب” و ”عسقلان” بطائرات مسيرة
  • رحيل التشكيلي أحمد سامي المدير الأسبق لمتحف محمد محمود خليل
  • فعاليات متنوعة ومنافذ تسويقية في رخيوت
  • موسم الرياض 2024 يجذب 6 ملايين زائر