الاستفادة من التجارب الآسيوية ينقذ الشرق الأوسط من السعى الإخوانى للسيطرة التنمية المستدامة لا تواجه فقط التفكير الأصولى العنيف وإنما أمور أخرى مثل الزيادة السكانية

أسلفنا أن «الإصلاح» بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو من أسلحة مواجهة الإخوان المسلمين وتابعيهم فكريا وحركيا من الجماعات الإرهابية.

وفى الحقيقة فإن التنمية المستدامة لا تواجه فقط التفكير الأصولى العنيف، وإنما تواجه أمورا عصية أخرى مثل الزيادة السكانية التى تحقق إجهاضا للمشروعات التنموية.

ومن الملاحظ أن جماعة الإخوان تسعى دوما إلى نشر الأفكار الداعمة للزيادة السكانية من خلال القبول بتعدد الزوجات، ومعاداة المرأة من أول التشجيع على الختان إلى الحث على بقائها فى المنزل، وحتى إقامة عدم المساواة بين الرجل والمرأة فى العمل العائد منه.

والحقيقة هى أن مواجهة الشعب المصرى للإخوان المسلمين خلال ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ شكلت لحظة فارقة من حيث تحقيق التراجع فى كافة الحركات والجماعات الإخوانية الرجعية فى العالمين العربى والإسلامى.

والثابت أنه فى كل جيل من أجيال المائة عام الماضية كانت هناك مهمة كبرى عليه تحقيقها من أجل بناء الأوطان من خلال عمليات إصلاحية واسعة النطاق. إن مهام المرحلة المقبلة، التى يجرى فيها تجاوز تحديات وعقبات لا بد منها لاستكمال مسيرة الإصلاح التى أخذت فى التبلور اعتبارا من منتصف العقد الماضى.

وإذا كان ممكنا التلخيص، فإن المهمة الراهنة لا تقل فى تحديها عن تحقيق انطلاقة تتجاوز معضلات المرحلتين الخارجية والداخلية إلى معدلات نمو عالية ليس فقط فى المجال الاقتصادى، وإنما أكثر من ذلك أن يكون الإنسان فى مستوى العصر الذى نعيش فيه.

ومثل ذلك كثيرًا ما يُقال عنه «بناء الإنسان»، وهو قول لم يَجْرِ له كثير من التحرير فى المعنى والمبنى، وفى الأصول والفروع، والكيفية التى ينتقل بها الإنسان من حال يتعايش مع الفقر والتخلف إلى آخر يعيش فيه الغنى والتقدم، ولديه المعرفة والشجاعة والاستعداد لمواجهة الإخوان وتابعيهم من جماعات سلفية إرهابية عنيفة.

ولا يوجد مثال يقرب منه قدر تلك الحالة من الفوران الكبير فى دول شرق وجنوب شرق آسيا، التى دارت فى المدارين الصينى واليابانى فى عصور قديمة؛ ثم دخلت عليها نوبات الاستعمار الفرنسى والبريطانى والهولندى، والحروب العالمية، وكل حالات الفقر والوباء والمجاعة.

والأمثلة اليابانية والصينية فى التقدم وبناء الإنسان كثيرة، ولكن آخر ما لفت الأنظار قادمًا من المنطقة كان استعداد كوريا الجنوبية لاستعمار القمر فى إشارة كبرى للتقدم العلمى والتكنولوجى مضافا للمساهمة فى الاقتصاد العالمى والاكتشافات العالمية فى الفضاء.

وظلت التجربة الفيتنامية حاضرة ومُلِحّة فى الأذهان لفترة طويلة، وكان النضال الفيتنامى ملهمًا، ولكن ما هو مناسب هو دروس انتقال فيتنام من صفوف الدول النامية إلى قلب الدول البازغة؛ وعندما وصلت صادراتها إلى أكثر من ٢٦٤ مليار دولار سنويا فإن «التجربة النضالية» كانت فى البناء والتعمير، جنبا إلى جنب مع بناء الإنسان الفيتنامى لكى يتناسب مع دولة متقدمة قادمة مثل تلك التى قامت فى كوريا الجنوبية من قبل.

هذه الحالة الآسيوية تشكل مرجعية ناجحة للخيارات الإصلاحية خلال المرحلة المقبلة، وتحدد بوضوح ما يجب النضال من أجله ألا وهو بناء الإنسان المعاصر.

والحقيقة أنه خلال العقدين الأخيرين انتقل أكثر من مليار من البشر من الفقر إلى اليسر فى الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطى؛ وكانت الأغلبية الساحقة من دولتين: الصين والهند. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن أحوال العالم أفضل الآن عما كانت عليه قبل عقود، وبالتأكيد قبل قرون حيث ارتفعت مستويات المعيشة فى دول كثيرة، وتراجعت معدلات حدوث المجاعة، والأوبئة.

ولم يكن لذلك أن يحدث لولا الثورة العلمية والتكنولوجية، وتزايد الثروات فى الدول، والأهم من هذا وذاك، وربما باستثناء منطقة الشرق الأوسط، تراجع الصراعات الدولية والحروب الأهلية.

كل ذلك لم يكن ممكنا حدوثه لولا أن الغالبية من دول العالم أصبحت تسعى إلى التقدم والتنمية، وحدث ذلك من خلال حشد وتعبئة الاستثمارات الداخلية والخارجية وراء تحقيق تراكم رأسمالى يسمح للدولة بتحقيق معدلات عالية للنمو تنقلها من صفوف الدول النامية إلى تلك المتقدمة.

ولكن واحدا من أهم شروط هذه النقلة الكيفية هو السير فى طريق «الكمون الاستراتيجى» بمعنى أن تتجنب الدولة الدخول فى صراعات خارجية، وأن تجعل سياستها فى الخارج أداة فى الحصول على الاستثمارات.

وحرص الزعماء فى الدولة الصينية لفترة طويلة على مقاومة أمرين بشدة: أولهما أن الصين دولة متقدمة، فكان الإصرار على أنها دولة من دول العالم الثالث الفقيرة التى ينبغى معاملتها فى المحافل الاقتصادية الدولية على هذا الأساس؛ وثانيهما أن الصين لا تصبو إلى أن تكون قوة عظمى؛ ورغم مشاكلها الإقليمية الكثيرة فإنها تسعى، وبكرم، لحلها بالطرق السلمية كما فعلت مع قضايا هونج كونج ومكاو وتايوان ومشكلات الحدود والنزاعات على الجزر.

وحتى وقت قريب كان من النادر فى الصين الحديث لا عن الدور الإقليمى للصين، ولا عن الدور العالمي؛ ولا تستخدم الصين حق «الفيتو» وإنما تمتنع عن التصويت فى مجلس الأمن إلا فى القضايا التى لا تهم الصين مباشرة. والملاحظ أن موقف الصين من التواجد الأمريكى المباشر فى أفغانستان المجاورة للحدود الصينية كان مرحبا لأنه لمواجهة الجماعات الإرهابية.

كانت الولايات المتحدة فى الحقيقة تحارب، فيما بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، بالوكالة عن الصين! وأكثر من ذلك كانت الصين تحصل، وفى المتوسط، على قرابة ٤٠٪ من رؤوس الأموال العربية المستثمرة فى العالم الثالث كله.

ولكن الصين ليست المثال الوحيد، فلا اليابان، ولا كوريا الجنوبية، ولا البرازيل حتى حكمها اليسار، ولا ماليزيا كان لها دور دولى مؤثر؛ واقتصرت الأدوار الإقليمية لهذه الدول على تلك المتعلقة بالتعاون الدولى، ولم تقرر دول «آسيان» التى تقدمت أن تفعل أكثر من الحديث عن «الأمن الإقليمى» فى لقاءات أكاديمية. وحتى عندما ضغطت الولايات المتحدة على اليابان وكوريا الجنوبية لكى تساهم فى تكاليف حرب تحرير الكويت، لم تزد المشاركة عن المال وأحيانا مساهمات طبية.

وفى كل هذه الحالات كانت الدول تمارس حالة من «الكمون» الذى بمقتضاه تركز الدولة تماما على عمليات البناء الداخلى، وتتجنب قدر الإمكان المناوشات والمشاغبات والتورط الخارجى، وإذا كان لا بد مما ليس منه بد فإنها تقوم بالحد الأدنى الممكن وسط الظروف الدولية الصعبة.

الاستفادة من التجارب الآسيوية المختلفة، وكذلك من دول العالم الأخرى، ينقذ الشرق الأوسط من السعى الإخوانى لكى يشكلوا «أستاذية» العالم من خلال فروعها المختلفة فى ٨١ دولة يبدأون فيها بالسيطرة على المساجد والمراكز «الإسلامية» ثم يمضون إلى تجنيد العناصر الإسلامية المهاجرة من دول متعددة لكى تشارك فى أعمال كثيرة للجهاد فى العالم.

وفى كل الدراسات التى أجريت على الحركات الإرهابية العالمية، وعلى الشخصيات اللامعة فى عالم الإرهاب من قيادات القاعدة وداعش، فإن نتائجها تشير إلى أنهم جميعا تخرجوا من مدرسة الإخوان الفقهية والفكرية والعسكرية كذلك.

جوهر التفكير الإخوانى هو معاداة الدولة الوطنية والدفع باتجاه نوع من «العولمة» الإجرامية والإرهابية؛ والوقوف فى وجه الإصلاح السياسى الذى يدفع فى اتجاه الدولة المدنية؛ ومعارضة الإصلاح الاقتصادى المؤدى إلى اقتصاد السوق، ورفض الإصلاح الاجتماعى الذى يكفل حقوق المرأة والأقليات.

ورغم الخلاف المذهبى فإن الإخوان المسلمين ينظرون بتقدير كبير لتجربة الدولة الدينية فى إيران، وفى برنامج الجماعة المصرية لعام ٢٠٠٧ كان هناك محاكاة كبيرة للنموذج الإيرانى فى السياسات الداخلية والخارجية.

د. عبد المنعم سعيد: رئيس مجلس إدارة «المصرى اليوم» والرئيس السابق لمجلس إدارة مؤسسة «الأهرام» ولمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.. له مؤلفات عديدة معنية بالنظام العالمى الجديد، والشئون العربية، والشراكة الأوروبية، والصراع العربى الإسرائيلى، والقضايا الأمنية فى الشرق الأوسط، والسياسة المصرية والحد من التسلح.. يستكمل رؤيته حول قضايا الإصلاح والتى كتب عنها فى عددٍ سابق.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الإخوان المسلمين د عبد المنعم سعيد بناء الإنسان الشرق الأوسط من خلال أکثر من من دول

إقرأ أيضاً:

التحرك الدبلوماسى لإدارة «سوريا الجديدة»!!

مع تزايد التحرك الدبلوماسى والسياسى الدولى من بعض الدول الغربية وأيضا العربية مع دمشق لتوطيد العلاقات مع الإدارة الحالية لسوريا، نجد أن هناك اتصالات هاتفية وزيارات رسمية ووفود غربية وأمريكية، مع الأخذ فى الاعتبار أنه حتى الآن لم يتم رفع العقوبات على سوريا من قبل أمريكا والتى كانت تقول أن هذه العقوبات كانت مفروضة على النظام السورى السابق وليست على الشعب السورى، فالنظام السابق انتهى، فلماذا تبقى هذه العقوبات؟، ولقاءات مع أحمد الشرع أو محمد الجولانى، وهذا التحرك يعكس بالطبع حجم الاهتمام بالوضع فى سوريا وكيفية تقديم الدعم للشعب السورى، مع وجود عقوبات مفروضة على سوريا وعدوان الكيان الصهيونى على سوريا سواء كان جويا أو احتلال أراضى الجولان، فمن المفروض أو من أهم أولويات الإدارة الحالية الجديدة لسوريا الحفاظ على سلامتها.
واحتياج سوريا لهذا التحرك الدبلوماسى الدولى والعربى كبير جدا، لمعاناتها الاقتصادية السيئة، فهناك نقص فى الاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية والوقود مما يصعب الوضع فيها، وأيضا معاناتها الأمنية والتى تحاول الإدارة الجديدة أن توحد الجيش الوطنى وتدمج الفصائل فيه.
ومع اعتبار أن هناك تباين فى المواقف العربية خاصة تجاه هذا التحرك على دمشق، لأن مساحة الاتفاق بين الدول العربية لما يجرى فى سوريا الآن هى الأكبر من أى وقت سابق، لأن الأمر الواقع يفرض نفسه إن شاء كثيرون أم رفضوا هناك سلطة حالية انتقالية مهما كانت المرجعيات الفكرية أو الأيديولوجية التى تنتهجها وتنتمى إليها الفصائل التى تحكم سوريا الآن، فهى سلطة أمر واقع وهى التى أسهمت بشكل مباشر فى إسقاط نظام بشار الأسد خلال الفصول الأخيرة من الحراك الشعبى السورى، فتحرك المعارضة المدنية والسياسية السورية فى البداية لكن مع وضع اللمسات الأخيرة لإسقاط النظام كانت هذه الفصائل، ولا يمكن تجاهل دورها بأى حال على الأقل فى هذه المرحلة، وتسعى الدول العربية ذلك جيدا كما تعيه أيضا الدول الغربية والمجتمع الدولى، ولذلك بدأت فى التحرك الدبلوماسى إلى سوريا الآن.
وربما يوجد هناك مخاوف تكمن فى خلفيات الفصائل الجهادية والمسلحة التى تتولى إدارة المرحلة الانتقالية الحالية، وأن هناك علاقات لها سابقة مع القاعدة وداعش، مع الأخذ فى الاعتبار أنه تم فك الارتباط بين جبهة تحرير الشام والقاعدة فى 2012، وأيضا مع داعش فى 2017، وهذه الخلفيات أعطت إشارات سلبية وخلفت نوعاً من القلق لدى بعض الدول العربية لإعادة تسويق خيار الاسلام السياسى فى المنطقة العربية، يأتى كل ذلك مع استضافة متورط فى قتل النائب العام المصرى.
ومسألة وجود فصائل مسلحة حتى الآن من الخارج، وعدم وجود فصائل تلتزم بما أعلنه أحمد الشرع أو محمد الجولانى من نزع السلاح والتواجد تحت لواء القوات المسلحة السورية، ومخاوف أيضا من الخلفيات الفكرية الجهادية لهذه الفصائل.
كما هناك أيضا مخاوف كبيرة من محاولة هندسة ما يجرى فى سوريا الآن، وأن يكون مخططا له من قبل وتكون هناك أمور أخرى مدبرة ومجهزة مسبقا للمنطقة فتعاد هندستها من قبل أطراف غير عربية.
ويأتى ذلك مع تصريحات الإدارة الحالية فى سوريا حول طمأنة العالم ودول الجوار والاتجاه إلى حوار شامل وإقامة سلطة متكاملة، والتى يجب أن تعتمد على آلية جديدة لتطبيق هذه التصريحات.
ويعتبر أخطر ما يجرى بعد إسقاط النظام هو إحياء أطماع الكيان الصهيونى وتنفيذ مخططات توسعية لديه، فالكيان يعتبر هو الرابح الأكبر من إسقاط نظام بشار الأسد، فهو يريد تثبيت احتلاله للجولان وإقامة مشاريع استيطانية جديدة، واحتلال المنطقة العازلة له مع سوريا بجانب احتلاله المزيد من الأراضى السورية التى لم تكن محتلة من قبل.
والأخطر من ذلك أيضا أن الكيان الصهيونى أجهز على المقدرات العسكرية السورية، فسوريا الآن بلا جيش وبلا سلاح وبلا درع يحميها.
وظهر جلياً مخطط الكيان الصهيونى باحتلال الأرض من خلال اللعب بالمكونات الأساسية للشعب السورى بالتحدث عن حمايته للدروز فى سوريا وأيضا حماية الأقليات الكردية بالطرق العسكرية.
[email protected]

مقالات مشابهة

  • الرياضة.. فرص اقتصادية وقوة ناعمة
  • الداخلية تنظم زيارة لوفد من وزارة العدل البحرينية لمركز إصلاح وتأهيل العاشر من رمضان.. صور
  • صور.. تفاصيل زيارة وفد قضائي بحريني لمجمع مراكز إصلاح وتأهيل العاشر من رمضان
  • ياسين سعيد نعمان يكتب: الحوثي.. الطلقة الأخيرة في مدافع آيات الله
  • الاستسلام العربى
  • حاتم سعيد حسن يكتب: يوم عادي
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الوعي الثقافي.. تعضيد الهُوِيَّة
  • كريم وزيري يكتب: مختبرات الظل الأمريكية في إفريقيا
  • التحرك الدبلوماسى لإدارة «سوريا الجديدة»!!
  • رؤية متكاملة لفهم الواقع من خلال عوالمه الأربعة.. يوضحها علي جمعة