أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «7»
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
إن هويَّة لورَنس الإشكاليَّة هي موضوع التَّأبين التِّذكاري في المشهد الممتد (episode) في كاتدرائية القدِّيس بول الذي يتلو مباشرة المشهد التَّأسيسي (establishing scene) حيث يلقى لورَنس مصرعه في حادث الدَّراجة النَّارية في مستهل الفيلم. «مَن هو لورَنس؟» هو السؤال الضِّمني غير المنطوق به الذي يُقّدِّم الاسترجاع (flashback) الطَّويل الذي يكوِّن بقيَّة الفيلم.
وبعد قَطع صحراء سيناء في مشهدٍ ممتدٍّ (sequence) مليء بالعواصف والدوَّامات الرمليَّة التي تحجب البصر، وبالتالي فإنها تُضفي الغبار على هويَّة لورَنس وتبتلعها حرفيَّا ومجازا، ولدى الوصول إلى قناة السُّويس، يصرخ جندي بريطاني يركب درَّاجة ناريَّة هاتفا بلورَنس من الضِّفَّة الأخرى للقناة مرَّتين: «من أنت»؟!، غير أن لورَنس لا يجيب إلا بنظرة حائرة وصامتة. من المفيد هنا أن أذكر أن المُخرِج، لين نفسه، قد سجَّل ذلك السُّؤال الهاتف بنفسه في المعمل السِّينمائي، وبالتالي فإن السؤال هنا استفهاميُّ واستنكاري، حرفيٌّ ومجازي، في الوقت نفسه، وهو صادر من «المؤلِّف» (بالمعنى الذي نقصد به الأمر في نظريَّة «المؤلِّف السِّينمائى film auteur»). أدريَن ترنر يُؤوِّل ذلك بأنه «حيرة المُخرِج في طبيعة بَطَلِهِ، وحيرته إزاء نفسه أيضا» (43).
ثلاث ثنائيَّات من الرِّجال
علاوة على ذلك فإن الفيلم يضع لورَنس في علاقةٍ إلزاميَّة مع ثلاث ثنائيَّات من الرِّجال. وغرض تلك الثنائيَّات هو أن تُخَرْجِنَ externalize (من «الخارج») بصورة مجازيَّة الذكوريَّ، والأنثويَّ، والأيروسيَّ في لورَنس وَلَهُ؛ أي، بكلماتٍ أخرى، الهويَّات المتعدِّدة التي هو مُمَزَّق بينها. لكن عليَّ أن ألاحظ هنا أن تلك الثنائيَّات، في الغالب، لا تستقيم بوصفها ثنائيَّات ضِديَّة (binary oppositions) بصورة دقيقة ومُتَصَلِّبَة؛ فَتَلاعُب الذُّكوري والأنثوي وتنويعاتهما يتقاطع ويَنْجَدِلُ. ومرة أخرى، وعلى الرّغم من عرْض تنويعات من الهويَّات فإن الفيلم، في نهاية المطاف، يصرُّ على كتابة لورَنس بوصفه «رجُلا» بالمعنى البطريركي للمفردة.
الثُّنائيُّ الأوَّل الذي يعكس المأزق التَّناقضي (paradox) الذي يَخبِره لورَنس، والذي يُقَدِّمه السَّرد في مُستَهل الفيلم، يتكوَّن من الجنرال مُرِيْ General Murray، وهو القائد الخشِن وجلف الطِّباع في مقر القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة، والسيِّد دْرَيْدِنْ Mr. Dryden، وهو السِّياسي الذي يعمل في المكتب العربي هناك. وبشخصه العيَّاب، والسَّاخر، والطُغيانيِّ، وافتقاره الكامل للحُنوِّ يظهر الجنرال مُرِيْ للعيان لاعبا دور الأب: الدَّور الذُّكوري؛ فمكتبه يبدو عبارة عن مخزنٍ زاخر بالمُقتنيات القضيبيَّة والأيقونات الذُّكوريَّة. أما التَّركيب المشهدي (mise-en-scene) فيؤكد على التَّنسيقات العموديَّة: ثمَّة قذيفة مدفعِ دبَّابة نراها بارزة بصورةٍ ناتئة في وضعٍ قائم على طاولة، وعمودٌ رخاميٌّ، وحامل معاطف، وتماثيل نصفيَّة لرجال. وهناك أيضا نموذجان مُصَغَّران لمدفعين، وكذلك لوحة معلَّقة على الجدار تصوِّرُ ثلاثة مدافع مصفوفة بصورة عموديَّة. عليَّ أن أذكر هنا أن المَدافع، وهي رموز قضيبيَّة جليَّة، تُسْتَحْضَرُ طوال الفيلم باعتبارها ما «يَنقُصُ» العرب؛ فالأمير فيصل يطلب من البريطانيِّين بإلحاح تزويد جيشه بالمدفعيَّة، ولكنهم يتجاهلون ذلك. «إذا ما أنت أعطيتهم المدفعيَّة فإنَّك تكون قد أعطيتهم الاستقلال»، هكذا ينصحُ دْرَيْدِنْ الجنرالَ أللنبي. وكذلك فإننا نرى من خلال نافذة مكتب الجنرال مُرِي برجا في خلفيَّة الكادر، وهذا ما يوسِّع لدى العسكري الجلف التَّصور الذُّكوري للعالم الذي يوجد خارج محيطه المباشر في مكتبه. إن هذا الجنرال، وقد وافق على طلب دْرَيْدِنْ إرسال لورَنس إلى الصَّحراء العربيَّة على مضض، يعزو بصورة صريحة هويَّة جنسيَّة غير محدَّدة لِلورَنس، وهذه الهويَّة قد تكون المثليَّة الجنسيَّة، أو ربما حتى الهويَّة اللاجنسيَّة من الأساس: «أنت ذلك النَّوع من «المخلوق» الذي لا أُطيق»، وهو نفسه - الجنرال مُرِيْ- من يضيف بعد فترة قصيرة من ذلك قائلا: «من يدري، فالمهمَّة الشَّاقة في الصَّحراء العربيَّة ، يمكن حتَّى أن تجعل منه «رَجلا». وعلى النَّقيض من الجنرال مُرِيْ، فإن دْرَيْدِنْ ليِّنٌ، وهادئ، ويؤدي دور الحنو والحماية، ومتعاطِفٌ، وهو بهذا يظهر لاعبا دور الأم: الدَّور الأنثوي. إنَّه، على سبيل المثال، يشير إلى لورَنس بيده خِفْيَةً كي يكبح جماحه في وجه الجنرال الغاضب كما تفعل أمٌّ لولدها في وجه أبٍ طاغٍ. وبالتباين مع مكتب مُرِيْ، ذي الإضاءة الخشنة والجافَّة، فإن مكتب دْرَيْدِنْ مُضَمَّخ بِتَوَرُّدٍ ضوئيٍ ناعم يبوح بتركيبٍ مشهدي يؤكد على التَّنسيقات البصريَّة الأفقيَّة..
--------------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(42): Frank McConnell, Storytelling and Mythmaking: Images from Film and Literature (New York: Oxford University Press, 19679), 126.
(43): Turner, The Making of David Lean s Lawrence of Arabia, 8.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجنرال م ر ی الذی ی
إقرأ أيضاً:
حكيم العرب.. قائد تطلّع إلى العالمية في خدمة الإنسان
وضع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، معالم البدايات في تطور الخدمات الصحية في دولة الإمارات، وشكلت رؤيته، طيب الله ثراه، الأب المؤسس في الرعاية الطبية التي يمكن من خلالها تحقيق أفضل ما يُمكن لضمان استقرار المجتمع والحفاظ على صحته، وكانت كلماته خير دليل على ذلك حين قال: «لا أريد أن يغترب إنسان بحثاً عن العلاج ليكابد مع آلام المرض مشقة الابتعاد عن الأهل والوطن»، ومن أجل تحقيق هذه الرغبة، تصدرت الرعاية الصحية قائمة الاهتمامات، وأصبح من حق كل مواطن يعيش على هذه الأرض أن يفخر بما تحقق في المجال الصحي، وما تحظى به من منشآت وقلاع طبية تنتشر في المدن والقرى.
كان النفط سبباً في التغيير، وذلك في منتصف أربعينات القرن العشرين، عندما بادرت شركات النفط لإنشاء مستوصفات صغيرة، وتعيين الأطباء، لتوفير الخدمات الطبية لموظفيها في الحقول النفطية، لكن مع قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1971، أدّى هذا التحرك السياسي لإنشاء وزارة الصحة العامة التي فعّلت المزيد من التطوّر السريع في مجال الرعاية الصحية، وصولاً إلى تجاوز معدل نمو الكادر الطبي خلال 10 سنوات، بين 104 و140%، وارتفع عدد الأطباء البشريين العاملين بالقطاعين الحكومي والخاص إلى 26151، بنهاية 2020، مقابل 12804 أطباء عام 2010، بزيادة 104% وب13347 طبيباً، كما ارتفع عدد أطباء الأسنان إلى 6811 طبيباً، مقابل 3042 طبيباً بنمو 124%، وفي التمريض إلى 56133 ممرضاً، بنمو 140%، وذلك بحسب المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء.
البنية التحتية
شهدت الخدمات الصحية في عهد الشيخ زايد، تطوراً كبيراً، حيث أولى طيب الله ثراه، اهتماماً كبيراً بالقطاع الصحي، مما ساهم في تحسين مستوى الرعاية، ومن أبرز جوانب هذا التطور، الاهتمام بإنشاء البنية التحتية وتأسيس مستشفيات ومراكز صحية في جميع أنحاء الإمارات، بما في ذلك المناطق النائية، حيث كان الوالد المؤسس يحرص على ضمان توفير الخدمات الصحية لجميع المواطنين، بما في ذلك المناطق الريفية التي كانت تفتقر إلى الرعاية الطبية.
كما أولى، طيب الله ثراه، اهتماماً كبيراً بالتوسع في التعليم الطبي، حيث تم تطويره بشكل ملحوظ بإنشاء مدارس طبية وتوفير برامج تعليمية للأطباء والممرضين، كما تم إرسال العديد من الطلاب الإماراتيين إلى بعثات تعليمية خارجية للدراسة في مجالات الطب والصحة.
أجهزة متقدمة
كانت الإمارات في فترة حكم الشيخ زايد، تسعى لتوفير أحدث الأجهزة الطبية والتقنيات في المستشفيات والمراكز الصحية، وتمّ إدخال تقنيات طبية متطورة، مما جعل النظام الصحي من الأنظمة المتقدمة في المنطقة والعالم، فضلاً عن تعزيز الصحة العامة والوقاية من الأمراض، بإطلاق العديد من البرامج الصحية للتوعية بالأمراض المعدية والمزمنة، إضافة إلى حملات تطعيم الأطفال ضد الأمراض.
أيضاً شهد القطاع الصحي الخاص تطوراً ملحوظاً، وذلك عبر توفير تسهيلات لافتتاح مستشفيات ومراكز طبية خاصة تعمل جنباً إلى جنب مع القطاع العام، مما أدى إلى زيادة الخيارات المتاحة للمواطنين.
وتم إنشاء مستشفيات متخصصة في العديد من التخصصات مثل علاج السرطان، وطب الأطفال، وطب القلب، مما جعل الرعاية أكثر تنوعاً وفاعلية، إضافة إلى الاهتمام بالصحة النفسية، وتوفير الدعم والعلاج للأفراد الذين يعانون من مشكلات نفسية، وذلك من خلال تأسيس مراكز متخصصة.
تحسين حياة البشر
لم تقتصر جهود الشيخ زايد على تطوير الخدمات الصحية في الإمارات فقط، بل كانت الإمارات تحت قيادته من الدول الرائدة في تقديم المساعدات الصحية والإنسانية لشتى دول العالم في أوقات الأزمات والكوارث، فقد كان، طيب الله ثراه، من القادة الذين تميزوا بحسهم الإنساني العالي، حيث كان له دور كبير في تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية لدول العالم، سواء في الأوقات العادية أو خلال الأزمات والكوارث.
كان سعيه لتحسين حياة البشر في مختلف أنحاء العالم جزءاً من رؤيته الإنسانية العميقة، فقد كان حاضراً للإغاثة في الحروب والكوارث، وقدّم مساعدات إنسانية ضخمة، ففي عام 2004، قدمت الإمارات مساعدات كبيرة لدول جنوب شرق آسيا بعد كارثة تسونامي، ووفرت مساعدات مالية وطبية لمساعدة المتضررين، إضافة إلى أن الشيخ زايد كان من أوائل القادة الذين قدموا الدعم للاجئين في مناطق النزاع، سواء في فلسطين أو أفغانستان أو الصومال أو السودان، وغيرها من الدول التي شهدت أزمات إنسانية.
كما حرص الشيخ زايد على تقديم الدعم لمشاريع الصحة والتعليم في العديد من الدول الفقيرة، حيث تم بناء المستشفيات والمدارس في مناطق نائية حول العالم، منها أنشأ العديد من المستشفيات في مصر واليمن والسودان والصومال، وقد أرسل، طيب الله ثراه، مساعدات طبية للأشخاص الذين كانوا يعانون من أمراض مزمنة أو وبائية في العديد من الدول، وقدّم مساعدات لشراء الأدوية والمعدات الطبية.
ونتيجة لهذه الجهود، أصبحت دولة الإمارات من الدول الرائدة بالمنطقة في مجال الرعاية الصحية، فضلاً عن أن سياسات الرعاية الصحية ساهمت في تحسين مستوى الصحة العامة ورفع متوسط العمر المتوقع وزيادة الوعي الصحي لدى المواطنين.