مسقط-أثير
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي

عُرف عن العمانيين تفاعلهم مع القضايا العربية والإسلامية المختلفة، بل ومشاركتهم في بعض أحداثها منذ بدء دعوة الرسول الكريم وحتى قضايا المنطقة الأخيرة، وذلك من منطلق التكامل العربي الإسلامي، ومن منطلق لحمة الصف العربي والإسلامي وأن المسلم للمسلم كالبنيان.

وتعد القضية الفلسطينية من أهم القضايا التي تفاعل العمانيون معها – وما يزالون- واقتربوا من أحداثها، بل وشاركوا بقوة في دعم صمود أبناء فلسطين وتقوية شوكتهم، وذلك منذ أحداث السابع من شهر يوليو من عام 1937م وبعد مرور 19 عاما على وقوع الانتداب البريطاني على فلسطين، عندما شكلت الحكومة البريطانية في شهر أغسطس من عام 1936م لجنة تحقيق بريطانية برئاسة اللورد روبرت بيل سميت اللجنة لاحقا باسمه “لجنة بيل”، بغرض دراسة الأسباب الأساسية لانتفاضة الشعب الفلسطيني في أبريل من عام 1936م والتي توصلت إلى قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة عربية وأخرى يهودية مع بقاء القدس وبيت لحم والناصرة تحت الانتداب البريطاني.

وعلى الرغم من الظروف التي كانت تعانيها عُمان في تلك الفترة، وضعف وسائل الاتصال والتواصل، إلا أن العمانيين قد عبّروا من خلال الوسائل المتاحة وقتها عن رفضهم لفكرة التقسيم، وتمسكوا بعروبة فلسطين، وقد ظهر هذا التفاعل من خلال العديد من المراسلات والأخبار التي نشرتها بعض الصحف العربية، وكذلك تقديم التبرعات لأهل فلسطين.

وعندما حدثت نكبة عام 1948م ومن بعدها أحداث 1956م ونكبة حزيران 1967م ونصر أكتوبر المجيد عام 1973م لم يكن أهل عمان على طرفي امبراطوريتها العريقة ببعيدين عن تلك الأحداث كذلك، فتفاعلوا معها كما تفاعلوا من سابقتها، وامتد دعمهم وتأييدهم المادي والمعنوي، وصدحت أشعارهم وخطبهم معبّرةً عمّا يجول في خاطرهم تجاه فلسطين، بل وشارك بعضهم في أحداث تلك الحروب أسوةً بإخوانهم العرب.

وعندما بزغ فجر نهضة 23 يوليو 1970م  لم تتغير السياسة العمانية الخارجية تجاه فلسطين، بل كانت القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام، وعبّرت سلطنة عمان من خلال وفودها ومشاركاتها الإقليمية والدولية عن دعم حق الفلسطينيين، وفي حرب 1973م تبرع الموظفون بجزء من رواتبهم لصالح الحرب، وتم إنشاء مكتب المقاطعة الإسرائيلية ملحقًا بوزارة التجارة والصناعة، كما تبرعت حكومة سلطنة عمان بالعديد من المشاريع الخيرية والخدمية لصالح الشعب الفلسطيني.

“أثير” في هذا التقرير تستعرض جانبًا من العلاقات العمانية الفلسطينية، وتتوقف عند بعض المحطات الخاصة بتفاعل العمانيين في عمان وشرقي أفريقيا مع القضية الفلسطينية، مع التركيز على الحقبة السابقة لعام 1970م نظرًا لتوسع الموضوع وحاجته إلى عدد من التقارير وبالأخص فيما يتعلق بتفاعل العمانيين مع القضية الفلسطينية بعد عام 1970م والذي قد يكون عنوانًا لاحقًا في الوقت القريب.

العلاقات العمانية الفلسطينية:

تعود بدايات العلاقات العمانية الفلسطينية الحديثة إلى مطلع القرن العشرين عندما رغب السلطان تيمور بن فيصل في تطوير بعض المؤسسات الإدارية وبالتالي الاستعانة ببعض الخبرات العربية والآسيوية، ثم حذا السلطان سعيد بن تيمور حذو أبيه السلطان تيمور في الاستعانة ببعض الشخصيات غير العمانية في المجالات المختلفة، حيث يشير ويندل فيليبس في كتابه ” تاريخ عمان” إلى مقولة للسلطان سعيد: ” إذا لم يكن لدي اكتفاء ذاتي في سلعةٍ ما، أو أحدث أساليب التنمية، فإنني أسافر لأستوردها من الخارج.. ونفس الشيء بالنسبة للتخصصات من الرجال التي لا تتوافر في عمان فإنني أذهب إلى مصدرها لأحصل عليها”.

وقد برز عدد من الشخصيات الفلسطينية وبالأخص في المجال التربوي حيث أسهم عدد منهم في النهضة التعليمية الحديثة بالسلطنة والارتقاء بها، ومن بينهم: الناظر ثم الوالي إسماعيل بن خليل الرصاصي، وفخري الخطيب، وجمال حميد، ورشاد أبو غريبة، وأنور الخطيب التميمي، وغالب النقشبندي، وحسني نجيب، وعلي القاضي، وتوفيق عزيز، ومحمود بركات، ورمزي مصطفى، والصوّان، وغيرهم. ولعل السبب يعود إلى النهضة التعليمية التي كانت فلسطين قد شهدتها منذ أواخر القرن التاسع عشر ووجود العديد من المدارس والكليات التعليمية بها.

ويذكر الوالي إسماعيل بن خليل الرصاصي في معرض حديثه عن أسباب قدومه إلى مسقط في عام 1928م للعمل في المدرسة السلطانية الأولى أنه ” في شهر أكتوبر 1927 وزعت إدارة معارف فلسطين منشورًا على المدارس تسأل من يرغب أن يعمل مديرًا لمدرسة مسقط، فقدمتُ طلبًا رغبةً في زيادة الراتب وحبًا في المغامرة لرؤية البلاد الأخرى، وتمت الاتفاقية على الرغبة”.

 

في المدرسة السلطانية جلوسًا من اليمين: إسكندر حنا، والسيد هلال بن بدر، والشيخ الزبير بن علي، وإسماعيل الرصاصى وخلفهم يقف عدد من مدرسي المدرسة. أرشيف صور إياد الرصاصي

 

زيارة السلطان سعيد بن تيمور إلى القدس

في 17 أبريل 1944م وصل السلطان سعيد بن تيمور إلى القدس عن طريق القطار قادمًا من القاهرة، في زيارة وصفتها الصحف الفلسطينية التي تناولت أخبار الزيارة بأنها شخصية، حيث حل السلطان في فندق الملك داود.

وقد التقى السلطان سعيد أثناء زيارته للقدس بعدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية البارزة، وقناصل الدول الشرقية، كما زار عددًا من المعالم المعروفة بالقدس وخارجها، كمدينة بيت لحم، حيث رافقه خلال الجولة أنور الخطيب التميمي الذي عمل مدرسًا ومديرًا للمدرسة السعيدية خلال السنوات الأولى من أربعينيات القرن الماضي، وقام وقتها بإعداد منهج خاص بالتاريخ العماني لطلبة المدرسة السعيدية.

خبر منشور في جريدة الدفاع الفلسطينية بتاريخ 18 نيسان 1944 خبر منشور في جريدة فلسطين الفلسطينية بتاريخ 19 نيسان 1944

فلسطين في المراسلات العمانية الشخصية:

حفلت العديد من الرسائل الشخصية المتبادلة بين عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية العمانية، بأخبار فلسطين والأوضاع السياسية فيها، وحرص العديد من تلك الشخصيات على اقتناء أجهزة المذياع على قلّتها في تلك الفترة، والاشتراك في عدد من الصحف العربية وذلك للوقوف على حالة فلسطين ومعرفة الأوضاع الدائرة فيها، وكانت القضية الفلسطينية تحتل حيزًا مهمًا من أخبار العمانيين في جلساتهم ولقاءاتهم.

ونعرض هنا لمقتطفات من بعض المراسلات الشخصية العمانية تناولت في جانبٍ منها أحوال فلسطين، حيث يظهر من خلال تلك المراسلات اللهفة والقلق على الأوضاع هناك، والإشادة ببعض المواقف الإنسانية التي سلكها أهل فلسطين تجاه أسرى العدو وعدم التمثيل بهم كما كان يفعل الطرف الآخر، وكذلك التفاؤل بقيام الحكام العرب بتوحيد الصف العربي والاستعداد لطرد اليهود من فلسطين. ومن بين تلك المقتطفات:

عمان وفلسطين في الوثائق البريطانية:

حملت لنا التقارير الإنجليزية الخاصة بالوضع في عمان خلال النصف الأول من القرن العشرين وتحديدًا خلال فترة الثلاثينات والأربعينات منه، أخبارًا عن اهتمام عدد من الشخصيات العمانية القبلية والإدارية البارزة بالقضية الفلسطينية، فقد تضمنت وثيقة منشورة بمكتبة قطر الرقمية ضمن ملف بعنوان “ملف ٣٢/١١ اللجنة الملكية المعنية بفلسطين” يحتوي على مراسلات بين مسؤولين بريطانيين بخصوص ردود الفعل في عُمان وفلسطين ومنطقة الخليج بشكل أعم، على الأحداث في فلسطين، تحت رقم استدعاء IOR/R/15/6/379، مراسلة بين القنصلية البريطانية في مسقط والمعتمدية البريطانية في بوشهر بتاريخ 22 نوفمبر 1938 حول تداعيات قضية فلسطين في مسقط، حيث أشار القنصل البريطاني في مسقط إلى أن إسماعيل بن خليل الرصاصي المسؤول الفلسطيني الذي يتولى منصبًا كبيرًا في حكومة مسقط، قد شكّل “خلية” في مسقط، وأن كراهيته الشديدة لكل ما هو بريطاني قد أتاحت له التأثير على عدد قليل من الأشخاص في مسقط، غير أن هؤلاء لم يكن لهم تأثير كبير على الرأي العام أو على السلطان.

وفي الملف “مجموعة ١٦/٢٠(١) “مسقط: يوميّات: أخبار وملخصات استخباراتية” المنشور في مكتبة قطر الرقمية تحت رقم استدعاء IOR/L/PS/12/2972، وفي الفقرة (301) من ملخص تقرير مسقط الاستخباري عن الفترة من 1 حتى 15 أكتوبر 1945، هناك خبر يشير إلى أن الشيخ علي بن عبد الله آل حموده والشيخ عيسى بن صالح الحارثي من الشرقية زارا المعتمد السياسي البريطاني خلال الأسبوعين الماضيين، وأبدى كلٌ منهما قلقه حول الأحداث الأخيرة في فلسطين.

وفي الملف “مجموعة ١٦/٢٠(٢) مسقط: يوميّات وأخبار وملخصات استخباراتية”، المنشور في مكتبة قطر الرقمية تحت رقم استدعاء IOR/L/PS/12/2973A، وفي الفقرة (336) لأخبار عام 1947، هناك خبر عن عودة الشيخ هاشل بن راشد المسكري رئيس تحرير صحيفة الفلق إلى زنجبار، ودعوته للعمانيين أن يساعدوا مسلمي فلسطين.

موقف أهل عمان من مشروع تقسيم فلسطين

تفاعل العديد من الشخصيات العمانية مع مشروع قرار تقسيم فلسطين في عام 1937م وقد أوردنا عددًا من التقارير والمراسلات التي تشير إلى ذلك، كما حملت لنا أخبار بعض الصحف العربية الصادرة في ذلك الوقت أخبار معارضة أهل عمان لقرار التقسيم، فقد أوردت جريدة “الجامعة الإسلامية” في عددها رقم (1346) الصادر بتاريخ 7 سبتمبر 1937، خبرًا عن احتجاج أهالي مسقط والبحرين على مشروع تقسيم فلسطين: ” نحن سكان مسقط نشارك إخواننا أبناء فلسطين سكان المناطق المقدسة ونؤازر العالمين العربي والإسلامي في الاستنكار الشديد والاحتجاج الصارخ على قرار اللجنة الملكية القاضي بتقسيم فلسطين وتمزيقها، ونطلب إلغاء ذلك القرار وجعل فلسطين لأهلها العرب”، ويورد الخبر أنه قد وقّع على البرقية زهاء 50 عالمًا ووجيهًا من مسقط.

كما أشارت جريدة (الشباب) التي كانت تصدر من القاهرة إلى ذلك الخبر حيث نشرت الجريدة في 19 سبتمبر 1937م خبرًا بعنوان ” أهالي مسقط والبحرين ومشروع التقسيم”، أشارت فيه إلى البرقية التي أرسلها سكان مسقط إلى وزير المستعمرات البريطانية بهذا الخصوص ووقّع عليها حوالي 50 شخصية من شخصيات مسقط وعمان.

موقف العمانيين في شرقي أفريقيا من قضية فلسطين:

تفاعل العمانيون والعرب والمسلمون في شرقي أفريقيا بصورة واضحة مع القضية الفلسطينية منذ مشروع قرار تقسيم فلسطين في يوليو 1937م وحتى يوم النكبة في عام 1948م وقد حملت لنا الصحف العربية التي كانت تصدر في زنجبار ومصر وفلسطين العديد من الأخبار عن ذلك التفاعل الذي حمل أشكالًا عدّة، فقد تم تأسيس لجنة لنصرة وإعانة فلسطين برئاسة السيد سيف بن حمود، وأقيمت الوقفات لصالح القضية الفلسطينية، كما تم جمع التبرعات من مختلف أطياف المجتمع هناك، ولم تكن الصحف العربية الصادرة هناك كالفلق مثلًا تخلو من مقال أو خبر أو إعلان يخص القضية.

 وقد أوردت جريدة (الشباب) التي كانت تصدر من القاهرة في عددها الصادر بتاريخ 7 يوليو 1937م مذكرة من أوغندا تتضمن رسالة من شخصية عمانية يقطن في كمبالا ويدعى خالد بن سعيد المعولي بعث بها إلى لجنة التحقيق الملكية البريطانية بلندن، وفيها يشير إلى أنه يتابع بقلبه ما يحدث في فلسطين بكل تلهف ويرجو أن تقوم اللجنة بإنصاف العرب في فلسطين، وأنه يروعه طلب اليهود تقسيم فلسطين لأن حق العرب في البلاد لا يقبل البحث والمناقشة، وأنه يخشى أن يؤدي هذا الطلب إلى إثارة سخط العرب في العالم أجمع.

وفي عددها الصادر بتاريخ 19 يناير 1938م نشرت جريدة (الشباب) مقالًا لكاتب عماني يدعى محمد بن سليمان اليعربي، يتناول فيها تداعيات القرار البريطاني بتقسيم فلسطين، ومدى تأثير ذلك على الأوضاع في فلسطين، والتناقض الحاصل في السياسة البريطانية، حيث إنها في الوقت الذي تدعو فيه إلى السلام والهدوء، فإنها تثير الفتن بمثل هذا القرار، ويختم مقاله بهذه الفقرة: “أيتها الحكومة البريطانية، قد تطايرت صفحاتك في العالم وستعلمين عواقب الظلم والاضطهاد كما علمت مثيلاتك من قبلك والله عزيز ذو انتقام”.

وفي عدد 23 أبريل 1938م، نشرت (الفلق) بيانًا ونداء للعرب الإسلامي بعنوان “السلطة البريطانية وما تبيّته للمسلمين في فلسطين” باسم مسلمي فلسطين، وفيه أشار النداء إلى ما تقوم به السلطات البريطانية في القدس من محاولات تضييق على المسلمين، ونقل بعض المؤسسات مثل الأوقاف من مكانها في المسجد الأقصى إلى إحدى دوائر حكومة فلسطين في القدس، ووضع يدها على وثائق الأوقاف الإسلامية، وكذلك إلغاء دائرة المعاهد الدينية، وغيرها من الممارسات.

وفي عدد (الفلق) الصادر في 2 أبريل 1938م نقرأ في الصفحة الثانية بيانًا عن مصائب فلسطين ونكباتها ووجوب إغاثتها، بقلم رئيس اللجنة الفلسطينية العربية بمصر محمد علي الطاهر، وهو كذلك رئيس تحرير صحف الشورى والشباب والعلم المصري التي صدرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين قبل أن يتم إيقافها.

وفي عدد 30 أبريل 1938م نشرت (الفلق) خبرًا عن اجتماع اللجنة التنفيذية لجمعية الشبّان المسلمين بدار الجمعية العربية للنظر في مسألتي تقديم احتجاج من المسلمين عمومًا إلى المقيم البريطاني بزنجبار على الفظائع التي تقوم بها السلطة في فلسطين على العرب هناك، وفي جمع التبرعات لمنكوبي العرب بفلسطين.

وفي عدد 21 مايو 1938م من جريدة الفلق نطالع إعلانًا صادرًا عن لجنة إعانة مسلمي فلسطين، وفيه تعلن اللجنة بأن الاجتماع العمومي لكافة المسلمين سيكون في يوم الجمعة القادمة الموافق 27 مايو 1938م أمام بيت الشقصي لأجل إغاثة منكوبي فلسطين.

ونشرت جريدة الشباب في عددها الصادر بتاريخ الأربعاء 2 ربيع الثاني 1357هـ الموافق الأول من يونيو 1938م نقلًا عن جريدة الفلق خبر عقد جلسة في دار الجمعية العربية يوم 6 ربيع الأول للجنة إعانة مسلمي فلسطين برئاسة السيد سيف بن حمود بن فيصل البوسعيدي:

وفي عددها الصادر يوم الرابع من يونيو 1938م نشرت الفلق تغطية موسّعة عن “يوم فلسطين في زنجبار” تناولت فيه تفاصيل الاجتماع الذي دعت إليه جمعية الشبان المسلمين، وكان برئاسة حافظ بن محمد رئيس الجمعية العربية، وقد عقد أمام مدرسة البهرة بحضور عدد من الشخصيات من بينهم السيد سيف بن حمود بن فيصل الذي انتخب رئيسًا للجنة إعانة مسلمي فلسطين، والشيخ عبد الله بن سليمان الحارثي، والشيخ علي بن عمير المرهوبي، والأستاذ علي بن محمد الجمالي الذي ألقى خطبةً عصماء بتلك المناسبة، تناول فيها أوضاع فلسطين وما يعانيه العرب هناك من طغيان السلطة البريطانية واليهود عليهم.

وفي عدد السبت الموافق 30 يوليو 1938م نشرت (الفلق) على صفحتها الأولى موضوعًا بعنوان “فلسطين تناشد الإنسانية” تحت توقيع “عماني”، ويبدو أن المقال للكاتب الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وفيه ينادي سكان زنجبار من كافة أطيافها بأهمية دعم أهل فلسطين نظرًا للظروف الصعبة التي يعانون منها.

وفي عدد السبت الموافق 11 مارس 1939م نشرت (الفلق) على صفحتها الأولى كذلك موضوعًا بعنوان “فلسطين العربية”، حيث يؤكد كاتب المقال الذي لم يذكر اسمه على عروبة فلسطين، ويطالب البريطانيين بالتدخل لحل القضية وعدم المضي في مشروع تقسيم فلسطين.

فلسطين في الشعر العماني

لم تغب قضية فلسطين ومأساتها الكبرى عن الشاعر العماني منذ البدايات الأولى للأوضاع في فلسطين خلال فترة الثلاثينيات وثورة عام 1936م وما تلاها مرورًا بأحداث عام 1948، و1967 وما بينهما.

وسوف نعرض هنا لنماذج من تفاعل عدد من الشعراء العمانيين مع القضية الفلسطينية خلال الفترة ما قبل عام 1970م فقد نشرت جريدة (الشباب) التي كانت تصدر في القاهرة، في عددها الصادر بتاريخ 6 أكتوبر 1937م قصيدة وطنية عن فلسطين للشاعر العُماني محمد بن راشد بن غسان المعولي:

كما تنبأ الشاعر عبد الله بن محمد الطائي مبكرًا بانطلاقة العمل الفدائي وذلك في قصيدته “مهر فوز” التي كتبها عام 1954م بعد ست سنوات من نكبة فلسطين، وقد صدّرها الشاعر الطائي بقوله: ” إلى الذين يقولون لقد نام اللاجئون على الهزيمة، فهم لقمة في كل أرض، أتقدم بحدث من أحاديث مجالسهم، ومظهرٍ من مظاهر عزائمهم”.

 وفي القصيدة تخيل الشاعر البطل وليد يجمع شباب المخيم من أجل الثورة على العدو تؤيده في ذلك حبيبته فوز التي اشترطت أن يكون مهرها هو أخذ الثأر ورأت ضرورة تأجيل زواجهما حتى تقوم الثورة التي ستغير وضع اللاجئين وتقودهم من مخيمهم للعودة إلى ديارهم التي اغتصبها العدو وطردهم منها:

هذا وليد يبيع العمر محتسباً … للقدس مذ حلها شذاذ آفاق

قد ناله السهم حتى كاد يأسره … وما سوى فوز من آثاره راقي

وفي مايو من عام 1965م كتب الشاعر عبد الله الطائي قصيدةً أخرى بعنوان ” رسالة من يافا” صدّرها بقوله: ” الرسالة ليست خيالًا، فهي خواطر تجول في قلب كل عربيّ فلسطيني، يقيم بالوطن السليب”، ويقول مطلع القصيدة:

من ههنا من أرض يافا أكتبُ … واليكمُ ألقي الحديث فأسهبُ

من ههنا من جنةٍ عاثت بها … ريحُ فأمست بالجحيم تلهّبُ

ومن الشعراء العمانيين الذين تفاعلوا مع قضية فلسطين، الشاعر صالح بن علي الخلاسي القاطن في زنجبار والمتوفى في عام 1943م، وله قصيدة نادرة في القضية الفلسطينية عام 1937م بعنوان ” فلسطين أحاط بها الأعادي”، حيث يقول الخلاسي في مطلعها واصفًا ما حلّ بفلسطين:

فلسطين أحاط بها الأعادي … بجهر أو بكيد الخافيات

يمزق شملها ظلما وقهراً … بعدوان الجيوش الظالمات

كما تفاعل الشاعر الأديب السيد هلال بن بدر البوسعيدي مع القضية الفلسطينية من خلال قصيدته البائية التي حملت عنوان قصيدة (طالب الحق)، ومن بين أبياتها:

بني العروبة هل طاب المقام لكم … وفي فلسطين أشلاء على لهب

سمعت جعجعة منكم فهل طحنت … تلك الرحى أم غدت في كف مضطرب

ومنهم كذلك الشاعر الشيخ القاضي أبو عبيدة عبدالله بن خميّس البلوشي، الذي كتب عددًا من القصائد تناولت الشأن الفلسطيني، من بينها هذه الأبيات التي يستنهض فيها المسلمين لحرب اليهود وتخليص القدس من قبضتهم:

لن تقف اليهود إن لم تُصدَمِ … في وجهها من دون ما أحرامنا

سلّوا السيوف عاجلًا مستعجلًا … لا تغني آمالٌ هنا ولا مُنى

وقائمة الشعراء العمانيين الذين تفاعلوا مع أحداث فلسطين المختلفة عديدة وطويلة، ولعل من بين تلك الأسماء والقامات الشعرية كذلك: الشاعر الشيخ عبد الله بن علي الخليلي، والشاعر عبد الله السدراني، والشاعر هلال بن سالم السيابي، والشاعر هلال بن محمد العامري، والشاعر سالم بن علي الكلباني، وغيرهم.

تبرعات:

لم يقتصر الاهتمام بالقضية الفلسطينية على النخب العمانية لوحدها بل شمل مختلف أطياف المجتمع العماني، كما لم يقتصر ذلك الاهتمام على مجرد تبادل أخبار فلسطين، أو كتابة المقالات والأشعار، بل تعدى ذلك إلى جمع التبرعات التي أسهم فيها العديد من الشخصيات من الرجال والنساء في طرفي الإمبراطورية العمانية؛ فقد نشرت جريدة (الشباب) لصاحبها الفلسطيني محمد علي الطاهر في عدد ٩ نوفمبر ١٩٣٨م أسماء عدد من أهالي مدينة صور الذين تبرعوا لصالح القضية الفلسطينية، وهذا دليل على مدى الوعي القومي والإسلامي الذي كان يحمله أبناء المدينة خلال تلك الفترة.

ونشرت مجلة (الفتح) في العدد (607) الصادر بتاريخ الخميس 24 ربيع الثاني 1357هـ مساهمات عدد من العمانيين القاطنين في شرقي أفريقيا:

كما نشرت جريدة (الفلق) في أحد أعداد عام 1948م بيان المتبرعين من زنجبار للجهاد الإسلامي في فلسطين، تضم مجموعة من الشخصيات العربية والعمانية من الرجال والنساء، في دلالة على مدى الوعي بأهمية تلك القضية وضرورة مساندتها.

مشاركة العمانيين في حرب عام 1948م:

يذكر الشيخ الأديب أحمد بن عبد الله الفلاحي أنه كان قد شارك عدد من الشباب العماني في حرب عام 1948م ضد جيش الصهاينة أسوةً بالعديد من الشباب العربي الذي شارك في تلك الحرب من منطلق دوافع إسلامية وعروبية، حيث يذكر الأديب الفلاحي في أحد مقالاته أنه: “وقد شارك مجموعة من المتطوعين العمانيين في حرب فلسطين عام ثمانية وأربعين ومنهم من استشهد في مواجهة الغزاة المغتصبين ودفن في تلك الرحاب الطاهرة ومنهم من عاد بعد أداء مهمته، وكان دخول هؤلاء المتطوعين العمانيين إلى فلسطين من جانب مصر مع إخوانهم من المتطوعين المصريين، وقد أخبرني بذلك واحد منهم وهو المرحوم علي بن ناصر الحجري وذكر لي بعض أسماء زملائه الآخرين وهم من قبائل متعددة من مناطق عمانية مختلفة وللأسف لم أدون وقتها أسماء أولئك الشباب ومناطقهم فغابت عن ذاكرتي“.

وعلي بن ناصر الحجري شخصية عروبية بارزة، ورجل مثقف مطّلع، ومهتم بقضايا أمته، ومتأثر بالأحداث السياسية التي كانت تدور وقتها، وعندما حدثت نكبة عام 1948م انضم إلى صفوف المقاومين العرب المتطوعين، وقد تعرض للأسر بعد إحدى العمليات الفدائية التي قام بها، ومما يجدر ذكره أنه عمل بالصحافة، وكان من روّاد الصحافة العمانية مطلع السبعينات عندما عمل رئيسًا لتحرير جريدة الوطن بعد وفاة مؤسسها الشيخ نصر بن محمد الطائي.

المراجع:

الباطني، خالد بن سعيد. صفحة مفتاح الباحث على موقع أرشيف الإلكتروني، https://archive.org/details/@user_11675 البلوشي، تركي بن يحيى. سيرة الشيخ أبي عبيدة، دار الفرقد، سوريا، 2021. البوسعيدي، هلال بن بدر. ديوان السيد هلال بن بدر، تحقيق محمد علي الصليبي، الطبعة الثانية، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، سلطنة عمان، 1989. الطائي، عبدالله بن محمد. ديوان الفجر الزاحف، مطبعة الضاد، حلب، 1966. العريمي، محمد بن حمد. الوالي إسماعيل، دار باز، مسقط، 2022. الفلاحي، أحمد. فلسطين في الشعر العماني، جريدة الوطن، 5 مارس 2017. مكتبة قطر الرقمية. ملف بعنوان “ملف ٣٢/١١ اللجنة الملكية المعنية بفلسطين”، رقم استدعاء IOR/R/15/6/379. مكتبة قطر الرقمية. ملف بعنوان “مجموعة ١٦/٢٠(٢) مسقط: يوميّات وأخبار وملخصات استخباراتية”، المنشور في مكتبة قطر الرقمية تحت رقم استدعاء IOR/L/PS/12/2973A مكتبة قطر الرقمية. ملف بعنوان “مجموعة ١٦/٢٠(١) “مسقط: يوميّات: أخبار وملخصات استخباراتية”، رقم استدعاء IOR/L/PS/12/2972

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: مع القضیة الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة من عدد من الشخصیات الصحف العربیة البریطانیة فی العمانیین فی السلطان سعید قضیة فلسطین العدید من فلسطین فی فی فلسطین عبد الله وفی عدد فی مسقط أخبار ا الله بن محمد بن بن محمد من خلال فی عدد من بین علی بن رئیس ا فی حرب فی عام بن علی من عام فی تلک

إقرأ أيضاً:

الإنجيليون تيار الولادة الثانية في الكنيسة البروتستانتية

تيار ديني تجديدي محافظ، انبثق من رحم الكنيسة البروتستانتية، يضم مجموعة من الكنائس المستقلة، تجمع بينها مبادئ عقدية، ترتكز على التحول للإيمان بالتوبة (الولادة الثانية)، والاعتقاد بالسلطة المطلقة للكتاب المقدس وحده، وصلب المسيح وتضحيته، ونشر الإنجيل في جميع أنحاء العالم.

والإنجيلية حركة مسيحية عالمية، يُقدر عدد أتباعها بما يزيد على 600 مليون نسمة حول العالم (وفق بيانات التحالف الإنجيلي العالمي)، يتجمع أكثر من 90 ألفا منهم في الولايات المتحدة الأميركية، يشكلون قوة سياسية مؤثرة في الانتخابات الأميركية وقرارات البيت الأبيض المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية.

ويَعتبر الإنجيليون دعم الاحتلال الإسرائيلي مسألة عقدية، لأن إقامة إسرائيل -في نظرهم- وسيادتها في الأراضي المقدسة (فلسطين) "تحقق نبوءة آخر الزمان"، التي تنتهي ببناء الهيكل وعودة المسيح المخلص، الذي سيحكم العالم من القدس.

ولطالما مارس الإنجيليون ضغوطا على الإدارة الأميركية، لتقديم مزيد من الدعم لإسرائيل، ففي الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب (2016-2020)، والذي يمثل الإنجيليون ثلث قاعدته الانتخابية، اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها بين العامين 2017 و2018.

وفور تنصيبه للولاية الثانية مطلع عام 2025، ألغى أمرا تنفيذيا يسمح بفرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وضغط لتهجير فلسطينيي قطاع غزة، وإضافة إلى ذلك سارع الإنجيليون إلى الضغط عليه للسماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية كاملة.

إعلان النشأة

تعود جذور الإنجيلية إلى حركة الإصلاح الديني في الكنيسة الكاثوليكية، التي تزعمها مارتن لوثر وأتباعه في أوروبا في القرن السادس عشر، والتي تقوم على الاعتقاد بالكتاب المقدس مصدرا وحيدا موثوقا ومُلزما للحقيقة الدينية، وكان أتباع هذه الحركة أول من أُطلق عليهم "إنجيليون"، لتمييزهم عن غيرهم من أتباع الحركات الإصلاحية الأخرى.

وفي القرن السابع عشر نشأت حركة الإحياء الإنجيلي، وهي حركة تجديدية داخل الكنيسة البروتستانتية، رافضة للشكليات والجمود الذي طغى على الكنيسة، وشكلت تلك الموجة التيار الثاني الذي غذى الإنجيلية بعد الإصلاح اللوثري.

وكانت البداية من ألمانيا تحت مسمى "حركة التقوى"، التي تأسست بجهود من القس اللوثري فيليب جاكوب سبينر، وركزت على التحول و"التجديد "الداخلي للإنسان" والاعتقاد بأن مثل هذه التجربة ضرورية للخلاص.

ومع دخول القرن الثامن عشر أخذت هذه الحركة تنتشر في إنجلترا، وكان من أبرز المبشرين بها تشارلز ويسلي مؤسس حركة الميثودية، وبلغ تأثير الإنجيليين ذروته في بريطانيا في القرن التاسع عشر، إذ أثرت المعتقدات والممارسات الإنجيلية آنذاك بشكل عميق على الحياة والفكر والسياسة المحلية والاستعمارية البريطانية.

ولم يقتصر نشاط تيار الإنجيلية في إنجلترا على نشر الأعمال اللاهوتية، بل نشروا أعمالا أدبية وعملوا في تحرير المجلات وإدارة الجمعيات، وساهموا بقوة في النشاط الثقافي.

وفي أواخر القرن الثامن عشر نمت الإنجيلية في الولايات المتحدة، واتسع نطاق الدعوة لها بشكل متزايد في أوروبا وأميركا بحلول القرن التاسع عشر، من خلال رجال الإحياء الديني الأميركيين، أمثال: تشارلز غرانديسون فيني ودوايت إل. مودي، وأرسلت الحركة بعثات تبشيرية عالمية، استهدفت أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا.

وتنامت قوة الإنجيلية وامتدادها في العالم، ووحد أتباعها من مختلف الطوائف حول العالم جهودهم وشكلوا التحالف الإنجيلي عام 1846 في لندن، ثم أنشؤوا فروعا أخرى له بين العامين 1846 و1955 في العديد من الدول، مثل فرنسا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة والسويد والهند وتركيا وإسبانيا والبرتغال، ونشطت المؤتمرات العامة في أوروبا وأميركا.

ديفيد بارسونز نائب رئيس السفارة المسيحية الدولية في القدس عام 2018 (رويترز) انشقاق الأصولية

مع اندلاع الثورة العلمية التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر، واجهت المسيحية البروتستانتية تحديا جديدا، تمثل في النقد الكتابي، وهو ما جعل بعض الكنائس تميل مع هذا الاتجاه على حساب الأصولية الكنسية.

إعلان

وفي الاتجاه المعاكس نشأ تيار ثالث في الإنجيلية، دافع عن التعاليم المسيحية البروتستانتية التقليدية، وفي الوقت نفسه نظر إلى الكتاب المقدس لا لكونه مصدرا لاهوتيا فقط، بل باعتباره أساس الحياة الشخصية والجماعية.

وفي القرن العشرين أدت الخلافات حول تفسير الكتاب المقدس إلى حركة انشقاق داخل الكنيسة البروتستانتية في الولايات المتحدة، وأصبح واضحا الانقسام بين الإنجيليين التقدميين والأصوليين حول قضايا مثل النقد الكتابي والمشاركة الاجتماعية، لذلك انفصل بعض الأصوليين عندما فقدوا التأثير في طوائفهم، وأسسوا كنائس جديدة، وكليات ومعاهد دينية ملتزمة بالفكر الأصولي.

ومع منتصف القرن نشأت حركة جديدة أطلق عليها "الإنجيلية الجديدة" ثم الإنجيلية فقط لاحقا، لتمييز أفرادها عن الأصوليين الانفصاليين، وتألفت الإنجيلية الجديدة من الطوائف التي حافظت على التعاليم الأصولية، وعلى عكس الانفصاليين، أبقت على الود مع الطوائف المسيحية الأخرى، وكان من أبرز قادتها بيلي غراهام، الذي أصبح شخصية محورية في حمل الرسالة الإنجيلية عبر العالم.

وفي حين رغب الأصوليون في رؤية أنفسهم إنجيليين، أراد الإنجيليون الآخرون تمييز أنفسهم باسم "الإنجيليون الجدد"، ومع ذلك، بقي لدى الطرفين فيما بعد الكثير من القواسم المشتركة حول عناصر التجديد في الكنيسة.

الانتشار حول العالم

شهد القرن العشرون انتشارا واسعا للإنجيلية حول العالم، وشكل قادتها في الولايات المتحدة الرابطة الوطنية للإنجيليين عام 1942، وفي النصف الثاني من القرن، اتسع انتشار الإنجيلية في العديد من الدول، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية والفلبين، وغدت الإنجيلية قوة مهمة في العالم المسيحي، تعمل بشكل منظم عبر تشكيل "الزمالة الإنجيلية العالمية" عام 1951، والتي سُميت لاحقا "التحالف الإنجيلي العالمي".

إعلان

وأسست الحركة مجموعة من المنظمات المدنية تضم أصحاب المهن مثل الأطباء والعلماء والرياضيين، وأصبحت قوة ثقافية مهمة، لها نشاطات في الكثير من الجامعات، وساهمت في نشر دراسات حول العلوم واللاهوت والدراسات الثقافية في المجلات العلمية، واستغلت كذلك البث الإذاعي والتلفزيوني لإيصال رسالتها.

ونمت الحركة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، بسبب التقارب بين تيار المحافظين فيها مثل الكنائس المشيخية والمعمدانية، وتيار التقاليد الميثودية كالكنائس الخمسينية وكنائس القداسة، ووحد الجانبان جهودهما، وهو الأمر الذي ساعد في تسارع انتشار الحركة حول العالم مع دخول القرن الحادي والعشرين.

وفي عام 2020، أظهرت دراسة فرنسية تستند إلى 25 وثيقة حول الإنجيلية في العالم، أن قارة آسيا تضم أكبر تجمع للإنجيليين، بتعداد وصل إلى نحو 215 مليون نسمة، وجاءت أفريقيا في المرتبة الثانية بتعداد بلغ 185 مليونا.

وكان أبرز تجمع لهم على مستوى الدول في الولايات المتحدة، التي ضمت 93 مليون إنجيليّ، تليها الصين بتعداد 66 مليونا، ونيجيريا بنحو 58 مليونا والبرازيل بحوالي 47 مليون نسمة.

وبمرور السنوات، أصبح التحالف الإنجيلي العالمي عبارة عن شبكة من الكنائس تنتشر في أكثر من 140 دولة، وتخدم أكثر من 600 مليون مسيحي إنجيلي حول العالم، وهو ما يعادل نحو ربع المسيحيين في العالم.

الاتحاد الإنجيلي العالمي (الموقع الرسمي) العقائد والممارسات

تعود أصول كلمة "الإنجيلية" إلى اللغة اليونانية وتعني "البشارة السارة"، وجاء في الموقع الرسمي للاتحاد الإنجيلي العالمي، أن كلمة "إنجيلي" مشتقة من كلمة "إنجيل"، لأنها تعني الشخص المنتسب إلى الإنجيل، والذي يشكل هذا الكتاب السماوي محور تفكيره وحياته واهتمامه.

ولا تُعد الإنجيلية طائفة بعينها، وإنما هي تيار ديني ينتمي المؤمنون به إلى كنائس وطوائف مختلفة، مثل الكنائس المعمدانية والسبتية والميثودية وكنائس المسيح وكنائس القداسة والكنائس الخمسينية.

إعلان

ولا توجد سلطة مركزية عالمية تخضع لها تلك الكنائس، بل هي مجموعة كنائس مستقلة، تعتمد على سلطة القادة الإنجيليين المحليين، وتجمع بينها مبادئ عقدية مشتركة، تُعرف بها وتميزها عن غيرها من الكنائس المسيحية الأخرى، وترتكز على 4 مبادئ أساسية:

التحول:

يؤكد الإنجيليون على أهمية تجربة التحول الصادق إلى الإيمان، والذي يأتي من خلال التوبة، والانتقال من حياة الخطيئة إلى الإيمان، وهو ما يُسمى بالولادة الثانية، لذلك يطلق عليهم أيضا "المولودون من جديد".

ويمثل طقس المعمودية أهمية مركزية عندهم، لأنه يدل على التحول والميلاد الجديد، الذي يعتبره الإنجيليون نقطة تحول كبرى في مسار حياة الإنسان، تحدد هويته وتختم خلاصه.

سلطة الكتاب المقدس:

يعتمد الإنجيليون على الكتاب المقدس وحده (العهد القديم والعهد الجديد)، فهو السلطة العليا في جميع أمور الاعتقاد والطقوس، ويجب أن تكون له الأسبقية دائما على العقل والتقاليد والسلطة الكنسية والخبرة الفردية.

ويعتمد الإنجيليون المعنى الحرفي الظاهر من نصوص الكتاب المقدس، ويرفضون جهود التأويل، فهم يرون أن الإنسان قادر على معرفة الله من خلال الكتاب المقدس وحده، لأن الله قد كشف فيه الحقيقة الشاملة والأبدية بطريقة يمكن للجميع فهمها.

وتشكل صورة إنسان (رجل أو امرأة) يحمل الكتاب المقدس في يده رمزا للإنجيلية في كثير من أنحاء العالم، للدلالة على الإيمان بقوة الكتاب المقدس.

صلب المسيح وتضحيته:

تعتبر هذه القضية مركزية لرسالة الإنجيل، وتشكل جوهر المعتقدات الإنجيلية، ويقصد بها أن كلمة الله الأزلية حلّت في يسوع الناصري، الذي أظهر الله بشكل واضح للبشرية، وأنه مات على الصليب، للتكفير عن خطايا البشرية.

النشاط التبشيري:

ويقصد به الالتزام بنشر الإيمان و"البشارة السارة" للمسيح بين جميع الناس في العالم، وإثبات حقيقة الإنجيل في التبشير والخدمة الاجتماعية.

إعلان

وفضلا عن تلك العقائد المشتركة، لكل كنيسة من الكنائس الإنجيلية خصوصيتها العقدية والفكرية التي تميزها عن غيرها، فقد تختلف كنائس الإنجيليين فيما بينها في تفصيلات تتعلق بالطقوس وأسلوب العبادة وموقفها من القضايا الاجتماعية وبعض المسائل اللاهوتية، مثل: المعمودية ودور المرأة في القيادة.

وتركز الحركة الإنجيلية على استقامة السلوك، وقد اعتاد المؤمنون بها في القرون الأولى الابتعاد عن التدخين والكحول وممارسة الجنس المحرم والطلاق والرقص ومشاهدة الأفلام، ولكن الالتزام بهذه الأمور بدأ يتراجع نسبيا مع مرور الزمن، إلا أن الإخلاص في الزواج ظل أمرا بالغ الأهمية.

تفاعلات اجتماعية وقوة سياسية

كوّن الإنجيليون بمرور الزمن، أنماطا مشتركة في التفكير وأسلوب الحياة، مثل الهوية المسيحية في المشاركة السياسية، والحركات المناهضة للشذوذ الجنسي والخمر والإجهاض، وطوروا وفقا لذلك تحالفات تنظيمية وشبكات للتفاعل الاجتماعي.

وساد بين كثير منهم اتجاه عام يقوم على التفاعل مع المجتمع المدني، وبدأت الإنجيلية تظهر بصفتها حركة اجتماعية تجمع بين مبادئ الإيمان والشعور بالحماسة والالتزام المُغيّر للحياة، وتم إنشاء صالات الألعاب الرياضية للكنائس وقاعات الزمالة والمقاهي والمكتبات وتجمعات للباحثين مصممة للترفيه، وتديرها الكنيسة.

واستطاع الإنجيليون الانتشار من خلال إنشاء مؤسسات تعليمية وفنية ومدارس دينية، وقد ارتبط صعودهم ببرامج الدعم الاجتماعي التي أسسوها والأنشطة الإنسانية التي قادوها، مثل إنشاء المدارس والعيادات وحفر الآبار والمساعدة في إطلاق مشاريع تجارية.

وسعى الإنجيليون إلى التأثير في الجانب السياسي، فحرصوا على رفع مستوى مشاركتهم السياسية، لا سيما في الولايات المتحدة، إذ طوروا أيديولوجية سياسية خاصة بهم، وشكلوا مؤسسات وشبكات من المسيحيين المحافظين بهدف نشر أيديولوجياتهم في هذا المجال، وكونوا مجموعات ضغط مثل منظمة " التركيز على الأسرة" و"تحالف الإيمان والحرية".

إعلان

وتُظهر إحصائيات مركز الأبحاث الأميركي "بيو" للفترة بين عامي 2023 و2024، أن الإنجيليين هم المجموعة الدينية الكبرى في الولايات المتحدة، وقد مثلوا نسبة تصل إلى 23% من إجمالي البالغين في البلاد، وبذلك شكلوا كتلة انتخابية ضخمة، أصبحت دعامة رئيسية للقاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري، الذي يتماشى أكثر مع المواقف المحافظة التي يتبنونها في القضايا الدينية والأخلاقية والاجتماعية.

وارتبط الإنجيليون بالأحزاب المحافظة في العديد من البلدان الأخرى حول العالم، ففي أميركا اللاتينية أسسوا أكثر من 20 حزبا، أثروا من خلالها في السياسة، ومن ذلك، دعم الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، الذي يعتنق أفكارهم، للوصول إلى السلطة في العام 2018.

وفي أفريقيا، تضغط الحركة الإنجيلية على الساسة ونخب الدول للتأثير في صناعة القرار السياسي على المستوى المحلي أو الوطني، لا سيما في الدول ذات النسبة العالية من السكان الإنجيليين.

فرانكلين غراهام الرئيس والمدير التنفيذي لجمعية بيلي غراهام الإنجيلية (الفرنسية) قوة داعمة لإسرائيل

يُعتبر الإنجيليون جزءا من الحركة المسيحية الصهيونية، التي تؤمن بأن فلسطين هي الأرض المقدسة التي وُعد بها اليهود في الكتاب المقدس، وأن القدس هي عاصمتهم، ويعتقدون بوجوب المساهمة في تحقيق ذلك الوعد.

ويتعلق الإنجيليون بشدة بالنبوءة التوراتية التي تقول إن اليهود سيعودون إلى الأرض المقدسة (فلسطين) في آخر الزمان، ويسودون عليها، ويبنون الهيكل في القدس، ويَعُد الإنجيليون هذه النبوءة إحدى عقائدهم المركزية.

وترى النبوءة أن حربا ستقع في أعقاب بناء الهيكل، يُقتل فيها ثلثا اليهود، ويعتنق الثلث الآخر المسيحية، وبعد 7 سنوات ينزل المسيح من السماء ليخلص البشرية، ويقود المؤمنين للنصر في المعركة المسماة "هرمجدون"، التي ستقع في وادي جبل مجدو، شمالي فلسطين المحتلة، ويحكم ألف عام من الهيكل في القدس.

وينشغل الإنجيليون بالنبوءة وتحقيقها، وينظمون بشكل مستمر رحلات دينية إلى القدس والأراضي الفلسطينية، تشمل زيارة جبل مجدو، يستمعون أثناءها إلى روايات رجال الدين حول النبوءة والمعركة التي ستقع في تلك المنطقة.

وقد حمل هذا المعتقد الإنجيليين على تقديم دعم غير محدود لإسرائيل، يتجلى في التبرعات المالية الضخمة والدائمة، والتي تتضاعف في حالات الحروب، وتأييدهم السيطرة الإسرائيلية التامة على كامل أراضي فلسطين التاريخية، ودعم الاستيطان فيها، إضافة إلى جهود إعلامية قوية مناصرة لإسرائيل، والوقوف معها في كل حروبها.

إعلان

وقد أسسوا مجموعة من المنظمات، تهدف إلى تقديم الدعم والمناصرة للاحتلال الإسرائيلي، منها:

منظمة مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل، وتعد أكبر المنظمات الإنجيلية المناصرة لإسرائيل، تأسست عام 1992، وتضم أكثر من مليون عضو.

منظمة السفارة المسيحية العالمية، وتضم مسيحيين متضامنين مع إسرائيل من كافة أنحاء العالم، وتعمل في 170 دولة. لها فروع في 90 دولة، وتنفذ برامج لتشجيع هجرة اليهود إلى المستوطنات، بما فيها منح كل مهاجر راتبا شهريا مجزيا.

مؤسسة الصداقة، وتنشط بشكل أساسي في دعم الهجرة والاستيطان في إسرائيل.

وتقدم الإنجيلية في الولايات المتحدة خصوصا، دعما سياسيا غير محدود لإسرائيل، ومن صوره التصويت لمرشح الرئاسة الداعم أكثر للاحتلال، ثم استثمار ذلك لاحقا وسيلة ضغط لتحقيق مطالبهم، والتي منها التمكين لإسرائيل.

وقد ضغطت الكتلة الإنجيلية التي انتخبت ترامب في ولايته الأولى عام 2016، والتي شكلت حوالي ثلث ناخبيه، من أجل إعلان القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها.

وفي انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024، صوت نحو 80% من الإنجيليين لصالح ترامب، بما يمثل حوالي ثلث ناخبيه، وبمجرد تنصيبه في يناير/كانون الثاني 2025، حقق بعض مطالبهم، فقد ألغي أمرا تنفيذيا للرئيس الأميركي السابق جو بايدن، كان يسمح بفرض عقوبات على المستوطنين في الضفة الغربية، وضغط لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.

ولم تكتف الحركة بذلك، فسرعان ما ضغطت عليه لتحقيق مطالب إضافية، منها السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية.

ولكن هذه الأفكار بدأت تتقلص في جيل الشباب من الإنجيليين، الذي بدأ يتبنى وجهة نظر أكثر انفتاحا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تطالب "بتحقيق العدالة لجميع الأطراف".

وقد كشف استطلاع للرأي، أُجري بتكليف من جامعة نورث كارولينا عام 2021، أن الإنجيليين الأصغر سنا (أقل من 30 عاما) انخفضت نسبة الداعمين منهم لإسرائيل ما بين العامين 2018 و2021 من 75% إلى 34%.

إعلان

مقالات مشابهة

  • الإنجيليون تيار الولادة الثانية في الكنيسة البروتستانتية
  • بالفيديو.. باحث بـ"المصري للدراسات": مصر أنقذت القضية الفلسطينية ومقترح ترامب انتهى
  • يمق: طرابلس قدمت تضحيات وشهداء في سبيل القضية الفلسطينة
  • ذكرى رحيل البابا شنودة .. دعّم القضية الفلسطينية وجمع المسلمين والمسيحيين على موائد الإفطار
  • كيف ساهمت المواقف المصرية فى الحفاظ على القضية الفلسطينية؟
  • تحالف الأحزاب: الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة الأكثر إنصافا لحل القضية الفلسطينية
  • تحالف الأحزاب: الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة الأكثر عقلانية لحل القضية الفلسطينية
  • الكويت تسلّم العراق اثنين من المتهمين بـ سرقة القرن
  • فلسطين.. آليات الاحتلال تطلق قذائف صوتية نحو المناطق الغربية لمدينة رفح الفلسطينية
  • أكاديميون: ترامب يعود بالعالم لحقبة الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي