عبد الله علي إبراهيم

كتب أحدهم عن لقاء جمعه بجماعات من شباب الجنجويد في سوق القش بأم درمان، فاستأجر سريراً من وكالة ما فيه، ونام إلى جانب شاب منهم. ولما صحا وجد أنه بين آلاف منهم باتوا في السوق نفسه. وكلهم مشغول بالحديث في الصباح إلى قريب أو بلديات سبقه إلى الخرطوم ليعلمهم بوصوله ويؤمن الاتصال به. فسأل الرجل الفتى الجنجويدي عن القوم.

فقال إنهم جاؤوا جميعاً من الغرب لأول من أمس من النيجر وتشاد ودارفور مستنفرين من “الدعم السريع”، ولبوا لأنهم رغبوا في نيل مثل ما غنمه زملاء سبقوه إلى الخرطوم من ذهب ومال وعادوا به إلى أهلهم. وقال الشاب إنه قادم من تمبكتو، منارة الثقافة الإسلامية في دولة مالي التاريخية والحالية، وأنه يحب بنت عمه، ولكن يحول المال القليل دون الزواج منها. فرأى في الاستنفار للخرطوم فرصة لتكوين نفسه وتحقيق حلمة في الزواج بمن أحب.

يدور الجدل في دوائر السودانيين حول هوية مثل شاب سوق القش ورفاقه ممن توافدوا من خارج السودان مصطفين مع “الدعم السريع” في معركة الخرطوم. فتجد من صرفهم كمرتزقة أجانب هم كل قوام قوى “الدعم السريع”، بينما يدفع آخرون عنهم هذه الصفة، أو يضعفونها، ويقولون إنهم سودانيون صرف. وهذا باب في التلاحي لن يغنينا عن النظر في مقاصد هذا الشاب ورفقته المستنفرين وسياسات الهجرة الأفريقية من ورائها، لمساسها بالحرب القائمة في الخرطوم.

وجاء شاب “سوق القش” إلى الخرطوم من مالي، وهي من دول الساحل الأفريقي الممتد من الأطلسي إلى البحر الأحمر. ومن أخوات مالي في الساحل بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، وأفريقيا الوسطى، وغينيا والأجزاء الشمالية من بلدان على ساحل غينيا للمحيط لأطلسي مثل ساحل العاج، وغانا، وغينيا. ودول الساحل هي التي تعاقد معها الاتحاد الأوروبي فيما عرف بـ”عقد التطويق” (في عام 2015) للجم الهجرة منها، أو عبرها، إلى أوروبا عن الطريق الأوسط للبحر الأبيض المتوسط. وغلبت الهجرة من أفريقيا إلى أوربا في الخطاب عنها في حين الهجرة داخل أفريقيا نفسها، مثل التي قام بها هذا الشاب، هي الأغزر عدداً. وبالنتيجة صارت الهجرة داخل أفريقيا موضوعاً متروكاً في البحث يربكنا حين يخرج أثقاله المدججة في مثل ما نرى في السودان في اليوم.

لم يحد مع ذلك تعاقد التطويق كثيراً من باب الهجرة إلى أووربا فحسب، ولكنه دمر أيضاً سبل الهجرة الإقليمية في الساحل الأفريقي بتكليف الدولة الأفريقية المتعاقدة حجز حرية التنقل في المسارات التقليدية للهجرة داخل الساحل نفسه. ولما حطم التعاقد هذه الحيوات التقليدية في المعاش، التي تمثلت في خدمة المهاجرين، لم يخلق بدائل عنها للعيش. ونشأت إثر التطويق صناعتان وخيمتان: “صناعة” تهريب المهاجرين لأوروبا و”صناعة” ابتزازهم بواسطة الموكول إليهم منعهم من الهجرة إليها، ناهيك بسقوط الدولة القائمة بتطويق الهجرة في نظر مواطنيها ولسان حالهم يقول إنها إنما تخدم الاتحاد الأوروبي، لا نحن معشر المواطنين. وقد يكون ما يزلزل بالنيجر على أيامنا هو بعض ما جنته من التعاقد. وتنبأ أحدهم بأن حكومتها، متى التزمت بالتعاقد، ستتحداها شبكات بديلة ومسلحة منتفعة تاريخياً من هذه التجارة بزعامة رجال كبار ذوي نفوذ، وكل بطريقتها.

الساحل الأفريقي حالة انفجار سكاني. فمعدل زيادة السكان فيه تبلغ 3.5 في المئة. ويتضاعف سكانه كل 20 عاماً. ومنتظر أن يبلغ سكان تشاد وبوركينا فاسو ومالي والنيجر بين 170 مليوناً و260 مليوناً في عام 2050. وسيدخل 570 ألف شاب نيجري سوق العمل خلال 20 عاماً من يومنا. وبدأ شباب منطقة الساحل في طلب الوظيفة على طول الساحل وعرضه في سوق شحيحة. وأهم ما في ذلك أن من بين من يطلب الوظيفة اليوم، شباب البادية التي جف فيها النسل والضرع فطلب أطفالها التعليم ليدخلوا سوقاً للعمل تفادوها لعقود مكتفين بما كان عليه آباؤهم في طلب الرزق. وانحصرت أبواب الرزق أمام النشء الأفريقي، بعد خمول التنمية فيها، في الهجرات إلى المدن للعمل في اقتصاد هامشي، أو احترف السرقة، الجنجويدية، طريقاً للعيش، أو الالتحاق بالجماعات الثائرة أو المتمردة التي تدفع لهم أكثر مما يدفع لهم جيش بلدهم.

وشاب سوق قش أم درمان، سليل هذه السياسات الأوروبية الأفريقية حول الهجرة، أو هو ضحيتها. فرأينا أوروبا عقد التطويق مرعوبة من البرابرة عند بواباتها تصرخ “أوقف المركب”، وقد تنازلت عن مثاليتها كسادن للقيم الوضحاء. ورأينا الدولة الأفريقية، من الجانب الآخر، تفرغ نفسها لخدمة غير مواطنيها بالثمن وبغير وازع. وانسدت على مثال فتانا، أبواب الرزق الحلال المطمئنة، ليلبي استنفاراً للحرب في بلد غير بلده. فإما عاد منها وعرس بنت عمه و”فرح البنوت”، كما نقول، وإما مات وترملت. ومن المفارقة أن يكون من استنفره إلى هذه الهجرة الكأداء هو الفريق حمدان دقلو الذي كان طرفاً في عقد التطويق الذي عرف بـ”عملية الخرطوم”. تكلفت قوات “دعمه السريع” بمقتضاها تعقب الأفارقة العابرين للسودان إلى أوروبا بالثمن بتكليف من نظام الرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير.
وسمِّ هذا الشاب مرتزقاً ما شئت، ولكنه مرتزق ذو قضية. فهو الجاني في معركة الخرطوم بلا جدال. وهو، من الجانب الآخر، ضحية سياسات في الهجرة الأفريقية والحكم، تستصرخنا لوقفة استراتيجية عندها لنثقف هذه الحرب الكأداء.

من تمبكتو إلى سوق القش أم درمان: ضحية الهجرة الأفريقية وجانيها «1- 2»

الوسومعبد الله علي إبراهيم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: عبد الله علي إبراهيم أم درمان

إقرأ أيضاً:

الاحتلال يخرق اتفاق غزة ويطلق النار على الساحل

سرايا - أطلقت زوارق الاحتلال الاسرائيلي الحربية النار على ساحل مدينة غزة، في اليوم الرابع من اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، بخرق لبنود الاتفاق.

جاء ذلك بوقت تتواصل فيه شاحنات المساعدات بالدخول إلى قطاع غزة‘ إذ أفادت الأمم المتحدة بأن أكثر من 2400 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية دخلت إلى القطاع منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ.

وفي الضفة الغربية، أفادت كتيبة جنين بمواصلة الاشتباكات والتصدي لقوات الاحتلال بمحاور القتال، بعدما شن الجيش الإسرائيلي أمس الأحد عملية جديدة بالمدينة، بإطار تحقيق أهداف الحرب التي أضاف إليها "تعزيز الأمن في الضفة".

إقرأ أيضاً : حصانته سقطت .. القضاء الفرنسي يصدر مذكرة توقيف بحق "الهارب" بشار الأسد إقرأ أيضاً : يحمل الجنسية الأميركية .. من هو منفذ عملية الطعن في "تل أبيب"؟إقرأ أيضاً : أزمة جديدة تهز جيش الاحتلال









تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
وسوم: #مدينة#اليوم#غزة#الاحتلال#القطاع#جنين



طباعة المشاهدات: 1955  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 22-01-2025 09:57 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
جريمة تروع مصر .. ذبح مسنًا وتجول برأسه في الشارع جريمة تهز العراق .. رجل يقتل شرطيين ويحرق سيارات حفيدة ترامب تخطف الأنظار في حفل تنصيبه مشهد هز المصريين .. حبسوا فتاة وقيدوها بسلاسل لـ6 سنوات! بالفيديو .. ترامب يستمع للأذان في كاتدرائية واشنطن... بينهم مدراء ورؤساء أقسام .. الأمانة تحيل 620... يثير قلق الضيوف .. ما قصة "الزر الأحمر"... مخالفات في الملكية الأردنية .. "ملابس بقيمة... الأمن العام يوضّح ملابسات فيديو الدهس في مدينة إربد... حصانته سقطت .. القضاء الفرنسي يصدر مذكرة توقيف...يحمل الجنسية الأميركية .. من هو منفذ عملية الطعن...أزمة جديدة تهز جيش الاحتلالترامب: سأفعل أشياء تصدم الناسبعد 3 سنوات .. المقاومة تكشف عن "قناص غزة"فرنسا تصدر مذكرة توقيف بحق الأسدترامب يهدد بفرض عقوبات على روسيادخول 2400 شاحنة مساعدات إلى غزة منذ بدء وقف إطلاق...عدوان الاحتلال على جنين يدخل يومه الثاني أول ظهور لسيف علي خان عقب خروجه من المستشفى سرق لحن "ثلاث دقات" .. نجم مشهور يفجر... زواج فنانة مصرية من رجل أعمال إيطالي ممثلة مصرية تطالب بمنع بث برامج طليقها لحماية طفلها أحمد حلمي يستعد لتقديم مسرحيته الجديدة بني آدم "أنا مستعد" .. ألونسو يرد على أنباء خلافة أنشيلوتي في مدريد لاعب ليفربول يثير غضب صلاح: نجم تشيلسي أفضل منك كهربا: حاولت الانتحار وتناولت المنوم بدون علم طبيب الأهلي أتلانتا يحقق فوزا سهلا على شتورم جراتس بدوري الأبطال رونالدو يعيد النصر إلى سكة الانتصارات في الدوري السعودي بعد مخاوف من تفشي "فيروس قاتل" .. بلد إفريقي يثير الجدل محاكمة جديدة تنطلق في لندن .. معركة بين الأمير هاري وصحف شعبية أناقة بلا علامات تجارية .. سر و"سعر" إطلالة ميلانيا في حفل تنصيب ترامب 10 قتلى و32 جريحًا بحريق اندلع في فندق بتركيا العثور على 24 جثة في مقبرة جماعية في المكسيك بسبب قطتها .. صينية تخسر وظيفتها ومكافأتها السنوية ثروة 10 مليارديرات تزيد 100 مليون دولار يوميا هل يصنع المال السعادة؟ جريمة بشعة جديدة تهز تونس .. زوج يذبح زوجته وابنه بعد ما يقارب العام .. أي من زوجتي الرئيس السينغالي فازت بلقب السيدة الأولى؟

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • بالفيديو.. تأكيداً لما أعلنه عدد من القادة.. شاهد قائد الجيش “البرهان” يقود معارك الخرطوم وبحري وأم درمان بنفسه
  • بعد وفاة 120حالة .. كل مالا تعرفه عن الحصبة المميتة بالمغرب
  • سحابة دخانية ضخمة تغطي سماء أم درمان وبحري.. ومعارك بمصفاة الجيلي
  • عودة الكهرباء إلى مدينة أم درمان
  • لجنة الطواريء الصحية بالخرطوم تطالب بتفعيل الطاقة البديلة للمستشفيات
  • لجنة أطباء السودان: قصف عشوائي يقتل 4 مدنيين بأم درمان
  • الاحتلال يخرق اتفاق غزة ويطلق النار على الساحل
  • شبكة أطباء السودان: ارتفاع ضحايا قصف مدفعي استهدف أم درمان إلى 4 أشخاص
  • افتتاح المرحلة الأولى من الطريق الدائري الثالث في طرابلس فبراير المقبل
  • مصر وجنوب إفريقيا تتصدران الدول الأفريقية التي رفعت قدراتها من إنتاج الطاقة الشمسية في 2024