عظيمة هى لحظات النصر، تستمد عظمتها تلك من حجم تضحيات أبطالها، وقدرتهم على الصمود والمقاومة، والأهم يقينهم بقدسية وطنهم، وعزة ترابه، من هنا تصبح أحداث تلك البطولات حكايات تتلى، يشعر أجيال تتوارثها بفخر أجدادهم صانعيها، لتصبح جزءاً مهماً من تاريخ حفر فى وجدان شعب أبىّ، وجيش مغوار.

ويفخر تاريخنا المصرى والعربى عامة ببطولات نصر السادس من أكتوبر، إلا أن ذلك النصر لم يكن صنيعة ساعات أو ليالٍ بل سنوات أطلق عليها «حرب الاستنزاف»، تبارى فيها جنودنا البواسل فى القضاء على قوة العدو وإضعاف أسلحته ومرتكزاته داخل مصر، من أراض شهدت احتلالاً بغيضاً لم يلبث أبطالنا أن قضوا على أسطورته الزائفة وتفوقه المدعى بأقل الإمكانات، وبعزيمة وذكاء مصرى لا يقهر.

ومثلما تبارى التاريخ فى تخليد تلك البطولات، تبارت أيضاً أقلام المبدعين والكُتاب فى تقصى أحداثها وإبراز تضحيات جنودنا، فظهرت العشرات وربما المئات من الكتب حول حرب أكتوبر، لكن يبقى أهمها وأبرزها وأكثرها أثراً ما قُدم لأطفالنا وشبابنا، ممن لم يشهدوا هم وربما آباؤهم تلك الأحداث، ليصبح الكاتب أمام تحدٍّ هائل، وهو الأخذ بيد طفل أو فتى يقع تحت مغريات عصر إلكترونى قاسٍ، فيجعله يطالع بطولات الأجداد بشغف وفخر.. هكذا فعل الكاتب الصحفى الكبير الراحل حازم هاشم، فمن خلال سلسلة حملت عنوان «أبطال أكتوبر»، والتى صدرت عن دار الناشر العربى عام 1995، تضم 12 قصة مطعّمة برسومات شرحية، استطاع أن يستعرض مجموعة من البطولات لمجندينا، دارت رحاها أثناء حرب الاستنزاف وحتى تحقق نصر أكتوبر المجيد، فالكاتب يستعرض بطولات أسلحة الجيش المختلفة من خلال بطل لكل سلاح لتتشارك جميعاً فى صنع النصر، فما بين بطولة لكتيبة الدمار التى كُلفت بتدمير إحدى نقاط العدو الارتكازية بشرق بورفؤاد، وبطولات جنودنا الذين كُلفوا بزرع الألغام والمتفجرات فى طريق تحركات العدو، وبطولة لسلاح الطيران وضربته الجوية، تتنوع وتتجلى القصص، التى تسلط الضوء على بطولات دارت فى الكواليس لكنها كانت خير ممهد لانتصارنا الأعظم، فلولا بسالة هؤلاء الجنود ما بوركت خطواتنا بالنصر.

على أن ما يجمع تلك القصص -التى جاءت عناوينها كالتالى: «أبطال جبل المر، الشرقاوى، الشهيد الحى، العائد، بطل حتى النهاية، بيان عسكرى ناقص، حسان والنقطة، رمضان كريم، صائد الأسرى، كتيبة الدمار، كتيبة طوسون، مهمة رحمى»- كونها بطولات جماعية فى معظمها، رغم اعتمادها على بطل واحد للحدوتة، إلا أن الكاتب قد حرص على التأكيد عبر الأحداث أن تلك البطولة الفردية ما كانت لتكتمل لولا تكاتف جهود باقى جنودنا البواسل «أصدقاء البطل وزملاء كتيبته»، وهو بالفعل ما ميز روح أكتوبر، وقد اختار الكاتب أن تدور معظم أحداث قصصه حول بطولات حرب الاستنزاف، لإيمانه بأهمية تلك البطولات فى التمهيد لنصر السادس من أكتوبر.

واعتمد الكاتب فى قصصه على إيراد تفاصيل الحدث والمعارك بدقة لا متناهية، معتمداً على استخدام تقنية المشهدية التى تخلق من الحدث شريطاً سينمائياً يدور أمام أعين القارئ.

ورغم ذكر هذا الكم من التفاصيل التى تخص المعارك والخطط وتنفيذها، بشكل يجعلنا نظن أن الكاتب كان أحد قائدى حرب أكتوبر بالفعل، لذلك الوعى المحيط والوصف الملمّ بظروف كل سلاح وكتيبة، فرغم كل هذا القدر من التفاصيل إلا أن الكاتب حازم هاشم استطاع أن يحتفظ بعنصر الإثارة وتلاحق الأحداث بسلاسة عجيبة.

 

** اللغة والسرد:

 

يستخدم الكاتب حازم هاشم فى قصصه أسلوباً أدبياً يميل للتأثر بالأسلوب الصحفى الذى يعتمد على السرد أكثر من الحوار، وهو ما يؤكده قلة وجود الحوار بين الشخصيات، إلا أن لغة القصص تتميز بالجمع بين الرصانة اللغوية وثراء معجم مفرداته وبين سهولة وبساطة تلك المفردات، فى مزيج يصعب تحقيقه إلا من أديب أريب.

استخدم الكاتب الراوى العليم فى السرد، والذى يساعده على كشف كل تفاصيل الأحداث والشخصيات، وهو ما يتناسب وطبيعة القصص.

وفيما يلى نحاول استجلاء الأفكار من خلال قصتين من تلك السلسة:

- قصة «مهمة رحمى»:

حين يصبح الثأر مما تكبدناه فى نكسة سابقة دافعاً لنصر عظيم، وحينما يتجرع البطل مرارة الهزيمة فى 67، ويشهد استشهاد أصدقائه يكون الدافع مضاعفاً والحماس مذهلا، والإصرار على الانتصار قوياً، هكذا كان رحمى، الذى أوكل إليه مهمة التمهيد للعبور، ومهاجمة بعض نقاط العدو الحصينة، لتحين المهمة العظمى، وهى اقتحام القناة وعبورها بمعاونة سلاح المهندسين، لفتح ثغرة فى خط بارليف.

وهنا يصف الكاتب تفاصيل تلك المعركة، فما بين معارك بين قوات البطل والعدو تتجلى مهارة الكاتب فى الوصف، مؤكداً أن النصر لم يكن وليد تفوق فى القوة والعتاد، بقدر ما كان تفوقاً فى استخدام العقل والذكاء المصرى والثقة فى الله والنفس، فها هو يقول (فوجد أن أنسب الطرق لسد وإغلاق تلك الثغرة لن يكون فى الاعتماد على الأسلحة وإنما لا بد من الاعتماد على ذكاء وخبرة المقاتل المصرى...).

- قصة الشهيد الحى:

تحكى تلك القصة بطولة القوات الجوية التى مهدت ضربتها الأولى للعبور، فها هو الضابط علاء الذى انطلق بطائرته بين سرب ضخم كانت مهمته أن يسدد أول ضربة للعدو لتترنح قواه، إلا أن طائرته تصاب بقذيفة غادرة، فيفكر علاء كيف يرد الضربة للعدو رغم أنه يجابه الموت وعلى شفا لحظات منه، فالنيران تشتعل بطائرته وهو لا يضمن النجاة حتى لو قفز منها، وهنا يلمح مخزناً لأسلحة العدو، فيقرر أن تسقط طائرته المشتعلة فوق ذلك المخزن، بعد ان يقفز منها، ليفتح المجال بفعلته تلك أمام زملائه ويقيهم ضربات العدو.

هنا يتجلى تأثير تلك البطولة المنفردة وقدرتها على أن تكون إنجازاً يعادل إنجاز كتيبة بأكملها، ودليلاً دامغاً على أن كل الشعب المصرى كان بطلاً للحرب، جميعنا كنا أبطالاً فى معركتنا، فاستحققنا النصر على عدو جبان لا يمكنه الصمود أمام إرادة شعب وجيش آمن بذاته: (إن المتتبع لبطولات حرب أكتوبر سيجد فى كل من شارك فيها نموذجاً آخر لعلاء وإن اختلف الموقع... لقد كان شباب مصر كلهم علاء... لقد كان الثأر عظيماً ومشروعاً... لذلك لم يكن علاء وحده، بل إنهم أبناء مصر التى حموها ودافعوا عنها دفاع الابن عن أمه ودفاع الحر عن شرفه وكرامته).

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نصر السادس من أكتوبر حرب الأستنزاف أبطال أكتوبر إلا أن

إقرأ أيضاً:

الكاتب إبراهيم الخليل: الأدب لم يكن محايدًا في الحروب وكان تابعًا للسياسي عند كثيرين

الرواية قصيدة القرن الحادي والعشرين

يعنيني المكان والواقع بتفاصيله أكثر من الجوائز

ما جرى في الرقة ينافي الجانب الإنساني والواقع.. ولا اسم له في قاموس البشرية

العمل الخالي من المرأة كالنهر بلا ماء

تجربة النقد في سوريا متواضعة ولم تواكب النص على عكس المغرب العربي

"سيناريوهات الجسد" استكمال لمشروع التجديد

السينما حوّلت روايتي "الضباع" من النخبوية إلى الشعبوية

قامة أدبية من روافد الفرات الذي لا ينضب إبداعه، تدفّق رقراقًا سلسبيلًا عذبًا سهل التناول إلى جانب باقي الروافد الإبداعية التي أنجبتها مدينة الرقة الضاربة في الحضارة، إنه الأديب إبراهيم الخليل الذي استطاع أن يهزم مرارة الحرب التي مرت على البلاد وبالأخص مدينته التي نالها الكثير من الخراب وتلونت فوق سمائها رايات المخربين الذين حاولوا محو بعض من حضارة عمرها مئات السنين.

الأديب إبراهيم الخليل كان شاهدا، وصمد بسنواته الثمانين بعد أن قدم للمكتبة العربية العديد من الروايات التي حملت النبض الراقي بكل تفاصيله الجميلة.

صحيفة "عمان" وفي بحثها عن المبدعين التقت الروائي إبراهيم الخليل الذي فتح قلبه لها رغم ما يعانيه من مرض.

بقاؤك في الرقة، وما نالها من خراب، هل بقيتَ لتكون شاهدًا على ما حلّ بها من خراب، أم أن الأمر لا يحتمل أن تكتب عنه؟

بقائي في الرقة اختياري لأكون شاهدا على ما يجري من عنف وقسوة، وممارسات غير إنسانية، وكأن في ذلك أشياء تعزز ما أكتبه، وخاصة في الجنس الجديد العابر للأشكال الذي يحتاج إلى أدوات جديدة وعالم جديد.

عانيتَ في المحنة السورية، وحزنتَ لما حلّ في مكتبتك، ما شعورك وقد رأيتَ كتبك تحترق، وكيف تصوّر مغول العصر، وهل ذكّركَ ذلك بأحداث مشابهة؟

شعرت بمعنى الخراب، ومعنى أن يكون الكتاب هدفًا، إن الكتاب هو الأصابع التي احترقت، وهي تحاول أن تكون شاهدة على ما جرى.

تحول الحبر لدينا إلى حريق كبير، وتحولت الكتب إلى مادة محترقة، في رمادها كمٌّ هائلٌ من الجهد والمعرفة.

لقد مر التتار من قبل بالرقة، وقرأت عن ذلك، لكن التتار اليوم أشد همجية وقسوة، وكان الكتاب من ضحاياهم، إضافة لما أملكه من كتب نادرة ولوحات ثمينة، إنها جنى العمر ذهبت هباءً على يد المتوحشين الجدد.

ذكرني هذا بما حلّ في بغداد وحبر كتبها الذي لوّن ماء دجلة باللون الأزرق.

هل يستطيع أن يكون الأدب شاهدا على التحولات التي عصفت بالبلاد؟

بالتأكيد، وإلا ما معنى ما جرى، الأدب كان شاهدا، ولكن عند قلة صادقة، وكان تابعا للسياسي وخاضعا للرقابة عند كثيرين، بحيث كتبوا ما يريده السياسي، وبما يناسب التاريخ الذي يصنعه الأفراد، ومع ذلك فالحرب سترفد التوجه الأدبي لفترة طويلة كما رأينا في آداب الأمم التي تعرضت لمثل هذه الحروب والنكبات، ولا مجال إلا للكتابة عن ذلك، والكتابة مرة أخرى تعني إعادة صياغة الإنسان من جديد ليكون أكثر إنسانية وإحساسا بما يجري في هذا العالم الذي أصبح قرية كبيرة، ونحن نصرُّ على ذلك.

هنا أسأل، هل واكب الأدب ما يدور في عالمنا العربي من أزمات وحروب؟

الأدب لم يكن محايدًا في نقل ذلك، وخاصة الأدب الذي عالج مشكلة السجون السياسية.

أتابع ما يجري خلال الأزمة، وأنا مع تصوير ما جرى، وما يجري، ومن لم يتعلم من الحرب فلن يتعلم أبدا، وأخزّن في الذاكرة لعل ذلك التخزين يجد فرصة للظهور يوما.

مقولتك: "يجب أن يفصل الكاتب بين أدبه وموقفه السياسي" أليس من حق الكاتب أن يعيش ما يمر به؟

هناك إحراج في السياسي والأدبي، هذا الإحراج يكون الكاتب معه أحيانا معبّرًا عن أيدلوجية يشارك فيها، وأحيانا يعبر عن جانب أبعد من ذلك هو الجانب الإنساني، فنحن مجموعة أقوامية مختلفة المشارب والأهواء والمعيشة، نتكامل بتوحدنا وتشكيل لوحة جميلة كقوس قزح متعدد الألوان يبشّر بمطر خصيب.

وأنت تتابع المشهد الثقافي السوري، هل كان ذلك المشهد فاعلا أو منفعلا خلال الأزمة السورية؟

تابعت هذا المشهد وعشته، ولم أغادر المكان، ورأيت كل شيء، الاضطهاد باسم الدين وباسم أشياء أخرى، وحتى الآن يحاول إعطاء بعض الإشارات، ومع ذلك لا يمكن الحكم عليه والكتابة عنه إلا بعد حين، الكتابة السريعة عنه انطباعات آنية لا تصوّر الحقيقة، نحتاج إلى أقلام صادقة ومحايدة حتى لا نقع في فخ الترويج لجهة أو فكرة معينة، يجب البعد عن الأيدلوجيات، ونختار الإنسانية، فهي ملجؤنا الأخير.

أجل، فالكتابة عن الحرب تحتاج إلى زمن على مرورها، ونرى في تجربة السوفييت مثالا على ذلك في الحرب العالمية، ونحن نريد لهذه الحرب ألّا تمر دون أن نتعلم منها، فالتعلم ضرورة واجبة خاصة في بلاد الشام والبلاد المشابهة لها.

هل لديك موانع من الكتابة عمّا جرى في الرقة، أم أن للعمر دلالاته؟

ليس لدي موانع للكتابة، وما جرى في الرقة من أمور تنافي الجانب الإنساني والواقع، وفي الحقيقة كان ما يجري لا اسم له في قاموس التاريخ البشري لشدة ما يحمله من سطوة وعنف، وتخريب للبشر والشجر والحجر.

أما العمر فهو وازع يدفعك إلى أن تكون صادقا فيما تكتب، وحكيما فيما تنقل.

المكان ثيمة أدبية، ماذا تعني لك المدن؟

الرقة هي المكان، وأحيانا يكون المكان هو الحامل الأساسي للنص بحيث يقوده إلى مصيره، والمكان واللغة والسرد أعمدة النص، وشرطه الأساسي لكي يحقق نصا أدبيا يحمل إرث المكان، وفي الرقة نحن بحاجة إلى هذا الإرث، بل والكشف عنه لأنه غنيّ ومعبّر بكل ما فيه من سطوة وحضور في حياة الناس وتطلعاتهم إلى حياة أجمل، وفي زمن يحاول الكاتب فيه القبض على الجمال للدفاع عن الجمال في مواجهة القبح، ومن هنا ليس المكان فقط ما نريده ككتاب بل نريد إعادة اكتشافه من جديد؛ لأنه هويتنا الأساسية خاصة، ونحن على الأطراف المهمشة التي تدخل حديثا المشهد الثقافي بكل ما فيه من زخم، وبكل ما في هذا المكان من إرث.

إضافة إلى ذلك فالمكان مفردة تعطي قوة وخصوصية للنص في منطقة عاشت مهملة ومهمشة في الشمال السوري، والمكان يكسبها شيئا من الهوية لتستطيع الدخول إلى المشهد الثقافي بقوة، وتنزع عن المكان صفة التغييب، وتعطيه حق المشاركة في صنع الأحداث والتاريخ، حتى لا نكون غائبين عنهما.

وكانت دمشق هي المدينة الثانية في حياتي، وظهرت في كتاباتي بجوار مدينة الرقة، ولا عجب في هذا فقد عشت فيها فترة، وتعلمت فيها وتعلمت منها سبل الحياة الجديدة، ثم عدت إلى الرقة حاضنتي التي لا أستغني عنها حتى في أيام الحرب.

ودائما للمدن عاشقوها، وأنا من عشاق الرقة وحضورها في كتاباتي يعطيني حالة متفردة بعيدا عن الفكر البري والنظر للأشياء بعين واحدة.

الكاتب ابن بيئته، ومن خلالها ينفذ الكاتب نحو التفرد ونيل الجوائز، وقد كتبتَ عن البيئة البدوية والصحراوية، هل يعد هذا من باب الوفاء للبيئة، وهل استطعت تقديم عالم البداوة المشوق للقارئ؟

ليس من باب الوفاء، بل من باب الإخلاص للمكان، ومحاولة الكشف عن الأقوامية التي يعيشها، وهو تصالح واندماج مع جانب كبير وواسع وإنساني، وقد كتبت هذا ضمن مشروع أنا اخترته، وهذا المشروع أقوامي، فكتبت عن العرب والأرمن والكرد والبدو، وأعتبر هذا التنوع خصيصة من خصائص أدبي تحمل رسالة أكثر من التعبير فقط، فنحن عبارة عن فسيفساء، لو سقط جزء منها لتشوهت.

وما قدمته يهم القارئ الذي يعيش الواقع، وليس من أجل الجوائز، أو التفرد، فالمكان يعنيني وتفاصيله أكثر مما تهمني الجائزة، وإذا كان هناك تفرد في الكتابة، فليس همه الجائزة بقدر ما يهتم بالواقع الذي أجده رابطا بيني وبينه جعلني أعشق المكان، ولا أغادره رغم الإغراءات الأخرى التي تتيحها الغربة علما بأن لدي فيزا دائمة إلى أمريكا التي زرتها في برنامج "فول برايت" ولكنني لم أغادر بيئتي.

هناك من استنكر عليك الواقعية، ومن التقط هنّات سردية في "حارة البدو"، أليس من حق الكاتب أن يكتب بما يليق بعوالمه، أم أن هذا النقد هو من "عداوة الكار"؟

مسألة النقد مسألة متشعبة وذات شجون، ويطول الحديث عنها، ولكنني أقول: تجربة النقد في بلادنا متواضعة رغم الإرث الباذخ في الكتابة على عكس المغرب العربي الذي جاور أوروبا، وأتقن النقد أكثر من بقية الأجناس الأدبية، وهذا حكم الواقع الذي يريد للكتابة هذا المسار رغم الأصوات الجديدة، وإن المصطلح النقدي عندنا لا زال بسيطا لم يواكب النص، ولم يعبر عنه بحرفة وشفافية، ومع ذلك لا نلوم من يعيش على قدر فهمه المحدود، والكتابة عن الواقع ليست سهلة، تحتاج إلى شجاعة، وأدوات فاعلة، لا إلى فهم بسيط مسطح، والمشكلة أن الواقع عند بعضهم ملكية خاصة، والكتابة عنه فضيحة، علينا ألا نعيش على الفضيحة، لكن نصورها إن وجدت.

قدمتَ في كتابك "سيناريوهات الجسد: نصوص عابرة للأشكال" على أنه أشكال مبتكرة قلت عنها إنها ما بعد الحداثة، ماذا أردتَ أن تقول من خلال هذه السيناريوهات، وماذا تقصد بعبارة ما بعد الحداثة؟

"سيناريوهات الجسد" هو استكمال لمشروع التجديد، والمقصود بالسيناريوهات هو لغة الجـسد، خاصة عند المتصوفة، ونحتاج إلى عالم جديد ووعي جديد ولغة أخرى، تخدم هذا المنحى التجريدي لكي يكون ذلك الأمر واقعيا، ومن عناصر ذلك: تجاور المتغايرات وتفجير اللغة والاعتماد على التناص، والإشارة الصوفية والتنوع وهو كل شيء لا ينحاز إلى شيء، إنما الأدب هو الهم الأكبر له، فنحن في الأساس هو من فجر اللغة على يد السيوطي وابن جني، وتوقف ذلك الجهد الرائع.

أما ما بعد الحداثة فهي محاولة لتطوير تجربة الجديد؛ لأن هذا الجديد ينبع من واقع عرف الابتكار، وخاصة في الأدب، والبحث عن عالم جديد، ونحن تعلمنا من إرثنا في ألف ليلة وليلة هذا النزوع الجميل الذي نريده جديدا، ففي ألف ليلة وليلة كل أجناس التجريب، واستخدام الغرائبية التي شاعت فيما بعد في أوروبا وأمريكا اللاتينية.

لماذا توجهت إلى الكتابة الصوفية، وبمَ أفادك هذا التوجه؟

الصوفية في الإسلام وفي التراث الأدبي من أكثر الجوانب التي ظلمت؛ لأن فيها التجديد الذي نحتاجه، ومع ذلك لم تقف عنده، ولم تتعامل معه بما يليق به، بل العكس قدمت النص الجديد، والشهداء الجدد كالحلاج والسهروردي، وهي جانب يغذي نزعة التجديد عندي، وكان لها اهتمام كبير عند الأدباء الكبار مثل آني شيميل وسواها.

بدأتَ بالشعر ثم القصة وجددتَ فيها، ثم تخصصتَ بالرواية، لماذا هذا التنوع، وهل هجرتك القوافي لتتجه نحو السرد؟

التنوع يأتي من التجريب، وكان الشعر يليق بالمكان الريفي، وبعد أن عشت فترة في دمشق اتجهت إلى الرواية، فالمكان المركب يحتاج إلى أدب مركب، أي إلى الرواية، وهي قصيدة القرن الحادي والعشرين، وهي اختياري الأخير.

لك تجربة شعرية، وتشاركتَ مع أحد الشعراء بديوان شعري، حدثنا عن هذه التجربة؟

كان هذا في البداية الأولى، وتحقق في ديوان يعتمد على التجديد، وهو مشترك بين شاعرين، وهذا الاشتراك بين أديبين قديم، نجده عند محمود درويش ومعين بسيسو في قصيدة بيروت، وعند العجيلي مع أنور قصيباتي في رواية ألوان الحب الثلاثة، وعند جبرا إبراهيم جبرا مع عبد الرحمن منيف.

هذا يبشر بمنهج جديد في الأدب، والأدب حركة، والحركة ولود، والصمت عاقر.

تم تحويل روايتك "الضباع" إلى فيلم سينمائي، هل كان الفيلم مخلصا للرواية؟

حوّل الرواية إلى فيلم المخرج مصطفى الراشد، وحمل الفيلم عنوان "خط المطر"، وهو من الأعمال التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، وقد كانت بحاجة إلى دعم مالي أكثر، لذلك تم اختصار بعض المشاهد خاصة (لعبة السكارات) التي تعبر عن التراث اللامادي في حياة منطقة البليخ، ومع ذلك تظل هذه التجربة مهمة، وتشير إلى الشمال المهمش في عالم يحكمه المركز.

وأنا مع الرواية حين تتحول إلى السينما، فهذا التحول يجعل الرواية مرئية، وتكسب جمهورا جديدا يضاف إلى جمهورها القارئ، وهي تخفف النبرة السياسية في الرواية المعبرة عن الخيبة بالوحدة بين مصر وسوريا، تحولت الرواية من النخبوية، إلى الشعبوية السينمائية، بعد أن تم إسقاط ماهو سياسي منها.

حضرتْ المرأة في كتاباتك، كيف تنظر لها؟

كتبت عن المرأة المقيمة والعابرة كالمرأة الغجرية في رواية "الهدس"، وفي مختلف حالاتها وأعمالها، فالعمل الخالي منها يكون نهرا بلا ماء، فكانت حاضرة في كتاباتي، وهذا الحضور أعطى العمل جمالية يحتاجها مع إثراء ضروري للنص، ومكمل لشروطه في الشخصيات.

عندما تذكر الرقة يذكر العجيلي، هل تشعر بالغبن أنت وباقي أدباء الرقة الذين تتوارى أسماؤهم خلف اسم العجيلي كونه أضحى عنوانًا للمدينة، أم أنه مدعاة للفخر، وأنتم امتداد له؟

لسنا امتدادا لأحد، وإنما نعبر عن مرحلة غير مرحلة العجيلي الذي امتازت كتابته بالغيبية والعشائرية والتخلف، وكل ما سبق لا يليق بالجيل الجديد.

لا أشعر بالغبن، فأنا عبرت عن الرقة في عالمها الجديد، وليس العالم البعيد المتخلف، ولا تجد أي أديب "رقاوي" تأثر بالعجيلي من بعيد أو قريب، أو توارى خلف اسمه، أو كتب على نمطه.

العجيلي أضحى قيمة أدبية لدارسي الأدب في بداياته، هناك أجيال تخطته في الناحية الفنية الأديبة والأشكال الثقافية. ومع ذلك لا ننكر وجوده، وإلا لكان هذا الرأي تعسفا.

كيف يمكن أن تنجح الكتابة الروائية في الأطراف وبعيدا عن المركز؟

حين تنفرد، وتقرأ بشكل جيد، فالقراءة جانب مهم للقراءة، وهي المعين المفيد عليها، وبعيدا عن التأثر الطاغي، والكاتب الحقيقي هو الذي يعطي صورة صادقة ومتوازنة عن واقعه، ولا يستعير أصابع الآخرين في كتاباته.

الرقة حاضرة ومدينة عامرة بالثقافة، وفيها من الأصوات الأدبية الكثير، لكن حضورها خافت، فلماذا؟

الرقة عاصمة القصة القصية باعتراف الجميع، وهي حاضرة ثقافية ومدينة ولود، وقدمت أسماء كبيرة أعادت الألق للمشهد الثقافي، لكن بعضهم رحل، وآخر هاجر خلال الأزمة، وثالث ترك الكتابة، ولم يبق فيها اليوم إلا العدد القليل.

وفي مخزونها الكثير مما يحتاجه الكاتب، ووظفه بعضهم في الرواية الجديدة، وفي النزوع إلى التجريب، وكشف الأعماق البشرية التي يعنى بها الأدب.

وغاب فيها الأدب النسوي، وهذه مسألة عامة في سوريا، وإن كان الخفوت من نصيب أكثر الأسماء الرقاوية فهذا يعود لبعد المكان "الرقاوي" عن المركز وتضييق الرقابة عيها، ومع ذلك تعد اليوم وسائل التواصل الحديثة وسيلة فعالة لإثبات حضورهم.

الأديب الأجنبي يكتب بصراحة وبدون مواربة، وأحيانا عن نفسه وبيئته متجاوزا المحرمات في الأدب، هل لامست هذا البوح. أم أن العربي محكوم بمجتمعه وأهله، ولا يكتب إلا في السياق العام؟

يختلف الأديب في الغرب عنا، فهو غير ملزم بالقيود الاجتماعية ولا تحكمه نظم معينة، ولا يخشى الرقابة على عكس ما نحن فيه، حيث تحيط بنا المدينة والعشيرة والأصدقاء والقيود الكثيرة، و في عدد من الأعمال حولت البوح الذي تقصده، ومن خلال الجمالية والكشف الجديد لأترك لتلك الأعمال القبول اللائق بها، وأن تكون خارج مرمى الرقابة في الطريق إليها. وكنت دائما أبحث عن الجديد في التراث والحياة لكي أكون مواكبا لما أحمله في داخلي من أعمال أخرى.

غالبا ما يعمد الأديب إلى تجسيد السيرة الذاتية عبر أعماله بشكل أو بآخر، هل فكرتَ بفعل ذلك، أم أن الأمر لا يستحق؟

يعد الكتاب صورة للكاتب في الفهم ومعاملة الواقع لأن الكاتب هو الذي يصنع الكتابة، فهي صناعة أحيانا، أما القارئ فهو شاهد آخر، أو مبدع بشكل ما، وقد يكون رأيه يغاير رأي الكاتب، وكتب السيرة خاصة تكون للسياسيين والقادة ومن شابههم، أو من الأدباء الذين لهم مخالطة بهم، ولا تعنيني كتابة السيرة بقدر ما يهمني تقديم أعمال قادرة على أن يستلهم منها القارئ ما يفيده ويمنحه صورة صادقة عن سيرتي وهو الذي يحكم عليها.

هل قلتَ ما تريد في ظل وجود الرقيب؟

قلت بعض ما أريد، فعالمنا ليس عالما مفتوحا بل تحكمه مسألة مهمة هي السياسي والأيدلوجي، هما يريدان تبعية الأدب لهما، وليس شريكا لهما في بناء العالم الجديد بكل أدواته التي تؤسس لرؤية أجمل، ومحاربة القبح في حياتنا. والرقابة تحد من الإبداع.

بقيتَ في الرقة بعيدا عن أضواء العاصمة وشهرتها، فهل ندمتَ على ذلك؟

سكني في الرقة اختياري، مع أن دمشق قدمت لي الكثير من أشكال الحياة العصرية، ولم أندم على اختياري لأن الرقة تظل المدينة والأنثى والنهر والنص، وهل يوجد أجمل من ذلك؟

ماذا جنيتَ من الكتابة؟

الإحساس بالواقع، وبكل ما فيه من أحزان وأفراح، فهو عالمنا، ولا يمكن إلغاؤه، والكتابة تشعرك بالوجود، وتحقيق الذات والاكتشاف حتى لا يضيع هذا الإرث الناجز في متاهات النسيان.

من هو ملهمك أو شجعك على الكتابة؟

تحمل الكتابة قيمتها في داخلها، وهذا أكبر تشجيع وأكبر انحياز للإنسانية؛ لأن أهم ميزات الكاتب الصدق، فالنفاق لا يليق به، ولا يليق بالكتابة.

ألهمني المكان والتراث لأن فيهما القيمة الحقيقية للإنسان، ومن لم يتسلح بذلك يعِشْ على الهامش.

المكان أوحى لي بالكثير، وهو مصدري الأساسي، وبيئتي غنية بالتراث اللامادي، ومن الطبيعي استلهامه أو استحضاره، أو الإشارة إليه لكشفه وإكمال نواقص المشهد الثقافي.

ما طقوس الكتابة لديكَ؟

حين أكتب الرواية أقرأ الشعر، وحين أكتب الشعر أقرأ الرواية، وحين لا أكتب شيئا أقرأ للقراءة، وأستحضر حياة الناس، فكل عجوز "رقاوية" هي صندوق للحكاية، فيه ذخائر جميلة، وفيه محفوظات مهمة.

ماذا تقول عن هؤلاء الأدباء الرقيين ؟

*عبد السلام العجيلي: كتب الكلاسيكية المبشرة بسكون الواقع وجموده.

*خليل جاسم الحميدي: كان وفيا للقصة القصيرة، ومجددا فيها.

*عمر الحمود: كاتب متابع موهوب، يكتب القصة والرواية والنقد، وأثبت حضوره بأسلوبه الخاص.

*إبراهيم الجرادي: شاعر الكلمة الجديدة، والريبورتاج الشعري.

*أحمد الحافظ: ينهج نهج الحداثة بدراية وخبرة.

*باسم القاسم: شاعر يقارب الحداثة، ولا زال.

*سعيد سراج: مجتهد في محاولاته، وهذا يحسب له كشاعر صورة، وليس مفردة.

*خليل إبراهيم الخليل: شاعر نهَجَ نهْجَ القدامى بروح عصرية.

*عبدالله أبو هيف: خلق جسرا للعبور بين النقد والقصة القصيرة.

*حمدي موصلي: كاتب مسرحي ومخرج، يمثّل هوية الرقة المسرحية.

مقالات مشابهة

  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. الحلم أكسجين الحياة
  • رئيس جامعة الأزهر يشيد بمحاضرة الكاتب بهجت العبيدي في النمسا
  • عن معركة في جنوب لبنان.. هذا ما اعترف به الجيش الإسرائيليّ
  • قلق متزايد بشأن مصير الكاتب بوعلام صنصال بعد اعتقاله في الجزائر
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. في بيتنا تلفزيون
  • توقيف الكاتب بوعلام صنصال.. الجزائر تهاجم أصواتا فرنسية تطالب بحريته
  • إجازة عيد الاتحاد في الجهات الاتحادية و«الخاص» 2 و3 ديسمبر
  • الكاتب إبراهيم الخليل: الأدب لم يكن محايدًا في الحروب وكان تابعًا للسياسي عند كثيرين
  • الجمعان: خدمة النصر شرف وفخر
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. بيت العيلة