لجريدة عمان:
2025-01-30@14:30:43 GMT

نوافذ: رأينا بصحبتهنّ حياة لا تتكرر كلّ يوم

تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT

وعيتُ الحياة في بداية الثمانينيات في قرية صغيرة، تحضر نساؤها بكثافة شاسعة، بينما يغيبُ أغلبُ رجالها خارج الصورة، لعملهم في دول مجاورة. هكذا كقصّة بالغة السريالية، توكلُ مشاقٌ لا آخر لها لنساء في مقتبل العمر أو عجائز. ورغم أنّ أكثرهن لا يقرأنَ ولا يكتبنَ فإنهنّ أدرنَ شؤوننا على أحسن ما يكون.

وليست نساء قريتي العزيزات سوى ارتداد مُتناسل لصور نساء عُمان في القرى المجاورة، اللاتي نشأنَ بين وديان أو جبال صلدة، جاورنَ البحر أو غاصت أقدامهنّ في طيات من الرمل الكثيف.

وعيتُ في طفولتي الباكرة استيقاظ الكهرباء في أوردة «موتور» يعمل لساعات قليلة، وما إن ينطفئ ونغرقُ في ظلمة لا نهائية، حتى تتحول الأمهات لمصابيح من أجلنا. أتذكّرُ أمّي وهي ترفعُ عجوزين للمبيت فوق سطح البيت، أمّها وأمّ أبي. جدة عمياء -الضوء المطفأ في عينيها جعل لونهما مائلا للزرقة الباهتة وراء الغشاوة الشفافة- والجدّة الأخرى مُبصرة لكن الجدري أكل أصابع يديها وقدميها. ومعهما ترفع أمّي رضيعا جديدا ينمو بين ذراعيها كلّ عامين، ترفعنا جميعا نحن وفراشنا، آنذاك تصورتُ أنّ لها يدين خارقتين وإلا فكيف أمكنها أن تفعل ذلك؟

تدخلُ الجارات بيتنا في غياب أمّي في المستشفى، يصنعنَ لنا الطعام ويعتنين بنا كأنهنّ أمهاتنا أيضا. ذلك الاطمئنان الشفاف كأنّ أمّنا لم تغب للحظة، إذ تتجسد المؤازرة الطيبة في الأعراس والمرض وواجبات العزاء. يُناضلنَ في الوصول باكرا ليس ليقلنَ أنّهن موجودات بل ليُحدثن أثرا، كذاك الذي أستعيده الآن من ألبوم الذاكرة.

يشربنَ القهوة صباحا ومساء متجاورات في حلقة، تشدني حرارة الألوان وصخب الأزهار في ثيابهن والضحك الذي يثني مشقة اليوم جانبا. وأراقب من كثب ولادة الأحاديث بين شفاههن، ثمّ الخروج المتعجل ما إن يسمعنَ صوت جدي يؤذن للصلاة.

يضعنَ أبقارهن ومواشيهن ودجاجاتهن بمنزلة الأبناء، ولذا لا تتورع إحداهنّ عن أن تدمع عينها لو فقدت إحداها، وقد تؤجل بعض أعمالها في انتظار ولادة إحدى مواشيها، يبعن ويشترين ويجادلن بخبرة يقظة، ويدرنَ مصاريف بيوتهن باقتدار.

وبعد صلاة العصر يجلسن، يُنجمّن الكميم، يطرزن السراويل، ويخطن ثيابنا وهنّ يستندنَ بظهورهن إلى جذوع شجر البيذام، الأعين تلاحق الإبر والشفاه تلاحق الكلام.

لطالما رغبتُ أن أدخل غابة أرواحهن المتشابكة كأشجار مُعمرة، أن ألمس جذور حياتهن الخطرة والآمنة في آن، لطالما شعرتُ أنّهن جديرات بكتابة تجعلهن خالدات.

شاهدتُ العديد منهن يتكبدن مشقة مجيء أحدنا إلى الحياة، فالأوفر حظا بينهن تلك التي ستسوق لها الأقدار من يقلها إلى المستشفى ليولد طفلها فوق سرير من الرعاية الطبية، إلا أنّ ذلك لم يكن يحدث بيسر.

لم يكن طعامنا كثيرًا على أي حال، نقسمُ الدجاجة الواحدة على يومين، وفي أعياد ميلادنا الأولى، تُرسلُ دجاجة لكل بيت من بيوت القرية. لم تعرف أكثرهن آنذاك شيئا عن كعك أعياد الميلاد!

جدتي التي بلا أصابع، تُؤكد أنّ البركة في القليل، فنشبع من الندرة، رغم أنّ أقدامنا لم تكن لتهدأ يوما في تعاريج حقولنا، كنا نُمشطها دون اكتراث لما تأكله الشمس من وجوهنا وأيدينا. أتذكّر أيضا قبضة يد جارتنا التي تضغط بها على راحة أيدينا، تاركة بعض المكسرات والحلاوة كلما عاد زوجها من سفر بعيد. فكل شيء في قريتنا كان مُعدا للاقتسام بيننا. يصنعن لنا المشاريب الطازجة من ثمار الحقل، فنطيرُ فرحا لو طفت فوقها مكعبات من الثلج.

أستعيد نساء قريتي، كمن يدخل في حالة حُلمية. لقد كبرن الآن، فتلك الأيدي التي لم يكن يُوقفها شيء، منذ السباق الأول لجني طرح النخيل في حُلكة الفجر، الأيدي التي تشتبك بسخونة «الطوبج»، أو تغرس بذرة في رحم التربة، أو تفتح المذياع صباحا، أو تسرّح شعورنا وتحلب أضرع الأبقار، وترضع المواليد الجُدد.. تلك الأيدي توقف بعضها بذهابها إلى الموت، والبعض الآخر يتقلبُ على فراش الآلام..

ربما لم تكن حياة مثالية كما أكتبها الآن ولكنها حياة تركت ذكرى مثالية. وفي وقت كهذا، أظن أنّهن الأكثر استحقاقا لكي نقول:

لقد أحدثتن فرقا في حياتنا، لقد رأينا بصحبتكن حياة لا تتكرر كل يوم.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الثورة الرأسمالية التي تحتاجها إفريقيا

في السنوات القادمة ستصبح إفريقيا أكثر أهمية مقارنة بأي وقت آخر في العصر الحديث، فخلال العقد المقبل من المتوقع أن ترتفع حصتها من سكان العالم إلى 21% من 13% في عام 2000 و9% في عام 1950 و11% في عام 1800، ومع تزايد شيخوخة سكان باقي العالم ستتحول إفريقيا إلى مصدر بالغ الأهمية للعمل، فأكثر من نصف الشباب الذين يلتحقون بالقوة العاملة العالمية في عام 2030 سيكونون أفارقة.

هذه فرصة عظيمة لأفقر القارات، لكن لكي تنتهزها بلدان القارة (54 بلدا) سيلزمها أن تفعل شيئًا استثنائيًا وهو التخلص من ماضيها ومن أرثوذكسية الدولة الكئيبة التي تُمسِك بخناق أجزاء كبيرة من العالم (تقصد الإيكونومست بأرثوذكسية الدولة الاعتقاد التقليدي بمركزية الدولة وهيمنتها على الاقتصاد والمجتمع والسياسة وجعل هذه الهيمنة أساسا للحكم وتنظيم الحياة - المترجم). سيلزم قادة إفريقيا تبني الأنشطة الإنتاجية الخاصة والنموَّ وحرية الأسواق. إنهم بحاجة إلى إطلاق ثورة رأسمالية.

إذا تابعتَ التطورات في إفريقيا من بعيد ستكون مدركًا لبعض متاعبها كالحرب المدمرة في السودان وبعض جوانبها المضيئة كالهوس العالمي بموسيقى «آفروبيتس» الإفريقية التي ارتفع معدل بثها عبر منصة «سبوتفاي» بنسبة 34% في عام 2024، وما يصعب استيعابه واقعُها الاقتصادي الصادم الذي وثقته الإيكونومست في تقرير خاص نشرته هذا الشهر وأسمته « فجوة إفريقيا»

التحولات التقنية والسياسية التي شهدتها أمريكا وأوروبا وآسيا في العقد الماضي لم تؤثر إلى حد بعيد على إفريقيا التي تخلفت كثيرا وراء الركب. فدخل الفرد في إفريقيا مقارنة بالدخل في باقي العالم هبط من الثلث في عام 2000 إلى الربع. وربما لن يكون نصيب الفرد من الإنتاج عام 2026 أعلى عن مستواه في عام 2015. إلى ذلك أداء عملاقين إفريقيين هما نيجيريا وجنوب إفريقيا بالغ السوء. بلدان قليلة فقط مثل ساحل العاج ورواندا تجنبت ذلك.

خلف هذه الأرقام يوجد سجل بائس لركود الإنتاجية. فالبلدان الإفريقية تشهد تحولا كبيرا بدون تنمية. فهي تمر عبر اضطرابات اجتماعية مع انتقال الناس من المزارع إلى المدن دون أن يترافق ذلك مع ثورات زراعية أو صناعية، وقطاع الخدمات، الذي يجد فيه المزيد من الأفارقة فرص عمل، أقل إنتاجا مقارنة بأي منطقة أخرى. وهو بالكاد أكثر إنتاجا في الوقت الحالي من عام 2010.

البنية التحتية الضعيفة لا تساعد على ذلك، وعلى الرغم من كل الحديث عن استخدام التقنية الرقمية والطاقة النظيفة لتحقيق قفزة إلى الأمام تفتقر إفريقيا إلى مستلزمات القرن العشرين الضرورية للازدهار في القرن الحادي والعشرين. فكثافة طُرُقِها ربما تراجعت، وأقل من 4% من الأراضي الزراعية مَرويَّة ويفتقر نصف الأفارقة تقريبا جنوب الصحراء إلى الكهرباء.

للمشكلة أيضا بُعدٌ آخر لا يحصل على تقديرٍ كافٍ. فإفريقيا «صحراء» من حيث توافر الشركات. في السنوات العشرين الماضية أنتجت البرازيل شركات تقنية مالية عملاقة وإندونيسيا نجوما تجارية وتحولت الهند إلى الحاضنة الأكثر حيوية لنمو الشركات في العالم. لكن ليست إفريقيا. فهي لديها أقل عدد من الشركات التي تصل إيراداتها على الأقل إلى بليون دولار مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم، ومنذ عام 2015 يبدو أن هذا العدد قد تقلص، المشكلة ليست في المخاطر ولكن في الأسواق المبعثرة والمعقدة التي أوجدتها كل هذه الحدود السياسية الكثيرة في القارة، فبورصات إفريقيا المُبَلْقَنة (المجزَّأة) ليست جاذبة للمستثمرين.

وتشكل إفريقيا 3% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم لكنها تجتذب أقل من 1% من رأسماله الخاص.

ما الذي يجب أن يفعله قادة إفريقيا؟ يمكن أن تكون نقطة البداية التخلي عن عقود من الأفكار الرديئة. تشمل هذه الأفكار تقليد أسوأ ما في رأسمالية الدولة الصينية التي تتضح نقائصها والركون إلى الإحساس بعدم جدوى الصناعة التحويلية في عصر الأتمتة ونسخ ولصق مقترحات تكنوقراط (خبراء) البنك الدولي.

النصائح الجادة التي يقدمها البليونيرات الأمريكيون عن السياسات الكلية من استخدامٍ للناموسيات (للوقاية من الملاريا) وإلى تصميم ألواح الخلايا الكهروضوئية مقبولة. لكنها ليست بديلًا لإيجاد ظروف تسمح للشركات الإفريقية بالازدهار والتوسع.

إلى ذلك، هنالك نمط خطير من التفكير التنموي الذي يوحي بأن النمو لا يمكنه التخفيف من الفقر أو أنه ليس مهما على الإطلاق طالما هناك جهود للحد من المرض وتغذية الأطفال والتلطيف من قسوة الطقس. في الحقيقة في كل الظروف تقريبًا النمو الأسرع هو السبيل الأفضل لخفض الفقر وضمان توفر موارد كافية للتعامل مع التغير المناخي.

لذلك يجب أن يتخذ القادة الأفارقة موقفا جادا تجاه التنمية. عليهم استلهام روح الثقة بالذات في التحديث والتي شوهدت في شرق آسيا في القرن العشرين وحاليا في الهند وأماكن أخرى.

هنالك بلدان إفريقية قليلة مثل بوتشوانا وإثيوبيا وموريتشوس التزمت في أوقات مختلفة بما أسماها الباحث ستيفان ديركون «صفقات التنمية». إنها اتفاق ضمني بين النخبة بأن السياسة تتعلق بزيادة حجم الاقتصاد وليس فقط النزاع حول اقتسام ما هو موجود. المطلوب المزيد من مثل هذه الصفقات النخبوية.

في الوقت ذاته على الحكومات بناء إجماع سياسي يحبذ النمو. والأمر الجيد وجود أصحاب مصلحة أقوياء حريصين على الدينامية الاقتصادية. فهناك جيل جديد من الأفارقة الذين ولدوا بعد عدة عقود من الاستقلال. إنهم أكثر اهتماما بمستقبلهم المهني من عهد الاستعمار.

تقليص «فجوة إفريقيا» يدعو إلى تبني مواقف اجتماعية جديدة تجاه النشاط الاقتصادي الخاص وريادة الأعمال مماثلة لتلك التي أطلقت النمو في الصين والهند. فبدلا من تقديس الوظائف الحكومية أو الشركات الصغيرة يمكن للأفارقة إنجاز الكثير مع المليارديرات الذين يركبون المخاطر باتخاذ قرارات استثمارية جريئة.

وتحتاج البلدان الإفريقية كل منها على حِدة إلى الكثير من البنى الأساسية من الموانئ والى الكهرباء وأيضًا المزيد من التنافس الحر والمدارس الراقية.

هناك مهمة أخرى ضرورية وهي التكامل بين الأسواق الإفريقية حتى تستطيع الشركات تحقيق أكبر قدر من اقتصاد الحجم الكبير واكتساب الحجم الذي يكفي لاجتذاب المستثمرين العالميين. هذا يعني المضي في تنفيذ خطط إيجاد مناطق لا تحتاج إلى تأشيرة سفر وتحقيق التكامل بين أسواق رأس المال وربط شبكات البيانات وأخيرا تحقيق حلم المنطقة التجارية الحرة لعموم إفريقيا.

عواقب استمرار الوضع في إفريقيا على ما هو عليه ستكون وخيمة.

فإذا اتسعت فجوة إفريقيا سيشكل الأفارقة كل فقراء العالم «المُعْدَمين» تقريبا بما في ذلك أولئك الأكثر عرضة لآثار التغير المناخي. وتلك ستكون كارثة أخلاقية. كما ستهدد أيضا عبر تدفقات الهجرة والتقلب السياسي استقرارَ باقي العالم.

لكن ليس هنالك سبب لتصوير الأمر وكأنه كارثة والتخلي عن الأمل. فإذا كان في مقدور القارات الأخرى الازدهار سيكون ذلك ممكنًا أيضًا لإفريقيا. لقد حان الوقت لكي يكتشف قادتها الإحساس بالطموح والتفاؤل. إفريقيا لا تحتاج إلى إنقاذ. إنها أقل احتياجًا إلى النزعة الأبويَّة والرضا بالواقع والفساد وبحاجة إلى المزيد من الرأسمالية.

مقالات مشابهة

  • دمياط تشهد إحتفالية تسليم ٢٥ جهاز تعويضى لذوى الهمم وافتتاح عيادة نساء وتوليد
  • في محافظتين.. اعتقال صيني أصاب عراقياً وجرح موظف باعتداء ومصرع 3 نساء ورجل
  • وزير العمل يبحث مع نظيره التركي صياغة بروتوكول بشأن تنقل الأيدي العاملة
  • بيان الأعضاء التي يجب السجود عليها في الصلاة
  • "مكبل الأيدي والأرجل".. العثور علي جثة شاب داخل شقة بمصر القديمة
  • الإتحاد الأوروبي وفر لهن التقاوي.. نساء سودانيات في الحقول يكفاحن من أجل العيش
  • الثورة الرأسمالية التي تحتاجها إفريقيا
  • بين القوة الناعمة وساحات المعارك.. نساء حكمن العالم
  • حادث مأسوي في الوضيع يسفر عن وفاة 3 نساء وإصابة آخرين
  • منظمة نساء "الحركة الشعبية" تدعو لمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي لملاحقة من يسعى لـ"نسف" مدونة الأسرة