يسقط المثقف إذا تخلى عن المواقف الإنسانية وانحاز -خوفا أو طمعا- إلى قوى الظلم والاستبداد وتبرير أفعال المتسلط تحت صيغ واهية، فالمثقف مطلوب منه أن يقف ضد الظلم والاعتداء على كرامة الإنسان وانتهاك حقوقه. تُعد الكتابة أرقى أنواع التعبير عن حقوق الإنسان لأن الكلمة وإبداء الرأي حق مصان بعد حق الحياة، لذلك يستخدم كثير من الكتاب كلماتهم ويعبرون عن مواقفهم لمنع وقوع الأذى على الآخرين بصرف النظر عن الجنس أو الجنسية أو المعتقد أو الديانة، مثل قضية دريفوس، الضابط في الجيش الفرنسي المتهم بالتجسس لصالح الألمان في عام 1894م، حينها كتب الكاتب الفرنسي إميل زولا رسالة مفتوحة في صحيفة لورو بعنوان (أنا أتهم) موجهة إلى الرئيس الفرنسي فيليكس فور لمنع إدانة الضابط، وبعد معركة قضائية تمت تبرئة دريفوس وإدانة الفاعل الحقيقي.
إن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على أرضه المحتلة تفرض علينا التضامن والتعبير عن إدانتنا لآلة الإجرام الصهيونية ليس بدءا بقتل وتهجير الفلسطينيين من أرضهم وليس انتهاء باللحظة الراهنة التي يتم فيها محو غزة وسكانها، فنحن لا ندري كم فلسطيني سيُقتل بينما أكتب وأنشر هذا المقال؟ في الوقت الذي ينحاز فيه ما يُسمى بالعالم المتُحضر إلى جانب إسرائيل وقد احتضرت ضمائر الساسة والكتاب والإعلاميين، ولم يُعد هذا الانحياز خفيا، فالأزمة الأوكرانية كشفت الغطاء عما يُسمى المجتمع الدولي كما عرّته من قبل القضايا العربية منذ النكبة وإلى الآن، وكشفت إبادة غزة عن حقيقة المؤسسات الثقافية الأوروبية ومدى ارتهانها للمؤسسات الصهيونية، إذ حُرِمت الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي (49 عاما) من التكريم في معرض فرانكفورت بعد فوز روايتها (تفصيل ثانوي) بجائزة «ليبراتور»، التي تُمنح للكاتبات من دول الجنوب. وأعلنت إدارة المعرض عن إفساح المجال أمام اليهود والإسرائيليين للحديث عن هجوم غزة، مثلما صرّح مدير المهرجان يورغن بوس (62 عاما) بالإعلان عن وقوف المعرض بشكل تام إلى جانب إسرائيل، وهو الأمر الذي قُوبل بانسحاب مشرّف من كتاب عرب من المعرض وانسحاب هيئة الثقافة لإمارة الشارقة من المشاركة في المعرض. وفي موضوع إعلان المواقف والتصريحات يخرج علينا الكاتب المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون (78عاما) ويدين حركة حماس فيصف مناضليها بأنهم بلا ضمير ولا إنسانية، وقد نشر مقاله في صحيفة لوبوان الفرنسية.
لم نكن ننتظر من بن جلون أن تكون له مواقف الممثلة السينمائية الإنجليزية فانيسا رديغريف (86 عاما) الفائزة بجائزة أوسكار سنة 1978م والمعروف عنها تعاطفها مع القضية الفلسطينية ومعارضتها لحربي فيتنام وغزو العراق في عام 2003م، ولا ننتظر من صاحب جائزة الجونكور أن تكون له مواقف مواطنيه المغاربة المشاركين في الثورة الفلسطينية منهم (الأختان نادية وريتا برادلي، نادية برادلي -حقنتها السلطات الإسرائيلية بمواد مسرطنة أثناء سجنها والتحقيق معها وتوفيت في سنة 1995م بمرض السرطان بعد الإفراج عنها- والحسين الطنجاوي، وعبدالرحمن امزغار، والنمري الركراكي، ومصطفى قزيبر، وعبدالقادر بوناجي، وحسن بن الطيب، ومحمد السافيني) وقد نشرتُ مقالا في جريدة عمان بعنوان (مغاربة في النضال الفلسطيني) معتمدا على معلومات الكاتب والمناضل المغربي محمد لومة (1948)، الذي التحق بالثورة الفلسطينية في سنة 1968، كتب لومة العديد من المؤلفات عن الثورة الفلسطينية أهمها كتابه (حكيم الثورة الفلسطينية الدكتور جورج حبش) وكتاب (جورج حبش في معسكر الخصم) ووثق فيه بالأسماء والصور بعض الشهداء المغاربة في سبيل القضية الفلسطينية منهم.
يتناول الطاهر بن جلون في رواياته المواضيع التي لا يدافع عنها، فمثلا بعد صدور روايته تلك العتمة الباهرة 2001، قال المعتقل السياسي أحمد المرزوقي (76 عاما) صاحب كتاب (تزمامارت الزنزانة رقم 10) وأحد الضحايا (إن الطاهر بن جلون يسعى دائما للكتابة على أريكة مريحة، فهو كاتب خمائلي يكتب بعيدا عن منغصات السلطة، وإن كان لا يكتب تحت أوامرها طبعا لكنه في المقابل يكتب وفق الاهتمامات وتحت تأثير المواضيع الحارة التي يصنعها الإعلام الأوروبي في واجهة اهتماماته). «نقلا عن سالمة الموشي موقع هسبريس».
أثناء أحداث الربيع العربي أصدر بن جلون رواية (الشرارة: انتفاضة في البلدان العربية) تستلهم قصة التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في تونس، لاحقا كتب الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي (49) في كتابه فن الرواية دراسة بعنوان (بالنار- الطاهر بن جلون: أكلة لحم الشهيد في بنار) «منذ سنوات تعترضني مواقف الكاتب المغربي محمد شكري من الطاهر بن جلون وكنت أستغرب مواقفه واتهامه بالانتهازية والانبطاح للغرب...استغرابي ذلك تبخر تماما وأنا أقرأ ما خطه الطاهر بن جلون عن الثورات العربية وخاصة ما كتبه عن الثورة التونسية في كتابيه (الشرارة: انتفاضة في البلدان العربية) و(بالنار) وهما يرتقيان إلى مستوى السقوط الثقافي الذي يأتي من كاتب كرسته ماكينة الفرنكفونية وعمل على مغازلتها بتصدير صورة المجتمعات العربية كما تريدها».
إن تجاهل المثقفين العرب لممارسات الاحتلال الصهيوني في فلسطين وممارسات القتل والتعذيب والتهجير، يُعد خطيئة كبرى في سجلاتهم، ولا يمكن الكيل بمكيالين ولا مساواة الضحية بالمجرم، فقبل إدانة المقاومة لا بدّ من البحث عن جوهر الصراع الحقيقي للقضية الفلسطينية التي بالأساس قضية إنسانية عادلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثورة الفلسطینیة
إقرأ أيضاً:
العودة إلى جلقني.. تواطؤ المثقف وتعلقاته
زرياب عوض الكريم
(نشرت في 14.8.2024 تحت عنوان جلقني الجريمة وتواطو المثقف)
في 13 أغسطس الجاري إقتحمت عصبة من شباب قوة الدعم السريع بلدة (جلقني) على ضفاف جنوب النيل الأزرق ، المستوطنة القروية الوادعة لإثنية الفولان Fulbe ، بغاية إقتياد عدد من فتياتهم المأثور سيرة جمالهن ، تمتعاً وتسرياًَ على قاعدة شائنة الجيش الياباني الغازي Women of comfort ، لكنهم واجهوا شجاعة لم يتوقعونها من الأهالي - المستضعفين في كل التوازنات ، الذين لم يسترخصوا دماءهم ، أو يروعهم التهديد والتخويف والمساومة بين أعراضهم و أرواحهم ، لم يروعهم قسوة الإثنية التي تزدري - الفولان- في ذهنيتها الشعبية وتسترخص كرامتهم وأعراضهم وأموالهم أفياءاً وأنفالاً تستحلهم بوصم الدونية الإثنولوجية ؟
إنسحب المقاتلين لائذين يطلبون فزع رفاقهم ، بمسرد أن الأسلحة البيضاء التي قاومت جنايتهم أسلحة مقاومة شعبية وبإفتراء تواجد قوة من الجيش النظامي في داخل البلدة ، السردية التكييفية التي باتوا يفترونها بين يدي كل صفعة مناطقية وجهوية لغرورهم القبلي و خيلاء إستعلائهم الماجن ، فكان التدوين الإنتقامي والتكتيك الدارج بقصف المكان الطاهر الذي اثخن جرحهم المكابر ، تشفياً أوقع مذبحة تجاوز ضحاياها من القتلى الثلاثين.
بعد ذيوع خبر المذبحة وإفتضاح الجريمة وتوالي البيانات والبينات بالشائنة عادت قوة أخرى لتغطية الجريمة الأولى والثانية بإجبارها السكان على الإدلاء بإعترافات مصورة لإنكار الواقعة جملة وتفصيلاً ، لا تزييف الرواية وحده، تحت تهديد السلاح.
ثم ماذا بعد؟
إرهاق الإنكار لم يأخذ مكتب العلاقات العامة الإستشاري في لندن وكمبالا للحماس إلى تكذيب الحقائق ، إمتدت الساعات تطوي أختها وشوكة الإنتظار ، ليظهر فيما يبدو أنهم إختاروا حيلة أو ميكانيزم التجاهل ، ميكانيزم التهوين من كرامة آلاف البشر الذين تدوسهم البنادق والسياط في نقاط التفتيش العسكرية (الإرتكازات) ولا ترى فيه العائلة السياسية للقوة شبه العسكرية ما يستحق الإهتمام والتصويب ماتضيفه لدائرة إرهاقها ، ما يستحق الإصغاء وعناء الإجماع أو إرهاق التحرك لتكييف همجية القبيلة وحيواتها القلقة ، أو أيضاً عزل قاعدة الكيتش - الفاقد الإجتماعي من قطاع الطرق ومجرمي البادية (الدامرة) عن اللحاق بهوامش المعركة لإدراك الغنيمة ، وتطويع نظامها الإجتماعي للحرب social Order الدارج منذ زمن (القيمان) في القرن السادس عشر - الغارات القبلية ، التي تستذهن قيم السلب والتنفل والتسري (الأسر القبلي للنساء).
إرهاق المكابرة - الممانعة الذهنية
لم يتكبد هذه المرة مثقف القبيلة ولا المثقفين المتواطئين ، جشاء الإغتسال من دمهم البارد ، من ميكافيليتهم السياسية ، فتكرار مسبحة الموتى وسلسال المذابح لن يتوقفان ، ببساطة جلقني الجريمة لا البلدة لم تحرجهم ! فقد توقفوا عن الحرج منذ وهلة ليست قريبة .. الوعي الباطن المتخن بجلد المثقف وأوبار السياسي الميكافيلي لم يعد يحتمل المسائلة وغباء الضحية.. ليتجرد متعرياً كما تعود أن يتعرى ولا تثقله قيود المجاملة والمساكنة والتعايش ، ليعود متخيراً إلى عزلته الطبيعية إلى كهف أوهامه المجردة. إلى صمته المزاجي وسكينته العصبية.
جلقني ليست مستوطنة ود النورة
مشكلة (جلقني) أنها ليست مستحيلة ، ليست عصية في أطياف حُلم مثقف القبيلة (الاشوس) وتعلقاته الطبقية نحو الآخر المستحيل ، نحو النموذج الأعلى (ترجمة جابر عصفور) ، نحو الثقافة العليا بتعبير شارلس تايلور الأصلي ، مثقف القبيلة المصدوم بحرقة مكبوتة ومكتومة من فقدان الفردوس الأصلي ، الذي تم حرمانه بقسوة من إرتياد الكمباوند - الكمبرادوري ، من أن يكون شمالياً ؟
اي مُركب عُقدة تلك ؟ عقدة أوديب أم عقدة إلكترا التي أصابت كل المهمشين المطوفين من قبل في ردهات الصدمة إن لم تكن قارعة الجنون؟ أهي ذاتها صدمة النبي الأعزل - تروتسكي والمهاتما الطريد - محمد احمد المهدي؟
حروب التخلص من مساومات نخب الهامش (السودان غير المفيد) في المينوبول (الخرطوم) منذ عبدالله تورشين 1885 مروراً بالتخلص من نخبة الخلاسيين (اولاد ريف) والكريول (الملكية) مزدوجاً 1924، مروراً بالتخلص من النخبة الجنوبية وفقرة الوضعية الخاصة للجنوب one state two regimes 1955 ، مروراً بالتخلص من إلتزامات أكتوبر 1964 في مذابح إنتهت بتصفية وليم دينق 1968 ، مروراً بالتخلص من إتفاقيات أديس أبابا 1972 ونيفاشا خلال حروب 2012 و1983 ، وحتى التخلص من تأثير وحضور شخصيات محسوبة على الهامش مثل حسن الترابي 1999 ، التي أجملها القاضي أبل الير في كتابه الأثير عن القوميين الشماليين ونقض العهود (التمادي في نقض العهود).
حروب التخلص من المساومة السياسية والمُشاركة في عقلية القوميين الشماليين والأنتلجنتسيا الكمبرادورية المحتكرة ، أصابت نخبة قوة الدعم السريع وإثنيته السياسية بالصدمة ، صدمة الإبعاد من النادي السياسي الكولونيالي (الفردوس النخبوي المفقود) ، تبعتها متلازمة ستوكهولم Stockholm فنزعت إلى شراء إعتراف النخبة الشمالية وصكوكها من خلال وثيقة الإتفاق الإطاري الذي لم يتفاوض عليه أحد ولم يناقشه احد ولم يتفق عليه الناس غض النظر عن أية محمدة في محتواه أو إشكالية النوايا السيئة وغير الحسنة في الأخذ به أو رده.
ماحدث في مستوطنة (كيبوتز) ود النورة الزراعي القروية ، التي يعكس وجودها المعماري من الأساس التفاوتات الهيكلية والإجتماعية في هذا البلد بين نموذج (الكيبوتزات) الذي تمثله - ود النورة و(الدامرات) التي تتعرض للقصف الجوي أو (الكنابي) في الفاو مثلاً التي تعرضت لتصفيات عنصرية دون إهتمام في بيانات حقوق الإنسان أو التعاطف الزائف والمطفف في أجندة النخبة التمييزية حتى في موت البشر وقتل الناس جملة.
التعقيب السياسي من - القيادة- , الإهتمام الإعلامي من الحاشية الذي حول مصادمة أهلية مسلحة مع قوات شبه عسكرية إلى مسألة رأي عام كإستثناء في الممارسة السياسية ودالة السلوك التنظيمي لقوة الدعم السريع نفسه ، رغم الخلفية الصدامية والصراعية للموضوع (رفض إثنية زبونية لمؤسسة المركز / الكمبرادور أو قبيلة الكواهلة تعييناً الخضوع لسلطة الأمر الواقع الجديدة) من خلال تبني مقاربة النظام الذي كانت حاضنة إجتماعية له في المقاومة المسلحة والعزل الإجتماعي لمجتمع الجنجويد بعيداً عن أي سياق علائقي لخطاب مظلومية مضادة.
كان ذلك جزءاً من محاولة إرضاء مجتمعات السودان المفيد أو المركز ، وتكريس إستثناءها وتفوقها الطبقي على بقية المواطنين في مكاييل الظلم والعدالة المطففة التي ظلت مجتمعات الهامش تتجرعها بألم وصمت وقور.
متلازمة ستوكهولم في تبني العائلة السياسية لقدس RSF لقضايا مجتمعات المركز وهمومها ومظلومياتها الحقيقية والمتوهمة ليس من باب السلم الأهلي الإجتماعي وتوازناته ، بل من باب كسب رضا تلك المجتمعات منذ 2019 ، في مقابل إزدراء الشعور الجمعي لمجتمعات (جلقني) و (أم روابة) اللتين سلطت عليهما اراذل مجتمعات المقاتلين - الكيتش وأطلقت أيديهم عبثاً وتقتيلاً من غير رقابة ولا عناية اللهم إلا تحكيم ضمائر أولئك السفاحين من مليشيات الإستطلاع (أم باقة) سيئة السمعة ، بأنفسهم.
تطفيف لا يمكن لعين تخطأته في المعاملة ! ، في ام روابة و جلقني سؤال (المعاملة كيف..؟) ليس مطروحا من أساسه ، لأن معايير القيادة ومن وراءها العائلة السياسية مختلة ومزدوجة فهي لا ترجوا ولا يروعهم ولاء البلدتين حتى يشغلا مساحة من هامش إنشغالاتهم الجمة.
لم تغادر سيكولوجية العائلة السياسية للقوة شبه العسكرية ونخبته الإجتماعية متلازمة ستوكهولم وهي تسعى بغير عزة ذات ، خلف المنابر التفاوضية مع دولة 1956 وحتى عن موائد التنازلات عن الدماء الزاكية وتضحيات المهمشين أولئك المقاتلين البواسل والاشاوس حقاً الذين قامت على اكتافهم حرب 15 إبريل في منابر جدة والمنامة ، بدلاً عن الحوار المجتمعي المفتوح مع الإثنيات الوطنية المقاومة والمحايدة من الصراع مع دولة مابعد الإستعمار وتعهد مشاعرهم الجمعية ومظلومياتهم من ممارسات الحرب ومصالحهم اليومية.
لم يغادروا ذلك ، حتى دخلوا في مرحلة أعمق تعقيداً ، في عزلة عن المجتمعات الوطنية ، وهم الذين ليسوا حديثي عهد بالحرب و الصراع مع المركز ، في صدمات طبعت موقفهم النفسي - البارد من مسألة الإنتهاكات ، متلازمة جوسكا (Jouska) أو - صراع العقل الغريب The Odd Mind Conflict الذي أصاب جزءاً كبيراً من مقاتلي الدعم السريع خصوصا من نشطاءه الشباب الذين انخرطوا حديثاً وحثيثا في محافل النخبة السياسية وصدمتهم الحرب أكثر مما صدمتهم مواقف مجتمعات المركز الزبونية وغير الزبونية المنحارة ضدهم وبدون تفكير بشكل اتوماتيكي لمؤسسة القمع والعنف التاريخي (القوات المسلحة) ، كأن أولئك الشباب والفتية من الإثنية السياسية للدعم السريع اكتشفوا لأول مرة طبيعة الصراع الإجتماعي الطاغية على كل الإصطفافات والإنحيازات ، أو أنهم أمام دولة كولونيالية كلية الوجود ومتكتلة حول نظامها الإقطاعي.
النظرة السوداوية والتفكير السلبي غير المكترث بشأن مسألة الإنتهاكات أو إزدراء ألام ومظلوميات المجتمعات المحايدة في ظل الضغوط النفسية للمقاتلين أمام الآلة البربرية والهمجية لدولة 1956 ، هي ظلال متلازمتي جوسكا و سوساك Susac syndrome - المعاناة مع الماضي بالتذكر والنسيان في الآن نفسه ، على قيادة الدعم السريع و سلوكها المتناقض من قضايا الأمن الشخصي وحقوق الإنسان في الحرب بين مجتمعات الهامش كمجتمات ضد مجتمعات ، وبين مجتمعات الهامش في مواجهة مجتمعات المركز.
أوليس حميدتي - محمد حمدان دقلو ، هو الذي قال في ليلة فقدانه لموسى قارح وآلاف الرفاق (لم يعد لدينا ما نخسره ! ) ؟
**
هل ثورة المهمشين كانت دائماً صدمة الأنبياء المطرودين من كارتيل الخرطوم وفردوسها النخبوي؟
عُقدة الدهشة أم عقدة الذهول - الإنشداه ؟؟
اي نفساني لعين psychologist هذا الذي صنع عقدة عبدالله التعايشي من هاتيك المدينة التي نبذته قبل أن يتهيأ له ملكه وبعد - أربعة عشر عاماً؟
صدمة الترابي التي جعلت منه مثقفاً مضاداً counter Intellctual تسع وثلاثين عاماً ، و نبياً أعزلاً مذهولاً في خصومة اللصوص الذين قال عنهم يوماً إنهم هبة السماء .. لعقد ونصف؟
من متوالية ثورات الطرداء ، التي لم تكن حرب 15 إبريل 2023 آخر تطوافها.
**
مشكلة ثورة المهمشين - الأنبياء المنبوذين من المدينة التي تطوّب لصوصها بماءها المقدس ، الذين يلوذون بالهامش حيث Tribal area أحراش القبيلة بتعبير اللورد هايلي Hailey في غانا (1947) ، أنها كما في تعبير إلكس دي وال .. الثورة التي لا / لم يُردها أحد (في الغرب) .
هل ذات الغرب اللعين يقرأ من مزامير كنائس أكسوم في جبال تغراي الشاهقات عن خراب سوبا ، كما تقرأ كنائس أثينا نبوءات القديس ميثوديوس Methodius - عن خراب الإسكندرية ؟ (أدب الأبوكالبيس : عبدالعزيز رمضان).
هل يغترف من مراياهم عن إثيوبيا المقدسة دولة الكنيسة الوحيدة الأصيلة في إفريقيا .. أن بقايا البطلموس - كارتيل الجلابة هم المسيحيون المتخفين الذين يرسمون الصليب في النهر خلسة حين طقوس العبور والزواج أو المورسكيين المسيحيين بتعبير معاكس؟ (ترجمان الملك : فضل الله).
هل لا يريد الغرب الأوروبي فعلا ميلس زيناوي آخر أو لتلك الحيثيات ، ماو يزحف من الريف (جغرافيا التهديد) إلى المدينة - جغرافيا الخوف ؟.
كان بوسع قيادة القوة شبه العسكرية وعائلتها السياسية بدلاً عن تبني مسارات الإنسداد ، مسارات حروب الإرهاب الثوري والتمرد لا الثورة وما بينهما من شقة أكبر من قدرة تأويل أو عِرافة سياسية على ردم هوتها بالتبرير أو التبسيط ، مسارات البحث عن إكتساب شرعية دولة 1956 كينونة الأمر الواقع de facto غير التمثيلية والكارزماتية غير العقلانية (ماكس فايبر) ، بالتفاوض ومساومة مُخلفات الإستعمار التركو مصري 1820 ، كان بوسعهم استعراض التاريخ الإنساني المعاصر بأفق أوسع من الإيغال في المحلية وإعادة إنتاج العطب التاريخي لمازق الإستعمار ونظامه الإجتماعي للحرب ، مأزق الإمتيازات والعنف والإنفصال عن الواقع الإجتماعي ، كان بوسعهم الحوار مع المكونات الإثنية الوطنية العقارية وغير العقارية (التي لا تملك أراضي - الأقليات) وإنتاج شرعية وسلطة تمثيلية بنسبة غالبة تتخطى ممانعة المقاطعين الذين ستتجاوزهم المساومة السياسية ، كان بوسعهم بناء ألف حاضرة ميتربوليتانية أو كوزوموبوليتانية حتى ، غرباً في جغرافيات السودان غير المفيد أو جغرافيات التهديد أو هامش الآخر أو أحراش القبيلة بتعبير لورد هايلي المذكور ، بدلاً عن منازعة سوبا الخربة التي لم تتسع لأحد غير لصوصها المطوبين وحتى عاهراتها المبجلات.
تواطؤ المثقف ميكافيلي وصدمة الأمير
جريمة جلقني الأولى (الإنكار) والثانية (الصمت) ، هي شاهد على تواطؤ المثقف المجتمعي في كل الأحوال - مثقف القبيلة في تعبير ومقارنة أخرى ، (الخيانة الثقافية) cultural collusion أو (خيانة الضمير الذاتي) ، وتساقط أقنعته أو تهافته عقلانياً وفلسفياً أمام مصالحه الطبقية ، وكيف به أن ترهقه الحقيقة حتى يلتجئ للممانعة النفسية والعقلانية لميكانيزمات الدفاع الذاتي المتحايلة ، ولا يفترض به أن ترهقه الحقيقة.
فموقف عبدالرحيم حمدان دقلو من إغلاق التحقيق في ملف الإغتصابات التي وثقت بعضها صوتاً وصورة في نقاط التجمع والتفتيش في أحياء كافوري وبحري وغيرها من الأشهر السبعة الأولى للحرب 2023 ، حتى بعد مظاهرات جمعة الكرامة في جنوب الخرطوم وما أعقبه من تشكيل لجنة (المظاهر السالبة) التي فرض عليها تابوهاته وقيوده المسبقة قبل تشكيلها برئاسة عصام فضيل ، حول إنكار مسألة الإغتصابات جملة وتفصيلاً من حيث المبدأ ، ورفض التحقيق فيها ، في حيثياتها النفسية الثقافية المعروفة بالنظام الإجتماعي للحرب والنظام الأخلاقي لمجتمعات مقاتليه (مجتمعات الحرب المساندة) الذي لا يرى في السرقة أو التسري خطيئة من أساسه تستوجب التحريم ، حيثياتها القانونية التي تتواثق الشواهد الآنية والتاريخ العملياتي لقوة الدعم السريع في ممارسة تكتيكات التطهير العرقي ومنهجية الإبادة من منظور صراعولوجيا قبلية ، حيثياتها السيسيولوجية حول التعطش الجنسي للمقاتلين في كل الحروب على مدار التاريخ ، الأمر الذي أفرغ لجنة عصام فضيل التي لم تخلص إلى أي تقرير جنائي ولا محاكمات ميدانية ، من سمعتها القضائية وسلطاتها المخولة أو شرفها الأخلاقي ، إلى لجنة إدارية بلا صلاحيات ولا سمعة.
ذلك الموقف كان مثالاً على تواطؤ المثقف وخيانته الثقافية التي لم تتحسس من تسييس حقوق الإنسان ومسألة الإنتهاكات والتصويب الإعلامي من بروباغندا النظام السابق ، بقدرما كانت تتحسس من ثمن المساومة الإجتماعية (الوصمة) والإبتزاز الإجتماعي ، وتستخدم وعيها الطبقي ومعرفتها القبلية في التهوين والإستخفاف بحياة البشر وتعريض الأمن الشخصي للمجتمعات غير المسلحة في نطاق السيطرة.. تهديد الأمن الشخصي لمئات النساء.
مثله مواقف منصور خالد الذي قال في معرض تفعيل ميكانيزمات الدفاع الذاتي إن الأنتلجنتسيا الشمالية ليست مضمرة للشر بسوء نية لكنه عجز عن تجرع الحقيقة انها من مخلفات الإستعمار ومجتمعات الحرب في منظومته الإقطاعية الحديثة (الأوروبية) ولا يمكنها أن تفرز ثورة وطنية ديمقراطية تستهدفها في الحقيقة بالإزالة والتصفية ، ومرة أخرى حين وصف إسترقاق النساء بالأسر القبلي في حروب الدينكا والنوير الذين كان يدافع مترافعا عن إثنيتهم السياسية وكفاحهم الطبقي ، في مقابل غازي سليمان المحامي الذي أنكر في محافل حقوق الإنسان الدولية مظاهر الرق في علاقات الصراع بين البقارة (العطاوة) الإثنية الزبونية وقتها لدولة 1956 والمونجانق (الدينكا) بما في ذلك مذبحة الضعين.
كان المثقفين الشماليين المتواطئين الخائنين ثقافياً دائماً ما يتلقفون العبقريات التحريفية والتبريرية لماضيهم المتواطئ مع الإستعمار الرأسمالي المركنتيلي (التركو مصري) تجاه الشعوب الأكثر تخلفاً من ناحية نمط الإنتاج والمستضعفة للتخلص من عقدة الذنب من خلال محاولة تبرير البنى غير الرأسمالية في مجتمعاتهم مثل القنانة العمالية والقنانة المسلحة أو تبني أيدلوجية هروب من أسئلة الماضي والمستقبل.
تساقطت أعذار مثقف القبيلة الاشوس ، تعاظمت إمتحاناته أمام إسقاطات إشكالية العلاقة بين البقاري (العطاوة) والفولان في الصراع المسلح ، لم يعد لخطاب الحرب الأهلية أو سرديته الكبرى قيمته الإستهلاكية ذاتها ، في إنتظار خروج ذلك المثقف الاشوس من خباء التبرير أو سوق المساومة اللااخلاقية إلى مهمة لم يخبرها (العمل).
جلقني تتعزى بمن؟
[لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفا]. متى 10 : 34.
هل يتوقف سلسال الدم الذي غمر جلقني عن معاقبة الضحايا وتخليصهم من خطيئتهم الأولى خطيئة التعايش مع دولة 1956 ؟
أو هل يكف حميدتي- محمد حمدان دقلو عن عزلته الزاهدة في خطيئة المحايدين من الصراع ؟ الذين لم يختاروا الإيمان بالثورة ولم تكن أحب إليهم من زهدهم في الكرامة الإنسانية والعدالة الأرضية حتى يمنحهم غفران الأنبياء الطرداء والأنبياء المقاتلين ، غفران النبي يعقوب ؟.
*نشرت برفقة الترجمة الفرنسية للأستاذ علوي حمزة.
northernwindpasserby94@gmail.com