أرنولا شوريت فى حوار خاص مع لوديالوج حول المهاجرين والاندماج فى البلاد: مجتمع الأغلبية الفرنسى متردد فى الترحيب بمن لا يشبهه لكن فرنسا ليست عنصرية
تاريخ النشر: 16th, October 2023 GMT
أرنولا شوريت الرئيس السابق لمكتب عمدة ريليولا باب (الرون) من 2014 إلى 2017. وهو حاصل على الدكتوراه فى العلوم السياسية ويمتلك المؤهلات التى تسمح له بالإشراف وتوجيه الابحاث فى هذا التخصص. كما أنه مؤلف للعديد من الأعمال التى تتناول اندماج الفرنسيين من الهجرة العربية الإسلامية. ومنذ أغسطس 2022، انضم إلى كلية SKEMA للأعمال كأستاذ مشارك ومدير "البرامج والمشاريع وتوير الأعمال» فى جامعة سوربون Grand Paris وقبل هذا التاريخ، كان أستاذًا مشاركًا ومديرًا لمدرسة الأعمال العربية الفرنسية، وهى عبارة عن برنامج مشترك بين ESSEC وجامعة الخليج العربى فى البحرين منذ عام 2017.
وقد وصل إلى هذا المنصب نتيجة لخبرته القوية فى مجال التعليم العالى الخاص كأستاذ باحث ومدير تعليمى لبرنامج ثم نائبًا للمدير العام لكلية إيدراك" للأعمال (10 فروع فى جميع أنحاء فرنسا). وأيضا لديه حياة مهنية موازية خصصها لخدمة المسئولين المنتخبين المحليين والوطنيين والتى قامت بنقله من البرلمان الأوروبى إلى إدارة المكاتب المنتخبة المحلية من خلال الجمعية الوطنية. كما قضى فترة ناجحة فى القطاع الخاص فى قسم العلاقات المؤسسية لمجموعة كبيرة.. كل هذه الأفكار قدمها أرنولاشوريت فى كتابه الأخير: «اندماج النهاجرين.. نجاح الجيل الثانى من هجرة شمال أفريقيا».
من خلال دراسة حوالى خمسين ملفًا شخصيًا، يوضح المؤلف أن إندماج الفرنسيين من شمال أفريقيا يتم بشكل أفضل مما يعتقده الكثيرون. فى ظل أعمال الشغب التى ضربت كامل أرجاء البلاد ومع التحول الديموجرافى، يتعامل أرنولاشوريت مع نقاط وموضوعات أساسية فى قلب الأحداث الجارية: هل ما زال الاندماج ممكنا؟ هل ما زال نموذج الاندماج الفرنسى محفوظا؟ ماذا نعنى حقًا بالاندماج: هل يتعلق الأمر بالاندماج فى النسيج الاقتصادى أم ينبغى أن نتحدث حاليًا عن الاندماج الاجتماعى والثقافي؟ وفى وقت يدعو فيه الفرنسيون إلى إجراء استفتاء حول الهجرة، فهل تتمكن أوروبا من استيعاب «كل البؤس» الذى يعيشه العالم؟
لوديالوج: أرنولاشوريت، كتابك الأخير يتعارض مع معالجة وسائل الإعلام لموضوع الهوية.. بأسلوب متفائل للغاية، تقوم بشرح أن نموذج الاندماج الفرنسى يعمل بشكل جيد وأن الشباب ومعظمهم من الجيل الثانى من المهاجرين من شمال أفريقيا (جيل ٣٠/٥٠ سنة) هم أكثر نجاحًا مما نعتقد.. هل يمكنك أن تخبرنا عن الدراسة المتعلقة بهذه المسألة والمنهجية التى قمت باتباعتها؟
أرنولاشوريت: لقد استخدمت منهجية نوعية تعتمد على مقابلات شبه منظمة مع أشخاص يتوافقون مع معايير محددة للغاية. فيجب على سبيل المثال أن تتراوح أعمارهم بين ٣٠ و٥٠ عامًا وأن يكونوا أبناء لمهاجرين من شمال أفريقيا وأن يكونوا حاصلين على البكالوريا + ٣ إلى ٥ وأن يشغلوا منصبًا ذا قيمة إجتماعية (موظف، أوصاحب أعمال أوما إلى ذلك). كما أنه من أجل دراسة المتغير الدينى، فقد قمت بالحوار أوبسؤال أشخاص يعرف عنهم أنهم ذووعقيدة دينية على الأقل، حتى لا يتم سؤال الأشخاص الذين انفصلوا تمامًا عن الإسلام لأن نهاية الاستبيان تتعلق باعتبارات مرتبطة بالدين.
فى الواقع، هذا الاستبيان مأخوذ من كتابى الثانى، الذى أجريت فيه مقابلات مع نساء من الخليج يتمتعن بنفس الخصائص، وتساءلت كيف تمكنت هذه السيدات من شغل مناصب إدارية بهذه السرعة، وكيف استفدن من الإصلاحات التى فتحت لهن سوق العمل دون التسبب فى أزمة أورد فعل عنيف من قبل مجتمع معروف بأنه من المحافظين ومعروف بأنه تقليدى للغاية. لقد حددت العديد من آليات الاندماج التى أردت اختبارها على النساء ثم الرجال وأطفال المهاجرين من شمال أفريقيا إلى فرنسا.
الدافع الآخر لهذا البحث النوعى هو البيانات الكمية المتاحة ولكن قليلة الاستخدام، والتى تظهر أن أطفال المهاجرين من شمال أفريقيا هم فى المجمل خريجون تعليم عالى ومديرون تنفيذيون بنسب قريبة جدًا من المتوسط الوطنى، رغم أنهم غالبًا ما يأنتسبون إلى عائلات فقيرة جدًا، ولم يدرس أحد هذا النجاح حقًا من منظور نوعى لذلك فقد تمسكت به.
لوديالوج: يتفق الكثيرون على أن الاستيعاب المفروض هو عملية فاشلة. وتتناول الأمر فى كتابك «آباء من شمال أفريقيين وصلوا إلى فرنسا قبل عام ١٩٧٤». هل تعتقد أن مجمل دراساتك مهمة وتنطبق على الجيل الأخير، أى جيل المتمردين الذين يضعون أحكام الإسلام فوق قوانين الجمهورية الفرنسية (انظر إلى أحدث استطلاع لل IFOP الذى يظهر أن ٧٤٪ من الجيل الثالث تحت سن ٢٥ سنة يضعون الإسلام فوق قوانين الجمهورية)؟
أرنولاشوريت: لقد اخترت طوعًا أن أضع جانبًا مفهوم الاستيعاب، الذى لم يتم تعريفه جيدًا من الناحية الاجتماعية، وذلك للتركيز على تعريف الاندماج الذى يتم مشاركته إلى حد ما فى العلوم الإنسانية والاجتماعية. هذه هى العملية التى يدخل من خلالها عضو من مجموعة الأقلية إلى مجتمع الأغلبية وذلك من خلال اكتساب رموزه ومواقفه وقيمه، مع العلم أن مجتمع الأغلبية لا يتم الترحيب به بشكل خاص.
وعندما نتناول هذا التعريف، يجب علينا أن نضع ملاحظة الفشل فى منظورها الصحيح: لأنه فى كل مكان حولنا، يوجد موظفين ومديرين يعيشون ويزدهرون فى فرنسا وهم من أصول مختلفة تمامًا. ومع ذلك، فإن مجموع دراساتى تقتصر على السكان الذين تمت عليهم الأبحاث! يمكننا أن نأخذ آليات معينة ونفترض أنها تنطبق على مجموعات سكانية أخرى قريبة ولكن هذا يتطلب مزيدًا من التحقق.
وفيما يتعلق بالأرقام الخاصة بالإسلام، سأكون هنا قاسيًا للغاية لأن أولئك الذين يطرحونها هم فى الغالب أولئك الذين يقولون أن «استطلاعات الرأى لا تعنى شيئًا». من الواضح أن هذه الأرقام مخيفة ولكن الاكتفاء بالبيانات الأولية غالبًا ما يكون وسيلة لتخويف نفسك دون داع.
وهذا يتطلب من الباحثين أن يتعمقوا قليلا فى قيم هذه الفئة من السكان، التى نعلم جيدا أنها لا تعرف الإسلام جيدا ولكنها تميل إلى تمجيده والاحتفاظ فقط بعناصر معينة، بمعنى آخر، أود بشدة أن أجرى محادثات من نفس النوع الذى تمكنت من إجرائه مع أولئك الذين يبلغون من العمر ما يكفى ليكونوا آباءهم، وذلك حتى أتمكن من فهم الفروق الدقيقة فى البيانات الأولية وتحسينها، والتى غالبًا ما يلوح بها الأشخاص الذين لا يقدمون بالتأكيد كثيرًا.
وعند العودة للحديث عن مثيرى الشغب على سبيل المثال، فيجب علينا أيضًا أن ننظر إلى مصادر الشرطة، لقد تحدثت منذ وقت ليس ببعيد مع أحد من هؤلاء المسئولين الذى أخبرنى أنه من بين الأشخاص الذين تم اعتقالهم، كان هناك بعض من السكان الذين لهم أصول من جنوب الصحراء الكبرى، بأعداد زائدة مقارنة بالسكان من أصول من شمال أفريقيا. وبعبارة أخرى، ومرة أخرى، ربما تم التركيز على المتغير الدينى أكثر من اللازم على حساب عوامل أخرى لا تقل فى خطورتها عن الأخرى.
لوديالوج: نقطة البداية هى الاندماج الاقتصادى للعائلات من شمال أفريقيا. هل تعتقد أن «التنشئة الاجتماعية من خلال العمل» وحدها كافية للاستجابة للتحديات الحالية؟
أرنولاشوريت: بالتأكيد لا. ما يسمح بالاندماج هوالاجتماع مع الآخرين، مع وجود طرف ثالث يمكنه أن يقدم لك نموذجًا بديلًا، وذلك على سبيل الاستلهام قليلًا من جيرالد برونر. فى فرنسا، يظل العالم المهنى هوأفضل مكان للقاء أشخاص مختلفين، خاصة عندما تتولى مناصب المسئولية. وأجد من الصعب أن أتخيل أن المدير التنفيذى الذى يقضى ٥٠ ساعة فى الأسبوع مع زملائه من غالبية السكان، بما فى ذلك الأوقات المخصصة لتناول وجبات الطعام، يصبح هذا المدير مجرما أوأصوليًا بمجرد عودته ودخوله من باب المنزل. من الواضح أن الأمر لا يتم بصورة فورية ولكن فى عالم الأعمال الذى يتعرض لانتقادات متزايدة بسبب تعديه على الحياة الخاصة، هناك وظيفة تكاملية مثيرة للاهتمام. لكى نحصل على مهنة، نتعلم أن نكون مثل الآخرين، أن نكون مثل أولئك الذين نطمح إلى شغل مناصبهم. ونحن نفعل الشيء نفسه أثناء الدراسة وخاصة فى كليات الأعمال أوالهندسة.
لذلك بالطبع هذا لا يكفى، فقد حرص بعض الأشخاص الذين تمت مقابلتهم، على الحفاظ أيضا على نمط حياة معين داخل البيئة الخاصة، ولكن من الصعب أن نتصور أن البيئة التى نقضى فيها معظم أوقاتنا ليس لها سوى تأثير هامشى على الطريقة التى نتبعها أونتصرف بها فى حياتنا الخاصة.
وهؤلاء الذين وجهوا لى هذا الانتقاد، يجدون أيضا من الصعوبة الحصول على بيئة أكثر ملائمة للاندماج، أكثر من تلك المتوفرة من خلال العالم المهنى... ولا يحدثنى أحد عن المدارس الحكومية التى نعرف جيدا أن توزيعها الجغرافى لا يسمح بأى حال من الأحوال بالاتصال بأشخاص مختلفين.
لوديالوج: من وجهة نظرك، ما «القوى» التى تعمل على شباب شمال إفريقيا من الجيل الثالث، غير المندمجين أو «المتفككين» بحيث لم يعودوا يشعرون بمكانتهم فى المجتمع الفرنسي؟
أرنولاشوريت: إن معرفتهم ليست بتلك السهولة، وإلا سيصبح الأمر سهلًا للغاية! الأمر الأكثر وضوحا - لأنه منتشر فى كل مكان فى وسائل الإعلام وظاهر جدًا فى الفضاء العام، هو أسلمة الشباب من خلفيات مهاجرة. كيبل يتحدث عن الأجواء الجهادية وفلورنس بيرجود بلاكلر يتحدث عن أخونة الشباب… باختصار، إن العقيدة التى أعلنها طارق رمضان قبل أكثر من ٢٠ عامًا بهدف تقديم إسلام غير مثقف بين أحفاد المهاجرين تعمل بشكل جيد وأصبحت حركة داخلية ذاتية الاستدامة. ولم تعد هناك حاجة للبحث فى الخارج لمعرفة من أين يأتى الدعاة، فهم الآن بيننا ولسوء الحظ فإنهم يديرون شؤونهم بأنفسهم باستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة بشكل جيد للغاية.
لكن الأسلمة ليست سوى جزء مما يمكن أن يبعد الشاب عن المجتمع الفرنسى، الذى هو، دعنا نقول، المجتمع الوحيد الذى يعرفه. فنجد بشكل خاص لدى الشباب، أنه يوجد شغف مفاجئ للبلد الأصلى لأجدادهم، والذى يتجلى فى ارتداء لافتات بارزة، أشهرها العلم الجزائرى، الذى تم رفعه فى مناسبات عديدة، تماما مثل قميص كرة القدم لفرق من بلدان لا يعرفونها حقًا. إننا نشهد نوعًا من الخيال لبلاد عندما يذهبون إليها، لا تتم معاملتهم فيها بشكل جيد بالضرورة.
ونجد أيضًا موضوعًا ذا صلة بهذا الأمر: فكرة أن فرنسا عنصرية وتمييزية وتمنع الاندماج. إنه خطاب راسخ جدًا خاصة لدى اليسار والذى له نتيجة طبيعية وهى شكل من أشكال سحب المسئولية: فمنذ اللحظة التى نقتنع فيها بأن العنصرية منهجية وأن التمييز منتشر فى كل مكان، فمن الصعب أن نشعر بالهدوء فى المجتمع الذى من المفترض أن ننتمى إليه.
وينقل اليسار أيضًا رسالة ما بعد الاستعمار، والتى بموجبها تدين فرنسا بالمواقف الموروثة من الاستعمار. وهذه الرسالة جديدة تمامًا وتأتى بعد مرور أكثر من ٦٠ عامًا على استقلال الجزائر. لماذا الآن وليس قبل ٣٠ عاما ؟ وكيف يمكننا أن نفسر أن هذا الخطاب ينجح بشكل جيد مع الشباب؟
وأخيرًا، نشهد أيضًا انقلابًا فى القيم وشكلًا من أشكال رفض الغرب والحضارة التى يعيشون فيها منذ ثلاثة أجيال وحتى الآن. إننى أسمع المزيد والمزيد من أشكال الانبهار بالنماذج «البديلة» مثل مجموعة البريكس أوحتى روسيا، وذلك من أشخاص مدربين تدريبًا جيدًا ويبدون عقلانيين ظاهريًا. إن معاملة الأقليات المسلمة فى البلدان المعنية ليست موضع شك: فهم يقدمون أنفسهم كبديل للغرب، وبالتالى فإنهم موضع إعجاب.
وهذه المكونات الخمسة مترابطة وهى بالطبع ثمار العولمة وأداتها المميزة ألا هى الإنترنت. إن التلاعب يعمل بشكل جيد للغاية لأنه يستخدم التحيزات المعرفية التى تجعل من الممكن إستغلال الفشل الفردى ككبش فداء وطمأنة أولئك الذين يشعرون بالإقصاء. وما يثير الدهشة هوأن هذه القوى جديدة نسبيًا ولم تكن ذات أهمية حقيقية فى القرن الماضى عندما كان هناك بالفعل العديد من المهاجرين من شمال أفريقيا. إن البحث عن المسئولين هوأمر معقد: فنحن بالطبع نجد الإسلاميين وعمل دول المنشأ وجدلية اليسار المتطرف الجديدة التى تجد فى المهاجر صورة المعذبين الجدد فى الأرض. كما نجد أيضًا بالطبع الأعمال المزعزعة للاستقرار التى تقوم بها الدول الأجنبية ويمكننا أن نفكر فى تركيا وقطر وروسيا، والتى تقوم بتنشيط بالطبع الشرائح الأكثر هشاشة فى مجتمعنا.
لوديالوج: لقد أظهرت فى كتابك أن فرنسا قدمت الكثير، ولا سيما بفضل أدوات التمييز الإيجابى. وفى جيل واحد، فقد شهد الجيل الثانى من المهاجرين من شمال أفريقيا ارتفاعًا اقتصاديًا سريعًا مقارنة بالأطفال من الطبقات العاملة من أصل أوروبى، والذين يحتاجون فى المتوسط إلى ستة أجيال للوصول إلى نفس المستوى. إن أسلوبك يتحدى الأفكار المسبقة التى تجعل فرنسا دولة عنصرية. فهل هذا هوالحال: هل فرنسا دولة عنصرية؟
أرنولاشوريت: إن مجتمع الأغلبية الفرنسى مثل كل المجتمعات: نجده مترددا فى الترحيب بمن لا يشبهه. وتعتبر هذه ظاهرة طبيعية إلى حد ما. ومع ذلك، فإن مستوى العنصرية فى فرنسا لم يتم تسليط الضوء عليه من قبل أولئك الذين تمت مقابلتهم بإعتباره شيئًا محرجًا للغاية.
ومن ناحية أخرى، يؤكد العديد على التغيير فى طريقة الرفض أوالإقصاء، فبينما كان هناك قبل ٣٠ عامًا، المزيد من مظاهر الرفض المرتبطة بلون البشرة أوالأصل، فإنهم يؤكدون أن اليوم، أصبح دينهم المفترض أو تلك الصور النمطية المرتبطة بالأخبار ضدهم. يؤكد العديد ممن تمت مقابلتهم أن الجدل السياسى حول الإسلام ومكانته فى فرنسا، وكذلك المواقف المتطرفة بشكل خاص التى يتم التعبير عنها على شبكات التواصل الاجتماعى، تساهم فى خلق مناخ غير صحى. ويعتقد كثيرون أن التطرف أوعلى الأقل ظهور إسلام أكثر تشددا، يأتى أيضا من هذا الشعور بالرفض.
إذن الإجابة هى لا: فرنسا ليست عنصرية بالمعنى الأصلى كما نرى فى بلدان أوروبية أخرى. ولن يتم رفض شخص ما بسبب لون بشرته، لكن الصورة والقوالب النمطية المرتبطة بالدين المفترض لسكان شمال أفريقيا لا تساعد بالضرورة على الشعور بالهدوء، على أقل تقدير.
لوديالوج: إن الاندماج الاقتصادى لا يحكم بأى حال من الأحوال على الاندماج الثقافى. إن الجهل بالقوانين الاجتماعية والثقافية فى فرنسا هوالذى يتحمل المسئولية. فى الواقع، فإن ٦٧٪ من الأشخاص الذين غادروا للجهاد كانوا من الطبقات الوسطى و١٧٪ كانوا من الطبقات الوسطى العليا. ماذا يمكن أن نقول عن «تنافر الهوية» فى فرنسا؟
أرنولاشوريت: يمكننا أن نرى أشياء من هذا القبيل، ثم ننظر أيضًا إلى الانتماء الاجتماعى لأولئك الذين ارتكبوا الهجمات فى فرنسا: فى معظم الأحيان، لا ينتمون إلى الطبقة الوسطى بل على العكس تمامًا. أنزاروف، مراح، كواشى، عبد السلام، كوليبالى هم شباب من عائلات فقيرة جدًا! يجب أن نتذكر أيضًا أنه لكى تهاجر إلى سوريا، غالبًا ما تحتاج إلى المال كما يجب عليك المرور عبر تركيا، لذلك يجب أن تكون قادرًا على السفر والتحدث ببضع كلمات باللغة الإنجليزية ثم بضع كلمات بالعربية... فالأفقر الذين لا يملكون المال، فإنهم لا يستطيعون المغادرة ويبقون بكل بساطة حيث هم. ومرة أخرى، تبدو الأرقام صعبة: فالأشخاص الأكثر فقرًا المتطرفون لا يغادرون فى كثير من الأحيان بسبب نقص الوسائل والمعرفة. علاوة على ذلك، نحن نتحدث عن عدد سكان أقل من ١٠٠٠ شخص، وهذا عدد كبير ولكن يمكن مقارنته بقاعدة مكونة من ٦ ملايين شخص من أصل شمال أفريقى فى فرنسا.
لوديالوج: ما رأيك فى سياسة المدينة على الطريقة الفرنسية؟ هل تصفها بأنها «عملية بلا معنى ولا نهاية» أم ترونها على أنها عملية لتطوير وتجديد الأحياء؟
أرنولاشوريت: أجد دائمًا صعوبة فى إعطاء رأى حول هذا الموضوع لأننا عندما ننتقد الجهات الفاعلة فى السياسة الحضرية، فإننا ننتقد الأخصائيين الاجتماعيين وموظفى الخدمة المدنية والجمعيات التى تعمل على الأرض يومًا بعد يوم وغالبًا ما تكون مليئة بالنوايا الحسنة. إن انتقاد هؤلاء الأشخاص يتطلب وضع نفسك فى مكانهم، والأمر ليس بهذه البساطة. لذا أقول نعم: إن الجانب الإنسانى فى سياسة المدينة يؤدى فى رأيى إلى نتائج عكسية لأننا نشيد بالاختلاف والتنوع بدلًا من توفير المفاتيح اللازمة لـ «أن نصبح فرنسيين» على وجه التحديد واكتساب القواعد الاجتماعية التى تسمح بالاندماج الكامل. ومن خلال الرغبة فى القيام بعمل جيد، نعيد الناس إلى أصلهم المفترض، وهذا هوالحال بشكل خاص عندما تجتمع الجمعيات الاجتماعية والثقافية حول الأطباق التقليدية من بلدان السكان الأصلية أوعندما ندعو فنانين من الشرق أوالأفارقة إلى الأحياء، معتقدين أنهم يفعلون الشيء الصحيح: نحن هنا نعيد السكان إلى أصولهم ولا نولى اهتمامًا كافيًا لاندماجهم. إن الجانب الحضرى هونفسه تمامًا: نحن نفرط فى تجهيز الأحياء من خلال إنشاء المدارس والكليات وصالات الألعاب الرياضية وحمامات السباحة وجميع أنواع الأنشطة التى تعطى الانطباع بأننا نعتنى بالسكان، بإستثناء أنه من خلال القيام بذلك، فإننا لا نسمح لهؤلاء السكان بمقابلة أغلبية السكان عند مغادرة الحى. من المثير للدهشة دائمًا ملاحظة خطط النقل العام: يبلغ عمر متروباريس أكثر من ١٠٠ عام ويغطى العاصمة ثم تم إنشاء عددًا قليلًا من خطوط قطارات RER وقطارات الضواحى التى ذهبت بأقل قدر ممكن إلى المناطق الشعبية فى الأحياء حيث غالبًا ما كان يكفى توفير خط من الحافلات للخروج من تلك الأحياء. ولم يصل الترام إلا بعد وقت طويل ولا يزال مشروع متروباريس الكبرى قيد الإنشاء. يمكن تلخيص فلسفة النقل العام حول المدن الكبرى على النحوالتالى: يجب علينا أن نفعل كل شيء حتى لا يتنقل الفقراء وذلك من خلال تزويدهم بالكثير من المرافق فى الأحياء وجعل تنقلهم أكثر تعقيدًا. لقد خطرت لى هذه الفكرة عندما قمت بالمقابلات مع الكثير من الأشخاص.
لوديالوج: لقد كانت هناك ظاهرة إعادة الأسلمة فى فرنسا وأوروبا. إننا نشاهد علامات لم نشهدها قبل ٢٠ عاما وأبرزها الحجاب الإسلامى. يعود التاريخ المشئوم لحجاب كريل إلى عام ١٩٨٩. فى رأيك، لماذا حدث هذا الانقطاع؟
أرنولاشوريت: إن نقطة البداية كانت هى عدم الفهم عندما عبرت الضواحى عن مطالبها. إن المسيرة ضد العنصرية والمطالبة بالمساواة المعروفة بإسم «مسيرة العرب»، والإضرابات فى قطاع السيارات فى أوائل الثمانينيات، طالبت بالحق فى اللامبالاة. لكن أولئك الذين كانوا فى السلطة اعتبروا ذلك بمثابة نوع من الطموح لرؤية اختلافاتهم معترف بها. ومنذ ذلك الحين، تم تقدير كل ما يسمح بالتعبير عن هذا الفارق، وظهر الإسلاميون بقوة وبأعداد كبيرة. فى عام ١٩٨٩، كنا فى منتصف الحرب الأهلية الجزائرية وكانت الأسلمة أكثر وضوحا. كان السكان ذوى الأصول المهاجرة يستمتعون بالدفاع عنهم من قبل الدولة والخطاب العام، ولسوء الحظ، كان هناك الكثير من التردد قبل وضع القانون فى النهاية. ومع ذلك، فى كل مرة كان البيان العام حازمًا، لم تكن هناك مشاكل: يتم إحترام قانون الرموز الدينية فى المدارس بشكل عام وبمجرد أن أشار الوزير إلى أن العباءة لم تعد مقبولة، لم يعد ذلك مشكلة لا يمكن التغلب عليها. بطبيعة الحال، ركزت شبكات التواصل الاجتماعى على بعض الظواهر المحلية ولكن كما أشرح لطلابى: منذ اللحظة التى يجب فيها تطبيق القانون، يجب أن نكون قادرين على قبول أن المسئولين عن تطبيقه يرتكبون أخطاء فى التقييم. لا يمكننا الاستمرار فى العيش من خلال تصوير أقل المشكلات المحلية بصورة هيستيرية، فالشبكات الاجتماعية والتدفق المستمر للمعلومات تضر بشدة سلام مجتمعنا.
لوديالوج: تتحدث فى كتابك عن «إحياء الأصل الخيالي»، خاصة خلال الأحداث الرياضية أوالثقافية الكبرى أوحتى عن عقيدة الفكر «غير الاستعماري». ومع ذلك، فقد تم استغلال هذا الحق فى الاختلاف من قبل «قوى خارجية». فمن هى تلك القوى ؟
أرنولاشوريت: فى الوقت الحالى، إنها مشكلة فرنسية للغاية. إن ما نسميه «eWokism" هومجرد تجسيد آخر للتفكك وهى تلك الفكرة العزيزة على جاك دريدا، والتى تم تحديثها على مر السنين والتى عبرت المحيط الأطلسى مع ظهور «الدراسات الفرنسية». إذا لم أكن مخطئا، فإن ميشيل فوكووبيير بورديو، حتى اليوم، هم من بين علماء الاجتماع الأكثر اقتباسا فى العالم! ومن هنا يأتى التفكير المناهض للاستعمار الذى يحلل كل شيء فى نطاق مناهضة العنصرية والموقف الاستعمارى الجديد الذى قد تتخذه فرنسا تجاه أحفاد المهاجرين. ولكن كيف تطور هذا الفكر وهل تغلغل فى العقول إلى هذا الحد وخاصة فى اليسار فى السنوات الأخيرة عندما لم يكن هذا هوالحال على الإطلاق سابقًا ؟ لكن اليسار لم يكن أقل حضورا فى النقاش العام قبل ٣٠ عاما. يبقى الأمر لغزا.
والمسألة الأقل غموضًا هى الطريقة التى تناولت وتناقلت بها القنوات التليفزيونية الأجنبية ووسائل الإعلام عبر الإنترنت هذا الأمر لتصل إلى هدفها المباشر، وهم أحفاد المهاجرين الذين فقدوا اتجاهاتهم! الجزيرة، وقناة TRT التركية، وكذلك وسائل الإعلام الروسية RT، قضوا يومًا ميدانيًا فى تناول جميع رموز الشباب ولصب الزيت على النار. وقد وقع الضرر الآن، وأصبح هناك العديد من الشباب الذين بدأوا ينفصلون عن المجتمع الفرنسى، وحتى عن الغرب فى حين لا يوجد لديهم بديل حقيقى. وهنا، يجدون أنفسهم يحملون إحباطًا متفجرًا.
لوديالوج: هل يمكننا دمج الجميع؟ بالنظر إلى العدد الهائل من المهاجرين الوافدين، هل تعتقد أنه ينبغى علينا تعليق تدفقات الهجرة؟
أرنولاشوريت: لا… لا نستطيع ذلك. لقد تمكننا من دمج أطفال المهاجرين لأن والديهم جاءوا إلى فرنسا بناء على طلب أصحاب العمل لتلبية احتياجات محددة. على سبيل المثال، عامل جزائرى وصل إلى فرنسا وكان لديه عمل فى مصنع وكذلك سكنا، كان غالبًا فى أحد النزل. فمنذ اللحظة التى تكون لدينا فيها حاجة إلى أعداد ونستدعى العمالة الأجنبية من خلال قطاعات محددة، يمكننا البدء فى مشروع الاندماج. وهناك نتحدث أكثر عن الهجرة الإنسانية: الأشخاص الذين يجدون أنفسهم يعبرون البحر فى زورق مطاطى دون خطط محددة حقًا، لأنه يتم تشجيعهم على القيام بذلك... إنهم لا يستجيبون لحاجة معينة يعبر عنها العالم الاقتصادى، وبالتالى، فإنهم سيتجولون فى أوروبا دون حقوق أو وثائق، وينتهى بهم الأمر بتقديم طلب لجوء لا يتم قبوله فى كثير من الأحيان لأنهم لا يستوفون معايير حق اللجوء.
بمجرد إخطارهم بالرفض، لن يغادروا لأننا لا نطردهم والدول الأصلية ترفض استعادتهم، وفى عصر الإنترنت، فإن أدنى تسوية سيتم تفسيرها بشكل إيجابى فى بلدان الأصل، ويجب ألا ننسى أيضًا أن المهاجرين غالبًا ما يدفعون حياتهم ثمنًا لهذا العبور غير القانونى: فمن خلال عدم الوضوح بشأن إدارة حدودنا، فإننا نجعل أنفسنا متواطئين مع المهربين ونكون مسؤولين عن هذه الآلاف من الوفيات. ولن نتمكن من كبح جماح ذلك الأمر إلا من خلال القيام بما نادرا ما نفعله: وهوأن نكون حازمين وأن نقوم بحراسة حدودنا. فكلما زاد الضعف الذى نظهره، كلما زادت القوارب المطاطية التى تحاول العبور وزاد عدد الفقراء الذين يموتون غرقا. لقد أصبح من الملح إيصال الرسالة، حتى لوكانت غير سارة: الكرم والمشاعر الطيبة يقتلان الفقراء. دعونا نفكر فيهم قبل إرسال رسائل لا معنى لها.
ومن ناحية أخرى، دعونا ننظم الهجرة الاقتصادية بأهداف محددة: فليس من المستحيل أن نحدد احتياجاتنا من حيث الأعداد، بما فى ذلك العمل الذى يتطلب مهارات متدنية، وأن يكون من الممكن جلب المهاجرين لأسباب اقتصادية. وقبل كل شيء، يجب أن ندرك أنه إذا لم نكن واضحين وحازمين، فإن أيدينا ملطخة بالدماء.
أرنو لاشيرى: الرئيس السابق لمكتب عمدة ريليولا باب (الرون) والخبير الفرنسى فى العلوم السياسية، أجرى معه موقع «لو ديالوج» هذا الحوار الشامل الذى يتعرض فيه لقضايا عديدة فى المجتمع الفرنسى، من أهمها قضية المهاجرين من الدول العربية والإسلامية ومدى اندماجهم فى المجتمع.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الفرنسيين شمال إفريقيا لوديالوج وسائل الإعلام الأشخاص الذین من المهاجرین أولئک الذین فى المجتمع إلى فرنسا یمکننا أن بشکل جید بشکل خاص فى فرنسا على سبیل الذین تم کان هناک ومع ذلک من خلال أکثر من أن نکون أنه من لا یتم من قبل تمام ا یجب أن
إقرأ أيضاً:
حرب النفوذ في الكونغو.. تداعيات الانسحاب الأوغندي وفرص 23 مارس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية تصعيدًا جديدًا في النزاع المسلح بين القوات الحكومية وحركة إم23، وسط تطورات ميدانية قد تعيد تشكيل موازين القوى فى شرق البلاد. ففي ظل الانسحاب المفاجئ لقوات الدفاع الشعبي الأوغندية من مدينة لوبيرو، تبرز تساؤلات حول الفرص التى قد تستغلها 23 مارس لإعادة إطلاق عملياتها العسكرية، لا سيما بعد أن تمكنت القوات الكونغولية وميليشيات وازاليندو من استعادة مدينة واليكالي، مما شكل أول تراجع للحركة منذ هجومها الرئيسى فى يناير 2025.
وفيما تسعى الحكومة الكونغولية إلى تعزيز سيطرتها على المناطق الاستراتيجية، يظل الصراع فى شمال كيفو محكومًا بعوامل متعددة، من بينها التوازنات الإقليمية، والتدخلات العسكرية الخارجية، وتعقيدات المشهد السياسى والأمني. فهل يمثل الانسحاب الأوغندى فرصة لحركة إم23 لتوسيع نفوذها؟ أم أن القوات الحكومية ستنجح فى احتواء التهديد واستعادة زمام المبادرة؟ هذا التقرير يستعرض آخر التطورات الميدانية، وأثرها على مستقبل النزاع فى شرق الكونغو.
واستعادت القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى جانب ميليشيات وازاليندو المتحالفة معها، مدينة واليكالى فى غرب كيفو الشمالية فى ٣ أبريل. يُعد هذا التطور، إذا استمر، أول انسحاب لحركة ٢٣مارس من مركز سكانى منذ هجومها الرئيسى فى يناير ٢٠٢٥، مما يشير إلى احتمال مواجهتها تحديات فى القدرة القتالية والإمدادات. ورغم هذا التقدم، كانت القوات الحكومية الكونغولية تضع الأسس لاستعادة السيطرة على عاصمة المنطقة عبر تطويق قوات ٢٣مارس منذ أن استولت الحركة على واليكالى فى ١٩ مارس.
اعتمدت الحملة العسكرية الموالية للحكومة على استغلال نقاط ضعف خطوط الإمداد لدى حركة ٢٣مارس، والتى تتفاقم كلما ابتعدت عن مركز ثقلها فى شرق كيفو وقاعدة إمدادها الخلفية فى رواندا. قامت ميليشيات وازاليندو بمهاجمة الجناح المكشوف للحركة واستطاعت استعادة السيطرة على أجزاء واسعة من طريق RP٥٢٩ الرابط بين واليكالى وماسيسي، وهو المسار الذى استخدمته حركة ٢٣مارس فى البداية للتقدم نحو المدينة.
ساهمت الغارات الجوية التى شنتها القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية فى إضعاف قدرة حركة ٢٣مارس على إرسال تعزيزات إلى مطار كيغوما القريب، مما أثر على تحركاتها اللوجستية. كما أدى هذا الضغط العسكرى إلى تضييق الخناق على الحركة، التى تعتمد بشكل كبير على الإمدادات القادمة من الخارج، لا سيما من رواندا.
إلى جانب الضغوط البرية، لعبت الحملة الجوية التى شنتها القوات الكونغولية دورًا رئيسيًا فى إعاقة نقل المعدات العسكرية الرواندية التى منحت حركة ٢٣مارس "قوة قتالية متفوقة"، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة. ومن المرجح أن استمرار هذه العمليات سيؤدى إلى مزيد من التراجع لحركة ٢٣مارس، خاصة مع تعمق العزلة المفروضة عليها وانقطاع خطوط إمدادها الرئيسية.
تراجع حركة ٢٣مارس وانهيار خطوطها الدفاعيةتشهد حركة ٢٣مارس اختراقًا فى خطوط مواجهتها بعدة مناطق فى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، مما يعكس حالة إنهاك واضحة ربما تعاني منها الجماعة. منذ استيلائها على مدينة ماسيسى فى يناير، لم تتمكن الحركة من الحفاظ على محيط دفاعى متين حول المدينة، خاصة مع تقدمها غربًا نحو واليكالي. جاء رد القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية وميليشيات وازاليندو عبر تطويق قوات ٢٣مارس وعزل مدينة واليكالي، وقطع خطوط الاتصال البرية بينها وبين ماسيسي، مع استمرار الهجمات المتكررة على مواقع الحركة فى محيط ماسيسي.
اضطرت قوات ٢٣مارس إلى الانسحاب من واليكالى والعودة إلى ماسيسي، فى محاولة واضحة لتعزيز الدفاعات فى هذا المحور الذى يعانى من الامتداد المفرط. ومع ذلك، لم تنجح الحركة أيضًا فى إنشاء محيط دفاعى قوى حول مدينة بوكافو، رغم استيلائها على عاصمة مقاطعة جنوب كيفو فى فبراير. استمرار الضغط العسكرى من القوات الحكومية والميليشيات المتحالفة معها ساهم فى كشف نقاط ضعف الحركة، ما جعلها أكثر عرضة للهجمات المتواصلة.
واصلت ميليشيات وازاليندو هجماتها المتكررة على البلدات المحيطة بمدينة بوكافو، مستهدفة مواقع تقع على بعد ١٥ ميلًا من المدينة وحتى داخل بوكافو نفسها فى ٣ مارس. هذا التصعيد العسكرى أدى إلى تآكل سيطرة ٢٣مارس على المنطقة وأجبرها على إعادة تموضع قواتها فى مواجهة التقدم المستمر للقوات الموالية للحكومة.
فى ١ أبريل، تمكنت القوات المسلحة الكونغولية وميليشيات وازاليندو من استعادة قرية نيانجيزي، وهو تطور استراتيجى أدى إلى قطع خطوط الاتصال الأرضية بين بوكافو وكامانيولا، البلدة الواقعة على أقصى جنوب الحدود الرواندية من الجانب الكونغولي. هذا الإنجاز عزز من عزلة ٢٣مارس، ما قد يؤدى إلى مزيد من التراجع فى قدرتها على الصمود أمام الضغط المتزايد من القوات الحكومية وحلفائها.
الانسحاب من واليكالى بين تكتيكات التفاوض والضغوط العسكريةقد يكون انسحاب حركة ٢٣مارس من بلدة واليكالى مرتبطًا برغبتها فى إظهار حسن النية قبل المفاوضات القادمة مع حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية، والمقرر عقدها فى ٩ أبريل بوساطة قطرية. ومع ذلك، فإن هذا العامل لم يكن على الأرجح السبب الرئيسى وراء الانسحاب، إذ إن فقدان السيطرة على واليكالى يُضعف موقف الحركة التفاوضى بدلًا من تعزيزه.
كانت ٢٣مارس قد استولت على واليكالى فى مارس لتتزامن مع موعد المفاوضات التى كان من المقرر إجراؤها مع الحكومة الكونغولية فى أنغولا فى ١٨ مارس. لكن هذه المفاوضات لم تتم بعد أن انسحبت الحركة منها احتجاجًا على العقوبات التى فرضها الاتحاد الأوروبى على قادتها والقادة الروانديين المتهمين بدعمها. فى تلك الأثناء، اتجه الرئيس الكونغولى فيليكس تشيسكيدى إلى الدوحة لحضور الجولة الأولى من المحادثات بوساطة قطرية مع نظيره الرواندى بول كاغامي، مما أعطى بعدًا جديدًا لمسار التسوية السياسية.
فى ٢٢ مارس، أعلنت ٢٣مارس أنها ستنسحب من واليكالى دعمًا لمبادرات السلام، لكنها لم تنفذ هذا القرار فعليًا، متهمة القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية بعدم احترام شروط وقف إطلاق النار. هذا التأخير فى الانسحاب أثار تساؤلات حول نوايا الحركة، خاصة أنها كانت تحاول الحفاظ على مكاسبها الميدانية حتى اللحظة الأخيرة.
فى النهاية، لم تتراجع ٢٣مارس عن واليكالى إلا بعد أن أصبحت أوضاعها العسكرية أكثر هشاشة، نتيجة الضغط المتزايد من القوات المسلحة الكونغولية وميليشيات وازاليندو. تكثيف العمليات العسكرية ضد الحركة أدى إلى تقويض قدرتها على الصمود، مما أجبرها على التخلى عن البلدة، سواء كخيار اضطرارى أو كخطوة تكتيكية قبيل المفاوضات القادمة.
الأهمية الاستراتيجية لواليكالى والتحديات العسكرية أمام ٢٣مارستمثل السيطرة على مدينة واليكالى ورقة ضغط رئيسية لحركة ٢٣مارس، حيث تتيح لها تهديد المناطق الحساسة اقتصاديًا وسياسيًا داخل جمهورية الكونغو الديمقراطية. تعد واليكالي، التى يبلغ عدد سكانها نحو ٦٠ ألف نسمة، نقطة عبور حيوية بين مقاطعة شمال كيفو وداخل البلاد، وتقع على الطريق الوطنى RN٣، مما يمنحها أهمية لوجستية كبيرة. يضيف قربها من مدينة لوبوتو ومطارها، على بعد ١٢٥ ميلًا غربًا، ومن كيسانغاني، رابع أكبر مدينة فى الكونغو على بعد أكثر من ٢٥٠ ميلًا شمال غربًا، إلى أهميتها الاستراتيجية.
فى مواجهة تقدم حركة ٢٣مارس، عززت القوات المسلحة الكونغولية دفاعاتها الجوية، حيث نقلت ما لا يقل عن طائرتين مقاتلتين من طراز سوخوى سو-٢٥ إلى كيسانغانى فى أعقاب زحف الحركة نحو بوكافو فى فبراير. ردًا على ذلك، هدد قائد ٢٣مارس، سلطانى ماكينغا، بأن الجماعة ستسعى للسيطرة على كيسانغانى إذا واصلت القوات المسلحة الكونغولية شن غارات جوية على مواقع الحركة. إلى جانب البعد العسكري، تكمن أهمية واليكالى أيضًا فى احتوائها على موارد طبيعية غنية، مثل الذهب والتنتالوم وخام القصدير، التى قد تسعى ٢٣مارس لاستغلالها لدعم تمويل عملياتها.
رغم هذه المكاسب المحتملة، قد تواجه ٢٣مارس تحديات على مستوى التوازنات الإقليمية، حيث يفكر الجيش الأوغندى فى إعادة نشر قواته من عاصمة مقاطعة لوبيرو فى شمال كيفو الشمالية إلى مقاطعة إيتوري. تأتى هذه الخطوة ضمن حملة أوغندية مستمرة منذ سنوات ضد المتمردين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية فى المنطقة. أعلن المتحدث باسم الجيش الأوغندي، كريس ماجيزي، عبر مواقع التواصل الاجتماعى فى ٣٠ مارس، أن القرار النهائى بشأن إعادة انتشار القوات سيتم اتخاذه "فى الأيام المقبلة"، مما يثير تساؤلات حول تأثير هذا التحرك على ديناميات الصراع فى شمال كيفو.
فى المقابل، نفت مصادر عسكرية كونغولية وأوغندية، وفقًا لتقارير محلية من بوتيمبو، وجود أى خطط حالية لسحب القوات الأوغندية من منطقتى لوبيرو وبوتيمبو بحلول ١ أبريل. تعد بوتيمبو مركزًا تجاريًا وعسكريًا رئيسيًا يقع على بعد ٢٥ ميلًا شمال لوبيرو، وهو ما يجعل أى تغيير فى تموضع الجيش الأوغندى عاملًا مهمًا قد يؤثر فى ميزان القوى فى المنطقة، سواء لصالح ٢٣مارس أو ضدها، بناءً على التطورات الميدانية المقبلة.
إعادة انتشار الجيش الأوغندى وتأثيره على شمال كيفو وإيتوريأعلن المتحدث باسم الجيش الأوغندي، كريس ماجيزي، أن قوات الدفاع الشعبى الأوغندية ستنسحب من بلدة لوبيرو بسبب نجاح العمليات المشتركة مع القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية فى طرد جماعة متمردة أوغندية تابعة لتنظيم داعش من شمال كيفو الشمالية. هذه العمليات تأتى ضمن حملة "عملية شجاع"، التى أطلقتها أوغندا والكونغو فى أواخر عام ٢٠٢١، لاستهداف تنظيم الدولة الإسلامية فى وسط أفريقيا، المعروف محليًا باسم "القوات الديمقراطية المتحالفة" (ADF)، وذلك بعد أن نفذت الجماعة تفجيرات فى العاصمة الأوغندية كامبالا فى نوفمبر ٢٠٢١.
فى يوليو ٢٠٢٤، تم توسيع نطاق "عملية شجاع" ليشمل منطقة لوبيرو، ما عزز الضغط على الجماعات المتمردة هناك. وفى ٣٠ مارس، صرّح ماجيزى أن القوات الأوغندية قد "انطلقت" من لوبيرو إلى مقاطعة إيتوري، وأن تركيز العمليات العسكرية يمكن أن يتحول إلى تلك المنطقة لمنع قوات ADF من إعادة تنظيم صفوفها هناك. وبحسب تقرير للأمم المتحدة فى ديسمبر ٢٠٢٤، أدى هذا التوسع إلى دفع أكبر خلية من مقاتلى ADF إلى الفرار شمالًا باتجاه إيتوري، ما ساهم فى تقليص نشاط الجماعة فى شمال كيفو.
تشير بيانات موقع وأحداث الصراع المسلح إلى انخفاض الاشتباكات بين مقاتلى ADF وقوات الأمن والمدنيين فى شمال كيفو بنسبة ٧٠٪ خلال شهرى فبراير ومارس مقارنة بشهرى ديسمبر ٢٠٢٤ ويناير ٢٠٢٥. كما زعم مسئولون فى القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية أنهم فككوا شبكة تابعة لـ ADF فى شمال كيفو الشمالية بعد اعتقال عدد من مقاتلى الجماعة الذين كانوا يحاولون التحرك شمالًا إلى إيتوري، وذلك بسبب الضغوط العسكرية المكثفة التى فرضتها "عملية شجاع" فى أوائل مارس.
إلى جانب استهداف ADF، من المرجح أن تهدف إعادة انتشار القوات الأوغندية إلى دعم العمليات العسكرية الجارية ضد جماعات متمردة أخرى تنشط فى مقاطعة إيتوري، شمال غرب الكونغو. تظل هذه المنطقة بؤرة توتر مزمنة، حيث تواجه السلطات تحديات مستمرة فى احتواء العنف المسلح، ما يجعل إعادة تموضع الجيش الأوغندى جزءًا من استراتيجية أوسع لمكافحة التمرد وتأمين الاستقرار فى المنطقة.
يُعد تحالف "التعاون من أجل تنمية الكونغو" (CODECO) مجموعة من ميليشيات ليندو العرقية التى تنشط بشكل رئيسى فى منطقة دجوجو بمقاطعة إيتوري. منذ منتصف مارس، كثفت قوات الدفاع الشعبى الأوغندية عملياتها العسكرية ضد CODECO، وذلك ردًا على هجوم شنته الجماعة فى أوائل فبراير، وأسفر عن مقتل أكثر من ٨٠ مدنيًا فى دجوجو، مما دفع أوغندا إلى اتخاذ تدابير عسكرية أكثر حدة ضدها.
فى إطار هذا التصعيد، أرسلت أوغندا تعزيزات عسكرية غير محددة العدد من داخل أراضيها إلى بونيا، عاصمة مقاطعة إيتوري، بالإضافة إلى نشر قوات فى عدة مناطق أخرى داخل المقاطعة، بما فى ذلك دجوجو وماهاجي، منذ أوائل فبراير. هذه التحركات تأتى ضمن استراتيجية أوغندية لملاحقة الجماعات المسلحة المتطرفة التى تهدد الأمن الإقليمي، لا سيما بعد سلسلة الهجمات الأخيرة التى نفذتها CODECO ضد المدنيين.
فى أواخر مارس، توصلت القوات الأوغندية والكونغولية إلى اتفاق رسمى لتوسيع نطاق "عملية شجاع" ليشمل شمال غرب إيتوري، بحيث لا تقتصر العمليات العسكرية على استهداف تنظيم "القوات الديمقراطية المتحالفة" (ADF) فحسب، بل تمتد لتشمل جميع الجماعات المسلحة التى تنشط فى المنطقة، وعلى رأسها CODECO. يهدف هذا التوسع إلى تعزيز الاستقرار فى إيتوري، التى تشهد اضطرابات متواصلة بسبب الصراعات العرقية والمسلحة.
فى إعلانه فى ٣٠ مارس، أشار المتحدث باسم الجيش الأوغندي، كريس ماجيزي، إلى أن إعادة نشر القوات فى إيتورى قد يكون ضروريًا، مشددًا على أن "المنطقة العملياتية الضخمة" فى بونيا وماهاجى ودجوجو تتطلب تعزيزات إضافية من الجيش الأوغندى للسيطرة عليها بشكل فعال. يشير هذا إلى نية أوغندا لتعزيز وجودها العسكرى فى المنطقة، مما قد يؤدى إلى مواجهة أكثر شمولية مع الجماعات المسلحة هناك.
قد يوفر انسحاب قوات الدفاع الشعبي الأوغندية من مدينة لوبيرو فرصة استراتيجية لحركة إم٢٣ لإعادة إطلاق عملياتها الهجومية فى شمال كيفو الشمالية. وكانت إم٢٣ قد بدأت تقدمها باتجاه مقاطعة لوبيرو الشمالية على مراحل منذ أواخر عام ٢٠٢٤، واستمرت فى محاولاتها حتى فبراير ٢٠٢٥، لكنها اصطدمت بمقاومة شديدة من القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية والميليشيات الموالية للحكومة، مما أجبرها على التوقف عن التقدم فى أواخر فبراير.
سعت حركة إم٢٣ إلى تطويق مواقع الجيش الكونغولى فى لوبيرو والسيطرة على الطريق الاستراتيجى RN٢ منذ فبراير، وذلك ضمن محاولتها للوصول إلى بلدة بوتيمبو، التى تعد مركزًا عسكريًا وتجاريًا مهمًا، ويقطنها أكثر من ١٥٠ ألف نسمة. تحقيق هذا الهدف سيمثل مكسبًا كبيرًا للحركة، نظرًا لأهمية بوتيمبو اللوجستية ودورها الحيوى فى العمليات العسكرية شمال كيفو.
ورغم أن انتشار القوات الأوغندية فى لوبيرو لم يكن له علاقة مباشرة بمواجهة إم٢٣، فإن التقارير الإعلامية الكونغولية أشارت إلى أن الوجود العسكرى الأوغندى فى البلدة والقرى المحيطة بها حدَّ من تحركات إم٢٣ وقيد قدرتها على تنفيذ مناورات تكتيكية تطويقية ضد مواقع الجيش الكونغولي. كما أن هذا الوجود العسكرى ربما لعب دورًا غير مباشر فى ردع أى هجوم واسع النطاق على لوبيرو خلال الأشهر الماضية.
مع انسحاب قوات الدفاع الشعبى الأوغندية، من المرجح أن تحاول إم٢٣ استغلال الفراغ الأمنى لاستئناف عملياتها الهجومية وتعزيز نفوذها فى شمال كيفو. ويبقى السؤال مفتوحًا حول مدى قدرة الجيش الكونغولى وحلفائه على ملء هذا الفراغ ومنع الحركة من تحقيق اختراقات استراتيجية جديدة فى المنطقة.
تعكس التطورات الأخيرة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية ديناميكيات الصراع المتغيرة فى شرق البلاد، حيث تتشابك المصالح المحلية مع التدخلات الإقليمية، مما يعقّد جهود تحقيق الاستقرار. فانسحاب قوات الدفاع الشعبى الأوغندية من لوبيرو قد يفسح المجال لحركة إم٢٣ لاستعادة زمام المبادرة، بينما يشير نجاح القوات الكونغولية فى استعادة واليكالى إلى قدرة الحكومة على تحقيق اختراقات ميدانية، وإن كانت مؤقتة. ومع ذلك، فإن هذه المواجهات لا تقتصر على إم٢٣ فحسب، بل تمتد إلى مجموعات مسلحة أخرى مثل تحالف CODECO والقوات الديمقراطية المتحالفة (ADF)، مما يعزز مناخ الفوضى والعنف فى المنطقة.
إن استمرار عدم الاستقرار فى شمال وجنوب كيفو يشكل بيئة مثالية لنمو الجماعات الإرهابية، لا سيما تنظيم "القوات الديمقراطية المتحالفة"، الفرع المحلى لتنظيم داعش فى وسط أفريقيا. فقد استفاد هذا التنظيم من الفوضى الأمنية لإعادة التمركز فى مقاطعة إيتورى بعد تعرضه لضغوط عسكرية فى شمال كيفو. وإذا تمكنت إم٢٣ من توسيع نفوذها، فإن ذلك سيؤدى إلى مزيد من تفكك المشهد الأمني، مما يمنح الجماعات الإرهابية فرصًا أكبر لتجنيد المقاتلين، وتأمين خطوط إمداد جديدة، واستغلال النزاعات العرقية والسياسية لتعزيز وجودها.
علاوة على ذلك، فإن تداخل الأجندات الإقليمية – خصوصًا الدور الذى تلعبه رواندا وأوغندا – يعزز حالة عدم الاستقرار، حيث تتعامل كل دولة مع النزاع وفق مصالحها الخاصة، مما يطيل أمد الأزمة ويعزز احتمالية أن تتحول المنطقة إلى ساحة صراع ممتد. وفى ظل هذا الوضع، يصبح خطر انتشار الإرهاب فى أفريقيا الوسطى والشرقية أكثر واقعية، خاصة إذا فشلت الحكومة الكونغولية فى فرض سيطرتها بشكل حاسم على هذه المناطق، أو إذا انسحبت القوات الدولية من المشهد دون حلول جذرية للصراع.
بالتالي، فإن ما يحدث فى الكونغو ليس مجرد مواجهة تقليدية بين حركة تمرد وقوات حكومية، بل هو جزء من معركة أوسع تؤثر على الأمن الإقليمى والدولي. وإذا لم تتم معالجة الأسباب الجذرية للنزاع، مثل الفقر، والتهميش السياسي، وغياب التنمية، فإن المنطقة ستظل بيئة خصبة لتنامى الإرهاب، مما يهدد ليس فقط دول الجوار، بل الاستقرار فى القارة الأفريقية بأكملها.