«لن تصل إلى الحارة بسهولة، حتى باستخدام خرائط الأقمار الصناعية»، كان يمكن أن أُجري حواري هذا هاتفيًا واختصر مسافة الرحلة إلى نزوى والضياع وسط الأزقة التي لا تكاد تتسع حتى لسيارة واحدة، ولكنني كنتُ على موعد مع امرأة استثنائية، طمعت بإن أجلس إلى جوارها وأستمع لقصتها من خلال عينيها وحركة أصابع يديها وهي تحكي.

استقبلتني نصرى بنت جمعة العنقودية البالغة من العمر ما يقارب الثمانين ربيعًا في بيتها بكل حرارة، رغم استغرابها من رغبتي في إجراء حوار عن حياتها.

قلتُ أني اخترتها لأنقل قصتها، ليعرف الناس أن العمانيات صنعن أجيال التفوق، وأن النساء اللاتي نراهن اليوم يعتلين أرفع المناصب لم يكن ليصلن لولا التضحيات التي بذلتها أنتِ ومن مثلك من الأمهات اللاتي قهرن ظروفهن لينعم أبناؤهن بحياة أفضل.

أشرت بعدها إلى ابنتها، الدكتورة زكية العفيفية، محاضرة في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية، وقلت أحكي لي، كيف استطعتِ إيصال زكية لأرقى الجامعات في العالم رغم بساطة حياتك والمشقات التي عشتها؟

بحزم أجابت الوالدة نصرى: «كان لازم أعلمها، محد بينفعها غير علمها»، وراحت تحكي: أهلي بسطاء، لم يتركوا لي الكثير، وليس لدي ما أستطيع توريثه لأبنائي حتى ينعموا بحياة أفضل من التي أعيشها، لذا بذلت قصارى جهدي وعملت كثيرًا حتى يتمكنوا من التعلم ونفع أنفسهم ونفعي فيما بعد.

ماذا كنتِ تعملين؟ سألتها، رفعت يداها وقالت «كل شيء»، كل شيء عزتني قوتي أن أفعله، كنت أعمل في إحدى المزارع، وأهتم بالماشية؛ لأساعد أهلي وأبنائي، فقد توفي أبي وأنا صغيرة، وأمي ضريرة، ولدي أطفال توفي والدهم وترك مسؤوليتهم لي، فلم يكن بيدي سوى أن أبذل كل ما في وسعي لرعايتهم.

قالت: إنها كانت تستيقظ مع الشمس، تهتم بالماشية، تُرسل أبناءها للمدرسة، من ثم تعمل في العناية بالمزروعات والحصاد وتجفيف المحاصيل ونقل أكوام كبيرة منها عبر القرى وإلى السوق، تنتهي من ذلك لتعود لتحضير العشاء لأبنائها وإعدادهم لليوم الدراسي في اليوم الثاني.

تابعت وعيناها تحدق بعيدًا: لم تكن الحياة سهلة كما هي اليوم، كان منزلنا قديما من طين، انتقلنا منه حين كاد السقف أن يسقط على رؤوسنا، احتمينا في زاوية غير مأهولة للسكن في مزرعة بجانبنا، مكثت فيها وأبنائي عشرين عاما، حتى استطعنا أن ننتقل لغرفة مغلقة تظلنا بأمان، لم يكن هناك مصدر مياه إلا مجموعة آبار بعيدة، أمشي إليها مسافة طويلة حتى أحضر الماء للماشية وللشرب حاملة ثلاث جرات ثقيلة فوق رأسي في كل مرة.

سألتها: ألم يساعدك أبناؤكِ؟. أجابت: بلى، ولكنني أطلب منهم في غالبية الوقت أن يجلسوا في الغرفة ليستكملوا دروسهم وكي لا يضطروا لهذا العمل بقية حياتهم، وأقول في نفسي، «غدًا سينفعون أنفسهم وينفعونني»، وقد حدث!

وماذا عنكِ، ألم يغركِ التعليم؟ بلى، كثيرًا، ولكن لم يكن مسموحا لنا أن نتعلم كفتيات إلا القرآن الكريم. والدي كان معلما، ولديه مدرسة يقصدها جميع أبناء الحارة، كنت أسترق السمع في بعض الأحيان؛ لأتعلم أي شيء من مجالسه ولكن أخي كان يمنعني.

ولكن بعد أن كبر أبنائي ألتحقت بتعليم الكبار، ولظروف لم تكن بالحسبان، قطعت التعليم، ولكنني أواصل اليوم تعلم القرآن الكريم.

وهل أصررتِ على تعليم زكية؟

«طبعًا»، أجابت بكل حماس. سمعت يومها من النساء حولي أنه تم فتح باب تسجيل الفتيات في المدرسة، بحثت عن أحد ليقلني بسرعة لتسجيلها. كبرت زكية ودخلت جامعة التقنية والعلوم التطبيقية، درست الأحياء، وكانت الأولى على دفعتها، نالت بذلك مقعدا في جامعة السلطان قابوس، أذكر أنها كانت تبحث عن وظيفة؛ لتساعدني في ذلك الوقت، رغم أني بذلت جهدي ألا تفعل وكنت أرسل إليها مصروفًا شهريًا. بعدها، تم اختيارها في برنامج للإحلال لتكون معيدة ومحاضرة في جامعة التقنية، فرحتُ كثيرًا ولم أتردد في الموافقة رغم استهجان الناس من حولي للأمر. وأضافت: أثق في ابنتي، أنشأتها على الأصول، وكنت أعرف أنها ستكون بخير. نجحت وسافرت بعدها لدراسة الدكتوراة، وها هي اليوم ناجحة وتعيش في حال أفضل، وأعيشُ أنا بحال جيدة بفضل الله وفضل تعليمها.

لاحظتُ أنكِ لا تفرقين بين أبنائك الذكور والإناث، صحيح؟ أشرت بيدها نافية، وقالت: «كلهم عندي واحد»، وعلمتهم الاعتماد على أنفسهم منذ الصغر، رغم أن تركيزي الأكبر كان على تعليمهم ولكن ذلك لا يمنع أن أعلمهم مهارات يستفيدون بها في حياتهم، نظرت بعدها لزكية التي كانت تستمع بفخر لوالدتها، وقالت، علمتها الخياطة وكانت تساعدني في صناعة ملابسها، كما أنها كانت تساعدني في أعمال المنزل والمزرعة.

قاطعتنا ابنتها زكية، وقالت: لم تكن الحياة سهلة على الإطلاق! كبرت وأنا أرى أمي تفعل كل شيء، وكانت صدمتي كبيرة حين علمت أن المزرعة التي أفنت عمرها لخدمتها لم تكن حتى لنا، ورغم بساطة المعيشة، تمكنت أمي من أن لا تحرمنا من الملبس الجيد والأكل والاحتفال بالمناسبات دون أن ينقصنا أي شيء.

أضافت زكية: كنتُ أساعدها منذ صغري بالطبع، فقبل ذهابي للمدرسة في الوقت المسائي، كنت أرعى الأغنام، حتى أنها في مرة أكلت أوراق امتحاناتي ووبختني المعلمة. وحين أكون مع الأغنام في الوادي ويفاجئنا بجريانه، كنت أحملها واحدة واحدة على الضفاف بنفسي وأتأكد من إرجاعها بسلام؛ لأستعد بعدها للذهاب إلى المدرسة.

وقبل أن أضغط زر إيقاف التسجيل، سألت الوالدة نصرى بنت جمعة العنقودية عن كلمة أخيرة تصف بها نساء جيلها كمن يحاول أن يستغل كل دقيقة بصحبة امرأة مذهلة مثلها، فقالت: لم نكن نتذمر من العمل، ولم نتعلم الاعتماد على غيرنا، مدت لي جزءًا من ثوبها التقليدي المطرز بألوان مختلفة، وقالت: فرحتي تختلف حين ألبس ثوبًا أحيكه وأطرزه بنفسي، يشبه ملابس أمي، ولا أفهم كيف تلبس النساء اليوم من أيدي العمالة الوافدة، فكيف لهذه الصناعات أن تبقى إرثًا جميلا ننقله للأجيال القادمة. واختتمت حديثها مؤكدة «محد ينفع الحرمة إلا نفسها وعلمها».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لم یکن لم تکن

إقرأ أيضاً:

ذكرى وفاة الزعيم.. حكاية ضريح جمال عبد الناصر وتبرعه بـ«جنيه واحد»

على الرغم من مرور سنوات طويلة على رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، لا يزال محبوه يتذكرونه دائمًا، وينتظرون اليوم الذي يسمح فيه بزيارة قبره في المسجد الذي يحمل اسمه، وفي ذكرى وفاته التي تحل اليوم 28 سبتمبر، نستعرض حكاية ضريح الزعيم، الذي تبرع له بقيمة جنيه واحد قبل وفاته.

ضريح الزعيم الراحل جمال عبد الناصر 

«في رحاب الله رجل عاش واستشهد من أجل خدمة الوطن»، هي جملة محفورة على لوح رخامي، على قبر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في منطقة كوبري القبة القريبة، ويحيط بالضريح أكاليل من الزهور المختلفة تعبيرًا عن اعتزاز محبيه به.

في عام 1962، بدأ العمل في مسجد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (مسجد كوبري القبة الخيري)، الذي كان عبارة عن أرض مهداة من الدولة لجمعية كوبري القبة الخيرية، بإيجار رمزي قدره جنيه واحد فقط سنويًا، وفي عام 1965، أمر عبد الناصر باستكمال المشروع على نفقة الدولة، إلا أنه فارق الحياة قبل الانتهاء من العمل به.

تبرع ساهم في بناء قبر الزعيم 

«جنيه واحد» كان الأجر الذي تبرع به الزعيم لإنشاء المسجد الخيري، دون أن يدرك أنه سيكون مثواه الأخير بعد مرور سنوات قليلة، وفقًا لما أوضحه الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، خلال حديثه لـ«الوطن».

وأشار إلى أن الزعيم تبرع للمسجد الذي يحتوي على الضريح، وليس لبناء القبر، كما أنه لم يكن هناك أي تخطيط مسبق بأن هذا المسجد أو الأرض ستحتضن جثمان الزعيم بعد وفاته.

ضريح الزعيم قبلة محبيه من كل الدول العربية

بعد دفن جمال عبد الناصر في الضريح الذي يحمل الاسم ذاته، أصبح بمثابة قبلة لمحبّيه، يزورونه في ذكريات الميلاد والوفاة، فضلاً عن ذكرى ثورة 23 يوليو، ويتردد الزوار من مختلف دول العالم، على ضريح عبد الناصر، بما في ذلك شخصيات سياسية وعامة، حسبما أكد «شقرة». 

مقالات مشابهة

  • عبدالله آل حامد: اليوم الإماراتي للتعليم يجسد المكانة التي يحظى بها العلم في فكر محمد بن زايد
  • الرئيس السيسي: الدولة تعمل في مسار إصلاحي لإعداد أجيال قادرة على تحمل المسؤولية
  • حكاية عرين الذئب ونجاة هتلر من محاولة اغتيال يرويها نجل حارس نازي
  • من حي “شرشبوك” إلى قمة المقاومة: حكاية السيد حسن نصر الله
  • حكاية مقتل شاب على يد 4 بلطجية فى دار السلام
  • الأول علي كلية الشرطة: مفتاح النجاح هو الانضباط
  • السوبر الإفريقي يمنح الزمالك التفوق على الأهلي في النهائيات القارية
  • الجامد والسائح... في حكاية الحاج أبي صالح
  • عاجل - ما المناطق التي استهدفتها إسرائيل في ضاحية بيروت اليوم؟
  • ذكرى وفاة الزعيم.. حكاية ضريح جمال عبد الناصر وتبرعه بـ«جنيه واحد»