هنا لحظة أخرى لاستدعاء الوعي الجمعيّ، فالموقف المشهود بالدماء والقتل يستدعي استجماعًا لحقيقة مكررة لطالما انتهجتها جماعات الإسلام السياسي، منذ أن نشأت جماعة الإخوان في العام 1928 وهي تعيش على مادة أنها تمثل المسلمين، هذه عقيدة راسخة لم تتبدل، وبالرغم من توالي العقود والأحداث وتفرّع الجماعة إلى أكثر من تنظيم مسلّح وغير ذلك إلا أنها أبقت على مسألة الانفراد بالتمثيل السياسي والشعبي، هذه المنهجية يمكن استقراؤها بامتداد التصادم بين جماعات الإسلام الحركي والدولة الوطنية العربية بعد نشوئها في ثورة الضباط الأحرار المصرية عام 1952.
عند حادثة المنشية في الإسكندرية تصادمت الدولة الوطنية مع الجماعة الدينية، لم تكن محاولة اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر سوى لحظة التصادم الفكرية بين خصمين لا يمكنهما التعايش مع بعضهما البعض للتضاد المنطقي، اعتقدت في تلك اللحظة جماعة الإخوان أنها إذا أطاحت برأس الدولة الوطنية ستمتلك السلطة السياسية على مصر، هذا ما كانت تعتقده. والأكثر عمقا أن الجماعة كانت تدرك أن عملية الاغتيال إذا نجحت فهذا سيقضي على مشروع التحرر الوطني العربي، لذلك مثلت نجاة عبدالناصر نجاة للمشروع القومي بمفهومه الوطني أكثر من ذلك المفهوم الأممي الذي كان رائجًا في الحقبة الناصرية.
حتى نكسة 1967 كانت في جوهرها تصادمًا بين الدولة الوطنية والجماعة الدينية، ما تلا النكسة كان خطابا تعبويا مشحونا بالشماتة على النظام المصري كنظام سياسي وطني، كانت تلكم الأيام مشبعة بكراهية فكرة الدولة الوطنية العربية في مركزها وعمقها العروبي، الشحنات الهائلة التي امتدت من كل حدب وصوب على النظام السياسي لم تكن مسبوقة وعملت فعليّا على إيجاد الهوة بين الشعوب والنظم السياسية في العالم العربي، حدث كل ذلك نتيجة عدم استيعاب الأنظمة الوطنية لحقيقة إهمال الجانب الديني الذي كانت تتحرك فيه الجماعة دون ضوابط في إطار الدولة ومحدداتها.
انتهزت جماعة الإخوان الصراع بين الأنظمة الجمهورية والملكية ونجحت مع الخطاب اليساري العربي في توسيع خطاب الكراهية ضد النظم الوطنية، كانت حرب أكتوبر 1973 الرافعة الوحيدة التي منها تم تأكيد الحيوية للنظام الوطني العربي فيما حققه الجيش المصري عندما استطاع عبور جدار بارليف، وحتى ذلك الانتصار الثمين والتاريخي لم يكن قادرا على ردم الهوة المتسعة بين النظم السياسية العربية وشعوبها التي عادت إلى الإنصات لخطاب الدعوات الدينية المناهضة للدولة بعد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في كامب ديفيد 1979، والتي أدت إلى اغتيال الرئيس أنور السادات في 1981.
الحرب الأهلية اللبنانية كانت في عمقها توظيفا كريها للصراع الديني والطائفي في الشرق الأوسط، لم تتنبّه الدول الوطنية العربية إلى أن تلك الحرب كانت تعميقا لصراع على مفهوم أبعد من كونه صراعا متعدد الأدوات بقدر ما كان يعني تحطيما لمعنى الدولة الوطنية اللبنانية الجامعة، أفرزت الحرب اللبنانية أول ظهور لحصول الجماعات الراديكالية على السلاح خارج إطار الدولة، من حركة أمل الشيعية ولد حزب الله مع تزايد الخطاب الثوري الديني بعد أن نجحت الثورة الإسلامية الإيرانية في إسقاط حكم الشاه العلماني وإقامة دولة دينية واسعة جغرافيًّا ويقف على هرمها الخميني وليًّا للفقيه.
وبالرغم من كل الإفرازات ظلت المنظومة العربية السياسية منكرة لوقائع الإفرازات حتى وهذه النظم تتابع باهتمام اقتحام جهيمان العتيبي ومجموعته للمسجد الحرام في مكة، النظم العربية دون أن تستشرف المدى البعيد لإرسالها المقاتلين إلى أفغانستان مع اشتداد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والسوفييت كانت في الواقع خاضعة دون استدراك لتيار راديكالي ديني متعصب كان بالفعل قد أتمّ تغوله داخل هياكل المؤسسات الوطنية العربية وكان قادرا على توجيهها وفقا لرؤيته الأممية الإسلامية.
بانعقاد المؤتمر العربي الإسلامي في الخرطوم عام 1991 كانت جماعة الإخوان وحلفاؤها في الطائفة الشيعية قد أحكموا قبضتهم، ولذلك فإن ميلاد تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب لم يكن سوى مسألة وقت بعدما أشاع التنظيم الدولي لجماعة الإخوان فكرة أنّ غزو اليمن الجنوبي في صيف 1994 حربٌ مقدسة ضد الشيوعيين الماركسيين، كان ذلك تمهيدا لحادثة أعظم عندما قرر زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن شنّ هجمات إرهابية في الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة مختطفا الإرادة العربية والإسلامية، ما فعلته القاعدة كلّف المنطقة احتلالاً أميركيًّا لأفغانستان والعراق.
هذه السرديّة التاريخية ضرورية لاستيعاب فكرة أن الجماعات الراديكالية الإسلامية التي أظهرت تقاربا صريحا في سنوات “الربيع العربي” هدفها الرئيسي يبقى تحطيم الدولة الوطنية، الحوثي ظهر مدّعيًا أنه ممثل لليمن، وحزب الله ممثل للبنان، والحشد الشعبي وحلفاؤه ممثلون للعراق، وهكذا تمارس هذه الجماعات اختطاف شعوب وأوطان وترمي بها في حروب وصراعات بلا أهداف واضحة سوى أنها تريد إلغاء الحدود السياسية للدولة الوطنية العربية، هذا هدف تسعى له الجماعات الدينية لإقامة الدولة الأممية الشاملة أو ما تسميه في تعريفاتها “دولة الخلافة”.
حركتا حماس والجهاد في فلسطين ليس لهما حقّ أن تدعيا تمثيلاً لإرادة شعب فلسطين لترميَا به في حرب ليس لها معنى، كما ليس لكل الجماعات الدينية أن تفعل ذلك، ومع هذا الحصار المطبق على قطاع غزة بعد أن شنّ الهجوم الحمساوي على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 من الأجدر أن يستيقظ العقل الجمعي العربي على حقيقة الأشياء؛ فلا يمكن أن تُستبدل الدولة الوطنية بدولة الخلافة أو الدولة الأممية، فهذه دولة مستحيل وجودها في الواقع السياسي. اللحظة وإن كانت دموية فهي أيضا يمكن أن تتحول إلى فرصة استيقاظ ومراجعة واتخاذ قرار القَطْع مع موروثات تستخدمها الجماعات الراديكالية لتدمير الإنسانية كلها.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة الوطنیة العربیة الدولة الوطنیة جماعة الإخوان
إقرأ أيضاً:
حمدان بن محمد: "القيادات العربية الشابة" أكبر شبكة متخصصة لتمكين الشباب العربي الواعد
اعتمد الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، اليوم الأحد، تشكيل مجلس إدارة "القيادات العربية الشابة"، الذي يضم في عضويته 11 شخصية عربية رائدة ومؤثرة في مختلف المجالات.
وقال: ستشرف هذه القيادات العربية على توسيع نطاق المبادرة خلال المرحلة التالية، وقيادة تطوير مشاريعها، وزيادة عدد الأعضاء والمنتسبين في هذه الشبكة، واستقطاب أفضل المهارات والمواهب العربية الواعدة، ودعمها للمساهمة بشكل أكبر في تصميم مستقبل مجتمعاتنا العربية. مواصلة المسيرة وأكد الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم أن مبادرة "القيادات العربية الشابة"، التي أطلقت قبل 20 عاماً تجسد رؤية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وإيمانه بأهمية الدور الفاعل للشباب العربي في مستقبل المنطقة، وإعداد قيادات شابة متمكنة تسهم في مواصلة مسيرة التنمية والحضارة العربية.ومضى بالقول: نريد أن تكون هذه المبادرة حاضنة لتحقيق تطلعات الشباب العربي وأحلامه بأن تعود منطقتنا لعصرها الذهبي في مختلف مجالات العلوم والثقافة والتكنولوجيا والإبداع الفكري، وسنقدم الدعم لهذه القيادات العربية الشابة لمواصلة النهوض بواقع المجتمعات العربية ليكون مستقبلها أفضل وأكثر إشراقاً. صناعة المستقبل وأردف الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، أن محمد بن راشد يؤمن بأن منطقتنا العربية تمتلك طاقة هائلة تتمثل في 200 مليون شاب وشابة يشكلون 200 مليون فرصة لتصميم وصناعة مستقبل مزدهر لها، وهم موردها الأهم الذي يحتاج إلى بناء القدرات وتطوير المهارات وتوفير الفرص لتفعيل الإمكانات الكامنة الشابة من خلال توفير منصة شاملة لتمكين الشباب الذي يشكل الركيزة الرئيسية في صناعة المستقبل العربي ومحوره ومحرّك تحوّلاته الإيجابية نحو النمو والتقدم والاستقرار والازدهار.
وتابع: نتطلع من هذه المبادرة لتحقيق إنجازات نوعية من خلال مبادرات مختلفة تركز على تنمية مهارات الشباب، وتوفير الفرص لهم لإبراز قدراتهم على النجاح والإبداع في مختلف التخصصات. ثقافة الريادة
وتعتبر مبادرة "القيادات العربية الشابة" أكبر شبكة متخصصة تهدف لدعم الشباب العربي الواعد وترسيخ ثقافة ريادة الأعمال والإيمان بالمستقبل والسعي المتواصل لاكتساب العلوم والمعرفة وبما يسهم بدعم مسيرة التنمية الشاملة في المنطقة العربية.
ويضم مجلس إدارة "القيادات العربية الشابة" برئاسة خلفان جمعة بلهول الرئيس التنفيذي لمؤسسة دبي للمستقبل، كلاً من الشيخ عبدالله آل خليفة من مملكة البحرين، وتمام منكو من المملكة الأردنية الهاشمية، وفهد الغانم من دولة الكويت، وآيساتا لام من موريتانيا، وإبراهيم المحتسب من المملكة العربية السعودية، ومنى عطايا من فلسطين، وباسل الباز من مصر، ويزن التميمي من العراق، وناصر الخاطر من قطر، وسامي داود من سلطنة عُمان، بينما تم اعتماد فاطمة راشد بوجسيم، أميناً عاماً للقيادات العربية الشابة.
وتهدف هذه المبادرة إلى استقطاب 50 ألف مشارك خلال الفترة المقبلة، وتطوير وتنفيذ العديد من المشاريع المستقبلية والأفكار الملهمة مع الشباب العربي، وسيتم تحقيق ذلك من خلال تكوين شبكة ذات تأثير من رجال الأعمال والقادة الاستثنائيين في مجالاتهم لدعم ومساعدة وتوجيه الشباب العربي، والاستفادة من قدرات وخبرات الأعضاء في شبكة "القيادات العربية الشابة" الإقليمية لتحفيز وتمكين قادة الغد من الشباب العرب.
ويمكن الاطلاع على المزيد من المعلومات حول مبادرة "القيادات العربية الشابة" عبر زيارة الموقع الإلكتروني (www.yaleaders.org).
#حمدان_بن_محمد يعتمد تشكيل مجلس إدارة #القيادات_العربية_الشابة #الإمارات https://t.co/GKZLZH8ezy pic.twitter.com/BX1zWhN38h
— 24.ae | الإمارات (@24emirates24) December 22, 2024