أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
من المفاهيم التي قد يشوبها اللبس هو الادعاء بأن التجربة لا توصل إلى اليقين والقطع، والواقع أن ذلك ليس صحيحًا على إطلاقه، فالتجربة والملاحظة وسيلتان توصلان إلى اليقين والقطع إذا لم يتم تعميم نتائجهما، فمثلًا عندما نقول إننا شاهدنا بأدوات الرصد المختلفة أنَّ الأرض كروية، فإنَّ هذه التجربة وهذه النتيجة هي يقينية لا شك فيها ولا لبس؛ إذ إن الحس أحد وسائل المعرفة البشرية، لذا فإنَّ هذه النتيجة قطعية إذا تم التحقق من صحة الأدوات المستخدمة، أما تعميم نتيجتها فهذا هو الذي لا يمكن أن نصل فيه إلى اليقين، كأن نقول بأن كل الكواكب كروية بناء على كروية الأرض، ولذا التفريق بين الأمرين مهم، وتعميم القول إن التجربة لا توصل إلى اليقين هو تعميم في غير محله.
أسرد هنا مثالين على ذلك من تاريخنا الإسلامي يوضحان كيف أن التجربة حسمت الخلاف في مسألتين علميتين مرتبطتين بالطبيعة، فلقد اختلف علماء المسلمين بل وحتى مفسري القرآن الكريم في مسألة كروية الأرض وتسطحها، فذهب جمع منهم إلى القول بتسطحها، فقد أورد القرطبي في تفسيره لقوله تعالى في سورة الرعد "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ" (أي بسط الأرض طولا وعرضا)، وفي هذه الآية رد على من زعم أن الأرض مثل الكرة، وكذلك الماوردي عندما قال ("وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ" أي بسطها ردًا على من زعم أنها مستديرة كالكرة). وذكر ابن حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط عند تفسير قوله تعالى في سورة نوح "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا" (بساطًا وظاهره أن الأرض ليست كروية؛ بل مبسوطة).
ويقول القحطاني في نونيته:
كذب المهندس والمنجم مثله // فهما لعلم الله مدعيان
الأرض عند كليهما كروية // وهما بهذا القول مقترنان
والأرض عند أولي النهى لسطيحة // بدليل صدق واضح القرآن
والله صيرها فراشا للورى // وبنى السماء بأحسن البنيان
والله أخبر أنها مسطوحة // وأبان ذلك أيما تبيان
وقال الإمام الشوكاني في "فتح القدير" إنَّ "مددناها" تعني بسطناها وفرشناها على وجه الماء، كما في قوله "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا" وفي قوله "وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ" وفيه رد على من زعم أنها كالكرة. ويقول الشيخ يوسف البحراني في كتابه المعروف بـ"الحدائق": "ومما يبطل القول بالكروية، أنهم جعلوا من فروع ذلك أن يكون يوم واحد خميسًا عند قوم وجمعة عند آخرين وسبتا عند قوم وهكذا وهذا من ما ترده الأخبار المستفيضة في جملة من المواضع .... وبالجملة فبطلان هذا القول بالنظر إلى الأدلة السمعية والأخبار النبوية أظهر من أن يُخفى، وما رتبوه عليه في هذه المسألة من هذا القبيل، وعسى إن ساعد التوفيق أن أكتب رسالة شافية مشتملة على الأخبار الصحيحة الصريحة في دفع هذا القول إن شاء الله تعالى".
ومقابل هؤلاء، نجد عددا آخر من المفسرين وعلماء المسلمين يذهبون إلى كروية الأرض، منهم فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" في تفسير قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ..."؛ إذ يقول "المدُّ هو البسط إلى ما لا يُدرك منتهاه، فقوله: "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ" يُشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجمًا عظيمًا لا يقع البصر على منتهاه؛ لأن الأرض لو كانت أصغر حجمًا مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع بها... والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح".
ويقول ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل": "بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها.. قال الله عز وجل: "يكوِّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل".. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، مأخوذ من: (كوَّر العمامة..) وهو إدارتها، وهذا نص على تكوير الأرض...". وورد عن الشيخ المفيد في أوائل المقالات "الأرض على هيئة كرة في وسط الفلك".
لكن هذا الجدل والخلاف تم حسمه اليوم، فلا يمكن لمفسر للقرآن الكريم أن يدعي أنَّ القرآن الكريم يقول بتسطح الأرض ويطرحها كحقيقة علمية أو يأتي عالم من العلماء وينفي كروية الأرض، والسبب في ذلك أننا توصلنا إلى هذه المعرفة العلمية من خلال الرصد والتجربة المباشرة لا من خلال استخدام منهج الاستقراء الذي يشكل عليه بأنه لا يوصل إلى اليقين- كما يتبنى ذلك عدد من الفلاسفة والمفكرين- ولذا نقول التجارب التي تم التحقق من صحتها تجارب حاسمة تولد اليقين والقطع.
وإذا كان هناك خلاف في مسألة كروية الأرض، فإنَّ علماء الإسلام ومفسري القرآن الكريم -فيما مضى- كادوا يجمعون على سكون الأرض وثباتها، يقول القرطبي في تفسيره (والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها). كما قال عبد القاهر البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق": "وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها، وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها".
ويقول الشيخ المفيد في أوائل المقالات "وهي ساكنة- أي الأرض- لا تتحرك وعلة سكونها أنها في المركز"، واعتبرها الفخر الرازي ساكنة غير متحركة.
بينما يجمع العلماء اليوم على حركة الأرض؛ بل إن بعض المتأخرين من المفسرين أشاروا إلى أن النص القرآني يشير إلى حركة الأرض، فيقول السيد الخوئي في البيان في تفسير القرآن إن آية "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا"، تشير إلى حركة الأرض ولم تتضح إلّا بعد قرون؛ فالمهد يهتز بنعومة لينام فيه الطفل مستريحًا هادئًا وكذلك الأرض مهد البشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية.
نلاحظ هنا أن المتقدمين من المفسرين والعلماء اتجه رأي غالبيتهم بحيث جعل البعض يدعي الإجماع على أن الأرض ساكنة وغير متحركة، بينما نجد أن هذا الرأي على الرغم من ادعاء الإجماع عليه لم يعد مقبولًا اليوم ويجمع العلماء والمفسرون على أن الأرض غير ساكنة؛ فالتجارب حاسمة وتُوصِل إلى اليقين والقطع، ما لم يتم تعميم نتائجها.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حكم قراءة سورة الفاتحة وأول سورة البقرة بعد ختم القرآن
اجابت دار الافتاء المصرية عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم قراءة سورة الفاتحة وأول خمس آيات من سورة البقرة بعد ختم القرآن الكريم؟".
لترد دار الافتاء موضحة: انه يستحب للقارئ إذا فرغ من ختم القرآن الكريم أن يقرأ سورة الفاتحة وأول سورة البقرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا أن قراءتهما من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين في كافة الأمصار.
أخبرنا سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ قراءة سورة الفاتحة وأول سورة البقرة بعد ختم القرآن الكريم من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى؛ قال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان" (2/ 714-715، ط. مجمع الملك فهد): [يُسَنُّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم؛ لحديث الترمذي وغيره: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؛ الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»، وأخرج الدانيُّ بسند حسن عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام] اهـ.
وقد جرى على ذلك عمل الناس، وصح ذلك من قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 30، ط. دار عالم الكتب): [ومن حرمته: أن يفتتحه كلما ختمه؛ حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات؛ لئلا يكون في هيئة المهجور، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ، قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْقُرْآنِ؛ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي أَوَّلِهِ؛ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر في القراءات العشر" (2/ 411، ط. المطبعة التجارية الكبرى): [قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طيق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة ﴿وَالضُّحَى﴾ مع فراغه من كل سورة إلى آخر ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى (الحال المرتحل)، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة؛ جاءت من آثار مروية ورد التوقيف بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين] اهـ.
ثم قال ابن الجزري (2/ 444): [وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين؛ في قراءة ابن كثير وغيرها، وقراءة العرض وغيرها، حتى لا يكاد أحد يختم إلا ويشرع في الأخرى؛ سواء ختم ما شرع فيه أو لم يختمه، نوى ختمها أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم، ويسمون مَن يفعل هذا (الحال المرتحل)؛ أي الذي حلّ في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى] اهـ.
وعند الحنابلة: يستحب للقارئ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لكنهم نقلوا عن الإمام أحمد المنع من قراءة الفاتحة وأول البقرة، مع نصهم على أنَّ القارئ إن فعل ذلك فلا بأس:
قال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (1/ 605، ط. المكتب الإسلامي): [ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى؛ لحديث أنس رضي الله عنه: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ: الْحِلُّ وَالرِّحْلَةُ»، قيل وما هما؟ قال: «افْتِتَاحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ».. (ولا يقرأ الفاتحة وخمسًا) أي: خمس آيات (من) أول (البقرة عقب الختم نصًّا)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 449-450): [لا نقول إن ذلك لازم لكل قارئ، بل نقول كما قال أئمتنا فارس بن أحمد وغيره: من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه] اهـ.
وقد ذكر الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله في كتابه "المغني" (2/ 126، ط. مكتبة القاهرة) أن أبا طالب صاحب الإمام أحمد قال: [سألت أحمد: إذا قرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ يقرأ من البقرة شيئًا؟ قال: لا. فلم يستحب أن يصل ختمة بقراءة شيء. انتهى. فحمله الشيخ موفق الدين على عدم الاستحباب، وقال: لعله لم يثبت عنده فيه أثر صحيح يصير إليه. انتهى.
وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يكون فهم من السائل أن ذلك لازم، فقال: لا، ويحتمل أنه أراد قبل أن يدعو؛ ففي كتاب "الفروع" للإمام الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي: ولا يقرأ الفاتحة وخمسًا من البقرة، نص عليه، قال الآمدي: يعني قبل الدعاء، وقيل: يُستَحَبُّ. فحمل نص أحمد بقوله (لا) على أن يكون قبل الدعاء، بل ينبغي أن يكون دعاؤه عقيب قراءة سورة الناس كما سيأتي نص أحمد رحمه الله، وذكر قولًا آخر له بالاستحباب. والله أعلم] اهـ.
وقال العلّامة إسماعيل حقي البروسوي في "روح البيان" (10/ 425، ط. دار إحياء التراث العربي): [رُويَ عن ابن كثير رحمه الله أنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ قرأ سورة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأن هذا يُسَمَّى (الحالَّ المُرْتَحِلَ)، ومعناه: أنه حلَّ في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى؛ إرغامًا للشيطان، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين، في قراءة ابن كثير وغيرها، وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن مَن قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك؛ فلم يَسْتَحِبَّ أن يصل ختمه بقراءة شيء، ورُوِيَ عنه قولٌ آخرُ بالاستحباب] اهـ.