لجريدة عمان:
2024-09-19@21:01:28 GMT

هي الصوت مهما تلوّنت الأصداء

تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT

أجيال من الشباب العربي ولدت وكبرت وتفرقت بها السبل فلم تعرف لمفهوم القضية معنى سوى فلسطين، ولم تحمل هذه المفردة «القضية» ارتباطا بسياق إلا استحضرنا فلسطين، كما لم يكن للمقاومة ارتباط دلالي في ذاكرة الشباب العربي إلا وجاء متصلا بالدفاع عنها في استنكار ورفض للتسليم بنسيانها أو تناسيها، ولا لمفردة العدوان ارتباط إلا بإسرائيل احتلالا غاشما وتهجيرا قسريا لأهل الأرض من سكانها الأوائل، رغم مرور الوطن العربي بالكثير من القضايا الفارقة والمؤثرة على الصعيدين السياسي والاجتماعي إلا أن فلسطين تبقى صوت الوحدة العربي والإسلامي مهما تلونت الأصوات وتشعبت السبل.

رغم كل جهود إسرائيل العالمية للتطبيع وتوجيه الشعوب العربية لنسيان القضية بشغلهم بقضايا مصطنعة وحروب عبثية، وأعداء وهميين تماما كمراوح «دون كيشوت» الهوائية التي ظنها عمالقة مهاجمين، وتمر العقود فتتضاعف جهود إسرائيل في التركيز على انتزاع فلسطين بكاملها وتهجير أهلها بكل ما قد تحمل تلك الجهود من تجييش إعلامي مدعوم مكثّف لكافة الوسائل التقليدية وغير التقليدية، وعلاقات دولية ثنائية أو جماعية؛ إقليمية أو دولية، معلنة أو مستترة، وتوظيف صريح لطاقات القوى الناعمة ثقافيا كاللغة والرياضة وغيرها من جسور ثقافية دولية معلومة، وتحالفات أمنية عسكرية وأخرى اقتصادية معلنة أو مستترة كذلك.

وتمر السنوات وتتوالى العقود لتتبدل مستويات وعي الشعوب بقضية فلسطين وحق شعبها في وطنه، ومن عجب أننا نجد أن تعاطفا دوليا نشأ وتنامى بشكل جلي في أماكن مختلفة من العالم الغربي الذي كان مع إسرائيل برمته، وما ذلك التعاطف إلا تأسيس من قبل المعنيين بالقضية سواء من أهلها أو من القرّاء والباحثين الذين وصلوا انفعالهم الآني بفضول معرفي قادهم للبحث والتقصي بلوغا لمفاد من واقع القصة الحقيقية تاريخيا وإنسانيا، وواقعا منطقيا لا يقبل الشك أو الإنكار، ومن عجب أنه حين تكبر القضية غربيا فيتزايد مناصروها، ويكثر مؤيدوها تصغر أصداؤها في العالم العربي الإسلامي بين أجوف متسلق على مصداقيتها وتعاطف الناس معها ليصل إلى منافع شخصية، أو جاهل استجاب لآلة الترويج الإسرائيلية بأدوات عربية فمُسِخَ متحولا -لا إلى صامت أو ميت- بل إلى بوق مردد أكاذيب العامة في إسرائيل من أنها قضية فردية وليست جماعية، قضية شعب واحد لا أمة كاملة، والحق أقول: لم يَعْدُ هذا قصة «الثور الأبيض» الذي أُكِلَ حقيقة يوم تصفيقه لتصفية باقي أصحابه.

وتأتي لحظة مواجهة مدويّة صادمة لتختبر عقودا من التعاطف الشعبي الغربي، والاتحاد الشعبي العربي لتسقط قامات وترتفع هامات، وما تلك إلا لحظة إعلان المواجهة بين حماس وإسرائيل في إحدى تصادمات الواقع العربي (لا أقول الفلسطيني وحسب) يوم السبت الماضي مع الحرب التي أعلنتها إسرائيل في قطاع غزة ردا على هجوم حماس الذي أسمته «طوفان الأقصى» حاملا معه طوفانا حقيقيا من كل شيء، بين تكهنات عربية أو غربية، وتحليلات غربية وأخرى شرقية، عربية أو عبرية، مهاجمة أو متعاطفة أو مشككة في الهجوم وإمكانياته في تجاوز قدرات إسرائيل العسكرية والأمنية الاستخباراتية بأن ما هو إلا طعم تقدمه إسرائيل للعالم تبريرا لما تحاوله وتريده من تجريف للأرض تماما وتهجير أهالي غزة في ما تريد له أن يكون مشهدا لردة فعل لفعل سابق، متناسية ذاكرةً حقيقيةً لأمة بأكملها، ثم لشعب فلسطين بأن الحكاية لم تبدأ من هنا، وإنما بدأت منذ ما يزيد عن ربع قرن من المآسي المتوالية في محاولات مستمرة لخلق كيان حقيقي لمتغيرات زائلة لا محالة.

ومع التكهن بالمؤامرة وتحليل تشكلات الحرب من قبل أحلافها في كل مكان تتزايد الأطروحات وتتبدل درجات الوعي، وتتغير التعاقدات لما قد يظهر أو يتراءى أو يتماهى، أو حتى يخفى من تقنع الساسة بألف وجه، وتلبس الإقطاعيين بألف زي سعيا لمنالهم الشخصي ومصالح دولهم أو مؤسساتهم المرسومة.

سواء كانت مواجهة السبت كمينا مصنوعا أم مقاومة حقيقية، فإن اليقين في أن القضية قضية حقيقة أمر لا جدال فيه ولا مراء، ولم يبق حينها لأي متلوّن إلا الخباء حتى يعبر الرعاء فـ(لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)، أما الجهر بالجهل أو التجاهل من عربي في مثل هذا التوقيت ما هو إلا عداء معلن، واستلاب مستهجن لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال؛ إذ يمكننا مناقشة أساليب الدعم إنسانيا واجتماعيا وثقافيا أو حتى عسكريا إن أمكن مع الاستفادة من دروس العقود الماضية في ضرورة الحذر من إغناء الأفراد على حساب قضية إنسانية جماعية، ويمكننا اقتراح وسائل للتحليل أو طرق للتعبير، كما يمكننا الاختلاف أو الاتفاق مع الحاصل من واقع الحرب الحالية، أما المأمول فلا يمكن أن يكون أقل من نصرة كاملة لقضية عادلة مهما تقادمت أو تبدلت أشكال وألوان وأصداء معتنقيها أو أسلحة مناهضيها.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ثقافة الأصداء

نشأنا على مصدرين أساسيين منهما كنَّا نُحصِّلُ ما نشتاقه من معارف وثقافة، المصدر الأوّل هو مكتبات الجهات العامّة، أو مكتبات الولايات، والمصدر الثاني هو المكتبة الوطنيّة في العاصمة، فجيلي هو جيلٌ ورقيٌّ، تعوّد على ملمس الأوراق والكتب، وشمِّ روائحها وتقليب صفحاتها، ولحدِّ اليوم، رغم هذا المدّ في سيادة الثقافة الرقميّة، ما زلنا نتطعَّم روائح الكتب القديمة، ونسعد للملمس الكتب، وتقليب صفحاتها.

ثقافتان تتعايشان اليوم، ثقافة الأعماق وثقافة الأصداء، ثقافةٌ آمنَّا بها، وما زلنا نؤمن بها، (ولعلِّي أجعلها ثقافة عمقٍ لأنّي أنتسب إليها، وقد يعتبرها غيري من جيل الثقافة الرقميّة، محض أوهام، وحنين رُكامٍ من البشر)، وهي الثقافةُ الكُتبيّة التي أعتبرها عميقة ومؤسِّسة وباعثةً لعقولٍ مُفكِّرة، ما زلنا نحتاج جهودها وعمق فكرها، وثقافةٌ رقميّة هامّةٌ ولها أدوارها وتيسير أدواتها، ولكنّها تبقى حمّالة أهواء، قد تفضي إلى معرفةٍ سطحيّة، وثقافةٍ شكليّة، ووعيٍ زائف، وحظُّ التزييف والتسطيح والوهم فيها وسيعٌ رحبٌ. أكتب هذا الأمر، وأنا على وعيٍ تامٍّ بضرورة مواكبة الثقافة الرقميّة، وإعمالها في شتّى المجالات والميادين، وأنا أيضا على درايةٍ بأنّها ضرورة تاريخيّة، وحتميّة اقتضاها الواقع، وهي حتميَّةٌ يُمكن أن تكون ناجعةً ومنتجةً، غير أنّنا نرى بعض الظواهِر الرقميّة المؤثّرة في أجيالٍ صاعدةٍ، قد تَعْدم مستقبلاً الصلة بالكتاب، وهو الأمر الجلل، والفعل الخَطر. أوّلا هنالك ظاهرةٌ صارت سائدة في مجتمعاتنا العربيّة، ولا قُدرة لنا أحيانًا على مجابهتها، ولا آليَّة لنا للوقوف ضدّها، ولا أدوات لنا لكشْفها وبيانها، وهي السَّرقات، والسّرق فعلٌ مذموم أخلاقيًّا، وأصْبَح داءً عُضَالاً علميًّا وثقافيًّا، ويسّرته الرقميّات بشكلٍ عجيب، واختلقت له من الأدوات ما يُخفيه وما يُجلِّيه، ما يكتُمه وما يفضحه، فسادت رسائل جامعيّة في مختلف المستويّات مسروقة، وعمّت بحوث ومقالات منقولة، والرقيبُ في حيرةٍ، قد تتجاوزه الرقمنة وقد يُحسن السّارق إخفاء مسروقه، فتُسند شهادات ورُتب علميّة لغير أهلها، ولأناس لا يستحقّون الحبر الذي كُتِبت به. وقد يعترض معترضٌ، ويحتجُّ محتجٌّ قائلا: إنَّ السّرق فعلٌ قديمٌ، وسلوكٌ عتيق، وقد ذمَّه الأقدمون وعابوه، ولا علاقة له بالرقمنة ولا بسيادتها، وهو قولٌ حقٌّ في جانبٍ، ففعل السّرقة قديم، ولكن وسائط التواصل ومواقع الويب ومختلف أشكال التطوّر الافتراضي للعالم، ورقمنة الكتب والمقالات والبحوث يسّرت أمر الأخذ وشجّعت على الإغارة والسّلب، فهل هذا ذنب التطوّر؟ حتمًا لا، وهو ذنب من لم يُحدث لهذه الذنوب حزمة من شديد العقوبات، وقوانين زجريّة، وثقافة في احترام الملكيّة الفكريّة، وتكوين الناشئة على تجريم الأخذ من الغير على غير وجه حقّ. الأمر الثاني الذي أراه خطرا في هذه العوالم الافتراضيّة، وهذه المساحات الكبرى من ثقافة الويب والنت ومختلف أشكالها ومظاهرها، هو بزوغ نجومٍ من ورقٍ، بلا عقولٍ ولا أفئدة، نجوم يستقطبون شبابًا ويستلبون الأضواء في المناسبات والمعارض، حتّى معارض الكتب والفنون، وهم الأوهن، والأضعف، لا منزلة لهم، سوى جمهور وسيع يُتابعهم لعلَّةٍ من العلل، حُسن طالعٍ، أو قدرة على المزاح والسخريّة، أو جرأة ومخالفة للمعهود، أو أحيانا بلا علّة ولا سبب.

عدد المتابعين على صفحات التواصل الاجتماعيّ صار قياسا، لا يعنيني إن صار قياسًا للشهرة، فدومًا كانت الشهرة متأتيّة من مسالك سطحيّة وساذجة، ولكن الذي يعنيني أنّ عدد المتابعين صار قياسًا للمقروئيّة، فخذ مثالاً على ذلك الكاتبة التونسية فاتن الفازع التي تكتب باللهجة التونسيّة التي صارت رقمًا في النشر، وتُصرّح -وهي فعلا كذلك- بأنّها أكثر كاتب تونسيّ باع كتبا، والكاتبة الجزائريّة سارة ريفنس التي حقّقت رقما تاريخيّا في مبيعات كتبها، لم يحققه أي كاتب جزائري، ولكنّ الأخطر من كلّ هذا، وما لم أستسغه، ولن أقبله، أن يُدعى وُجهاءُ منصة أكس أو انستغرام أو التيك توك إلى معارض الكتاب، وأن يُصبحوا نجوم تلك المعارض، فهذا لعمري اعتداءٌ صارخ يئنُّ منه الكتاب ويألم.

وهذا فعلٌ يُمكن أن نتعقّله لو كان الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعيّ محفِّزًا على قراءة الكتب، عاملاً على تنشيط أذهان متابعيه، غير أنّ العكس هو القائمُ، إذ إنَّ الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي، أجير عند شركات كبرى، تستعمله، بسببٍ من أرقام متابعيه للترويج لسلعها، ومن النكد النكود أنّه أصبح من وُجهاء الثقافة، هذه الثقافة التي طالما طمست وجوه مثقّفيها الأصليين. يُمكن أن أفهم حركةً مثل «بوك توك» وعميق أثرها على الفعل القرائيّ، وأنّها ساهمت في جعل الشباب يكتشفون «ميلهم الدفين إلى القراءة»، بالرغم من الآثار السلبيّة لهذه الحركة على جودة الكتب وعمق الكتاب، إذ أنشأت كُتّابًا على المقاس التيك توكي، ولكن ما هو دافعٌ إلى الخزي والعار، أن يدعو معرض للكتاب بائع سوائل تجميل، أو عارضة أكلاتِ مطاعم، أو كاشف حياته الأسريّة ليصير نجمًا في الكُتب. الكتابُ له رائحة الورق، له عبقُ التاريخ، له حميميّة لا يعرفها إلاَّ من سهر الليالي يتمعّن الصفحات، ويخطُّ الأسطر ويمحوها، ويتمثّل أبعادها وأورادها، ولم يكن الكتاب يوما في حاجة إلى لاعب كرةٍ أو عارضة أزياء، أو صاحب صوتٍ رنّان. الكتاب أصلٌ لا يفنى من بعد فناء أبطالِ الورق ودُعاة الأصداء.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

مقالات مشابهة

  • الأعلى للاقتصاد العربي الأفريقي: زيارة بلينكن خطوة جادة في حل القضية الفلسطينية
  • البرلمان العربي يرحب باعتماد الأمم المتحدة قرارا يطالب بإنهاء احتلال فلسطين
  • مصر ترحب بقرار الأمم المتحدة لاعتماد رأي العدل الدولية في قضية فلسطين المحتلة
  • كاتب صحفي: مصر تقف حائط سد أمام تصفية القضية الفلسطينية
  • خبير سياسات دولية: موقف مصر في أزمة الحرب على غزة ثابت
  • «برلمانية الوفد»: إسرائيل تستهدف إطالة أمد الحرب من أجل تصفية القضية الفلسطينية
  • «برلمانية الوفد»: إسرائيل تستهدف إطالة الحرب لتصفية القضية الفلسطينية
  • ثقافة الأصداء
  • رفض أردني مصري لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية
  • بالفيديو|سنجر: الرئيس السيسي يدعم القضية الفلسطينية من قبل أحداث 7 أكتوبر