اتفاقات أبراهام نحو غرفة الانعاش
تاريخ النشر: 16th, October 2023 GMT
اتفاقات أبراهام نحو غرفة الانعاش
لا أمل أبدا في انتظار أي شيء من المؤسسة الرسمية العربية لأنها متخاذلة والأرجح متآمرة.
ما الذي يمكن توقعه سوى ازدياد البون اتساعا بين الأنظمة العربية والرأي العام العربي في كل ما يتعلق بالتعاطي مع هذا الملف؟
ماذا ينتظر غير تواري من يحاول في الساحة الفلسطينية والعربية الترويج لضرورة التهدئة مع إسرائيل والتواصل معها فما بالك بإقامة علاقات اقتصادية وأمنية معها؟
الحديث عن «حل الدولتين» بلا مصداقية أو قيمة بعد أن بات خداعا وكذبا لأنه يفترض إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وهو ما لا يسعى إليه أحد مع أنه يتحوّل لنظام فصل عنصري.
* * *
بغض النظر عما ستفسر عنه التطورات الجارية حاليا بعد عملية «طوفان الأقصى» الجريئة وغير المسبوقة وما أعقبها من رد إسرائيلي جنوني على قطاع غزة في عملية «السيف الحديدي» فقد استقرت نهائيا تقريبا جملة قناعات فرضت نفسها عبر عقود على الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما. قناعات تحوّلت مع السنوات إلى ما يشبه الايمان الديني المغلق:
لا أمل أبدا في أي تسوية سياسية سلمية مع إسرائيل التي لا تفهم إلا لغة القوة. لا أمل أبدا في انتظار أن يكون القانون الدولي والشرعية الدولية هي المرجعية الفصل في التعامل مع الملف الفلسطيني بعد أن باتت مستفزة وصاخبة ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية المختلفة.
لا أمل أبدا في موقف سياسي منصف أو متوازن من واشنطن مهما تعاقبت إداراتها بين جمهوري وديمقراطي. لا أمل أبدا في موقف مماثل من الدول الغربية أو ما يسمى اصطلاحا بالمجتمع الدولي. لا أمل أبدا في انتظار أي شيء من المؤسسة الرسمية العربية لأنها متخاذلة والأرجح متآمرة.
قد لا يكون الإشكال في وجود قناعات واسعة الانتشار كهذه وإنما في خطورة ما ستؤدي إليه من تداعيات معقدة قد لا يكون من السهل على الإطلاق التعامل معها أو احتوائها، من بينها حاليا على الأقل:
الإفلاس الكامل والنهائي للسلطة الوطنية الفلسطينية ولخطاب التهدئة والتسوية الذي تدافع عنه باستمرار والذي لم تعد له أي جدوى أو مصداقية. ومن الصعب على هذه السلطة في الفترة المقبلة أن تكبح جماح من يريد من أبناء الضفة من المقاتلين أن ينسجوا على منوال ما فعلته «حماس» من إنجاز عسكري كبير.
تقدم «حماس» من الآن فصاعدا على باقي الفصائل في كسب عقول وقلوب العرب، والفلسطينيين في المقام الأول، وخاصة على «فتح» بكل تاريخها النضالي المسلح.
وكما كان الأول من يناير/كانون الثاني 1965 شرارة صدارة «فتح» للمشهد الفلسطيني المقاوم أصبح تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول الحالي تاريخ تصدّر «حماس» بسياق أكثر درامية، حتى وإن كان بفاتورة دامية جدا على قطاع غزة وأهلها.
سقوط مدوّ، ولفترة طويلة، للخيار السلمي التوافقي والتفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين فبعد أن ظن نتنياهو وتحالفه المتطرف العنصري أن الأمور استتبت لهم بمزيد من القوة والقمع جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتظهر أن هذه السياسات الإسرائيلية لن تفرض الاستسلام على الفلسطينيين بل ستزيد في إذكاء نزعة الرد العسكري المتواصل بمعناه الواسع أو بصيغة العمليات الفدائية المتعددة في أماكن مختلفة.
الجمود المتوقع لمسار التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل رغم كل الضغوط الأمريكية إذ لم يعد بمقدور عدد من العواصم العربية، سواء التي طبّعت أصلا أو كانت في طريقها إلى ذلك، أن تجد أي مبررات ـ مهما كانت هزيلة ـ تقدمها لاستمرار هذا النهج الذي سيستنزف، بالمناسبة، أي رصيد لها بين أبناء شعبها وسيضر بسمعتها في المحيط.
الصعوبة المتناهية التي ستجدها واشنطن في المرحلة المقبلة إن هي قررت المضي قدما في محاولة توسيع ما يسمى «معسكر السلام» العربي من خلال «اتفاقات أبراهام» التي ستدخل حاليا غرفة الإنعاش لفترة قد تطول.
كما أن واشنطن فقدت، وربما إلى الأبد، أي وجاهة سياسية أو أخلاقية تجعلها قادرة على تقديم نفسها وسيطا قادرا على الدفع بأي تسوية تضمن الحد الأدنى من شروط التسوية المتوازنة أو العادلة.
خاصة وأن مواصلة الحديث عن «حل الدولتين» لم تعد له أي مصداقية أو قيمة يعتدّ بها، بعد أن تحوّل إلى نوع من الخداع والضحك على الذقون لأن مثل هذا الحل يفترض بداهة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وهو ما لا أحد يسعى إليه بالمرة مع أنه يتحوّل إلى نظام فصل عنصري واضح.
في النهاية، ما الذي يمكن أن تفرزه صورة كهذه سوى نفض اليد بالكامل من المشهد الحالي وعدم الالتفات للقانون الدولي والشرعية الدولية وإنصاف الدوائر الغربية وإعلامها، والتوجه بكل قوة إلى قلب الطاولة على الجميع، خاصة عندما يتم الإطباق الكامل على قطاع غزة لخنقه من جميع الجهات، ومواصلة تدميره كليا وقطع الماء والكهرباء عنه ومنع وصول أي إمدادات غذائية أو إنسانية له؟
ما الذي يمكن توقعه سوى ازدياد البون اتساعا بين الأنظمة العربية ورأيها العام في كل ما يتعلق بالتعاطي مع هذا الملف؟ وما الذي يمكن انتظاره سوى تواري كل من يحاول في الساحة الفلسطينية أو العربية الترويج لضرورة التهدئة مع إسرائيل والتواصل معها فما بالك بإقامة علاقات اقتصادية وأمنية معها؟
قبل خمسين عاما تقريبا وقف الزعيم الراحل ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلا للعالم بأسره إنه جاء إليهم حاملا بندقية الثائر في يد وغصن الزيتون في يد، طالبا منهم ألا يسقطوا غصن الزيتون من يده، فلم يفعلوا سوى إسقاط ذلك الغصن ورفسه تحت الأرجل، ما أعاد الاعتبار للبندقية وحدها. على العالم كله أن يواجه هذا الوضع الآن، علّه يعود إلى رشده.
*محمد كريشان كاتب وإعلامي تونسي
المصدر | القدس العربيالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين العرب اتفاقات أبراهام حل الدولتين غصن الزيتون معسكر السلام التهدئة مع إسرائيل الأنظمة العربية ما الذی یمکن بعد أن
إقرأ أيضاً:
في غرفة العناية المركّزة
تدخل إلى المستشفى، تذهب إلى جناح العناية المركزة، تشاهد جثثًا نائمة، لا تقوى على الحراك، محاطة بالأسلاك، والأنابيب، والأجهزة الطبية، تشاهد أولئك الراقدين، الذين استسلموا لمرضهم، ولطبيبهم، وتشاهد ملامح القلق، وأحيانًا اليأس على وجوه ذويهم، أُمٌّ تبكي حين ترى ابنها ممددًا على سرير، وأبٌ يحاول التماسك، وأخت تحاول كتم دموعها، وزوجة تمسك بالمصحف تدعو لزوجها، وزوج يسعى من أجل بصيص من الأمل لزوجته، تراهم جميعًا واجمين، ينتظرون اللحظة التالية، بينما يقوم الأطباء والممرضون بعملهم «المعتاد»، مشهد يشعرك بضعفك، بإنسانيتك، بحزنك، وانكسارك.
ليس هناك أسوأ من الانتظار أمام سرير مريض، لا تعرف مصيره التالي، مؤلمة تلك اللحظات الفارقة بين الأمل واليأس، بين الموت والحياة، الجميع سواسية فـي ذلك المكان، يحاولون التماسك، والتمسك بحبل التفاؤل، وسط أمواج عاتية من القلق، يطلبون من الطبيب أن يطمئنهم على حال مريضهم، ولكنه لا يملك أحيانًا غير مصارحتهم بالحقيقة المؤلمة: «ليس هناك من أمل إلا بالله».. لا يجد المرء فـي تلك اللحظة إلا اللجوء إلى الخالق، يشعر بضعفه أمام جبروت الموت، ويمنّي نفسه أن تُستجاب دعواته، ولكن تمضي الأمور ـ أحيانًا ـ على غير إرادته، لا يكف ذوو المرضى عن الدعاء، حتى الرمق الأخير، إنه سلاح العاجز أمام قدرة الله.
أحيانًا تأتي لحظة الفرج، يُشفى المريض بعد أيام، أو أشهر من الغيبوبة، يفتح عينيه، ويرى العالم كأنما يراه لأول مرة، تدب فـي أوصاله الحياة، وسط «صدمة» أهله، الذين فقد بعضهم الأمل فـي شفائه، وتبدأ احتفالات محبيه بنجاته، يفرحون به كيوم ولادته، تلك اللحظة التي يخرج فـيها من كماشة الموت، إلى مسار الحياة، لحظة زمنية فارقة فـي الذاكرة، لم تكن التجربة سهلة، بذل الأطباء قُصارى جهدهم كي يُنقذوا حياة إنسان لا حيلة له إلا بالله، نجحوا، وذلك مبلغ غايتهم، تحمّلوا صراخ ذوي المريض، وتفهموا انفعالاته، وقدّروا ظرفه الإنساني، ولم ينتظروا الشكر من أحد، فشفاء المريض هو مكافأتهم التي سعوا لأجلها.
فـي جناح العناية المركزة يرقد طفل صغير، أو فتاة يافعة، أو رجل فتيّ، أو شيخ عجوز، يرقدون جنبًا إلى جنب مستسلمين لأقدارهم، لا أدري ما الذي يدور فـي أدمغتهم فـي ذلك الحين، هل ينقطعون عن العالم؟.. هل ينتهي تفكيرهم؟.. أي عالم خفـيّ يعيشونه؟.. هل بإمكانهم التخيل؟.. هل يشعرون بألم أهليهم؟.. هل يمر عليهم شريط حياتهم؟.. (حبيباتهم.. لحظات طيشهم.. خيباتهم.. انتصاراتهم.. حكاياتهم.. من ظلمهم.. ومن ظلموه؟..).. لا يملك الإجابة سواهم، وقد لا يملكون الإجابة بعد شفائهم، فذاكرتهم المشوشة لا تتسع لكل تلك الأسئلة، يخرجون ـ إن كتب الله لهم النجاة ـ إلى حياتهم العادية، قد يتذكرون فـي وقت ما، كيف عادوا من فم الموت، فـيتّعظون، وقد يمضون دون أن يلتفتوا لتلك اللحظات العصيبة.
فـي المستشفى، وحيث العناية المركزة، يتساوى الأحياء بالأموات، الجميع فـي سبات عميق، لا يلوون على شيء، يقضون أيامهم قابضين على جمرة الأمل، يحاولون الفرار من قَدَر إلى قَدَر..
شفى الله كل مريض يعاني، وأعان أهله، ومُحبيه على لحظات الانتظار المرير، وكفانا الله وإياكم شرور «أمراض الفجأة» التي كثرت هذه الأيام، ورحم الله موتى المسلمين جميعًا.