بعد أكثر من 10 سنوات على رحيله.. كيف تنبأ روجيه جارودي بطوفان الأقصى؟
تاريخ النشر: 16th, October 2023 GMT
يقارب المفكر والفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي" بين الحركتين النازية والصهيونية في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". ويورد "جارودي" أوجه التشابه بين الحركتين، بدءا من الالتزام بنظرة عِرقية تمنع الاختلاط بالأعراق الأخرى من خلال الزواج، والادعاء بالأفضلية على الغير سواء عبر القول إنهم "شعب الله المختار" كما يتردد في دولة الاحتلال، أو "الجنس الأعلى بين بقية الأجناس" كما يقول النازيون، ما يؤدي إلى استباحة عمليات الإبادة والتطهير العِرقي النابعة من تلك النظرة الدونية إلى بقية شعوب الأرض.
ويستدل "جارودي" على ذلك عبر مقولة لـ"مارتن بوبر"، وهو مفكر يهودي صهيوني ومن أبرز مفسري العهد القديم، إذ يقول: "لقد فضَّلت غالبية اليهود أن يتعلموا من هتلر، إذ برهن هتلر على أن التاريخ لا يسير وفق مشيئة الروح، بل وفق مشيئة القوة". كما يسوق جارودي واقعة مثيرة للاهتمام جرت أثناء استجواب عالِم الأجناس الألماني "جوليوس سترايتشر"، إبان محاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية في مدينة نورنبرغ الألمانية، إذ أقر "سترايتشر" بالمشاركة في صياغة القوانين العنصرية التي تمنع اختلاط "الدم الألماني"، وأنه طالب باتخاذ الجنس اليهودي نموذجا في ذلك، لأنهم ألزموا أنفسهم بشريعة عِرقية تحظر عليهم مصاهرة الغير، الأمر الذي يوحي أن سنّ ذلك القانون النازي تأثر بشكل ما بتلك "الرؤية التوراتية".
أحد أبرز الفلاسفة في القرن العشرين
"روجيه جارودي" هو مفكر وفيلسوف مسلم من مواليد فرنسا عام 1913، أصدر أول مؤلفاته عام 1946 تحت عنوان "المسيحية والماركسية"، حصل على درجة الدكتوراه الأولى عام 1953 من جامعة السوربون الفرنسية عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حاز درجة الدكتوراه الثانية من جامعة موسكو عن الحرية عام 1954، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة قونية التركية عام 1995. وخلال عقد السبعينيات تنامى اهتمام جارودي بفكرة الدين، وحاول أن يوفق ما بين الكاثوليكية والشيوعية نظرا لأنه أمضى فترة طويلة من حياته عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي، لكن المطاف انتهى به منجذبا إلى الدين الإسلامي، وفي يوليو/تموز 1982 أشهر "جارودي" إسلامه في المركز الإسلامي في جنيف.
كتب جارودي عن الإسلام كتابين، هما "الإسلام يسكن مستقبلنا" و"وعود الإسلام"، وحاز بهما على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1985. وعن اعتناق الإسلام يروي جارودي أن الأمر أتى بعد معاناة ورحلة طويلة ولم يكن محض مصادفة، وأن البذرة تعود إلى سنة 1941 حين كان أسيرا لدى القوات النازية في الجزائر، واندلع تمرد بين السجناء دفع بقائد السجن إلى إصدار الأمر بإطلاق النار عليهم، لكنَّ الحراس الجزائريين رفضوا التنفيذ، ولم يفهم "روجيه" آنذاك سبب الرفض، ما فسّره له بعد ذلك قائد جزائري مسلم بقوله: "شرف المحارب المسلم يمنعه عن إطلاق النار على شخص أعزل".
حياة جارودي حافلة بالمعارك الفكرية والصدامات، منذ طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1971 على خلفية انتقاداته للاتحاد السوفيتي بعد غزوه تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وتصريحه بأن روسيا حوّلت الأحزاب الشيوعية حول العالم إلى ظلال خافتة بلا هوية. لكن المواجهة الأبرز في حياته تمثلت في تصديه للحركة الصهيونية، بعدما أصدر بيانا مدويا في صحيفة "لوموند" الفرنسية خلال صفحة كاملة اشتراها على نفقته الخاصة في 17 يونيو/حزيران 1982، أعلن فيه رفضه للاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام ذاته.
توالت انتقادات "جارودي" للحركة الصهيونية، الأمر الذي أدى إلى نبذه من وسائل الإعلام الغربية ودور النشر الفرنسية. ويُعَدُّ كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" أكثر مؤلفاته إثارة للجدل، وبسببه أصدرت المحكمة الفرنسية حكما بحبسه سنة مع إيقاف التنفيذ عام 1998.
خرافات دولة الاحتلال
وكتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" يناقش ويدحض مجموعة الخرافات الصهيونية التي تؤسس مشروع دولة الاحتلال، بدءا من خرافة الأرض الموعودة في فلسطين وشعب الله المختار، ثم حديثه عن الحقبة النازية، وخرافة يشوع أو التطهير العِرقي، كما يستعرض الكتاب آلة الضغط الصهيونية المؤثرة على صناعة القرار الأميركي والفرنسي.
ويرى الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الذي قدّم للكتاب أن جارودي لم يشأ أن يناقش بنفسه أو يناقض تلك الخرافات، إنما جاء بالوقائع من مصادرها الأولية ومن وثائقها الأصلية ثم تركها تجري في سياقها المنطقي حتى تصل إلى غايتها. وتُعَدُّ هذه إحدى نقاط قوة الكتاب، إذ يترك جارودي الحيز أمام المصادر التوراتية والصهيونية ومقتطفات من الصحف والتقارير الأوروبية، مكتفيا بالربط بين تلك المصادر، وهو الأسلوب الذي يجعل الحقائق تتكشف من داخل تلك المصادر ذاتها ودون أي محاولة تأويل من الكاتب.
جدير بالذكر أن كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" صدر على نفقة جارودي في فرنسا عام 1995، بعدما رفضت جميع دور النشر الفرنسية طباعته. أما الطبعة العربية الأولى فجاءت عبر دار الشروق المصرية في عام 1998 من ترجمة "محمد هشام".
بروتوكول حنبعل
دعت العديد من الأصوات في جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤخرا، إلى تفعيل بروتوكول "هانيبال" (حنبعل باللغة العبرية) خلال عملية طوفان الأقصى. والبروتوكول المثير للجدل يتيح لقادة جيش الاحتلال إطلاق النيران على المواقع التي يُحتجز بها الجنود الإسرائيليون ولو أدى ذلك إلى مقتلهم، بغرض تلافي التفاوض والامتناع عن دفع أي ثمن أو تبادل الأسرى مقابل استرداد الجنود. وفيما أن البروتوكول جرت صياغته عام 1986 (2) بعد أسر ثلاثة جنود من لواء جفعاتي في لبنان، فإن "جارودي" يورد في كتابه ما يدل على أن ذلك الأسلوب متأصل في الفكر الصهيوني، حين كان القادة الصهاينة في منظمة الهاجاناه تحت قيادة "بن غوريون" يرغبون في إثارة السخط ضد الإنجليز عام 1940، لأن إنجلترا بدأت في نقل اليهود إلى جزيرة موريشيوس لإنقاذهم من الخطر النازي، بينما أرادت المنظمات الصهيونية نقل هؤلاء إلى فلسطين. وفي سبيل تحقيق تلك الغاية، قامت قوات الهاجاناه بتفجير الباخرة الفرنسية "باتريا" عند توقفها في ميناء حيفا، ما أدى إلى مصرع 252 يهوديا بالإضافة إلى الطاقم الإنجليزي!
حادثة مماثلة يوردها الكتاب وتثبت أن الاحتلال لا يتورع عن قتل أبنائه بيده في سبيل بلوغ أهدافه، إذ كانت الجماعات اليهودية في العراق (التي بلغ تعدادها 110 ألف نسمة عام 1948) متأصلة الجذور في المجتمع العربي، الأمر الذي عبَّر عنه حاخام العراق "خضوري ساسون" بقوله: "لقد تمتع اليهود على مدى ألف سنة بالحقوق والامتيازات نفسها التي يتمتع بها العرب، وهم لا يعتبرون أنفسهم عناصر غريبة أو منعزلة داخل هذه الأمة". وهي المقولة التي تسببت في سلسلة من الأعمال الإرهابية الصهيونية في بغداد ضد اليهود، ولم تتورع استخبارات الاحتلال عن إلقاء القنابل فوق منازل هؤلاء لإقناعهم أنهم في خطر دائم ولا يوجد أمامهم سبيل إلا الخروج من العراق نحو فلسطين.
ويرى جارودي أن دفع اليهود نحو فلسطين لم يمضِ وفق ما أراده رئيس وزراء الاحتلال "بن غوريون"، الذي خطط لجلب نحو 4 ملايين يهودي إلى فلسطين خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي، لكن عدد المهاجرين لم يتعدَّ 800 ألف يهودي أثناء تلك الفترة، فيما أن عدد اليهود النازحين من دولة الاحتلال فاق عدد القادمين إليها خلال عامي 1975-1976، الأمر الذي قد يعود إلى فقدان الأمان بعد وقائع حرب أكتوبر 73 وتحطم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وهو المشهد الذي تكرر خلال عملية طوفان الأقصى الأخيرة، حين رأينا المستوطنين يفرون ويتركون وراءهم أرض الميعاد (وفق اعتقادهم)، فما أشبه الليلة بالبارحة!
رخصة التطهير العِرقي! لا يمكن تحقيق نصر عسكري حاسم عندما يصطدم جيش بشعب صامد مناضل مثل الشعب الفلسطيني، والمقاومة لن تتوقف أبدا. (الصورة: غيتي)
دأب الكيان المحتل في الكثير من الأوقات، على استخدام الروايات التوراتية بوصفها أداة تبرر أفعاله الهمجية ومذابحه، ويشير جارودي إلى سفر يشوع بوصفه إحدى أشهر تلك الروايات المستخدمة بغرض ترخيص مجازر الاحتلال. ويشوع أحد أنبياء بني إسرائيل الذي يُنسب إليه السفر، ويُعرف عند المسلمين باسم يوشع بن نون. ويقارن جارودي ما بين حصار يشوع وجيشه المزعوم لمدينتَيْ أريحا وعجلون (حاليا شمال غرب الأردن)، ثم الاستيلاء عليهما والقضاء على كل نفس فيهما، وسلوك مناحم بيجين في 9 أبريل/نيسان 1948 حين أقدم برفقة منظمة الأرغون الصهيونية على قتل 254 رجلا وامرأة وطفلا من أهالي قرية دير ياسين، الأمر الذي يتكرر حاليا بحذافيره في غزة، حيث دعت "تالي جوتليف"، إحدى نائبات حزب الليكود، إلى استخدام السلاح النووي ردا على هجمات المقاومة الفلسطينية، عبر عدة منشورات يوم الاثنين الماضي على منصة إكس (تويتر سابقا).
ويؤكد "جارودي" أن سفر يشوع تحديدا استخدم ستارا لأشد الأعمال دموية، لكن "جارودي" يفند تلك المزاعم، حيث يشير إلى أن الأسفار الخمسة الأساسية في الكتاب المقدس هي: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية، أما الأسفار الأخرى مثل يشوع وصموئيل والقضاة والملوك فتُعَدُّ بمنزلة ملاحق تاريخية، وقد أثبت شُرّاح العهد القديم أن تدوين تلك الأسفار لم يبدأ إلا في القرن التاسع قبل الميلاد، ولذلك لا يمكن التحقق من صحة تلك الروايات تاريخيا.
ويضيف جارودي أن الآثار المستمدة من علوم الحفريات تثبت أنه لا يمكن أن يكون الإسرائيليون استولوا على أريحا في نهاية القرن 13 قبل الميلاد، لأن المدينة كانت مهجورة قبل ذلك بزمن، بعد تدميرها في العصر البرونزي عام 1550 قبل الميلاد. كما ينطبق الأمر ذاته على غزو مدينة عاي (التي يذكر العهد القديم أنها كانت تقع غرب أريحا)، إذ خلصت بعثتان أثريتان بعد إجراء عمليات التنقيب إلى نتيجة واحدة، مفادها أن المدينة تعرضت للتدمير نحو عام 2400 ق.م وظلت مهجورة إلى ما بعد عام 1200 ق.م، ثم غدت قرية بائسة بلا أي تحصينات حتى بداية القرن العاشر، لذلك فإن الواقعة المذكورة في سفر يشوع التي تسرد استيلاء بني إسرائيل عليها في القرن 13 ق.م لا يمكن أن تكون صحيحة!
لن ينتصر جيش أمام شعب
ويؤكد جارودي أن الاحتلال لن ينعم بالسلام إلا في وجود دولة فلسطينية تنعم باستقلال كامل، ما يعني إزالة جميع المستوطنات التي تُشكِّل مَعينا لا ينضب للاستفزاز واندلاع الحروب مستقبلا، وفي هذا السياق، يستحضر رئيس وزراء الاحتلال السابق "إسحق رابين"، الذي حاول التوصل إلى اتفاق سلام مع الزعيم الفلسطيني "ياسر عرفات"، ويشير جارودي إلى تاريخ رابين "الأسود" قبل اعتلائه منصب رئيس الوزراء، إذ كان "رابين" قائد قوات الاحتلال إبان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وأمر آنذاك بكسر أيدي الأطفال الفلسطينيين الذين واجهوا الدبابات بالحجارة، غير أن ذلك لم يمنعه فيما بعد من السعي نحو السلام، إذ أدرك بشكل واقعي (مثلما أدرك الفرنسيون ذات يوم في الجزائر) أنه لا يمكن تحقيق نصر عسكري حاسم عندما يصطدم جيش بشعب صامد مناضل مثل الشعب الفلسطيني، وأن المقاومة لن تتوقف أبدا.
———————————————————————————
المصادر:1- كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" روجيه جارودي.
2- Reuters october 2014
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دولة الاحتلال الأمر الذی لا یمکن الذی ی
إقرأ أيضاً:
«حماس» تحذر من استغلال الاحتلال الأعياد اليهودية وانتهاك المقدسات لتوسيع الاستيطان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
حذرت حركة حماس، اليوم الأربعاء، من استمرار حكومة الاحتلال والمستوطنين، في استغلال الأعياد اليهودية، لتحقيق أهداف استيطانية خبيثة وانتهاك المقدسات، وفق نبأ عاجل أفادت به قناة «القاهرة الإخبارية».
وبحسب وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا»، اقتحم مستوطنون، صباح اليوم ، المسجد الأقصى المبارك، بحماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي.
وأفادت مصادر لـ«وفا»، بأن عشرات المستوطنين اقتحموا «الأقصى»، على شكل مجموعات متتالية من جهة باب المغاربة، ونفذوا جولات استفزازية، وأدوا طقوسًا تلمودية في باحاته، تزامنًا مع عيد «الحانوكاة» اليهودي.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي الشامل في قطاع غزة والضفة الغربية، في أكتوبر 2023، شددت قوات الاحتلال إجراءاتها عند أبواب المسجد الأقصى، ومداخل البلدة القديمة.