«وما أعلنتم».. عندما تتجاوز الرغبة الحاجة
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
يجدر التوضيح هنا، أن الرغبة هي ارتقاء آخر للحاجة، شريطة أن يكون هذا الارتقاء سليما، صحيحا، لا ضرر فيه ولا ضرار، لا ينتهك حرمة، ولا يتطاول على مبدأ، ولا يتصادم مع عقيدة، ولا يتجاوز حقوق الآخر، وينبغي ألا يخرج عن صورة (وأمّا بنعمة ربّك فحدّث) من حيث الاستمتاع بالنعمة الحلال في غير إسراف، ولا تقتير، فالترف يذهب إلى المبالغة في الرغبات، وتعددها وتنوعها، وهو أمر مكروه، فالحصول على المال يعد من الحاجيات الأساسية لاستمرار مقومات الحياة اليومية عند كل فرد، فهو أمر مشروع لتعزيز حياة آمنة مستقرة، وتدخل الرغبة فيه عندما يتجاوز به صاحبه إلى الإضرار بنفسه، وبمن حوله، حيث يسخّره لكسب مزيد من الرغبات، قد تكون غير ضرورية، وإلى مزيد من المبالغة في صرفه، حيث يصل إلى مستوى الإسراف، الذي يذهب بذات المال ولا يذر له من باقية، فيخسر الإنسان أهم مقوم لحياته اليومية، وفي كلا الأمرين (الرغبة/ الحاجة) هناك سلوك سواء بالقول أو بالفعل يفصح عن مسافة الاشتغال في كلا المعنيين، سواء هذا الاشتغال في جانبه الإيجابي أو جانبه السلبي، وفي كلا الحالتين هناك تقييم لهذا السلوك، وعلى أساسه يصنف هذا الفرد أو ذاك، وفق سلوكه الظاهر والمعلن.
يتم التحضير في كل البدايات لكل ما نود تحقيقه من خلال تحقيق الحاجات الأساسية كأول خطوة لبدء مشروع الحياة التي نريد، فالحاجات هي المغذي الأول للوصول إلى كثير من الرضا، رضا النفس، رضا العاطفة، رضا العقل، رضا تحقيق الذات، رضا إقناع الآخر بأنك موجود، وأن لك صوتا، وأنك لا تقل عنه في شيء مما وصل إليه، والحاجة بهذا المعنى هي القاعدة العريضة، والصلبة التي تنبني عليها كل المشاريع الحياتية الحاضرة والمستقبلية، ومن دون تحقق الحاجات الأساسية الأولية للفرد يظل مقطوعا عن حقيقة الحياة التي يود عيشها، والوصول إلى مستوياتها الأولية، وبذلك تكون الحاجات الأولية هي العنوان الذي يقود صاحبه إلى الشروع في العمل لما بعد الحاجة، وهي الهاجس المقلق لاكتمال هذا المشروع أو ذاك، ولن نحصي عددا مجموع المشروعات التي نود تحقيقها في حياتنا.
وطوال سني الحياة -العمر المتاح للإنسان- تكون مساحة الحاجات الأولية هي المساحة التي يمكث فيها أطول فترة ممكنة، ولربما يقضي ثلثي عمره، وهو لا يزال يعمل على تحقيق حاجياته الأولية دون أن ينتقل إلى المرحلة التي بعدها وذلك لطول فترة التأسيس التي نحتاجها لهذا المشروع الوجودي «الحياة» ولتشعب الحاجات الأساسية عند كل منا، وهي المرحلة التي تنقله من حالة العسر إلى حالة اليسر، وتعد المستوى الأعلى للترقي في الحياة، لذلك فالغالبية العظمى من البشر هم في هذا المستوى من البناء والتأسيس، وهو مستوى بقدر ما يستنزف من زمن ومال، إلا أنه في الوقت نفسه يدفع بالكثير من الخبرات والتجارب التي تعين الإنسان على إكمال مشوار حياته محققا بذلك نجاحات كثيرة، ومن خلاله يمكن للإنسان أن يصل إلى كثير من الرضا، والقناعات المهمة في الحياة، ومن خلال هذه القناعات يترقى الإنسان في حياته، وإن نظر إلى هذا الترقي، على أنه ترق مادي بحت، إلا أن له جوانب معنوية كثيرة تعزز من قدرات الإنسان لأن يراكم الكثير من الإنجازات خلال مسيرة حياته، وكما هو معلوم بالضرورة أن مرحلة تأسيس وتكوين الحاجيات الأولية هي المرحلة المهمة لبناء الذات، ومعروف أن بناء الذات حالة مستمرة، وفي كل يوم هناك عمل دؤوب في تعزيز هذا البناء؛ فالبناءات الذاتية تظل سبلا استرشادية، يستشرف، من خلالها الإنسان، الآفاق القادمة، ويكوّن من خلالها أيضا تصوراته القادمة، وقد يخمّن بعض النتائج المتوقعة.
ومفهوم الإعلان هنا (وما أعلنتم) هي مجموعة من الممارسات والسلوكيات التي يقدمها الإنسان لواقعه، انعكاسا لمجمل خبراته، ووعيه، والقوة البنائية التي يمتلكها عبر ذاته المعززة بالهمة، والمبادرة، والتي على أساسها يقيم الآخرون حقيقة هذا الفرد في المجتمع، فعقد المقارنات بين الأفراد من خلال مجموع السلوكيات التي يقومون بها: مشاركون، أو متعاونون، متخاذلون، متراجعون نتيجة عوامل اجتماعية مختلفة، ويؤدي السن وتجربة الحياة دورا مؤثرا في هذا الجانب؛ لأن الإعلان يحتاج إلى كثير من الحكمة، والتبصر، ووضع الحسابات الدقيقة، فـ«غلطة الشاطر بألف» وهذا ما لا يرضى به أصحاب الحكمة والخبرة، بعكس صغار السن، الذين يغلب على تصرفاتهم الشطط، والعجلة، وعدم احتساب النتائج المتوقعة من أي سلوك يهدر على قارعة الطريق فالموازين بمثاقيلها، والفرد عموما، كلما قطع زمنا مقدرا في تجربة حياته اليومية، أكسبه ذلك الكثير من الخبرة، والبصيرة، يستطيع من خلالهما أن يضع قدميه في المكان المناسب، حيث تقل حالات التهور، والاندفاع.
ينظر إلى مفهوم الإعلان (وما أعلنتم) سواء بالقول والإفصاح أو بالفعل والسلوك، على أنه أكبر مشروع إنساني على الإطلاق، وبقدر هذا الحجم الذي يمثله «القول» أو «الفعل/ السلوك» تكمن أكثر سقطات الإنسان فيه، فبقدر ما يكون وسيلة للإنسان لكي يقيم علاقة سوية مع الآخرين من حوله، قد يصبح أكبر معول لهدم ذات العلاقة، ولذا يتم التشديد عليه كثيرا سواء في نصوص القرآن الكريم، وفي السنّة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، أو في ما يتفوه به الإنسان نفسه من الشعر، والحكمة، والبصيرة القولية، فالكلمة ذاتها يمكن قياسها على الحاجة عندما تكون في حدود المعقول والمقبول، ويمكن إغراقها في بحيرات الرغبة، حيث الكذب وقول الزور، واليمين الكاذبة، وفي كل المناخات غير السوية التي تحل فيها الكلمة كرغبة، هي، بلا شك، خروج عن وسطية القول إلى المبالغة فيه، والمبالغة لن تكون إلا في تجاوز الحقيقة التي يحتكم عليها الجميع، ويقتنع بها الجميع، لأنها لا تقبل القسمة على اثنين، فإما الحقيقة، أو لا حقيقة، وإنما كذب وافتراء، وهذا أمر تكلفته كبيرة، ويحتاج التفكير فيه إلى كثير من الزمن، فسقطة الكلمة معناها سقطة في الأمانة، وسقطة في العدالة، وسقطة في الرجولة، وسقطة في المؤتمن عليه، وسقطة أكبر في الدين، ومتى وقع الفرد في كثير من هذه السقطات، إن لم يكن كلها ماذا بقي له من أمانة، ومن صدق، ومن اطمئنان، فمصيبته كبيرة، بلا شك، وما ينطبق على الكلمة كقول، ينطبق على الممارسة كسلوك، فالسلوك الشائن هو مصيبة على صاحبه، والسلوك الحميد أمن واطمئنان على صاحبه كذلك (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
تستوقفنا بعض الحكم لنسترشد بها إلى كثير من التبصر، فالوسطية «خير الأمور يا فتى أوسطها» التي تنادي بها هذه الجملة، هي عنوان رائع لحياة كل منا، فمن خلال هذه الوسطية نحقق حاجياتنا الأساسية، ولا نحرم أنفسنا من الحصول على رغبات أخرى، فعندما تقتضي الحاجة إلى ارتداء ملابس محترمة، تظهرك أمام الآخر في صورة حسنة، فلن تكون هناك مشكلة في أن تنوع من هذا اللباس سواء في ألوانه، أو في قيمته المادية -وهذه من الرغبة- وذات المثال يمكن أن يقال عن اقتناء مركبة، أو جهاز هاتف، أو بناء منزل، أو التفكير في سفر لقضاء أوقات سعيدة، ففي كل هذه المناخات التي توجدها كأولوية في حياتك، يمكن لك أن ترتقي بها كرغبات، حيث تنقلها من الضرورة القصوى لوجودها إلى المبالغة الخارجة عن الضرورة، فما بين السلوكيين أنت تظهر للآخر (وما أعلنتم) من أنت، وما حقيقتك، وبهذا الإعلان تتيح للآخرين تقييمك، ومشكلة هذا التقييم أنه تنبني عليه أحكام، ومواقف، وقناعات، قد ينفعك البعض منها، وقد يضرك الأكثر منها، وكما يقال: «أنت وما صنعت» وقد ترتكن في بعض ممارساتك على مفهوم الحرية الشخصية، وأن الآخرين ليس لهم دخل في كل ما تقوم به، ولكن الواقع يقول غير ذلك تماما، فجميعنا موضوعين على كفة الموازين التي يقيمها الناس لبعضهم البعض.
وتبقى (وما أعلنتم) ميزان شديد الحساسية، يحتاج إلى كثير من الحكمة والبصيرة، والمحافظة عليه كمن يمسك على الجمر، فالجميع على فوهة بركان التقييم، والنقد، وتبدل المواقف والقناعات، والعاقل من دان نفسه.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلى کثیر من من خلال وفی کل
إقرأ أيضاً:
هل من الضروري الكشف عن الماضي؟.. ننشر فصلا من رواية "الرغبة الأخيرة"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تنشر "البوابة نيوز" فصلا من الترجمة العربية لرواية "الرغبة الأخيرة"، للكاتبة يفهينيا كونونينكو، والتي صدرت حديثا عن اللغة الأوكرانية عن دار "صفصافة" للنشر.في الرواية الواقعة في 220 صفحة، والتي ترجمها عن لغتها الأصلية عماد الدين رائف؛ تحاول الكاتبة الإجابة على سؤال: هل من الضروري الكشف عن أسرار الماضي؟ وهل ذلك ممكن؟ وترى أنه، على الأقل، ينبغي أن نسعى جاهدين لمعرفة الحقيقة، لأن المعرفة الواعية تمنحنا الحرية "تلك الحرية التي من دونها تستحيل ولادة شخص واعٍ ينظر إلى المستقبل، ليكون مالك مصيره مهما كانت الظروف".
والآن.. إلى السيرة الذاتية
"كل شخص يستطيع أن يكتب كتابًا واحدًا جيدًا في حياته، وليس عليه بالضرورة أن يكون كاتبًا محترفًا. إنه كتاب حياته. ولكن إذا كنت تكتب كتابًا عن حياتك من الناحية النظرية، وليس عن ذكريات عن مرحلة معيَّنة منها، فأنت بحاجة إلى انتقاء الإنجازات بعناية فائقة، وليس كل ما مرَّ بك. وإذا كنتَ تريد أن تذكر بعض الأشخاص في قصة حياتك، فيجب أن يكونوا أولئك الذين كانت في أيديهم مفاتيح مصيرك"، كما قال فاسيلي جوخوف في محاضرة ضمن دورة "نظرية السيرة الذاتية"، وقد كانت من ضمن الدورات الأدبية العليا في عاصمة بلاد السوفيات، إلى حيث أرسلني اتحاد الكتاب في أوائل السبعينيات.
"يمكن لأي شخص أن يكتب كتابًا جيدًا عن حياته إذا تمكَّن من اختيار الحقائق الضرورية بلا رحمة! إذا كان من الصدق بمكان أن أكتب أن الشخص الحقيقي هو مقاتل من أجل المثل العليا لبلاد السوفيات!"، كما قال فاسيلي برافدا، معلِّمي الأول في الحرفة الأدبية، الذي كان رئيسَ الورشة الأدبية المغلقة "المستقبل المشرق"، التي التحقتُ بها في الخمسينيات، وهي ورشة مُغلَقة لجنود الجبهة الخفيَّة، التي ظهرت فيها مواهبهم الأدبية فجأة. رفع رئيس الورشة الأدبية المغلقة صوته، موضِّحًا أن اسمه الأدبي تكريم لاسم صحيفة "برافدا"( )، الصادرة عن جهاز النشر المركزي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلشفي لعموم الاتحاد السوفياتي، والتي تقرؤها كل الإنسانية التقدمية، وليس تكريمًا لمفهوم "الحقيقة" المجرد، الذي أصبح أقلَّ وضوحًا، ويجب أن نفكر فيه بعناية أكبر.
"عندما تجلس يومًا لتكتب سيرتك الذاتية، ستشعر أن ذكرياتك تقودك إلى بعض العوالم السريالية، حتى لو كنتَ واقعيًّا واثقًا. في مرحلة ما، سوف يتحكم بك الماضي، ولن تكون متحكِّمًا به. لهذا السبب عليك أن تختار بعناية ما تكتب عنه وما لا تكتب. سيحكم عليك الأحفاد من خلال سيرتك الذاتية، إذا تمكَّنتَ بالطبع من إكمالها.
لكن علينا أولًا أن نكتب عن هذه الحقبة المضطربة التي نحن جميعًا محظوظون بأن نعيش فيها! عن بناء المستقبل المشرق، الذي يعيق تحقيقَه ألدُّ الأعداء. وعندها فقط نكتب عن يدَيْ الأم الدافئتين، عن صوت الوالد اللطيف!" -رفع فاسيلي برافدا صوته- "لا تَخَف من أن تغطي في سيرتك الذاتية ما كنتَ تخاف منه من قبل! فإذا كانت لديك حاجة إلى سيرة ذاتية، فهذا يعني أنك أصبحت بالفعل شخصًا حكيمًا تغلَّب على كل مخاوفه، أليس كذلك؟" - طرح فاسيلي جوخوف سؤالاً بلاغيًّا على الجمهور.
لقد تلقَّيتُ إرشادات حول كيفية كتابة كتاب حياتي قبل مدة طويلة من جلوسي لكتابته، ومنها أن أختار بلا رحمة وبلا خوف تلك الوقائعَ من حياتي التي تركَّزَت فيها حقيقة الأحداث التي عشتها. وأن أتحدث عن أي شخص في حياتي، عن زوجتي، أو عن أولئك الذين كانت في أيديهم المفاتيح بشكل دقيق للغاية... والمفاتيح تفتح أبوابًا تبدأ خلفها تقلُّبات القدر، وهي ليست ممرَّات أو أنفاقًا مستقيمة، بل منعطفات غير متوقعة أو سلالم قادتني صعودًا أو هبوطًا.
من الصعب جدًّا أن أكتب عن نفسي بعد تجربتي الحالية، بعدما كتبت العديد من الأعمال، ومنها الروايات والقصص والقصص القصيرة. لم أكتب قطُّ بضمير المتكلم؛ لذلك لن أكتب به في عملي الأخير عن نفسي.
لا أستطيع تغيير أي شيء في حياة ذلك الرجل الذي عاش تلك الحياة، ولا تغيير الحقيقة التي أعرفها بكل تفاصيلها، وإن غادرتُ لن يعرف أحد بها. فمن حقِّ أي شخص يقرأ سيرتي الذاتية ألَّا يصدق كلمة واحدة أو أن يصدق بعض الكلمات دون غيرها. لا يسعني إلا أن أحاول أن أقول الحقيقة عن حياة إيفان إيفاك. إذا بقيت على قيد الحياة خلال كتابة هذه السيرة. لكنني أكتب من أجل الرحيل، وليس من أجل البقاء.
أجلس في مكتبي أثناء العمل في إحدى دور النشر، حيث أعمل منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. أنا الموظف الأقدم في هذه المؤسسة التي كانت محترمةً ثم باتت بائسةً في هذا العصر. في المنزل، يبدو أن مكتبي أفضل بكثير، حيث تصطفُّ خلف أبواب الخزائن الزجاجية كتبٌ مختلفة، من بينها كتب لمؤلفين رائعين حقًّا. وخلف مكتبي الضخم المصنوع من خشب الماهوجوني، على كرسي بذراعين ومقعد جلديٍّ وظهر مستقيم ومرتفع، لا أستطيع إلا أن أكتب روائع أدبية. ولكن هناك الآن كمبيوتر حفيدي ميخاس على طاولة المكتب، فلأدعه ينهي واجبه المنزلي بشكل جيد، وهذا واجب الجدِّ تجاه حفيد في مثل عمره. ساعدني ميخاس في سحب الفونوغراف القديم ووضعه على المكتب أيضًا، وهو يصدر صفيرًا وتنهُّدًا، لكنه لا يزال يعزف الموسيقى؛ لذا وضعت أسطوانة ميلفا( ) الحبيبة تحت إبرته، وفتحت الدفتر الكبير على الصفحة الأولى.
أستدعي الآن -بلُطفٍ- أولئك الأشخاص الذين يملكون المفاتيح التي ستفتح الغرف الضرورية في مبنى حياتي. غرفة المعيشة حيث تتدلَّى الصور العائلية الاحتفالية، ويتلألأ الكريستال السوفياتي في الخزانة الجانبية، ويسخر منه الزملاء الأدباء الأصغر سنًّا كرمز للطبقة اليائسة... والمكتب حيث توجد في خزائن الكتب الجيدة وغير الجيدة، وجوائز الدولة الموجودة في أدراج المكاتب، والتي تمنح بشكل رئيس لقاء مختلف الأفعال السيئة... وغرفة النوم، أوه، هذا هو الشيء الأكثر إثارة للاهتمام، ولكن حتى هناك لا توجد الحقيقة الكاملة... والمطبخ، بالطبع... والأمر المهم هو أن هذه المفاتيح تفتح جميع غرف التخزين المظلمة في العُلِّيَّة وفي الطابق السفلي... وحتى المرحاض... على الرغم من أن فاسيلي برافدا لم ينصح بالسماح لقرَّاء المستقبل بالدخول إلى الحمام: "لن تخبر أحفادك كيف ذهبتَ إلى المرحاض!"، كما قال المرشد الذي انجذب للتفلسف في موضوع نظرية السيرة الذاتية. بدأ أعضاء الورشة بالضحك بطريقة ودية. تذكَّر إيفان إيفاك النقش الموجود على جدار المبنى الخارجي:
"ستموت الآن موتًا رهيبًا!"
كان هذا النقش على جدار مرحاض متصدِّع في الفناء الخلفي لمنزل فقير في الضواحي. كان موجودًا بالفعل لبعض الوقت، أقول هذا بذهنٍ صافٍ وذاكرة قوية. لذلك، يحدث أن المرحاض قد يركِّز على حقيقة العصر. ثم أصبح إيفان إيفاك مهتمًّا على الفور بهوية الشخص الذي تجرَّأ على كتابة هذا النقش على الجدار في سنوات ما بعد الحرب، في الأربعينيات وليس الخمسينات. مَن أمكَنَه كتابة شيء كهذا؟ وكيف يمكن أن يخاطر بنفسه وعلى الملأ بهذه الطريقة؟
ربما، لم تكتب هذه العبارة مالِكةُ المنزل ليودميلا أولاسيفنا، أرملة مدرِّس "اللغة الأم" ميخايلو ميخايلوفيتش، الذي اعتقله الألمان أثناء الحرب، لأن أحدهم أبلغ الجستابو أن العجوز كان عضوًا في الحزب الشيوعي لعموم الاتحاد (البلاشفة). تردَّد الناس على المرأة العجوز ولم ينسوها، كذلك فعل إيفان حين كان يزور والدته. وقد أعطت إيفان شمعةً كي يذهب إلى بيت الخلاء مرة، لكنه ما أن رأى ذلك النقش حتى أصابته نوبة من الرعب لدرجة أنه لم يستطع أن يفعل ما ذهب لفعله. كان آنذاك يخدم بالفعل في القوات الخاصة التابعة للمفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، وكان عليه أن يبلغ على الفور عن النقش المناهض للسوفيات. لكن إيفاك لم يفعل ذلك على أمل ألَّا يراه أحد ذاهبًا إلى المرحاض حاملًا شمعة. من حين لآخر، كان إيفان يزور والدته وأخاه الأصغر ليسيك( ) الذي أنجبته خلال الحرب، ولم يعُد يزور أرملة ميخ ميخ( )، وكان يسرع الخطى بالقرب من منزلها. ولم يعبر إيفان عتبة ذاك المنزل البائس إلا عندما حضر جنازتها. لكن كان ذلك في عصر مختلف، حين لم تعُد الكتابة على جدران المراحيض تدعو إلى القلق.
جاء ميخ ميخ إلى صفحات هذه السيرة الذاتية بشكل غير مُخطَّط له. كان من المخطَّط أن يُستدعَى بطريقة حكيمة، فقد علمنا دائمًا أن نرسم الخطوط العريضة لما سنكتبه. وقال ميخ ميخ إننا إذا أردنا أن نكتب شيئًا، فيجب أن نأخذ في الاعتبار: ما الفائدة ممَّا سنكتبه للمستقبل. كي يقول لنا أحدهم، بعد قراءة ما كتبناه: شكرًا لكم. يبدو أن المعلم السوفياتي لم يكن على درايةٍ بنظريات التحليل النفسي للكتابة من أجل تهدئة الروح.
ترون الآن أنني أرتدُّ عن محاضرات أستاذ العاصمة في الدورات الأدبية العليا وعن أفكار قادة الورشة الأدبية، إلى ما كان درَّسه لنا معلِّمٌ مَدرسيٌّ قبل الحرب.
يبلغ عمر ابني الآن نحو خمسين عامًا، وأنا بِتُّ في السبعين من عمري. أصبح حفيدي بافلو الآن أكبر سنًّا ممَّا كنت عليه عندما عِشتُ مع امرأتي الأولى. حدث هذا لي مبكِّرًا جدًّا لأنه كان في زمن الحرب. ومع ذلك، هي ليست مسألة حرب. أصبح بافلو أيضًا رجلًا في وقت مبكِّر جدًّا. لقد كتبت بالفعل عن هذا ولن أكتب مرة أخرى. وحده بافلو يستطيع أن يخبر المزيد عن نفسه إذا شعر أنه سيموت إن لم يخبر، أو مثلي ألَّا يموت من دون أن يخبر. لكنني لا أتمنى أن تسري تجربتي على حفيدي.
بما أنني ذكرت امرأتي الأولى التي يصعب وصفها بأنها امرأة، فقد كانت صغيرة جدًّا، سيكون من المنطقي للغاية أن أبدأ قصة حياة إيفان إيفاك معها. علاوة على ذلك، بين يدي ماريا كالاماتنا مجموعة كاملة من المفاتيح للعديد من الغرف المهمة في مبنى حياتي الأخرق ذي المصير الرهيب. كان إيفان إيفاك القاصر على علاقة حب فعلية مع القاصر ماشا( ) كالاماتنا في كييف المحتلة، كما سمَّاها المواطنون العاديون آنذاك، أمَّا بلغة صحيفة "برافدا" فكان يطلق عليها "الأراضي التي احتلَّها الغزاة النازيون مؤقتًا". من قصة فانيا( ) إيفاك وماشا كالاماتنا نفسها، يمكن اليوم أن نكتب رواية جيدة. لن تكون قصة حب. ستكون قصة عن فوضى الحرب في الشوارع، في البيوت، في الأسِرَّة، وفي النفوس. بعد سنوات عديدة، سيقول الشقيق الأكبر إيليا، أحد المشاركين في الأعمال الحربية، وهو يرفع نَخبًا: "الشاب الأكثر رفاهية مع امرأة أثناء الحرب". لقد اختبر إيفان في كييف المحتلَّة الوصفَ الذي عبَّر عنه إيليا بشكل كامل. لكنني لن أكتب رواية عن رومانسية أطفال الحرب القاصرين متعمدًا، لأن الذكريات المظلمة ستجرُّني إلى زاوية في المكان الخطأ ولن تسمح لي بكتابة قصة حياة إيفان إيفاك. وهذا مُتوقَّع مني.
لذا، سأعود إلى ماريا لاحقًا.
في هذه الأثناء، سأسرد كلمات عن مشاهد من بداية حياة إيفان التي تحتفظ بها ذاكرتي، وتصبح أكثر وضوحًا كلما ابتعدت. ولتوضيح ما نتحدث عنه، فقط البيانات الشخصية لإيفان إيفاك الابن الثاني في عائلة زاخار وغالينا إيفاك، سمَّياه إيفان على الرغم من أن البِكر يحمل عادة اسم إيفان. وُلِد في ضاحية قرب المدينة تقع في وادٍ لم يبقَ منها بيت واحد اليوم. نادرًا ما تحتوي سلوبودا( ) على منازل ذات قيمة معمارية. وكانت بائسةً بشكل خاص. لم تكن هناك حدائق بالقرب من المنازل، كما هي الحال بالقرب من تاتارتسي، حيث كانت شجيرات الورد المورقة تُطِلُّ من خلف كل سياج خلال الربيع. لم يكن في الوادي بيتٌ حجريٌّ واحد، ولم تكن فيه حتى منازل خشبية كاملة. الله وحده يعلم مِمَّ بُنِيَت جدران الأكواخ، ولم يكن من الممكن فتح نوافذها المشوَّهة. عندما سار إيفان عبر ذلك الوادي، كان يلاحظ أن معظم الأكواخ ذات ستائر أنيقة من التُّول( ). ولم تكن تلك الستائر لحماية الخصوصية، فلحماية الخصوصية كان من الأفضل تعليق أي قماش من دون ثقوب. كانت ستائر الضواحي تلك في غير مكانها... مثل خطوط العنق العميقة على فساتين النساء العجائز. قام أحد المحرِّرين ذات مرة بحذف هذه الاستعارة من إحدى قصصي القديمة؛ لذا أعيد تدوينها هنا.
كل مشاكل إيفان إيفاك وأفراحه ارتبَطَت بهذه المدينة. بقدر ما يستطيع أن يتذكر، كان يركض من الوادي، أحيانًا مع أطفال آخرين، وأحيانًا بمفرده، ويتسلَّق التَّلَّ إلى شوارع المدينة، يفعل ذلك بتَوْقٍ، ناسيًا نفسه. منذ أن كان في الخامسة من عمره تقريبًا، كان يحب الوقوف أمام المنازل الحجرية الجميلة ويحلم بأنه سيعيش يومًا ما في أحدها. الأهم من ذلك كله أنه أحبَّ شارع أوفروتشسكا. في كثير من الأحيان كان يحلم بالعيش في منزل من طبقة واحدة، مُزيَّن بتمثال لرأس امرأة تعتمر تاجًا وعليها قلادة، فوق الباب الأمامي، ونوافذه مُزيَّنة بالورود.
لعل الذكرى الأكثر وضوحًا من الطفولة المبكرة حين تمكَّن من استراق النظر عبر فتحة في سياج يحيط بحديقة المنزل، فوق الوادي مباشرة، فرأى ذلك القصر الجميل المذهل. قبل الحرب، كان المنزل مقرَّ مُفوَّض الشعب الذي نُقِل فيما بعد. تذكَّر إيفان المحادثات حوله في الوادي، فقد عاش المفوض مثل سيد أرستقراطي وحصل على ما يستحق. وفي كييف ما بعد الحرب، بات القصر منزل خروتشوف الشهير في تلك المنطقة. في نهاية السبعينيات، هدم السياج وتحوَّل المبنى إلى مستشفى، وفي ذلك الحين سارت النساء هناك بأرديتهنَّ المتَّسخة بين أكوام الصناديق بالقرب من القفص الكبير، حيث عاشت طيور التَّدرُج( ) في السابق. أنجبت إيروتشكا ميخاس في ذلك المستشفى. حملنا أنا وزوجها ميكولا أغراضًا إليها، وأخبرتُه كيف نظر إيفان إيفاك البالغ من العمر نحو أربع سنوات بذهولٍ إلى هذا المنزل من خلال ثقب في السياج، ثم عاد إلى الوادي البائس.
لم يمثِّل المسكن السيِّئُ الكارثةَ الرئيسية لدى عائلة إيفاك في الوادي، ففي النهاية، كان مبنى لودميلا أولاسيفنا وميخايلو ميخايلوفيتش بائسًا أيضًا. لكن كان هناك شيء جذاب فيه، على الرغم من ستائره القبيحة. في شقة عائلة إيفاك، لم تكن يد الأم دافئةً ولا صوت الأب هادئًا. الأب لم يصمت، كان يصرخ دائمًا ويقطع حديثه ولا يكمل جُمَلَه. ولم يكن من الممكن أبدًا أن فهم سبب عدم رضاه. كان غاضبًا على الجميع كما يبدو. وكانت الأم تصرخ أيضًا. لكن الآباء الذين كانوا يضربون أطفالهم، بكل ما طالته أيديهم، تعرَّضوا للترهيب الشديد من قِبَل النظام السوفياتي. كذلك الأبناء الذين تعلَّموا الدفاع عن أنفسهم مبكرًا تعودوا على استخدام هذه الخصوصية.