لطالما ارتبطت التحولات الفكرية، بالأحداث السياسية الجسام، والسودان في هذا الشأن ليس بالاستثناء، برغم ما يبدو من استمرار النخب السياسية في صراعات ذاتية وتقليدية، إلا أن الحرب المشتعلة بضراوة في البلاد منذ منتصف نيسان / أبريل الماضي، قد تكون فاصلة لتحول في الفكر السياسي السائد، ما يمكن ملاحظة أبرز ملامحه، دون إغفال حالته الماثلة في طور التشكل، وهو ما يزال بعيدا من التحول المفضي إلى فلسفة منسجمة ومتكاملة وذات خصوصية.



تاريخيا، ارتبط التطور الفكري بالتحولات الثقافية خلال الانتقالات الكبيرة التي تشمل تغيير السياسات العامة والهيكلة الاجتماعية المتصلة بالتغيرات الجغرافية والديموغرافية، فيما تمثل الأرض قيمة وعنصرا رئيسيا في عملية التغيير السياسي والاجتماعي.

وكان للسودان حضارة منذ القدم قبل أن تدك أرجل الغزاة امبراطوريات بعانخي وترهاقا في نبتة ومروي، قبل أن تستورد أرض السودان الديانة المسيحية، وتنهض على أساسها ثلاث دويلات سودانية هي علوة والمقرة والنوبة، قبل أن تتسرب الثقافة العربية منذ العام 642م، وتعلن فعليا هيمنتها بإعلان قيام السلطنة الزرقاء (1850-1821).

وحسب المؤرخ والباحث السوداني محمد المكي إبراهيم مؤلف كتاب (أصول الفكر السوداني)، فإن السودان الحديث تشكل من خليط على امتداد العصور بين القبائل العربية والقبائل الحامية والزنجية، موضحا بأن السودان الحديث، يجمع في أنسجته بين ذينك النوعين من الدماء، ويحمل في دماغه نتاج الثقافة الأقوى والأكمل.

 وقد سيطرت أفكار الحكم الملكي والعشائري على السودان منذ نشأت الممالك القديمة، وغلبت الصيغة القبلية والتراتبية الاجتماعية في النسق السياسي العام، وفي علاقات المجتمعات والأفراد، وساهمت التطورات الاجتماعية والاقتصادية في ظهور طبقة التجار الذين غيروا من التركيبة التي كانت سائدة بين ملوك ورعية، وصارت الطبقة التجارية ذات تأثير اجتماعي ونفوذ سياسي في آخر نظام حكم ملكي شهده السودان في دولة الفونج في القرن الثامن عشر.

وتجدر الإشارة إلى محطات بارزة في أصول الفكر السوداني، أهمها وأعرقها الظاهرة الصوفية التي انتشرت مع انتشار الإسلام في السودان، ولطالما ارتبطت بأمور الحكم والسياسة عكس ما يروج البعض عنها حسب ما أفاد به لـ"عربي21" الباحث في الشؤون الإسلامية الدكتور أحمد عثمان، ثم كانت التحولات الكبرى مع انتصار الثورة المهدية وإنشاء أول خلافة إسلامية كنظام حكم في السودان العام، في محاولة لقطيعة جذرية مع نظام الحكم الذي فرضه الاحتلال التركي المصري.

وساهمت الهجرات المتواصلة لأرض السودان، في ظهور أفكار جديدة من الخارج الإفريقي أو العربي وبخاصة مصر التي تسرب عبرها ومنها إلى السودان، الفكر العروبي والقومي والإسلام الحركي، واليسار الماركسي، بيد أن تأثير الحكم الإنجليزي على السودان، بدا أكثر وضوحا في نخبة الأفندية السودانية الذين عايشوا الاستعمار، وناضلوا ضده، لكنهم عرفوا أفكارا جديدة في الإدارة والاقتصاد، وغيرها من شؤون السياسة.

بالنسبة للأكاديمي المستقل البروفيسور في العلوم السياسية عبده مختار موسى، فإن الأحداث الكبيرة، عادة ما تؤدي إلى نقلة نوعية في الأوضاع وتحولات كبيرة في طريقة التفكير وأنماط السلوك، موضحا بأنه يفترض أن تشتمل هذه التحولات على تغيير في الفكر السياسي المسؤول الأول عن توظيف الصدمة في إحداث تغييرات في الاتجاه الإيجابي.


                                           عبده مختار.. أستاذ علوم سياسية

بيد أن مختار يقول لـ"عربي21" إن الفكر السياسي في السودان يعاني من أزمة، ومصدر هذه الأزمة هو عدم وجود الحريات بسبب أن الحكم العسكري والشمولي الكابت للفكر الحـر هو الذي يسيطر على المشهد في السودان أغلب سنوات الحكم الوطني، مبينا أن عمليات الاستبداد والقمع وتدهور الاقتصاد أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى التي تحتضن الطبقة المستنيرة وأصحاب الفكر والإبداع وحملة مشاعل التغيير وقادة الفكر والرأي والثقافة، وأحدثت سنوات القمع شروخا في طبقة النخبة المستنيرة واضعفت تماسكها ونضب معينها الإبداعي وبالتالي تم تجفيف منابع الفكر بصورة عامة والفكر السياسي بصورة خاصة.

ورأى أن المناخ القمعي الاستبدادي وصل ذروته تحت حكم الحركة الإسلامية العسكرية التي عـززت من المناخ الذي يتم فيه إفقار طبقة الأنتجلنتسيا وتجاهل العقول المؤهلة وتم استبدالها ببطانات وأصحاب ولاءات تصنع الطواغيت.. وتسيّد المشهد المنافقون والمطبلاتية والمتسلقون والنفعيون؛ وصارت المؤسسات هياكل شكلية وحـلت محلها العلاقات الشخصية وشبكة المصالح الخاصة، وتراجعت القيم وانـزوت الأخلاق وتم تكريس الفوضى، إذ حل محل المفكرين عسكريون ورجال أعمال و(علماء السلطان) وحزبيون انتهازيون والفوضويون.

في ظل هذا المناخ ووفق هذه المعطيات، لا يتوقع البروفسور عبده مختار، أن يكون هنالك فكر سياسي يملك الجرأة والمبادرة إلا من خلال ظهور كتلة تاريخية قوية ومتماسكة – يتنادى لها المفكرون من المهجر وتأتلف مع الصامدون في الداخل. وعلى هذه الكتلة أن تخاطب الجماهير مباشرة وتتجاوب معها الجماهير بتفويض مباشر لتـقود مرحلة التأسيس وإعادة صياغة الإنسان واستعادة التماسك الاجتماعي  وبناء النظام السياسي لبناء الدولة المستقرة الناهضة.

ويرى أنه لو استمر العسكريون في السيطرة على المشهد لن تقوم للفكر السياسي قائمة، " ولو استمر القحتيون (تنظيمات الحرية والتغيير) في احتكار التفكير ـ وهم لا يملكون أدواته ـ فسوف يتم إعادة الانتاج الأزمة، معتبرا بأن للسودان تجربة سابقة في حكم الرئيس جعفر النميري (على علاته) لكنه اعتمد على التكنوقراط المتخصصين والمفكرين المبدعين وقدم لهم الفرص الكافية (من خلال مهرجانات الثقافة وغيرها) أن يسهموا في ضخ الوعي في الرأي العام. فحقق نهضة معتبرة على يد الكفاءات المستقلة، ولم ينتكس حكم النميري إلا بعد المصالحة مع الأحزاب السياسية ـ مكونات الجبهة الوطنية (حزب الأمة والاتحادي والاسلاميين/الترابي). فضعفت حكومة نميري بظهور مراكز القوة والمحاصصات والصراعات والفساد. فتدهور حكمه حتى سقط بثورة شعبية.

ويشير أستاذ العلوم السياسية عبده موسى إلى تجربة السودان في 1964 (انتقالية لعام واحد: 1965) وتجربة أخرى في عام 1985 ـ أيضاً حكومة انتقالية لعام واحد، نجحت ونظمت انتخابات، متسائلا لماذا لا تشكل قوى الحرية والتغيير حكومة كفاءات مستقلة لعام واحد؟ ولماذا تعقد الأمور بالمحاصصات والمجاملات وبالاشتغال بأمور ليس من أولويات الفترة الانتقالية؟ هل هي الأنانية التي تمنعهم عن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة لتنقذ البلاد؟

ويعتقد أن على السودانيين إدراك كونهم يعيشون في عصر ما بعد الحداثة، وأن الفكر مابعد الحداثوي أنتج نظريات جديدة في  السياسة استنادا للتجربة الإنسانية الطويلة، ومن بين هذه المنتجات السياسية الحداثوية نظرية "الديمقراطية التوافقية" التي عالجت ثغرات الديمقراطية الليبرالية/النيابية ووفرت الاستقرار للدول الحادة التنوع، مبينا أن الفكر السياسي السوداني يمكن أن يستلهم هذه المعادلات السياسية الجديدة.

ويقول إذا أتيحت الفرصة للفكر السياسي السوداني الفرصة لمنصة صناعة السياسة ـ عبر حكومة كفاءات مستقلة ـ وفي إطار التفاعلات العولمية، فإن الفكر السياسي السوداني قادر على استنباط الفكر السياسي المبدع وتكييف نظريات ونظم السياسة مع الواقع السوداني لينتج معادلة سياسية محكمة ونظام سياسي رشيد يشكل البنية التحتية لبناء دولة المؤسسات والقانون والحوكمة والحكم الرشيد والديمقراطية المستدامة، لكنه يشترط لحدوث ذلك بتجرد قادة قوى الحرية.

ولما كانت الحرب في الخرطوم حدثا كبيرا، لكنها ما تزال مستمرة ولم تنتهي، وبالتالي فمن السابق لأوانه التنظير حول آثارها حسب وجهة نظر الدبلوماسي السابق والمحلل السياسي الدكتور خالد المبارك.

ويقول المبارك لـ"عربي21": "بعد الحرب سنرى هل يغير الاسلاميون أفكارهم، فهم يرون انها مقدسة وما سواها " وضعي" قابل للكسر، وهل تغير قوي التحول الديمقراطي موقفها.؟".

ويعتقد أن المجتمع السوداني ليس فريدا، فقد حاول الاسلاميون سودنة الليبرالية الجديدة تزلفا للأمريكيين، فقاموا بعملية خصخصة وزعوا بها على انفسهم كل مؤسسات الدولة المثمرة،  واسموا ذلك "التمكين"، فمكن البعض بلا كفاءة فتصرفوا كالثور في مستودع الخزف، وتزايد الفساد حتى رأى الشباب ان شعار "هي لله هي لله" كاذب فانحازوا للمعارضة رغم انهم ولدوا وتربوا في عهد الانقاذ.

في غضون ذلك ـ يضيف المبارك ـ فقدت الاشتراكية بريقها الجذاب عندما انهار الاتحاد السوفيتي،  أما الرأسمالية، فالعالم الذي يقوده مختل يهدده التغير المناخي، وعدم المساواة وانقسام دول البريكس عن نظام عالمي أسس بعد الحرب العالمية الثانية ولا يعترف بأن العالم تغير، موضحا بأن السودان ليس لاعبا اساسيا في الاقليم او عالميا، وعليه أن يتحرك بما يضمن مصالحه ويحميه.

ويعتقد أن الحرب أسبابها معروفة، حيث سعت القوى التي اطاحت نظام عمر البشير "الإنقاذ" لاسترداد المبادرة في اعقاب انقلاب ٢٥ تشرين أول / أكتوبر 2021م، ونجحت في الاتفاق الإطاري، ووجدت سندا من المجتمع الدولي في شخص د. فولكر بيرثس "تقدم باستقالته من رئاسة بعثة الأمم المتحدة في السودان"، لكن القوى الرافضة للتحول الديمقراطي وعلى رأسها حزب المؤتمر الوطني المحلول أجهضت الاتفاق الإطاري وهي تحاول إطالة أمد الحرب، وتعارض أي تفاوض أو وقف لإطلاق النار، بينما الدول الغربية الكبرى تؤيد التحول الديمقراطي، لكنها تقبل التعايش مع الدكتاتوريات طالما رضيت بذلك إسرائيل، وتعد مصر خير مثل لذلك، وهذه هي بطاقة "البرهان" الكبرى بعد مصافحة نتنياهو في أوغندا والاتصالات اللاحقة علنا وسرا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير الحرب السودان التطورات الخرطوم السودان الخرطوم حرب تطورات تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الفکر السیاسی فی السودان

إقرأ أيضاً:

أسوأ أزمة في العالم تحدث في دولة عربية وسط صمت عالمي

حذرت الأمم المتحدة مما يحدث في السودان قائلة إن الوضع هناك خطيرا، ذاكرة أن كل 2 من كل 3 أشخاص في السودان لا يمكنهم الوصول للخدمات الصحية، وفق ما أوردت شبكة العربية.

ذكرت الأمم المتحدة أن الأطفال بالسودان يواجهون أكبر المخاطر بسبب إغلاق العديد من المستشفيات حيث صار من الصعب للغاية تقديم الرعاية الطبية للمرضى أو المصابين والأطفال والكبار في السن هم أبرز من يعانون.

أصدر رئيس المجلس النرويجي للاجئين تحذيرا صارما ، قائلا إن العالم يتجاهل كارثة إنسانية ذات أبعاد عدة  تتكشف في السودان، حيث يقترب الملايين من حافة المجاعة.

قال الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين يان إيجلاند بعد زيارة إلى السودان: "إن هذه أسوأ أزمة في العالم لكننا نقابلها بصمت مطبق. يتعين علينا أن نوقظ العالم قبل أن تجتاح المجاعة جيلاً من الأطفال".

ووصف إيجلاند، الذي زار دارفور وشرق السودان، انتشار العنف والنزوح على نطاق واسع. 

وقال: "لقد دمرت قرى بأكملها، وأعدم مدنيون، واغتصبت نساء"، مسلطاً الضوء على التأثير المدمر للهجمات العشوائية.
وذكر إن أكثر من 2500 شخص قُتلوا ونزح أكثر من 250 ألف شخص في أكتوبر وحده.

وقد تسبب الصراع في أكبر أزمة نزوح على مستوى العالم حيث نزح 11 مليون شخص داخل السودان ولجأ 3 ملايين آخرين إلى البلدان المجاورة.

وقال إيجلاند "في دارفور، التقيت بنساء بالكاد يستطعن ​​البقاء على قيد الحياة، ويتناولن وجبة واحدة من أوراق الشجر المسلوقة يومياً". 

ويقدر أن 24 مليون شخص ـ أي نصف سكان السودان ـ يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع وجود 1.5 مليون شخص على حافة المجاعة.

ودعا إيجلاند إلى اتخاذ إجراءات دولية عاجلة، منتقدًا الاستجابة العالمية الضعيفة.

 وقال: "إن تغريدة واحدة تعبر عن القلق لا تكفي. إن تقاعس العالم لا يقل عن إعطاء الضوء الأخضر لمزيد من المعاناة. يحتاج السودان إلى استجابة عالمية طارئة تتناسب مع حجم هذه الأزمة".
 

مقالات مشابهة

  • “اللافي” يناقش مع رؤساء التكتلات السياسية من الأحزاب تطورات المشهد السياسي
  • حصر الخسائر والأضرار التي لحقت بالمدارس الخاصة بولاية الخرطوم
  • الجنس مقابل الطعام.. نساء السودان يدفعن النزاع بأجسادهن
  • الجنس مقابل الطعام.. نساء السودان يدفعن ثمن النزاع بأجسادهن
  • مخاوف من انهيار جديد للجنيه السوداني أمام الدولار
  • ما أهمية سيطرة الجيش السوداني على مدينة سنجة؟.. خبراء يجيبون
  • الجيش السوداني يقصف مواقع الدعم السريع في الخرطوم
  • الجيش السوداني يكثف ضرباته على مواقع الدعم السريع في الخرطوم وبحري
  • أسوأ أزمة في العالم تحدث في دولة عربية وسط صمت عالمي
  • ???? أين سيهرب جنجويد مدني والجزيرة؟