تفجرت الأحداث في غزة بين إسرائيل وحماس، منذ أكثر من أسبوع ورافقتها دماء كثيرة، من الجانبين دون مفاضلة بين دماء المعسكرين، رغم أن دماء الفلسطينيين الكثيرة كان يمكن تجنبها، لو كان رد إسرائيل كما تدعي دفاعياً أو شرعياً، ذلك أن العقاب الجماعي والقصف العشوائي، لا يدخل بالتأكيد تحت مظلة هذا التعريف.
وعلى عكس حروب و اشتباكات سابقة، يختلف القتال اليوم عن كل ما سبق، ويجمع بين أطراف كثيرة متورطة فيه أو معنية به، في توقيته السيء، إسرائيلياً، وفلسطينياً، وعربياً، ودولياً أيضاً.إسرائيلياً، جاء الصراع في توقيت سيء لنتانياهو، الذي كان يصارع للإفلات من المحاسبة والملاحقة القضائية، بإصلاحاته التي قسمت إسرائيل، كما لا تنقسم منذ عهد المملكتين في التوراة، بين يمين متطرف ويمين أكثر تطرفاً، وبين يسار ممزق، ودعاة سلام لا تُسمع أصواتهم. ومن سوء حظ نتانياهو الذي كان يرى نفسه ملك إسرائيل غير المتوج، وداوود الجديد، أن ينتهي به الأمر بعد الحرب، مهما كان مآلها، منبوذاً بسبب الأخطاء الفادحة التي ارتكبها والتي أفضت إلى 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ولن تفلح محاولاته العسكرية وإنجازاته، وإن تحققت بعد الحرب، في ترميم صورته ومصالحة الرأي العام الإسرائيلي معه، وربما مع حزبه الليكود نفسه الذي ستعصف به الملاحقات والمساءلات حتماً.
أما فلسطينياً، فهي حرب في وقت سيء، كما كل الحروب السابقة، التي عمقت المأساة الفلسطينية، إذ ربما تنتهي بنكبة جديدة، مع سيطرة اليمين الفاشي على السلطة في إسرائيل، ووضعه مشروع الترانفسير القديم موضع تنفيذ، إما إلى مصر، أو إلى الأردن، أو إلى أرض الله الواسعة، لو تشكل في إسرائيل تحالف جديد بقيادة بن غفير، وسموتريتش والصهيونية الدينية المتطرفة، على أنقاض عرش نتانياهو.
حماس أيضاً، احتلت أيضاً مكانها على قائمة الخاسرين، فبعد نشوة المفاجأة، وفرحة المواجهة وربما بعد الانتصارات التي يمكن أن تحققها في غزة، إثر الاجتياح الإسرائيلي المنتظر، فهي ربما لن تجد أرضاً أو شعباً، ولا لاجئين تحكمهم، وتتذرع بالدفاع عنهم لتستمر لاعباً مؤثراً على الساحتين الفلسطينية والإقليمية، وربما تنتقل إلى جنوب لبنان، أو إلى معسكرات في إيران، أو في العراق، تماماً كما حصل بعد احتلال بيروت في 1982، لقوات الرئيس الفلسطيني الراحل التي تفرقت بين تونس، والجزائر، وعدن، وغيرها من العواصم العربية، بعيداً عن خطوط المواجهة، والجبهات.
أما أمريكا، وبايدن تحديداً فهو ليس أفضل حالاً، فهذه الحرب تضعه في ورطة فعلية، وهو المُقدم على سنة انتخابية حاسمة، والمعلوم أن على كل رئيس أمريكي في السلطة أو مرشح لها، أن يعرب عن التزامه بإسرائيل وأمنها مهما كلف الأمر، وأن يضع في اعتباره، أن إسرائيل مقدمة على غيرها من الملفات، والنقاط في برنامجه الانتخابي. لذلك كان على بايدن، أن يُكرر هذا التعهد، فأرسل الطائرات، والقنابل، والدبابات، وحاملات الطائرات، لتهدئة الناخبين في بلاده، والمناوئين في حزبه، والمعارضين في الحزب الجمهوري بقيادة ترامب، ما حرمه ولا شك من أي هامش ممكن للمناورة، أو الاعتدال، إسرائيل أولاً ثم البقية تأتي...
أما أوروبا فهي بدورها، ليست في وضع أفضل من بايدن، وهي التي تستعد كذلك إلى سنة انتخابية ينتظر أن تشهد مداً يمينياً متطرفاً أكبر، في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو (حزيران) المقبل، ولانتخاب برلمانات ما لا يقل عن 7 دول أخرى، بينها دول كبرى مثل بريطانيا، أو ألمانيا، مهددة بطفرة يمينية متشددة، فضلاً عن دول تستعد لتعزيز نفوذ أقصى اليمين فيها، مثل الدنمارك، أو تشيكيا، أو فنلندا، فضلاً عن رومانيا، وأيرلندا، حيث تسعى كل الحكومات في هذه الدول، وهي في أغلبها على يمين المشهد السياسي، إلى مواجهة هذه المد اليميني المعادي للمهاجرين، ولليهود والسامية أيضاً، إضافة إلى فتح الجرح الغائر الذي حاولت أوروبا على امتداد 7 عقود نسيانه، جريمة الإبادة لليهود في أوروبا، بسبب المسألة اليهودية، قبل التوصل إلى حل الدولة اليهودية في 1948.
ولكن عندما تنقل قنوات التلفزيون صور انهيار، أو صور تهديد المشروع القديم جدياً، مع انتشار الفيديوهات "لإبادة" اليهود في فلسطين، فإن دم قادة أوروبا، يغلي، لأن في ذلك تهديد بعودة المسألة اليهودية إلى قلب المشهد السياسي في أوروبا، مع ما يعنيه من إطلالة شبح النازية والفاشية من جديد في القارة العجوز، مُضافاً إليه عنصر ضاغط آخر، يتمثل في المهاجرين وأبناء المهاجرين الذين يشكلون اليوم ملايين الأوروبيين الجُدد، الذين لن يقفوا على الحياد، إذا تفجرت قنبلة العنصرية والتطرف في أوروبا مرة أخرى.
ولذلك كان رد أوروبا على الأحداث في غزة وإسرائيل صادماً، فتأييد إسرائيل الأعمى والمطلق، يكشف حجم الرعب من تفجر رمانة معاداة السامية من جديد في وجه أوروبا التي تكافح شرقاً لوقف التهديد الروسي، وجنوباً لوقف خطر الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين.. وأيضاً موجات المهاجرين العاتية، وتسونامي الإرهاب الإسلامي الهادر، كما حصل منذ يومين في فرنسا مثلاً، لتجد القارة العجوز نفسها، بعد ثلاثة أرباع قرن من الزمن، في ذات المربع الذي كانت فيه ذات 1939-1945.
وعربياً أيضاً، يأتي تفجر الصراع في وقت غير مناسب، فهو يهدد بنسف المكاسب القليلة التي تحققت بعد كارثة "الربيع العربي" وما تبعها، وبعد محاولات عقلنة القرار السياسي العربي، بتحولات سياسية واستراتيجية تركز على التنمية والتعاون، والتضامن الدولي، فإذا بالأحداث تأخذ دولاً كثيرة أو تقربها من العودة إلى بيانات "هنا القاهرة" عن الانتصارات والغنائم، مع تبعها لاحقاً من خسائر بشرية وحضارية وثقافية واقتصادية مدمرة.
إنها حرب سيئة في الوقت السيء.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة
إقرأ أيضاً:
ما الذي تريده إيران من العراق؟
عانت العلاقات العراقيّة- الإيرانيّة منذ سبعينيات القرن الماضي من حالات شدّ وجذب، ولم تستقرّ إلا نادرا!
والمناوشات العراقيّة- الإيرانيّة بدأت في العام 1972 وانتهت باتّفاق الجزائر في العام 1975. وبعد أشهر من قيام "الثورة الإسلامية الإيرانيّة" بداية العام 1979 بَدَت التّشنّجات السياسيّة واضحة بين البلدين، وبعد أقلّ من عامين انطلقت بينهما المناوشات العسكريّة الحدوديّة بين 4–22 أيّلول/ سبتمبر 1980، لتشتعل حينها حرب الثماني سنوات (حرب الخليج الأولى)، وانتهت في آب/ أغسطس 1988!
وقد سَحقت الحرب أكثر من مليون شخص، وربّما تكلفتها المادّيّة الباهظة قادت لغزو الكويت وحرب الخليج الثانية، وأخيرا لاحتلال العراق!
ولاحقا بين عاميّ 1991 و2003 دخلت علاقات البلدين بمرحلة الحرب الهادئة والباردة، وكان العراق خلالها يدعم منظّمة "مجاهديّ خلق" المعارضة، فيما دعمت إيران المعارضة العراقيّة!
وبعد الاحتلال الأمريكيّ للعراق في العام 2003 تفاجأنا بأنّ إيران تقول صراحة بأنّها دعمت احتلال العراق، وفقا لتصريح "محمد علي أبطحي"، نائب الرئيس محمد خاتمي، حيث قال في منتصف كانون الثاني/ يناير 2004: "لولا إيران لما استطاعت أمريكا غزو أفغانستان والعراق"!
التدخّل الإيرانيّ المتنوّع في العراق يسعى لتحقيق جملة أهداف لصالح إيران حصرا، ومحاولة تغليف هذه الأهداف بأغطية "دينيّة ومذهبيّة" لم تعد مقبولة لدى "شيعة العراق" قبل غيرهم، وربّما من أبرزها: اللعب بالورقة العراقيّة في مفاوضات الملفّ النوويّ مع واشنطن، و"تصدير الثورة الإسلاميّة" للعراق ومن خلاله لبعض دول المنطقة، والظفر ببعض خيرات العراق!
وهكذا صارت إيران تتفاخر، وعلانية، بأنّها تتحكّم بأربع عواصم عربيّة بينها بغداد، وهذا الأمر لم يكن محلّ ترحيب غالبيّة العراقيّين الذي تمنّوا أن يَروا بلادهم تمتلك سيادة حقيقية، وليست سيادة وهميّة على الورق والإعلام فقط!
التغلغل الإيرانيّ لم يكن هامشيّا، ولدرجة أنّ رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي ذكر يوم 11 كانون الثاني/ يناير 2020": لا يمكن اختيار رئيس الوزراء في العراق من دون موافقة إيران"!
وبداية العام 2020 قتلت الطائرات الأمريكيّة قائد فيلق القدس الإيرانيّ قاسم سليماني بعد خروجه من مطار بغداد، والذي كان يتردّد على العراق شهريّا، أو أسبوعيّا، ويتحكّم في غالبيّة الملفّات الأمنيّة والسياسيّة!
التدخّل الإيرانيّ المتنوّع في العراق يسعى لتحقيق جملة أهداف لصالح إيران حصرا، ومحاولة تغليف هذه الأهداف بأغطية "دينيّة ومذهبيّة" لم تعد مقبولة لدى "شيعة العراق" قبل غيرهم، وربّما من أبرزها: اللعب بالورقة العراقيّة في مفاوضات الملفّ النوويّ مع واشنطن، و"تصدير الثورة الإسلاميّة" للعراق ومن خلاله لبعض دول المنطقة، والظفر ببعض خيرات العراق!
ووجدت إيران، التي تعاني من عقوبات أمريكيّة وأوروبيّة منذ العام 2018، من تغلغلها في العراق فرصة ذهبيّة للتهرّب من العقوبات وتعويض أضرارها الاقتصاديّة! وقد جنت آلاف المكاسب الاقتصاديّة على حساب العراق، وفي نهاية تمّوز/ يوليو 2024 أكّد المستشار السابق في الرئاسة العراقيّة "ليث شبر" تهريب أكثر من 200 مليار دولار من العراق لإيران منذ العام 2003"، عدا التبادل التجاري بقيمة 10 مليارات دولار، وتهريب النفط وغيره!
وآخر المكاسب الإيرانيّة، التي أُعلن عنها بداية العام 2025، تمثّل بتصدير تركمانستان لحوالي 25 مليون متر مكعّب يوميّا، وبقيمة 2.5 مليون دولار يوميّا إلى الشمال الإيرانيّ التي تعجز إيران عن إيصال الغاز إليها، ثمّ تعطي إيران كمّيّات مساوية من غازها من مدنها القريبة للعراق عبر الأنابيب، وفي المقابل تستهلك الغاز الذي دفع العراق أمواله لتركمانستان! فهل يعقل هذا؟
ولذلك هنالك حديث، وفقا لـ"Oil Price"، بأنّ فريق الرئيس ترامب "يفكّر في فرض عقوبات على العراق مثل إيران، تشمل الأفراد والكيانات المرتبطة بالتمويل والخدمات المتعلّقة بنقل النفط والغاز الإيرانيّين، والأموال المتعلّقة بذلك"! ولا أدري ما ذنب الشعب العراقيّ الذي يدفع ضريبة هذه السياسات المنبطحة للغرباء!
يفترض بالقيادة الإيرانيّة أن تترك سياسة التدخل، ومحاولة التحكّم بالعراق وغيره، لأنّ خروجها "المذلّ" من سوريا يؤكّد بأنّ البطش والقوّة والترهيب لا تُمهّد الطريق للغرباء للسيطرة على مقدّرات الدول
ومع تطوّرات الملفّ السوريّ والتخوّف من استهداف العراق، وعدم قدرة رئيس حكومة بغداد "محمد شياع السوداني" لإقناع الفصائل التي تأتمر بأوامر إيرانيّة بتسليم سلاحها للحكومة قبل وصول ترامب للبيت الأبيض بعد عشرة أيّام، ولهذا تحرّك مباشرة إلى طهران، الأربعاء الماضي، لحسم هذا الملفّ قبل الوصول لمرحلة "الانهيار الكبير"!
وقد ينقل رسالة من القيادة السوريّة، بعد زيارة رئيس المخابرات العراقيّة لدمشق، للقيادة الإيرانيّة، وكذلك مناقشة تداعيات الملفّ السوريّ على العراق، وربّما المطالبة بدعم إيرانيّ في حال تعرّض العراق لهجمات خارجيّة!
وتأكيدا للربكة السياسيّة والأمنيّة قال زعيم تيار الحكمة "عمار الحكيم"، يوم 02 كانون الثاني/ يناير 2025: "الأمريكان أبلغوني بأنّ الفصائل ستتعرّض لهجوم، وأنّ الرئيس ترامب سيحاصر أذرع إيران في العراق"!
القلق العراقيّ من احتمالية حصول هجمات لداعش من الأراضي السوريّة جعل بغداد تحاول التنسيق مع القاصي والداني لتأمين الحدود المشتركة.وفي تصريح غريب وناريّ، ويحمل في طيّاته الكثير، قال السوداني الأحد الماضي: "العراق على أتمّ الجهوزيّة والاستعداد لردّ أيّ اعتداء مهما كان مصدره"! وبعده قال نوري المالكي، زعيم "دولة القانون": "إعادة رسم خارطة العراق احتمال وارد"!
وهكذا، ومع هذه الصور المتشابكة والمركّبة يفترض بالقيادة الإيرانيّة أن تترك سياسة التدخل، ومحاولة التحكّم بالعراق وغيره، لأنّ خروجها "المذلّ" من سوريا يؤكّد بأنّ البطش والقوّة والترهيب لا تُمهّد الطريق للغرباء للسيطرة على مقدّرات الدول!
ينبغي على إيران أن تحترم السيادة العراقيّة، وتحاول العمل لتحقيق مصالح البلدين الجارين بعيدا عن سياسات الهيمنة والوكالة في الحروب! فمتى يتحقّق الحلم العراقيّ والعربيّ، وتكفّ إيران عن تدخّلاتها؟
x.com/dr_jasemj67