يكشف استشهاد 9 صحفيين وإصابة آخرين خلال أقل من أسبوع، سجلا طويلا من القتل الممنهج الذي يستهدف به الاحتلال الإسرائيلي الصحفيين ومقار عملهم، في إطار يُوصف بأنه "نمط فتاك مستمر منذ عقود"، بينما مرّت كل هذه الجرائم بلا محاسبة.

والجمعة الماضية، استشهد الصحفي اللبناني عصام عبد الله -الذي يعمل في وكالة رويترز- وأصيب 6 صحفيين آخرين هم: الزميلان في شبكة الجزيرة كارمن جوخدار وإيلي براخيا، وثائر السوداني وماهر نازح، من رويترز، وكريستينا عاصي وديلان كولنز، من وكالة الصحافة الفرنسية.

استشهاد صحفي وإصابة 3 آخرين بقصف إسرائيلي على سيارتهم بعلما الشعب جنوبي #لبنان pic.twitter.com/IQwsEFiygc

— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 13, 2023

 

وأكد مصدر أمني لبناني أن طائرة "أباتشي" إسرائيلية هي التي استهدفت الصحفيين بصاروخ موجه في علما الشعب جنوبي لبنان.

وكان الصحفيون فوق تلة لرصد الأحداث في جنوب لبنان، وبعيدين عن أي موقع عسكري، كما كانوا يضعون إشارات للتعريف بهم بوصفهم صحفيين.

وقد أدانت شبكة الجزيرة الإعلامية الاعتداء الإسرائيلي الجديد على الصحافة، وحمّلت إسرائيل المسؤولية القانونية والأخلاقية الكاملة عن هذا "الاعتداء الغاشم"، كما طالبت المجتمع الدولي بالتحرك لضمان سلامة الصحفيين ومحاسبة كل من يقف وراء هذا "العمل الإجرامي" الذي لن ينجح في إرهاب طواقمها.

صورة نشرها موقع "بي بي سي" لتوقيف فريقه من السلطات الإسرائيلية اعتداء على فريق "بي بي سي"

والجمعة أيضا، أعلنت شبكة "بي بي سي" البريطانية أن فريقها الصحفي في إسرائيل تعرض للاعتداء والاحتجاز تحت تهديد السلاح، بعد أن أوقفتهم الشرطة في مدينة تل أبيب.

وقالت الشبكة -في بيان نشر على موقعها الرسمي-، "كان مهند توتنجي، وهيثم أبو دياب، وفريق بي بي سي عربي في طريقهم إلى أحد الفنادق، عندما اعتُرضت سيارتهم".

وأضافت، "سُحبت السيارة -التي تحمل علامة تلفزيون بالخط الأحمر- وفُتِشوا ودُفعوا باتجاه الحائط".

وقال توتنجي وأبو دياب، إنهما عرّفا نفسيهما على أنهما صحفيان في "بي بي سي"، وأظهرا للشرطة بطاقات الهوية الصحفية.

وأثناء محاولته تصوير الحادثة، قال توتنجي، إنه رُمي هاتفه على الأرض، وضُرب على رقبته.

"المقطع قد لا يناسب بعض المتابعين"

توفي صحفي اسمه محمد صبح بضربة جوية إسرائيلية على غزة، وهنا اللحظة التي تعرّف إليه زميله بالعمل وأحد أقرب أصدقائه وعلم أنه استشهد

توفي -أيضا- صحفي آخر اليوم اسمه سعيد الطويل، وجميعهم كانوا يؤدون عملهم ويغطون الأحداث، رحمهم الله
pic.twitter.com/6ursN9Lnuh

— MOATH | معاذ (@M0ATH) October 10, 2023

ولغزة النصيب الأكبر

وفي غزة -التي تتعرض لقصف مكثف على مدار الساعة منذ إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري- وثّقت وحدة الرصد والمتابعة بالمكتب الإعلامي في قطاع غزة، عشرات الاعتداءات بحق الصحفيين، ومن يمكنهم نقل جرائمه -التي يرتكبها بالصوت والصورة- ما أسفر عن استشهاد 8 منهم حتى الآن.

وأعلن المكتب أسماء الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال؛ وهم: إبراهيم لافي، ومحمد جرغون، ومحمد الصالحي، وأسعد شملخ، وسعيد الطويل، ومحمد صبح أبو رزق، وهشام النواجحة، والصحفية سلام ميمة التي استشهدت وزوجها وأطفالهما الثلاثة.

وفي غزة أيضا، فإن من لا يُستهدف بالنيران، ينتظره الاعتقال؛ فقد أعلنت عائلة الصحفي نضال الوحيدي، الأحد الماضي، أن ابنها أسير لدى قوات الاحتلال، عقب اعتقاله برفقة آخرين، خلال تغطية الأحداث التي اندلعت أثناء اقتحام حاجز إيرز "بيت حانون" شمالي قطاع غزة.

كما تعرض طاقم قناة "القاهرة الإخبارية"، للاعتداء خلال تغطية الأحداث في القدس، ووجهت قوات الاحتلال السلاح في وجه الطاقم وأجبروهم على إخلاء المكان.

جدارية في غزة لمراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة التي اغتيلت برصاص الاحتلال في جنين بالضفة الغربية (أسوشيتد برس) شيرين أبو عاقلة.. المهمة الأخيرة

وقبل عام ونيّف، وتحديدا في 11 مايو/أيار 2022، كان اغتيال مراسلة قناة الجزيرة الزميلة شيرين أبو عاقلة فاجعة كبرى للجمهور العربي، الذي اعتاد وجهها وصوتها وتقاريرها على مدى أكثر من 25 عاما.

وفي صبيحة ذلك اليوم، توجهت شيرين إلى مهمتها الصحفية الأخيرة لتغطية اقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، وبرفقتها صحفيان فلسطينيان والمنتج علي السمودي، وكانوا جميعا يرتدون سترات تحمل شارة "صحافة" باللغة الإنجليزية بأحرف بيضاء كبيرة على الصدر وعلى الظهر.

فجأة، دوّت 6 رصاصات، أصابت إحداها السمودي في كتفه. انحنى الصحفيون للاختباء ثم أُطلقت دفعة ثانية من الرصاص، أصابت رصاصة شيرين خلف رأسها في الفجوة الموجودة بين خوذتها وسترتها الواقية من الرصاص، مما أدى إلى قتلها فورا.

وعلى الرغم من محاولة الاحتلال في البداية الادعاء بأن إطلاق النار كان على "إرهابيين"، فإنه عاد مرة أخرى إلى التشكيك بمصدر إطلاق النار وقال، إن الصحفيين أصيبوا برصاص الشبان المقاومين، وهو ما نفاه شهود العيان من الصحفيين الذين رافقوا شيرين خلال إصابتها.


وجاء في بيان شبكة الجزيرة -آنذاك- "في جريمة قتل فاجعة تخرق القوانين والأعراف الدولية، أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي بدم بارد على اغتيال مراسلتنا شيرين أبو عاقلة".

وطالبت الجزيرة بـ"إدانة ومحاسبة قوات الاحتلال الإسرائيلي، لتعمدها استهداف وقتل الزميلة شيرين أبو عاقلة"، لكن شيئا من هذا لم يحدث حتى الآن.

ولاحقا، أجريت تحقيقات مستقلة عدة من مؤسسات إخبارية أميركية، بما فيها صحيفة نيويورك تايمز، وصحيفة واشنطن بوست، ووكالة أسوشيتد برس، إضافة إلى المجمع البحثي "بيلنغكات" الذي يتخذ من هولندا مقرا له، وجميعها خرجت بالنتيجة ذاتها: أن عنصرا من قوات الاحتلال الإسرائيلي أطلق -على الأرجح- الرصاصة.

ووجدت محطة "سي إن إن" دليلا على أن هذا الاعتداء مقصود. كما وجدت المجموعة البحثية "فورينزك آركيتيكتشر" -التي تتخذ من لندن مقرا لها- ومنظمة "الحق" -المعنية بحقوق الإنسان التي تتخذ من رام الله مقرا لها- دليلا على أن الجيش الإسرائيلي استهدف شيرين أبو عاقلة وزملاءها الصحفيين بنية القتل.

مشاهد لمضايقة قوات الاحتلال طاقم #الجزيرة في منطقة غلاف #غزة واعتراضهم البث المباشر#الأخبار#عملية_طوفان_الأقصى pic.twitter.com/WjunQ46zKe

— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 14, 2023

سجل أسود للاحتلال

ويزخر سجل قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتداءات ممنهجة على الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام، راح ضحيتها -قبل عملية طوفان الأقصى- ما يزيد عن 46 منهم، كما يكشف العدوان على غزة في 2021 -خلال معركة "سيف القدس"- استهداف عدد من مقار وسائل الإعلام بغارات جوية.

وحسب تقرير لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، تعرّض أكثر من 144 صحفيا فلسطينيا وأجنبيا، لاعتداءات جيش الاحتلال خلال تغطيتهم الأحداث بفلسطين المحتلة، خلال السنوات ما بين 2018 و2022، بما في ذلك إطلاق النار عليهم، ورشقهم بقنابل الغاز والقنابل الصوتية، والضرب بالعصي، والسحل، مما خلَّف إصابات بليغة نتج عن أغلبها عاهات دائمة، كفقدان الأطراف والأعين، والتشوهات في الوجه.

ومن ذلك، ما أصاب الصحفي يوسف الكرنز، الذي فقد ساقه اليسرى أثناء تغطيته أحداث مسيرة العودة في 2018، والصحفي بتلفزيون القدس سامي مصران، الذي فقد عينا بعد أن أصيب بالرصاص في 2019، ومراسل وكالة الأناضول علي جاد الله، الذي استُهدف لثالث مرة برصاصة مطاطية في رأسه.

وحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فقد أدت هذه الاعتداءات إلى استشهاد أكثر من 46 صحفيا منذ 2000 وحتى 2022، بينهم صحفي "صوت الأقصى" يوسف أبو حسين الذي استشهد 2021 جراء القصف الإسرائيلي لمدينة غزة، وصحفي وكالة أسوشيتد برس الإيطالي سيموني كاميلي، الذي قُتل برفقة مترجمه الفلسطيني علي شهة جراء انفجار صاروخ إسرائيلي في غزة 2014.

ووفق تقرير "لجنة حماية الصحفيين"، يشكل الفلسطينيون 90% من الصحفيين والإعلاميين الذين قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي. أما الـ10% فكانوا من الصحفيين الأجانب.

المصور الصحفي مؤمن قريقع أمام البناية التي كانت تحتضن مؤسسات إعلامية ودمرها قصف إسرائيلي (الجزيرة) قصف واعتداءات

ولا يقتصر استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي لوسائل الإعلام على أشخاص العاملين بها؛ فقد شهد العدوان على غزة في 2021 تدمير مقار عدد من وسائل الإعلام العربية والدولية.

ووثقت نقابة الصحفيين الفلسطينيين تدمير أكثر من 33 مؤسسة إعلامية خلال 10 أيام من القصف الإسرائيلي، أبرزها: شبكة الجزيرة ووكالة أسوشيتد برس الأميركية.

وفي 15 مايو/أيار 2021 استهدفت 4 صواريخ إسرائيلية برج الجلاء، الذي يضم مقار عدد من وسائل الإعلام الدولية والمحلية في غزة. وقبل ذاك استهدفت الطائرات الحربية برج الشروق الواقع في الحي نفسه، الذي يضم مقار 15 من وسائل الإعلام؛ أبرزها: قناة روسيا اليوم والتلفزيون الألماني "زي دي إف" وتلفزيون دبي.

وأدان الاتحاد الدولي للصحفيين عمليات الاستهداف هذه، وقال أمينه العام أنتوني بيلانجي، إن "الاستهداف الممنهج للمؤسسات الإعلامية هو محاولة مخزية من الجيش الإسرائيلي لإسكات صوت الإعلام، الذي ينقل الأخبار عن العنف الذي يمارسه في غزة، وهو مخالف للقانون الدولي. ويجب وضع حد لاستهداف الصحفيين والاعتداءات المقصودة عليهم".

" في أقل من إسبوع….هذا ما فعلته اسرائيل بالصحفيين أمام مرأى ومسمع العالم
.
.
_ قتل 8 صحفيين فلسطينيين
_ قتل صحفي رويترز
_ احتجاز صحفي BBC
_ إطلاق غاز الفسفور على تجمع للصحفيين
_ إطلاق مسيل للدموع على صحفية RT الروسية
_ إطلاق مسيل للدموع على صحفية CNN türk التركيه
.
.
" هل خرجت… pic.twitter.com/S7pIDKcMt8

— Dr.mehmet canbekli (@Mehmetcanbekli1) October 14, 2023

إفلات من العقاب

وفي بيان صدر بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الزميلة شيرين أبو عاقلة، ونشرته الأمم المتحدة، حذر الخبراء من أن العدالة في قضيتها لا تزال "رهينة السياسة" بينما أخفقت السلطات الإسرائيلية -حسب تعبيرهم- في محاسبة مرتكبي عملية القتل، رغم إشارة تحقيقات مستقلة إلى ضلوع قواتها فيها.

ويشير تقرير "لجنة حماية الصحفيين" إلى "نمط في الاستجابة الإسرائيلية يبدو مصمما للتملص من المسؤولية. فقد أخفقت إسرائيل في إجراء تحقيقات كاملة بشأن أحداث القتل هذه، ولم تجرِ تحقيقات معمقة إلا عندما يكون الضحية أجنبيا، أو عندما يكون الصحفي القتيل موظفا لدى مؤسسة إعلامية بارزة. وحتى في تلك الحالات، سارت التحقيقات ببطء شديد واستغرقت شهورا أو سنوات، وانتهت بتبرئة الأشخاص الذين أطلقوا النيران".

ويقول جيش الاحتلال باستمرار، إن جنوده أطلقوا النار للمحافظة على سلامتهم، أو أنهم تعرضوا لهجوم، وفي بعض الحالات، تصف السلطات الإسرائيلية الصحفيين بأنهم إرهابيون، أو تبدو بأنها لا تكترث أبدا بمقتل الصحفيين.

وعادة ما تتجاهل تحقيقات الاحتلال إفادات الشهود والتقارير المستقلة، كما تظل التحقيقات العسكرية سرية، ولا ينشر الجيش الإسرائيلي الأدلة التي تستند إليها نتائج تحقيقاته.

ورغم التحقيقات العديدة التي أجراها جيش الاحتلال الإسرائيلي، لم تُوجّه اتهامات لأي أحد ولم يخضع أحد للمساءلة بشأن هذه الوفيات. ويشير تقرير "لجنة حماية الصحفيين" إلى أن الإفلات من العقاب أدى إلى تقويض شديد لحرية الصحافة، وتعريض حقوق الصحفيين للخطر.

ويُشبّه التقرير الإجراءات الإسرائيلية الخاصة بالتحقيق في حالات قتل الاحتلال للمدنيين -ومنهم الصحفيون- بـ"الصندوق الأسود"؛ إذ لا توجد وثيقة سياسات تصف هذه العملية بالتفصيل، بينما تظل نتائج كل التحقيقات سرية. فهل يأتي يوم يُحاسب فيه الجناة على "إسكات صوت الحقيقة"؟

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: قوات الاحتلال الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی شیرین أبو عاقلة وسائل الإعلام أسوشیتد برس pic twitter com بی بی سی أکثر من فی غزة

إقرأ أيضاً:

تقرير: ليلة الآليات المحترقة .. حين تُقصف الأذرع التي تساعد غزة على النجاة

غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: في ساعات الليل الأولى من الإثنين، الثاني والعشرين من أبريل 2025، اشتعلت السماء فوق غزة بموجات متلاحقة من القصف، كان الصوت هذه المرة مختلفًا، وكذلك الهدف. لم يكن منزلًا ولا مسجدًا أو حتى مدرسة؛ بل كانت الجرافات والكباشات والآليات الثقيلة هدفًا مباشرًا لصواريخ الاحتلال الإسرائيلي.

غارات تحرق المعدات الثقيلة

«كأنهم يقتلون أذرعنا وأقدامنا»، هكذا وصف محمد الفرا، موظف في بلدية خانيونس، مشهد احتراق كراجه البلدي الذي يحتضن آخر ما تبقى من جرافات. ويضيف لـ«عُمان»، بينما يلف ذراعه المصابة بشاش طبي: «نستخدم هذه الآليات لفتح الطرق، لانتشال الشهداء، لتوصيل المياه، لإزالة الركام.. هم لا يقصفون الآلة، بل يقصفون قدرتنا على التنفس».

في منطقة القرارة شرق خانيونس، استُهدفت جرافات تعود لشركة جورج، كانت تعمل ضمن مشاريع إعادة الترميم في ظل هدنة سابقة سمحت بدخولها. وقد دُمرت بالكامل.

أمّا في جباليا شمال قطاع غزة، فامتدت النيران إلى كراج بلدي آخر، تحوّل إلى رماد بعد أن طالته قذائف الطائرات الإسرائيلية. كان الكراج يضم معدات مصرية أدخلت خلال اتفاقات إنسانية سابقة، لكنها الآن باتت أجزاء محترقة متناثرة.

الدفاع المدني بلا أدوات

«نطفئ النار بصدورنا، ونحفر بأيدينا»، يصرخ أحد أفراد طواقم الدفاع المدني بينما يحاول بصعوبة السيطرة على حريق اشتعل في إحدى الجرافات قرب مجمع السرايا وسط غزة.

يقول الرائد محمد المغير، المسؤول فيرالدفاع المدني في قطاع غزة: «كل المعدات التي نملكها إما أُتلفت أو باتت غير صالحة للاستخدام، نقوم بانتشال الضحايا من تحت أنقاض منازل قُصفت منذ أيام، باستخدام أدوات يدوية».

ويوضح المغير لـ«عُمان»: «الاحتلال يعلم أننا بحاجة لهذه الجرافات لفتح الطرق المغلقة بالركام والنفايات، وللبحث تحت الأنقاض عن أحياء ربما ما زالوا يصارعون الموت. لهذا يستهدفها عمدًا».

ركام فوق الركام

تُظهر الصور الجوية -التي التُقطت فجر اليوم، من طائرات استطلاع غير مأهولة- مساحات واسعة من خانيونس وقد تحولت إلى ساحة فوضى: حفارات محطمة، شاحنات محروقة، وشوارع مملوءة بالركام من جديد بعد أن جُهزت لمرور فرق الإنقاذ.

في شارع الثلاثيني بمدينة غزة، شوهدت نيران مشتعلة تلتهم أرضًا زراعية كانت تأوي ثلاث جرافات، كانت تعمل على توسعة ممر طارئ لوصول المساعدات. الآن، تحولت الأرض إلى مقبرة للأمل.

تقول منى سكيك، وهي مهندسة بقسم الطوارئ في بلدية غزة خلال حديثها لـ«عُمان»: «في كل مرة نعيد ترتيب ركامنا، يأتي الاحتلال ليبعثره من جديد»،

وتشير إلى صور كانت قد التقطتها لجرافة بلون أصفر فاقع قبل أن تُقصف بساعات: «كان زميلنا هاني يقول إن هذه الجرافة ستُسهم في إنقاذ حياة مئات الأشخاص. لم يعلم أنها ستُدمر بهذه الطريقة، كي لا ننقذ أحدًا».

سياسة الأرض الميتة

ما يحدث لا يبدو عشوائيًا، بل هو تنفيذ دقيق لسياسة إسرائيلية قديمة متجددة، تهدف إلى تدمير أي مقومات لحياة مدنية. يقول الدكتور نائل شعث، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة: «الاحتلال لا يكتفي بقتل الناس، بل يقتل القدرة على الترميم والبقاء».

ويضيف لـ«عُمان»: «استهداف الجرافات جزء من سياسة الأرض المحروقة، التي تهدف إلى إفراغ المناطق من السكان، ومنع العودة إليها، عبر نسف كل أدوات الحياة فيها. إذا استمرت هذه الحملة أسبوعًا آخر، سنشهد تكرارًا لنموذج شمال القطاع: تدمير كامل وتفريغ سكاني».

هذا الرأي يوافقه المحلل العسكري الفلسطيني عبد الحكيم عبد العال، الذي قال في اتصال هاتفي لـ«عُمان»: «استهداف الجرافات يهدف للسعي لإفقاد قطاع غزة القدرة على فتح الشوارع المغلقة بالركام والنفايات، والبحث تحت الأنقاض وما إلى ذلك، وبالتالي رفع حاجة القطاع لتفاهمات تسمح بإدخال معدات جديدة».

غزة تقاوم بيديها

في ميدان فلسطين وسط مدينة غزة، اجتمع عشرات الشبان بعد الفجر، بعضهم يحمل معاول، وآخرون يحملون أكياس رمل. لا جرافات ولا شاحنات. فقط سواعد نحيلة تقاوم جبلًا من الحطام.

يقول وسام الشريف لـ«عُمان»، وهو متطوع في إحدى مجموعات الطوارئ: «كلما أُبيدت آلية، يظهر عشرة شبان يعوضونها بأجسادهم. الاحتلال يحاول تحطيمنا نفسيًا، لكنه لا يعرف أننا نحن من نصنع الجرافة».

في شارع عمر المختار، سار طابور من الأطفال وهم يحملون أوعية مياه صغيرة يملؤون بها حفرًا غمرها الغبار، في محاولة بائسة لجعل الطريق سالكًا.

وفي مستشفى الشفاء، روت الطبيبة أميرة أبو جامع كيف اضطروا لنقل جرحى في عربات يدوية بعد أن استُهدفت شاحنة الإسعاف الخاصة بهم. تقول لـ«عُمان»: «حتى الحركة لإنقاذ الناس أصبحت عذابًا، وكل ما نملكه هو الصبر».

كراجات الموت المؤجل

تشير الإحصائيات الأولية الصادرة عن وزارة الأشغال العامة بغزة إلى أن أكثر من 40 آلية ثقيلة تم تدميرها خلال ليلة واحدة فقط. وشملت الغارات كراجات البلديات في جباليا، وخانيونس، ومدينة غزة، إضافة إلى معدات شركات خاصة مصرية كانت تعمل على إعادة فتح الشوارع بعد الهدنة.

وقد أكد الرائد محمود بصل، مدير الدفاع المدني في غزة، في تصريح لـ«عُمان»: «إننا أمام نكسة كبيرة في قدراتنا التشغيلية، ونحتاج بشكل عاجل إلى دخول معدات بديلة. الاحتلال يدرك أن هذه المعدات لا تُستخدم في الحرب، بل في ترميم آثارها، ومع ذلك يستهدفها بمنهجية».

في جباليا، قال سامر النجار، عامل سابق في كراج البلدية: «كنت أنام في الكراج بجوار الجرافة التي أعمل عليها، واليوم أراها مدمرة، وكأنني فقدت جزءًا من جسدي».

تصعيد غير مسبوق

جنوبًا، وتحديدًا في مناطق قيزان رشوان وقيزان النجار بخان يونس، سُجّلت انفجارات متتالية بفارق زمني لا يتجاوز أربع ثوانٍ، هزّت الأرض وأطلقت سحبًا كثيفة من الدخان.

«هذه الانفجارات لم أشهدها منذ بداية الحرب» يقول أيمن النجار من سكان المنطقة لـ«عُمان»: «كانت الأرض ترتجف كأن زلزالًا يضربنا. ثم رأينا النيران تبتلع كل شيء».

وأعلنت وزارة الصحة في غزة عن سقوط 17 شهيدًا بينهم خمسة أطفال، جراء هذه الغارات المكثفة التي لم تبقِ مكانًا آمنًا جنوب القطاع.

رسالة الاحتلال: لا ترميم

يرى مراقبون أن الرسالة واضحة: لا ترميم، لا إعادة إعمار، لا حياة. فالاحتلال لا يكتفي بالقتل، بل يستهدف أدوات النجاة.

وقال الناشط الحقوقي علاء الديري: «استهداف الجرافات انتهاك مزدوج، لأنه يحرم الجرحى من الوصول للمستشفيات، ويمنع إخراج جثامين الشهداء من تحت الأنقاض، وهو أمر تجرّمه اتفاقيات جنيف».

وأضاف لـ«عُمان»: «نحن أمام جريمة مركبة، لا تستهدف المدنيين فقط، بل تستهدف قدرتهم على التعامل مع المأساة».

مقالات مشابهة

  • تصعيد خطير.. الاحتلال يزيد استهداف الصحفيين الفلسطينيين في غزة
  • معلومات... هذا الهدف الذي سيقصفه العدوّ الإسرائيليّ في الضاحية
  • أبرز انتهاكات الاحتلال بحق الصحفيين الفلسطينيين خلال الربع الأول من 2025
  • وفا: جرائم مرعبة ارتكبها الاحتلال بحق الصحفيين الفلسطينيين فى الربع الأول من 2025
  • تفاصيل كمين حي الشجاعية برواية الجيش الإسرائيلي.. ما الذي حصل؟
  • مركز حقوقي بغزة: “إسرائيل” تتعمد قتل الصحفيين لترهيبهم ومنعهم من نقل الحقيقة
  • ‏"معاريف" الإسرائيلية نقلًا عن مسؤولين عسكريين: لا علاقة للجيش الإسرائيلي بالانفجار الذي وقع في إيران
  • ???? الحقيقة التي يعلمها هذا التائه أن معركة الكيزان ليست مع أشباه الرجال !!
  • تقرير: ليلة الآليات المحترقة .. حين تُقصف الأذرع التي تساعد غزة على النجاة
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع